الصفحات

2018/08/25

تربية الإبداع وضرورة التأسيس المنهجي بـقـلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــــــــة



تربية الإبداع وضرورة التأسيس المنهجي
بـقـلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــــــــة
       ينصرف الإبداع في دلالته اللغوية إلى الفعل أبدع وبدع بدعاً الشيء ،أي اخترعه وصنعه لا على مثال وبدأه وأنشأه ، وجعله لا مثيل له، والإبداع والابتداع هو عند الحكماء الإتيان وإيجاد أشياء غير مسبوقة،  وغير واردة من قبل بمادةٍ ولا زمان، كما أن أبدع تدل على الإجادة في العمل وتقديم أشياء متقنة تثير الإعجاب ، وتنم عن جدة واقتدار.
     غير أن الإبداع بمفهومه الاصطلاحي وشقه الفني ينصرف إلى الابتكار بشتى مفاهيمه ودلالاته ،فيقدم جُملة من الدلالات والمعاني المتعددة و المتباينة،«فهو ابتكار أسلوب جديد   للتعبير الفني ،أو القدرة على ابتكار حلول جديدة لمشكلة ما. ويعتمد الإبداعُ على مواهبِ الشخصِ المبتكِرِ وخبراتهِ الخلاَّقة. ولذلك قابلوه بالمحاكاة باعتبارهما نقيضين.لكن الإبداع لا يكون خلقاً من عدم ،إذ يفترِضُ مادة لغوية و مواضعاتٍ فنية تاريخية  يستلهمُها الفكرُ الإبداعيُّ الخلاّقُ في الأدب» (1).
    ويكاد يجمع المنظرون على أن أية عملية إبداعية لابد من مرورها بأربع محطاتٍ رئيسة : الأولى التحضير والإعداد لتكوين رؤية إجمالية ، والإحاطة بالتصورات  والرؤى المتعلقة بها، والثانية الكُمون  وهو الاستمرار في المجاهدة الذهنية  إلى غاية الانتقال إلى الحل والانفراج ، والثالثة الإلهام  وهي المحطة  التي تبرز فيها  الطريقة المستحدثة  لتقديم الفكرة ، والرابعة التحقق  وهو المراجعة  والتأكد من الحل والانفراج  الذي وُضع بُغية معرفة واستكشاف صوابه أو خطئه ، والتبصر في كيفية صياغته العامة والنهائية.
   والمتأمل في الأسفار العربية التليدة يُلفي جُملةً من التعريفات  والمفاهيم الجمة والجامعة التي قدمها ثٌلةٌ  من النقاد القدماء ،فابن رشيق يعرفه بأنه :« إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف الذي لم تجر العادة بمثله ثم ألزمته هذه التسمية حتى قيل له:بديع وإن كثر و تكرر فصار الاختراع للمعنى ، والإبداع للفظ  فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنىً مخترع في لفظ بديع فقد استولى  على الأمد، وحاز قصب السبق»(2). وعرفه الجرجاني في كتابه التعريفات بأنه إيجاد شيء من لاشيء ، وتأسيس شيء عن شيء.
    وكذلك فالإبداع هو قدرة وتمكن من تركيب صور تقدم دلالات ووظائف جديدة، وهو نزوع من أجل التحرر من الواقع والولوج إلى عوالم متخيلة يُنشئها المبدع  ويُفلت من خلالها من سيطرة الزمان والمكان، وهو شعور  كثيراً ما يُساور المبدعين المقتدرين.
      ارتأينا الإشارة إلى هذه المفاهيم وتقديم هذه الإضاءة المقتضبة ونحن بصدد الحديث عن واحد  من الكتب الهامة التي تناولت الإبداع وخاضت في شتى مفاهيمه ودلالاته وسلطت الضوء عليه من جوانب متعددة.
  محتوى الكتاب:
   ُقسم الكتاب إلى قسمين :
   القسم الأول موسوم ٌ ب:« الإبداع : ماهيته وعوامله»، ويتكون من ثمانية فصول ، والقسم الثاني معنون ب:« تربية الإبداع» ونُلفي فيه خمسة فصولٍ.
القسم الأول: الإبداع: ماهيته وعوامله:
   في الفصل الأول من هذا القسم يقدم الدكتور عاقل لمحة عن دراسة الإبداع ، الإبداع: أمس واليوم وغداً ، وينطلق في لمحته هذه من (غولتون  GALTON ( حتى عام:1950م ، فدراسات غولتون الانكليزي عن العباقرة سنة:1869م هي التي لفتت واستقطبت أنظار العلماء نحو العباقرة ، وغولتون لم يحاول فهم العمليات العقلية التي بوساطتها ينتج العباقرة أفكارهم الخلاقة ولكنه صوّب أنظاره في دراسته نحو المحددات الوراثية للإنجاز الإبداعي  وبمرور الزمن أضحت دراسة غولتون من كلاسيكيات علم الوراثة ، ونظراً للعديد من الأسباب أخفق في الوصول إلى نتائج ثابتة وقاطعة ،فالتوصل إلى فهم صائب للأشخاص المبدعين وللعمليات التي يشتمل عليها الإبداع من المسؤوليات الخاصة بعلماء النفس، وقد كان علماء النفس الأولون يُلاقون صعوبات جمة في فهم عمليات نفسية بسيطة كالإدراك والإحساس والتذكر وهذا ما جعلهم  لا يمتلكون الوقت والشجاعة لبحث مشكلة من أعقد المشاكل كمشكلة الإبداع، وإن عالجت كتب علم النفس  القديمة موضوع الإبداع مازجته مع التخيل أو التخيل المبدع  وفي جميع الحالات لم تقف عند الإبداع كموضوع أساسٍ ورئيس ، ولم تتعمق في دراسته، وبعد أن سيطرت السلوكية على علم النفس استبعد موضوع الإبداع مع شتى المواضيع النفسية التي همشت، و  كان الاهتمام  في هذه الأثناء منصباً على الذكاء حيث وجد(بينه  BINET (الفرنسي روائز الذكاء ، وكانت هذه الروائز  تهتم بالتنبؤ عن الانجاز المدرسي  ولاسيما في المستوى الابتدائي في حين أن الإبداع لم يُلتفت إليه  ولم يُعر له كبير اهتمام ،غير أن فقدان الترابط بين نتائج الذكاء وبين نتائج بعض الاختبارات  التي اعتبرت دالة على الإبداع أوصل  تيرمان  إلى نتيجة مفادها أن الصفات والمواهب الإبداعية تقع خارج نطاق الذكاء ، هذا الأخير الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالمواهب التعليمية ، وبعد هذا تجاوز العلماء هذه الفكرة  حتى توصلوا إلى القول :«بأن الذكاء  يشتمل-إذا نظرنا إليه نظرة واسعة-على مكونات عدة لا يترابط بعضها-على الأقل- ترابطاً كبيراً مع البعض الآخر»(3). وفي جميع الحالات فالنظرة التي خيمت على النصف الأول من القرن العشرين اعتبرت الذكاء بمثابة قابلية موحدة لا يمكن تحليلها،إلى أن جاء التحليل العاملي الذي فند ذلك.
