الصفحات

2018/09/14

الـــــنـــــقـــد