       وقد شهدت الثلاثينيات والأربعينيات تزايداً بالغاً في الاهتمام بدراسة الإبداع ، ويعود هذا إلى جملة من الأسباب لعل من أبرزها: الحرب العالمية الثانية وما استدعته لبذل جهود عظيمة للاختراع  والتجديد والإبداع  في شتى مجالات الحياة ، وبعد ذلك أتت الحرب الباردة بين العملاقين والتي تطلبت جهوداً  كبيرةً في مجال الاختراع والإبداع ،وبالتالي نجم  عن ذلك إلحاحٌ على علماء النفس في الكشف عن ماهية الإبداع  وتحديد  مكوناته وطرائقه ، وجميع هذه الأمور أدت إلى تزايد الاهتمام  بالإبداع والمبدعين  فصدرت العديد من الكتب  والأسفار من بينها  كتاب (أوزبورن  OSBORN (  الموسوم ب:« التخيل المطبق»  فقد تلقفه  المربون وعلماء النفس  والمهتمون بأمور الإبداع  والاختراع  وطُبع عشرات الطبعات  وتُرجم للعديد من اللغات ، وبعد هذا الكتاب صدرت العديد من الكتب  والمجلات مثل: مجلة التربية المبدعة ،ولعل أبرز الأسئلة  التي طُرحت في هذه الفترة: ماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ وتوصلت البحوث التي أقيمت إلى نتائج مبدئية مثل: أن الأشخاص المبدعين بصورة عالية يميلون إلى الاهتمام الشديد  بالأمور الجمالية  والنظرية  كما يميلون إلى الحدس والانطواء ، وفيما يخص حالهم الذكائي فإن معظمهم يكونون شديدي الذكاء، وفيما عدا ذلك فإنه لا يوجد أي ترابط بين حاصل الذكاء ومستوى الإنجاز الإبداعي. وقد اعتمدت جُملة من الطرائق  لدراسة الإبداع وعوامله  وعلاقته بالذكاء ، وفي مقدمة هذه الطرائق طريقة التحليل العاملي التي تنكرت في دراستها  للنظرية السائدة عن الذكاء  بأنه قابلية موحدة، كما تنكرت للاعتقاد بأن المواهب المبدعة هي أمور خارجة عن إطار الذكاء  وقدمت عدة فرضيات من بينها أن المواهب المبدعة ليست حكراً على عدد قليل من الأشخاص بل هي ربما موزعة على جميع الناس وبدرجات متباينة  وبالتالي فبالإمكان التنقيب عنها ليس عند الموهوبين  وحسب بل عند مختلف الأشخاص ، ومن أبرز الذين اعتمدوا طريقة التحليل العاملي عالم النفس الشهير(غيلفورد  GUILFORG ( فبعد دراسات وبحوث مطولة وشاقة توصل إلى نظرية في الذكاء أسماها «بناء العقل» التي أشارت إلى وجود قدرات قابلة للتمييز ، وبعض هذه القدرات تلعب دوراً أساساً في الإنجاز المبدع ، وبعد مدة فصّل غيلفورد  هذه القدرات تفصيلاً  دقيقاً في كتابه :«طبيعة الذكاء البشري» الذي نشر سنة:1967م، كما استُعملت الطرائق التقليدية في دراسة الإبداع ونموه وتصعيده  كالاختبارات التي قام بها (تورانس  TORRANCE ( وحاول من خلالها فحص كيفية تغيير القدرات الإبداعية الكامنة، و أتى بعده (ترمبلي TREMBLY ( سنة :1964م ، وقد توصل هؤلاء الباحثون إلى أن نوعية الإنتاج  تبلغ ذروتها وتصل قمتها-بصورة عامة-في مطلع الثلاثينيات.
     وبعد مجموعة من الدراسات والبحوث المكثفة ثبت للعديد من العلماء أن ثمة علاقة واضحة بين حاصل  الذكاء والقدرات الإبداعية  ولاحظوا اختلافاً  وتنوعاً في نتائجهم فحين يكون حاصل الذكاء دنيئاً فالقدرات الإبداعية لا تكون دنيئة ، وعندما يكون حاصل الذكاء عالياً تكون القدرات الإبداعية متراوحة بين الدناءة والعلو، والنتيجة التي انتهوا إليها  هي أن الذكاء هو شرط أساس للإبداع  غير أنه غير كافٍ ،«إن الحاجة ملحةٌ لمزيد من الباحثين  والعلماء والتكنولوجيين المبدعين، وهذا ما دعا البلاد المتقدمة إلى عقد المؤتمرات وإجراء البحوث وإصدار المجلات من أجل معالجة مشكلة الإبداع والمبدعين. وقد عني العلماء في هذه البلاد المتقدمة بالبحث عن الطرق النفسية والتربوية  التي تكشف عن هؤلاء المبدعين  وتتعهدهم بالعناية والتوجيه وتُفسح لهم المجال لتنمية قدراتهم والإفادة منها. و خلاصة القول إن الحياة معناها مصادفة المشكلات، وحل المشكلات معناه النمو العقلي. وقد آن للتربية أن تؤمن بذلك وأن تتبنى حل المشكلات طريقة لتنمية العقل وتصعيد الإبداع» (4).
     يتصدى المؤلف في الفصل الثاني الموسوم ب:« ماهية الإبداع» إلى مفهوم الإبداع  كما عرفه علماء النفس تعريفاً  بسيطاً ويتطرق إلى تعريف غيلفورد ،فلطالما تساءل المتسائلون :لماذا كان الإبداع دوماً أمراً نادراً؟ ولقد قدّر العلماء أن نسبة المبدعين ومنذ بزوغ فجر التاريخ لا يتجاوز اثنين في المليون،كما تساءل الناس:لماذا ينشأ الكثير من العباقرة في  بيوت متواضعة؟ ولماذا الترابط بين العبقرية والتربية يبدو منحطاً في غالب الأحيان؟ ولماذا لم يتزايد عدد العباقرة في عصرنا الحالي زيادة تتناسب مع زيادة التربية؟
   كانت هذه جملة من الأسئلة التي راودت عامة الناس والباحثين في سياق بحثهم عن ماهية الإبداع ،وهي في مجملها  أسئلة جادة تستحق الاهتمام و الروز والتفكير والبحث.
     وباعتماد المؤلف على غيلفورد ينقل مجموعة من الفرضيات عن القدرات الإبداعية، وهي في معظمها فرضيات افترضها عن طبيعة وسمات التفكير الإبداعي وفي ذهنه العديد من نماذج المبدعين كالعالم والتكنولوجي والمخترع والأديب وهلم جراً...، وهو بذلك يفند فرضيات الفلاسفة الذين كانوا يعتقدون أن الإبداع أمرٌ واحدٌ  في جميع الميادين ولا يقبل هذه النظرة ، ويعتبر أن ثمة فروقاً في الإبداع في شتى المجالات  بالرغم من اعتقاده بوجود  عدد كبير من العوامل المشتركة بين المبدعين وأنماط قدراتهم. ويرى غيلفورد أن القدرات الأولية بإمكانها المساهمة في الجهود الإبداعية للعلماء والمخترعين والتكنولوجيين، وهي في مجملها عوامل المحاكمة  ومن هذه العوامل يذكر: الإحساس بالمشكلات  وهو لا يهتم  بالطريقة التي يحدث بها الفرق في هذا الصدد  بين الأفراد، ولكنه يهتم كيف أن الشخص يلمح مشكلات في أوضاعٍ ما  في حين أن الشخص الآخر لا يرى مثل هذه المشكلات، وكما هو معروف فإن نجاح العالم  والمفكر يتوقف على قدرته على طرح عدد كبير من الأسئلة الصحيحة والمناسبة.ومن  العوامل المساعدة  عوامل الطلاقة في الموهبة الإبداعية ، وهناك عدد من عوامل الطلاقة كلامية وغير كلامية ،كذلك فإن الإنسان المبدع هو الأكثر امتلاكاً للأفكار الجديدة فدرجة التجديد التي يكون المرء قادراً عليها هي مسألة من أهم المسائل المطروحة في الإبداع، ومرونة نفس الفرد وسهولة تغيير التهيؤ النفسي من أهم عوامل الإبداع ،فالإنسان المتزمت الذي يقف عند فكرة معينة ويأبى مراوحتها هو أقل وأدنى قدرة من الشخص المرن التفكير والقادر على التغيير، ويقتضي التفكير المبدع  تنظيم الأفكار في أنماط واسعة وشاملة، ولذلك فقد  افترض غيلفورد  وجود قدرة تركيبية  توازيها  قدرة تحليلية ، ومن خلال الأفكار المترابطة يستطيع الإنسان إدارتها  في وقت واحد ،فبعض الأشخاص يشوشون أفكارهم ولا يستطيعون إدارة أكثر من فكرة أو اثنتين ، في حين على خلافهم  نجد أشخاصاً أقدر على مقاومة  ومواجهة التشويش  وأكثر منهم احتواءً لأفكار عديدة ومتباينة، ومن بين العوامل التي أشار إليها غيلفورد  أن العمل الإبداعي الذي يسعى إلى أن يكون مقبولاً ومثيراً  للإعجاب يجب أن يتم تحت درجة بالغة  من الضبط التقويمي .
      بعد هذا يتوقف الدكتور عاقل عند نقطة في غاية الأهمية ،وهي:«العوامل التي تعين الإبداع أو تعيقه»  ويخصص لها الفصل الثالث بأكمله، فالحصول على المبدعين أمرٌ يتعاظم ويزداد يوماً بعد يوم ،ولذلك فقد كثُر الاهتمام بالعوامل  المساعدة على ظهور المبدعين فانعقدت عشرات المؤتمرات والندوات وألقيت مئات البحوث، ونُشرت أعدادٌ جمةٌ من الكتب والمجلات  عن موضوع الإبداع ، وأُنشئت معاهد ومؤسسات تربوية  وجامعية تُعنى بالإبداع وتُدرِسُه، وتُحاول أن تكتشف طرائق مناسبة لإثارة الفكر الإبداعي عند الطلاب،ويواصل المؤلف رحلته مع غيلفورد  حيث أشار هذا الأخير إلى أن الإبداع  شأنه شأن جميع الصفات النفسية  يرجع جزئياً إلى الوراثة  فهي المحددة  للنمو العقلي ، وإلى البيئة التي من عملها فتح القابليات وتنميتها  والعمل على ازدهارها ،ويشير إلى أنه من النادر أن يصل الإنسان إلى نهاية الحدود المرسومة من قبل الوراثة، ولهذا فإن المجال يُحال إلى التربية التي من شأنها العمل والتحسين والزيادة فالاستعداد الإبداعي مكون من مكونات  عديدة ، وباستعمال التحليل العاملي لتبين عوامل الإبداع  وُجد أن الأشخاص الأكثر إبداعاً  يفكرون بقدر أكبر من الطلاقة والمرونة والأصالة،أما عن الطلاقة فقد وُجد أن في الاختبارات الكلامية بمفردها توجد ثلاثة عوامل متميزة ، وهي: الطلاقة الفكرية، والطلاقة الترابطية، والطلاقة التعبيرية. فالطلاقة الفكرية تكون على علاقة بنسبة توليد كمية من الأفكار، والفكرة المولدة قد تبدو بسيطة كمثل كلمة مفردة ، أو تكون مركبة ومعقدة كعنوان قصة، أو جملة تقدم مجموعة من الأفكار  الموحدة، وأما الطلاقة الترابطية فهي المنتمية إلى إكمال العلاقات، وهكذا فقد يُطلب من ممتحن ما أن يُعطي قائمة من الكلمات التي يمكن أن تراود تفكيره والتي تُعطي معاني متضادة. وأما الطلاقة  التعبيرية فتكمن علاقتها في سهولة بناء الجمل فيطلب من ممتحن  أن يكتب ما يستطيعه من جمل تتكون من أربع كلمات وتكون مختلفة بعضها عن بعض وعليه أن لا يستعمل أية كلمة مرتين.
     و عن سياق الإبداع فإن أهم سؤال يُطرح في هذا الجانب هو:هل يكون الشخص عينه مبدعاً وبدرجة متساوية في جميع الميادين؟
     يقول غيلفورد مجيباً عن هذا السؤال:« بالاستناد إلى نتائجنا التحليلية نستطيع القول بأن هذا الأمر ممكن الوقوع، ولكننا نادراً ما نتوقع أن يكون الشخص ذاته قادراً على الإبداع وبصورة متساوية في العلوم والفنون والرياضيات والإدارة  والتأليف الموسيقي.إن الأفراد المبدعين بدرجة عالية  في كثير من هذه الميادين المختلفة قد  تكون لهم  صفات ممتازة  مشتركة  فيما بينهم ولكن الدراسات النفسية تدل كذلك على أن بينهم فروقاً واضحة»(5).
   وعند التأمل في ميدان القدرات نُلفي أن الأفراد قد يكونون غير متساوين في معالجة المواد اللفظية والمواد الحسية  والمواد الرمزية، فالمواد الرمزية هي ما يتعامل به الرياضيون من أرقامٍ وحروف، وأما عن الطلاقة والمرونة والتوسيع فهي أكثر أهمية بالنسبة لمخترع الأدوات والرسام  والمؤلف الموسيقي ، والنوع ذاته من القدرات يعتبر ضرورياً للتعامل مع المواد اللفظية التي تعتبر في غاية الأهمية بالنسبة للكاتب المبدع والعالم.
   ومن أهم فرضيات غيلفورد  الأولى أن المبدع الحقيقي يتمتع بقدرة على الإحساس بالمشكلات فقد يلاحظ  إنسان أن ثمة  أموراً خاطئة وغير صائبة فهي بحاجة إلى تغيير وتستدعي الإصلاح غير أن أشخاصاً آخرين لا يلاحظون ذلك، فملاحظة النقص تشكل دافعاً للشخص المبدع نحو الإبداع، وقد أكد التحليل العاملي صحة هذه الفكرة  ووجود هذا العامل،إن المبدعين الحقيقيين لطالما يُلحون على الأمر، أما الأشخاص غير المبدعين فيقنعون بالقليل و يلبثون في منتصف الدروب وفي بداياتها.
    وبعد رحلة الدكتور عاقل مع أعمال ونتائج غيلفورد في موضوع الإبداع،ينتقل إلى سواه من الباحثين  وفي مقدمة هؤلاء (ماككينونmackinnon  (  الذي اتبع في بحوثه طريقة قدر الشخصية التي تتمثل في مجموعة من الطرائق والعمليات  والتطبيقات تسمح بإعطاء صور  صادقة عن الأشخاص المبدعين الذين اختيروا للدراسة ،و تشتمل على دراسةٍ دقيقة للأشخاص بصورة فردية، ومن حيث معاملاتهم مع غيرهم، ولقد أعطت هذه الطريقة نتائج إيجابية ، وكما يرى ماككينون وأتباعه في أنه لا توجد أي طريقة تقدم صورة صادقة وشاملة ومفصلة عن شخصية الشخص المبدع مثل ما تقدمه طريقة القدر المتبعة من قبلهم، ولقد بدأ دراساته وبحوثه بافتراضه لوجود أصناف شتى من الإبداع :الإبداع القني،و الإبداع  العلمي، والإبداع الفني والعلمي مع بعضهما، وقد حرص ماككينون في دراسته على عدم إهمال أي نوع  من الأنواع فدرس  كتاب الروايات والشعراء، وكتاب المقالات كممثلين لفئة الإبداع الفني ، ودرس الباحثين العلميين والمهندسين كممثلين للإبداع العلمي، والرياضيين والمهندسين المعماريين كممثلين للإبداع الفني والعلمي معاً، وقد اختار في دراسته من كل ميدان أشخاصاً يتراوحون بين الإبداع  الرفيع العالي وبين عدم الإبداع.
    وقد تبدى لماككينون أن أهم صفات الإنسان المبدع الشجاعة، ولا يعني ذلك الشجاعة الجسدية  إنما يُقصد بها الشجاعة الشخصية والمعنوية والتي تُعدُ صفة مركزية عند المخترع الذي كثيراً ما نُلفيه ينعزل عن المجتمع –بمختلف أشكاله- بل إنه ربما  يقف ضد المجتمع وأفكاره، ولا ريب أن شجاعة المبدع تتجلى في أشكال متعددة وأنواع مختلفة من سلوكه،فهو إنسان ينزع إلى تحقيق نفسه، وهو غير حريص على أن يكون ما يريده الناس وكثيراً ما لا يهتم  بآرائهم  فيه وانطباعاتهم عنه، والأشخاص المبدعون لا يكونون  ملتزمين في ميدان إبداعهم ، ولكنهم من جانب آخر ليسوا فوضويين وهم مستقلون استقلالاً أصيلاً، وتتجلى شجاعة المبدع من خلال إدراكه لعالمه الداخلي والعالم الخارجي  والمحيط والثقافة ، ومن أبرز المسائل التي هي محل اختلاف بين الأنام النفس المنفتحة أو المنغلقة ، فالشخص المنفتح ذو إدراكٍ دقيقٍ وحاد ، وعلى النقيض فالمنغلق النفس متمسكٌ بالأحكام والمحاكمات ،فحياة الفرد المنغلق النفس حياة مُخططة ومنظمة  ومنضبطة وكثيراً ما تكون لها تعصبات قوية،أما الفرد المنفتح النفس  فاعتماده الرئيس ينصب على إدراكه الدقيق ولذلك فأهم ما يتسم به المرونة والعفوية.
    أما من حيث القيم فبعد بحوث جمة و روزٍ عميقٍ، تبدى لماككينون أن جميع المبدعين الذين أخضعهم للدراسة يجعلون من القيمتين النظرية والجمالية في مرتبة أعلى القيم ،وقد اتضح بالنسبة للعلماء الباحثين المبدعين أن القيمة النظرية هي الأولى  وتأتي بعدها القيمة الجمالية مباشرةً،أما عن المهندسين المعماريين المبدعين فإن القيمة الجمالية هي الأعلى وتكاد تكون القيمة النظرية في نفس مرتبتها ، أما بالنسبة للرياضيين المبدعين فكلا القيمتين عاليتان ومتساويتان تقريباً، وتبين أن أدنى القيم بالنسبة للمبدعين هي القيمة الاقتصادية، وقد ثبت بشكل بسيط أنه غير صحيح أن الإنسان الأذكى هو بالضرورة  الشخص الأكثر قدرة على الإبداع، ومما دلت عليه دراسات ماككينون وأتباعه أن أهم ما يحدد مدى قدرة الفرد على الإبداع هي: بناء شخصيته، واهتماماته الدائمة، وقيمه وحوافزه وطرائقه العقلية، وانصبابه القلبي الكامل على مهمته الإبداعية كما اتضح بصورة  تكاد تكون جازمة وأكيدة  وجود علاقة بين ما يفكر فيه الشخص  وما يقوم به من جهة ، وبين الصورة التي تكون له ويتوقعها عن ذاته  وتؤثر تأثيراً شديداً على عمله وفكره.
     و أما في الفصل السادس من الكتاب فيتطرق الدكتور عاقل إلى العملية الإبداعية كما يراها(ليتونLYTTON ( ، وفي البدء يقدم تعريفاً لما يقصد بالعمل الإبداعي وطبيعته وشروطه،فمن أحسن من قدم تعريفاً في هذا الميدان برونر الذي يصف العمل الإبداعي بالدهشة الفعالة التي لا تحتاج أن تكون نادرة أو تتميز بالغرابة وقلة الحدوث ،فهي تبدو متمتعة بصفة الوضوح حين تحدث كما أنها تسبب التمييز ولا يتلوها أي انبهار بعد ذلك.
  إن التحديد الذي حدده برونر  ينجم عنه أمران :
-أن الصفة الإبداعية بإمكانها أن تضفى على أي صنف من الفاعلية البشرية ،فالناس يمكن أن يكونوا مبدعين ليس في الأمور المعروفة كالرسم أو الشعر أو النظريات العلمية وحسب،بل يبدعون في الطهي والنجارة ولعب كرة القدم  وسوى ذلك من شتى الاهتمامات.
-والأمر الثاني أن العباقرة ليسوا وحدهم من يقومون بالأعمال المبدعة بل أن هذه الصفة يمكن أن تتوفر في أفعال أدنى أهمية وفي مستويات متباينة من الكفاية والذكاء.
  و بالرغم من مُضي ما يربو عن خمسين سنة على ما قدمه(غراهام  والاسG.WALLAS  (  من وصف للتحليل المبدع ، لا يزال عدد كبير من علماء النفس يتقبلون أفكاره ورؤاه فقد انصب اهتمامه على الأفكار الجديدة في الحقلين العلمي والرياضي ، ولكن هذا لا يمنع من تعميم أقواله وتطبيقها  على مختلف الحقول الأخرى ،إذ نُلفيه يقترح تقسيم العملية الإبداعية إلى مراحل أربع : المرحلة الأولى:التهيؤ  وهي المرحلة التي يتم من خلالها بحث المشكلة من جميع جوانبها،كما يتم الاطلاع على الخلفية اللازمة للمشكلة  وعلى ما تحتويه من حقائق ومعارف،المرحلة الثانية: التفريخ وهي الفترة  التي تكون الفكرة أثنائها في طور التخمر في ذات الفرد،المرحلة الثالثة :وهي الإلهام وهي مرحلة بزوغ التبصر وبداية الإلهام، كما أنها تشتمل على الحوادث النفسية التي تسبق ظهور التبصر وتصاحبه، أما المرحلة الأخيرة  فهي التحقق إذ يتمكن الفرد من خلالها من التحقق من صحة أفكاره المطروحة، وميزة هذه المرحلة أنها تعطي صيغة دقيقة ومضبوطة للعمل الإبداعي.
  وعلى الرغم مما لاقته هذه المراحل من قبول وأصداء طيبة ،بيد أن هناك من يشكك في صحتها ،فهذا (فيناكVINACKE  ( يوجه نقداً لهذه المراحل ويستنتج بعد اطلاعه على مجموعة من التقارير التي قدمها الكثير من الكتاب والعلماء والمبدعين أنه لابد من النظر إلى التفكير المبدع بوصفه فاعليات ديناميكية ومتفاعلة أكثر من النظر إليه على أساس أنه مجرد مراحل ،ولاشك أن هذا النقد بالإمكان تطبيقه على جُملة من الفاعليات النفسية التي تكون متداخلة ومتفاعلة وموحدة، ويؤكد عدد كثير من العلماء أن انطلاقة الإبداع تتصف بنوع من التهيج الباطني الموزع  والشعور بوجود المشاكل، وهو شعور سابق للتهيؤ وجمع المعلومات، أما فترة التفريخ فتهبط فيها الأفكار إلى ما تحت الشعور أو اللاشعور، ويتم العمل الدائب في ترتيبها والربط بينها  وإيضاحها، فهي فترة لامناص منها والجميع  يعترف بها ، ولكن الشاعر (وليام بليكBLACK  (  على سبيل المثال ينكر وجود هذه المرحلة عنده ويدعي بأن بعض شعره كان يتهاطل عليه  دون أي تفكير مسبق فكأنه يُملى عليه إملاءً .
      وفيما يخص الحالة النفسية فالكثير يعتقد أن الأنسب للعمل المبدع هو حلم اليقظة ، وفي رأي فرويد ولاسيما في كتاباته الأولى أن العمل الإبداعي وما يماثله في ذلك من أحلام اليقظة واللعب تنشأ كلها من الرغبات التي كُبتت ولذلك فهي تحاول  أن تتحقق  عن طريق الخيال، فالإنتاج المبدع هو شكل من أشكال الإرضاء البديلة وامتدادٌ للعب الأطفال وأحلام اليقظة عند الإنسان الراشد وهذا ما يرى فرويد بأنه يحدث عند الفنان، ومعظم الكُتّاب الذين خاضوا في سيكولوجية الإبداع بما فيهم الكُتّاب التحليليون  يتخذون موقفاً أكثر إيجابية بالنسبة لقيم تراخي الضبط الشعوري، وبخصوص ما يقوله الشعراء عن لحظات الإلهام  وعن طرائقهم في العمل  الإبداعي فمما أعرب عنه (ستيفن سبندرSTEPHEN SPENER  ( أن الإلهام هو البداية الحقيقية للقصيدة ، وهو هدفها النهائي ،فهو الفكرة الأولى التي تقع في نفس الشاعر وهو الفكرة الأخيرة  تنجز مصبوبة في الكلمات ،وفيما بين البداية والنهاية هناك سباقٌ شاقٌ  وهناك عرقٌ وكدحٌ ،ومن أشهر من أحس بالقوة البدائية لإلهامه الشاعر الألماني (راينر ماريا رايلكهRAINER M.RILKE  ( فقد بدأ قصائده  التي ذاع صيتها واشتهرت فيما بعد تحت اسم مراثي دوينو بسطر جاءه بغتة وذلك أثناء تجواله خارج بيته في شتاء سنة:1912م وناضل خلال سنوات عدة من أجل كتابة هذه المراثي والتعبير عنها تعبيراً جمالياً يثير النفوس ويرحل بها إلى عوالم شعرية ساحرة، فكان يكتب مرةً واحدةً ، ومرةً قسماً من الأخرى محاولاً أن يخلق من خلالها رؤيا عن العالم، لا حسب ما يراه البشر ولكن كما يكون في ذات ملاك، ولم ينته عمله هذا إلا بعد عشر سنواتٍ  سنة:1922م، وطُبع في كتاب بعث به إلى الأميرة ماري فون ثورن ملكة قلعة دوينو ، وقد قال في رسالته إليها: « وأخيراً أيتها الأميرة ،أخيراً جاء اليوم المبارك ، ويا له من يوم مبارك، الذي أستطيع فيه أن أعلن لك انتهائي، كما أرى، من المرثيات:عشرة. من الأخيرة، مازالت يدي مرتجفة، وحتى الآن  يوم السبت في الحادي عشر من الشهر وفي تمام الساعة السادسة مساء انتهت المرثاة الأخيرة(أما الأولى فقد بدأت منذ زمن طويل في دوينو وقد بزغت من رؤيا مرعبة وإني لأنفجر شاكراً الملائكة التي وافقت على ذلك) . وخلال بضعة أيام  كانت ثمة عاصفة غير ذات اسم، كان هناك إعصار في ذات نفسي(شبيه بعاصفة دوينو).كل شيء كان منقسماً في نفسي لم أكن أفكر في الأكل،والله وحده يعلم من الذي يطعمني. ولكن الآن أستطيع أن أقول أن القصائد موجودة ،موجودة.آمين. وهكذا فقد عشت حتى أنهيها، أنهيها جميعها، وهذا ما كنت أحتاجه. أحتاجه وحده»(6) .
  إن ما يُستشف من هذه الرسالة أن هناك هوىً وهوساً شديداً في لحظات الإبداع،كما توجد شروط ثانوية بإمكانها أن تكون ضرورية للإبداع ،والإلهام المحض يمكن أن يحضر في أي مكان، ولابد من شروط تؤدي إلى التركيز وذلك لتوسيع الرؤيا وجعلها محسوسة ومن ثمة تُحول إلى عمل فني شعري أو نثري ، وخير مثال على ذلك رايلكه  الذي كان بحاجة إلى هدوء  الريف وعزلته، أما غيره من الأدباء فقد احتاجوا إلى شروط أخرى ،فعلى سبيل المثال  شيللر فقد كان بحاجة إلى رائحة التفاح العطن  الذي يخبأه في مكتبه إلى مقادير كبيرة من القهوة ، أما بالزاك فقد كان يحتاج إلى القهوة وإلى مناشف مرطبة وكان يحيطها برأسه حين يكتب في منتصف الليل، وكان الدكتور جونسون  لا يستطيع إتقان عمله  إلا بحضور قطة تخرخر وكمية من قشر البرتقال، ومقدار كبير من الشاي...؟
          كيف يكون المبدعون...؟  هو سؤال في غاية الدقة و الأهمية ، ويبحث عن سمات المبدعين سواء الشكلية الخارجية أو الفكرية ،يحاول الدكتور عاقل الإجابة عليه في الفصل السابع من القسم الأول، فيروز في شتى النظريات والأفكار التي قدمها مختلف الكتاب والمنظرون عن الصفات التي يتميز بها المبدعون ،فهل الصورة الشائعة  عن الشخص المبدع  أو الفنان تلك التي تجعله  إنساناً طويل الشعر،متحللاً، مشوشاً، كأنه مجنون سائر في الطريق مطلقاً العنان بوهيمياً...؟!
  حاول(أرثر كوستلر  ARTHUR KOESTLE  ( الإجابة عن هذا السؤال بتقصيه لأهم السمات التي تطبع العباقرة  ففي نظره أن أغلب العباقرة الذين أحدثوا تغييرات في تاريخ الفكر يشتركون في جُملة من العناصر من أبرزها الشك، وأنهم يبدون منفتحي النفس لدرجة قد تصل بهم إلى حد السذاجة.
   لقد بذلت جهود كثيرة من أجل محاولة استكشاف الصفات والسمات الشخصية  والخلفيات التي تجعل من الشخص مبدعاً ، واستعملت في ذلك العديد من الطرائق،كالطرائق الفردية أي دراسة الأفراد كل بمفرده ، والطرائق الجماعية بدراسة الجماعات مع بعضها البعض. ومن أول الدراسات التي استعملت  دراسة أجرتها (رو ROE  ( سنة:1952م،فقد أخذت عشرين عالماً من علماء البيولوجيا ، واثنين وعشرين من علماء الفيزياء، واثنين وعشرين من علماء الاجتماع ، وقامت بإخضاعهم لمقابلات مطولة  تناولت من خلالها تواريخ حياتهم  وخلفيتهم الأسرية واهتماماتهم  المهنية و الاستجابية ،وطرائقهم في التفكير وهلم جراً...
     تبدى لرو بعد مدة أن لكل عالم فرديته المميزة، وظهرت فروقٌ بين المنتمين إلى كل مهنة كما اكتشفت جملة من الأنماط المشتركة  حاولت من خلالها أن ترسم صورة للعالم المتميز المتوسط فأشارت إلى أنه الولد الأول لأسرة من طبقة متوسطة  الحال ، وهو ابن رجل يمتهن مهنة ، ويميل إلى أن يكون طفلاً شبيهاً بشخص مريض  وقد يكون قد فقد أحد والديه في سن مبكر، ويبدو هذا الشخص ذا حاصل ذكاء مرتفع جداً، ويبدأ القراءة في سن مبكرٍ، وقد ظهر ميوله إلى الوحدة والانعزال عن سواه ، وهو خجول مقارنة بزملائه في الصف،أما عن اهتمامه بالفتيات  فهو معتدل، وقد تزوج متأخراً نسبياً في السابعة والعشرين، وهو يحبذ حياة الطمأنينة والاستقرار ،كما يبدو دؤوباً ومنقطعاً إلى العمل ، وهو يرى أن حياته هي عمله ، وهو قليل الاستجمام ،كما يتجنب النشاطات الاجتماعية والفاعليات السياسية ، والبحث العلمي يُرضي حاجاته الداخلية  وطبعه أكثر من أي شيء آخر...
         أما عن المبدعين الأحداث فقد ظهر أن بعضاً من الصفات الشخصية التي تجلت لدى المبدعين الكبار هي عينها عند هؤلاء الأحداث الذين يستطيعون إظهار إبداع واعد،فقد وجد كل من  غتزلس وجاكسون  أن مفرقيهم  وقفوا ضد العديد من المُسلمات السائدة في حاضرتهم مظّهرين بعدم الالتزام وحرية التفكير ،كما تبدى أنهم لا يعتنون بالصفات التي تسبب النجاح بين الناس والتي يقدرها  معلموهم  ويعطونها قيمة كبرى ،فهم يعتنون بالصفات  التي يعتبرونها هم ذات قيمة بالنسبة إليهم  بالرغم من علمهم بأنها قد لا تسبب  لهم احترام العالم من حواليهم،كما ظهر ميلهم إلى عدم الالتزام  بالنسبة للمهنة التي انتقوها ،كذلك فقد تبدى أنهم أشخاص خارجون عن إطار نظام المدرسة  ويبدو لهم  كأنه وُضع لصنف آخر من الأطفال ليسوا من أصنافهم ، وبالرغم من انجازاتهم المدرسية العالية فإن المبدعين الحقيقيين من الأطفال هم أقل شعبية عند معلميهم  من غيرهم  من الأطفال ذوي الذكاء العالي ،والفرق بين المفرقين والمجمعين تجلى في مهنة الأدب فأغلب المجمعين آباؤهم  في معظم الأحيان هم جامعيون ومهنيون،بخلاف المفرقين الذين أتوا من بيوت أصحابها رجال أعمال ، كما وجد كل من (ميللر وسوانسون MILLER AND SWANSON (  سنة:1958م أن الفرق ينعكس في مواقف مختلفة للآباء وخاصة في المخاطرة،كما أن روح النكتة هي صفة يتميز بها الشخص الراشد المبدع، وظهر من خلال دراسة غتزلس وجاكسون أن المفرقين الذين درسوهم هم أقل شعبية  عند مدرسيهم نظراً لأن سلوكاتهم لا تتميز بالالتزام والانضباط، ومما أشار إليه المربي الأمريكي تورانس سنة:1962م أن الطفل المبدع تنقصه الشعبية، وأن الضغط الاجتماعي  ربما يُشكل عاملاً في نمو القابليات المفرقة ، وهذا الأمر هو الشائع في المجتمعات التي تعطي أهمية كبيرة للالتزام ،في حين أن المجتمعات التي تهتم بتنمية الإبداع لا تُعلق أهمية كبيرة على التزام الطفل بقوانين المدرسة  وطرائقها وأساليبها.
     إن التفكير المجمع ربما يكون بالنسبة لبعض الأشخاص هو محاولة للهروب من القلق الذي يتسبب به الاندماج بالانفعالات والاصطدام بالناس، ومن جانب آخر فافتراض تجنب المجمع للأمور الشخصية لابد أن يكون دائماً بمثابة  إنكار للانفعال ونوع من الدفاع، ويضاف إلى ذلك أن ما قيل عن تصنيف المجمعين باعتبار أنهم مفكرون من الدرجة الثانية هو أمر مضلل،ذلك أنهم قادرون على تقديم إنجازات هامة وخاصة في مجال العلوم والمنطق والرياضيات.
  ومما يُذكر في هذا الصدد أن الفيلسوف كانت الذي لم يدبج يراعه إلا في المنطق و الميتافيزيك والرياضيات، كان المواطنون الصالحون من أهل كونغسبرغ يضبطون وقتهم وساعاتهم على نزهته اليومية إبان الظهر،ومهما يكن الشأن فإن الصورة العامة التي تظهر لنا أن المجمعين قياساً على رأي بعض علماء النفس أنهم: دفاعيون،مكبوتون، وسيئو التكيف،أما عن المفرقين،فهم:مبدعون، منفتحون للخبرة، غير مكبوتين،أصحاء،و أصحاب تكيف حسن، وذو فعالية عالية ...إلخ.
  وحسب ما زعم كوبي سنة:1958م أننا لو حررنا أنفسنا من كبتنا لأمكن أن نصبح مبدعين ،فإلى أي مدى يصح هذا القول ؟ وهل هناك  صلة قريبة وفعلية بين الجنون والعبقرية؟
       من أبرز الدراسات التي خاضت في علاقة الجنون بالعبقرية دراسة بركلي عن المهندسين المعماريين والكتاب والرياضيين المبدعين، وقد اشتملت دراسته على جملة من الروائز التي اقتصرت على أمور بعينها، من مثل: الهمود، والوساوس، والهيستيريا، والبارانويا، والانحرافات النفسية،وهلم جراً...،  وقد ظهر له أن الفرقاء المبدعين يميلون إلى الإصابة بهذه الأمراض،واستنتج من خلال دراسته أن المبدعين يتمتعون بقوة عالية للأنا ، وأنهم استطاعوا المزج بين الضغط النفسي والكفاية الشخصية ، وبناءً على هذا يتبين أن هناك ترابطاً بين المصاعب النفسية والقدرات الإبداعية ،غير أن هذا القول  لا ينطبق على جميع المبدعين وليس بالضرورة أن كل كاتب أو فنان مبدع يعاني من انحراف نفسي  أو عقلي،غير أن أغلب الدراسات العلمية الجدية أكدت وأيدت الفكرة القائلة بأن الكتّاب والفنانين المبدعين يميلون إلى الانحرافات النفسية  أكثر درجة من الأنام العاديين. 
    أما عن الفصل الأخير من هذا القسم فهو موسوم ب:«التفكير المفرَّق والتفكير المجمَّع»،وقد حاول من خلاله المؤلف أن يستقصي العلاقة  التي تشوب كلاً من الإبداع والذكاء،فمن أبرز الإشكاليات التي واجهت علماء النفس المتأثرين بأفكار غيلفورد ،هل الذكاء والإبداع صفتان متمايزتان؟ أم أن الذكاء يشمل ظاهرة الإبداع في مفاهيمه الموسعة؟،وهل الاختبارات سواء المجمعة منها أو المفرقة تقيس صفات متميزة؟
القسم الثاني: تربية الإبداع:
       نُلفي في هذا القسم خمسة فصول تناولت قضايا متباينة تتعلق بتربية الإبداع وتنميته سواء للكبار أو الصغار،وتتبع المؤلف من خلال قسمه هذا تنمية الإبداع في شتى أطوار العمر، وتعرض الدكتور عاقل لنظريات شتى تساهم في تنمية الإبداع وتربيته وتطويره.
      ففي الفصل الأول سلط الضوء على الرسالة التي بعث بها غيلفورد سنة:1958م إلى جماعة الفن الباسيفيكية ،وقد حاول من خلال هذه الرسالة أن يكشف بعض طرائق تربية الإبداع ،ويُستشف من رسالة غيلفورد حرصه الشديد على تربية الإبداع والعمل الجاد على إبراز المبدعين والاستفادة منهم في شتى الميادين ، ومن القضايا التي تناولها غيلفورد في رسالته:«أن عدد البحوث قد زاد زيادة كبيرة جداً وأن ثمة قرابة ألفي درس من دروس الإبداع كانت تعطى في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الحين(عام 1958). وذلك في الجامعات والمصانع والوكالات الحكومية. ولقد كانت هذه الدروس تتألف من محاضرات عن طبيعة الإبداع وتدريبات عن التفكير المبدع وحل المشكلات»(7).
    من أكثر الطرائق التي اتبعت جلسات إمطار الدماغ والتي يرجع الفضل في تصميمها إلى(ألكس أوزبورن     (OSBORN  ويُهدف منها توليد أفكار حديثة ،وتستعمل بصورة خاصة في ميدان الإعلام وموجز هذه الطريقة  تتلخص في تجمع فريق مصغر من الأفراد  بهدف التفكير والبحث عن أفكار جديدة لمجابهة أمر معين يتمُ الإعلان عنه مسبقاً ، ومن شروط هذه الطريقة أن يعُم التسامح ويُتجنب النقد والتعقب، ويُتوقع أن تستفز ملاحظات وأفكار شخصٍ ما  أفكار الآخرين وينتج عن ذلك أفكار أعظم وأغزر نظراً لتفكير كل شخص بشكل انفرادي واجتهاده في سبيل أفكاره الخاصة  وحرصه على جدتها ، وتشير الدراسات إلى أنه لم يتأكد من صواب هذه الطريقة غير أن ما يُستفاد منها أنها تعمل على زيادة وغزارة الأفكار، وتُدرب على عادات وطرائق للتفكير ذات فوائد جمة.
        في الفصل الثاني يحاول الدكتور عاقل أن يجيب على سؤالين وجيهين يتعلقان بظروف نمو الأفراد المبدعين، كيف ينمو الأفراد المبدعون ليصبحوا مبدعين ؟ وهل بالاستطاعة اكتشاف المؤثرات المحيطية التي تنتج أشخاصاً مبدعين؟
  بالاعتماد على نموذج غتزلس وجاكسون سنة:1962م فقد درسا أسرتي سكوت وبلاك ،فقد كانت ابنة سكوت تتمتع بأعلى حاصلات الذكاء في دراستها وقد كانت تدرس في واحدةٍ من أحسن الجامعات في شرقي الولايات المتحدة الأمريكية ، وكان بيتها  ينم عن ذوق رفيع للأسرة ففيه الكتب والأثاث وكان بيتاً منظماً ومرتباً، وكان الوالد ناجحاً في مهنته، وكانت الأم تدعم ابنتها وتشجعها في مطامحها من أجل الإنجاز الفكري ، ولطالما مارست على ابنتها نوعاً من الضغط والرقابة الدائمة، وكانت مهتمة بكينونة ابنتها كمبدعة وكثيراً ما عملت على إثارة ذلك عند الفتاة ، وكانت تُسقط رغباتها عليها كأن تكون كاتبة أو أديبة، وبالفعل تمكنت الفتاة من منافسة أخويها من خلال انجازاتها الفكرية وحققت أحلامها التي راودتها ووصلت إلى المستويات التي طالبتها أمها بها. وكمثال على العائلة المفرقة  فإن آل بلاك كان لهم ابنان مبدعين، ولعل أهم ما يثير الذهول في هذه العائلة أن الكتب والمجلات كانت تملأ كل زاوية من زوايا البيت،فقد كان الوالد عالماً بيولوجياً وكانت الأم محررة بجريدة صغيرة، وعلى العموم فإن ما يلاحظ بالنسبة للعلاقة بين الأطفال المبدعين وآبائهم أن هؤلاء الآباء كانوا يكنون احتراماً كبيراً لأبنائهم ، ويثقون بهم ثقة عمياء ويجزمون بقدرتهم على تخطي المصاعب والقيام بأعمال صائبة ،وكانوا يمنحونهم استقلالاً وشعوراً بالحرية في استكشاف العالم من حولهم ، وكانوا يشجعونهم  على الأفعال المستقلة والناضجة ، وقد وجد الكثير من الباحثين في دراستهم للخلفية المدرسية للأشخاص المبدعين أنهم يميلون لأن يكون لهم آباء وأقرباء من أسرهم يعتبرونهم كأمثلة يحتذون بها ويقاسمونهم مجالات اهتماماتهم، ومن الدراسات التي أنجزت في هذا الميدان  الدراسة التي قام بها كل من(وايسبرغ وسبرنغر WEISBERG AND SPRINGER ( سنة:1961م،فقد قاما بدراسة مفصلة لأسر واحدٍ وثلاثين موهوباً في التاسعة من عمرهم وتم تطبيق اختبارات التفكير المفرق عليهم وثبت أن آبائهم يتمتعون بتفكير مفرق عال، وهم منفتحون في الصلات والعلاقات الإنسانية ، وكانوا متسامحين وفرديين، وأغلب أسر هؤلاء الأطفال تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، وقد وجد ماككينون في أغلب أسر هؤلاء غياب الصعوبات المالية في البيت، وألفى كل من وايسبرغ وسبرنغر أن استقلال الأب في مهنته أمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقابليات المفرقة.
  وخلاصة القول فالصورة العامة التي تتبدى لأسر المبدعين تكون كالآتي:«يكون الأب متمتعاً باستقلال ذي بالٍ في مهنته وعمله .وهكذا فإن الأب يقدم مثلاً على الاستقلال ومن ثم فإن الأهل يمنحون طفلهم قدراً معقولاً من الاستقلال. ثم إن الوالدين يكونان متحمسين  للفاعليات المبدعة ويحاولان تشجيع فضول  الولد وميله إلى البحث ويثيرانه من أجل الإنجاز المستقل . ومع ذلك فإن الوالدين لا يضغطان  على الطفل  بل يسمحان  له بالنمو  والتكون بمعدله الخاص وفي الاتجاه الذي يرغب  فيه، وغالباً ما يون الوالدان متسامحين.هذا وتكون العلاقات في الأسرة دافئة، وليس من الضروري أن تكون العائلة  منسجمة كل الانسجام.إن التعبير  الصريح عن المشاعر، بل وشيء من الخلاف، أمران سويان وهما جزء من حياة الأسرة»(8). ومما يُذكر أن صديقاً للشاعر الألماني الشهير(شيللرSCHILLER) إليه نقص وضعف قدراته الإبداعية،فكتب إليه قائلاً:« يبدو أنه من غير المفيد-بل إنه مما يعيق العمل الإبداعي للعقل- أن تتفحص النفس الأفكار التي تتدفق عليها تفحصاً مبالغاً في التدقيق ، ولاسيما في البداية...وفي حالة النفس المبدعة  يبدو لي أن العقل يسحب مرقبيه من(المدخل) وأن الأفكار تنصب على النفس مختلطة  ومن بعد ذلك تمعن النفس  النظر فيها وتراقبها. وأنتم أيها النقاد المحترمون-أو سموا أنفسكم ما شئتم- تخجلون أو تخافون من الجنون الآني والعابر الذي يوجد عند كل المبدعين الحقيقيين  والذي يفرق بين الفنان المفكر وبين مجرد الحالم. ومن هنا شكواك من عدم  جدوى التفكير.ذلك بأنك تُسقطُ أفكارك  بسرعة وتتشدد في التمييز بينها»(9). إن ما يتبدى من هذا الخطاب أن الشاعر شيللر وقبل فرويد بفترة طويلة كان قد أدرك قيمة وأهمية اللاشعور وميزهُ وهو يُعدُهُ ينبوعاً للأفكار المبدعة ،كما أنه يؤكد على أهمية تأجيل وإرجاء المحاكمة النقدية للأفكار إلى غاية حلول اللحظات المناسبة  للعملية الإبداعية، ولعل أوزبورن سنة:1953م هو أول من نبه إلى مبدأ  فصل عملية إنتاج الأفكار عن عملية تقويمها، ومن الطرائق التي يُزعم بأنها تسمح بزيادة الإنتاج المبدع  طريقة  (سينكتكس SYNECTICS)  التي اقترحها (غوردون GORDON) سنة:1961م، ونسبتها تعود إلى كلمةٍ يونانية معناها: الجمع بين العناصر المختلفة ، وهي طريقة تعمل على تشجيع تدفق الأفكار العفوي والحُر دون أن تتدخل عملية النقد، والذين يتم تجربتهم يعملون في فرق، وتتميز هذه الطريقة عن طريقة إمطار الدماغ في أنها تقترح آليات شعورية يُقصد منها تسهيل عملية التخمر اللاشعوري، وتستعمل فيها آليتان تُبنيان على التضاد وذلك بجعل  الغريب مألوفاً، وجعل المألوف غريباً، ويُقصدُ من خلال هاتين الآليتين التعرف على المشكلة وتحليلها إلى أجزاء شتى، والتأمل في ما هو معروف ومألوف من وجهة نظرٍ ورؤيةٍ جديدة. هل التربية متحاملة على الإبداع؟
   «في معظم الكتابات التي كتبها  المربون والكتّاب والعلماء وسواهم في الأيام الأخيرة  والتي أبرزوا فيها الحاجة إلى التغير والمرونة  في التربية كان هناك نقد عنيف للظلم الفاضح الذي يمارسه النظام التربوي الذي يطالب بأن يلتزم الطلاب أنماطاً محددة من التصرف والتفكير والذي يشجع  الببغائية  أكثر مما يشجّع التفكير ، كما كانت هناك حملات على المعلمين القابعين في قواقعهم والذين يحاربون كل إبداع ويتنكرون له، مع أن من المفروض في المعلم أن يكون خالقاً مبدعاً لاسيما وأن المادة  التي يتعامل بها هي النفس البشرية»(10). ويبدو أن المتأمل في أوضاع المدارس لا يخطئ عندما ينتقد جُملة من المدارس-الابتدائية والثانوية والجامعات- فهي تفتقد لعناصر التشجيع والدفع للتفكير وتعزيز الإبداع و الإنتاجات المبدعة،فعدد كبير من الأفراد المبدعين تعجز المدرسة عن تشجيعهم وإفساح المجال أمام قدراتهم و كفاياتهم، وهذا ما أثبتته دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية ، ومن المُسلم به أن المدارس هي مؤسسات مهمتها نقل الحضارة وتنمية الأفراد،على أساس مبني على التسامح والحوار الفاعل والمثمر، ومن النتائج التي تبدت للدارسين أن المؤسسات والأفراد المبدعين هما ضدان طبيعيان،فنُلفي المفرقين ساخطين على المؤسسات وذلك لرغبتهم  في الخروج على القواعد والمناهج التي تضعها المؤسسات التربوية، ويرغبون في رسم مناهجهم الخاصة واعتماد طرائق يتبعونها لوحدهم  ولذلك فكثير منهم يتنكر لهذه المؤسسات ويغادرها إلى الأبد غير آسفٍ على ما بدر منه، ومن هنا نُدرك صحة قول بعض المفكرين أن سنةً أو فترةً زمنية معينة يقضيها المبدع خارج المدرسة قد تكون لها فوائد جمة وعظيمة في بلورة مساره.
  وبناء على التجربة التي قام بها غتزلس وجاكسون سنة:1962م، وذلك بطلبه من بعض المعلمين تصنيف طلابهم بحسب درجة إعجابهم بهم ،فقد أتى الطلاب الأذكياء في الدرجة الأولى يليهم الطلاب المتوسطون ،أما الطلاب المبدعون فقد صنفوا في المستوى المتوسط بالرغم من أن انجازاتهم المدرسية لا تقل عن انجازات الطلاب الأذكياء ، و من النقاط التي اقترحها تورانس بُغية إيجاد مناخ مدرسي  ينسجم مع طبائع المبدعين:
«-1-احترام الأسئلة غير العادية.
-2-احترام أفكار الأطفال غير العادية.
-3-أظهر للأطفال أن لأفكارهم قيمة.
-4-قدم فرصاً للتعليم الذاتي وقدّره.
-5-اسمح بالعمل والتعلم غير المقوّم»(11).
   بيد أن ما أثبته الواقع أنه من الصعوبة بمكان القيام بصلاتٍ بين المناخ المدرسي و القابليات المفرقة،فقد أخفق أغلب الباحثين في إقامة هذه العلاقة .
     يطرح الدكتور عاقل في فصله الرابع ثُلة من الأسئلة، ومن أهم هذه الأسئلة ،ما نوع الفاعلية المبدعة التي يتوقعها المجتمع من العلماء والمهندسين؟ ويقسم هذه الفاعليات إلى نقاط ثلاث ،هي:
«(1)البحث العلمي المهتم بصورة خاصة بمشكلة زادت فهمنا للطبيعة.
 (2) البحث العلمي والتكنولوجي المطبق المهتم بتطوير أدوات وطرائق جديدة  والتوفيق بين الأدوات والطرائق من أجل حل المشكلات الخاصة ذات الأهداف العملية
(3)التصاميم الهندسية المعنية بالدرجة الأولى بتكييف التقنية المتيسرة مع الأهداف الاجتماعية الخاصة جمالياً ومادياً واقتصادياً» (12).
    إن ما يمكن الوقوف عنده في هذه النقاط الثلاث أن القاسم المشترك بين الفاعليات هو التبصر الخيالي الذي يسمح للجنس البشري  برفع مستوى معارفه، ويمكنه من اكتساب خبرات شتى أكثر شمولية واتساعاً ويسهل فهمها واستنباطها ، وما يجب العناية  به البحث العلمي فهو موضع دراسة واهتمام أكثر من العاملين الآخرين، ويشترك المبدعون في ميدان العلوم بمجموعة من الصفات المشتركة أهمها: المحيط الطفولي الثري بالنسبة لقيمة المعرفة  والمطالعة والدرس لدرجة الإدمان وذلك في عمر مبكر ،ومن بين هذه الصفات الشعور بدرجة من الاستقلال تحملهم على الاستطلاع والاكتشاف المبكر وتجعل في استطاعتهم إرضاء فضولهم بمجهوداتهم الذاتية، كما تشعرهم باعتمادهم المبكر على الموارد الشخصية   وعلى ضرورة التفكير بأنفسهم، ويتولد عندهم دافع عميق لبذل جهود مركزة ، ومثابرة في دراستهم  وعملهم، بالإضافة إلى الصفات الشخصية فهناك صفات خاصة بعملية البحث العلمي.
      من بين الإشكالات التي يثيرها المؤلف في فصله هذا إشكالية في غاية الأهمية ، ما هي الطريقة التربوية التي تزيد عدد الأفراد المبدعين كما تزيد إبداعهم العلمي في الوقت نفسه؟
    في البدء يُقر الدكتور عاقل  بأن الإجابة على هذا السؤال هي ذات طالع تخميني فالمشكلة الأساسة :«هي اقتراح عملية تربوية تسمح بإتقان الطرائق الصارمة للمحاكمة ،ثم جمع مجموعات كبيرة من الحقائق والنظريات التي تشكل المعرفة الجارية .ثم غرس عادات الاستعمال الكفء للأفكار والحقائق المتوفرة دون سماح بالكبت أو التصلب العقلي الذي يحد من البحث الحر والخيالي والإفادة من المعارف والمهارات المكتسبة »(13).
    لابد من تركيز الانتباه  على حاجات الفرد ، وبغض النظر على المجتمع، وبذلك يصبح بالاستطاعة تحديد الصفات الأساسة للعملية التربوية  التي يُرمى منها إلى زيادة الإنتاجية في العلوم : فلا بد من غرس عادة التشكك في نفس المعلم ، وعادة نقد المعلومات والآراء، ويجب استشارة التفسيرات غير الاتفاقية للخبرة،والعمل على تنمية وتشجيع الأفكار الجديدة والتطبيقات وعدم  التسرع في شجبها وتخطيئها، ونظراً لأن المعلومات المرتبة هي التي ترسخ في الذاكرة،فمن الضروري  التأكيد على المبادئ والعلاقات البنائية والقوانين  والعمل على تشجيع العادات والمهارات والبحث عن الأفكار وإمكانية ترابطها  وإعطاء الأهمية لتحقيق النتائج والتأكد من صوابها، ولابد من مساعدة الفرد وهو في طريق نضجه على تنمية طرائق تتناسب مع شخصيته وقدراته واستعمالها في مقاربة المشكلات بالبحث.
        في الفصل الأخير من الكتاب والموسوم ب:« تحضير الهيئات التدريسية الجامعية المبدعة» يتناول المؤلف جُملة من الطرائق المتبعة من أجل تحضير هيئات تدريسية  مبدعة، ويعتمد في  ذلك على مجموعة من الأفكار التي طرحها مختلف الباحثين والمفكرين، كما يُحاول المؤلف أن يُقدم العديد من العناصر التي تمثل صفات المعلم الباحث المبدع.
  مما تحدث عنه(دوغلاس براونJ.DOUGLAS BROUN)  «أنه لابد من التفريق بين(المعلمين-الباحثين) المبدعين  الذين ينهض على أكتافهم  التعليم الجامعي المثمر  وبين العلماء الذين يقضون  حيواتهم في جمع المعلومات  من أجلها ذاتها.إن الباحث المبدع يقدم سيلاً من الأفكار  الجديدة مستخلصاً إياها من المعلومات المتجمعة»(14).
  أشار براون إلى أنه على المعلم أن يحاول باستمرار إيجاد طرائق حديثة بُغية نقل الأفكار القديمة والجديدة والعمل على تنميتها وتطويرها ،فما يستثير المعلم الباحث الحقيقي في العملية الإبداعية هو مساعدته  لطلابه من أجل كسب تبصر أعمق  في الموضوعات التي يدرسهم إياها ، والباحث الذي لا يكون معلماً فعالاً قد يُبحر ويتوسع في العلم، غير أن المطاف ينتهي به  إلى احترام وتقدير  العلماء السابقين،فلا بد من التمييز بين المعلم الباحث المبدع ، وبين أي باحث يجمع المعلومات من شتى ميادين المعرفة.
    يُقدم براون انطباعاته الخاصة  عن الصفات التي تُميز المعلم الباحث المبدع كما يراه هو بعد اكتسابه لخبرة مطولة نتيجة لعمله كرئيس للجامعة، ونتيجة لبحثٍ مطول قام به من أجل استخلاص  شتى الصفات العلمية الدقيقة، قدم جُملةً من الصفات كالآتي:
-1-العقل المتسائل،-2-القدرة على التحليل والجمع،-3-الحدس،-4- النقد الذاتي،-5- النزوع إلى الكمال ،-6-النزوع إلى الاستبطان،-7- النزوع إلى مقاومة السلطة الخارجية .
فذلكة:
     لا يسع المتبصر في هذا الكتاب إلا أن يُثني على الجهود التي بذلها الدكتور فاخر عاقل من أجل تقديم دراسة وافية، وأفكار ورؤى معمقة و متنوعة عن الإبداع كما فُهم من ِقبل شتى العلماء والمفكرين في أزمان متباينة ،وأعتقد أن الموضوعات التي تناولها الكتاب على غاية من الأهمية والفائدة ، ففي القسم الأول منه تتبع مختلف الحقب التي مرت بها دراسة الإبداع،وخاض في قضايا غاية في الأهمية كالعوامل التي تعين الإبداع أو تعيقه ، والطرائق التي تشجع على التفكير المبدع، وماهية الإبداع ، والصفات التي يستميز بها المبدعون ، وهلم جراً...
      وفي القسم الثاني منه تعرض للعوامل المساعدة على تنمية الإبداع في مختلف أطوار العمر ، ولقضايا التربية من أجل الإبداع في العلوم ،وتحضير الهيئات التدريسية الجامعية المبدعة وغيرها من القضايا،وفيما يتعلق بذكر المصادر والمراجع والتهميش والإحالات، فإن ما تبدى لنا أن الدكتور عاقل قد استعاض عن ذلك بذكره لأسماء الأعلام قبل عرض نظرياتهم ،وأحيانا نُلفيه يستعمل قوسين صغيرين يذكر بينهما اسم الشخصية وتاريخ كتابة خطابها، وما يمكن قوله عن الكتاب أنه صالح لعامة القراء، غير أن الجديرين بقراءته هم أهل الإبداع والابتكار، كونه يُنير دروبهم ،ويتناول أحوالهم النفسية
 و سلوكاتهم  بالدراسة والتحليل العميقين.
الهوامش:
(1)الدكتور محمد التونجي: المعجم المفصل في الأدب،دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى،1413هـ/1993م،ج:01،بيروت،لبنان،ص:16.
(2)ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده،تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد،الطبعة الثانية ،1374هـ/1955م،القاهرة،مصر،ج:01،ص:265.
 (3)الدكتور فاخر عاقل:الإبداع وتربيته،دار العلم للملايين،الطبعة الثالثة،1979م،بيروت،لبنان،ص:12.
(4)د.فاخر عاقل:الإبداع و تربيته،ص:19.
(5)المصدر نفسه،ص:34-35.
 (6)نفسه،ص:80-81..
(7)نفسه،ص:116.
 (8)نفسه،ص:137-138.
(9)نفسه،ص:143.
(10)نفسه،ص:147.
(11)نفسه،ص:156.
(12)نفسه،ص:165.
(13)نفسه،ص:167.
 (14)نفسه،ص:171.
     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق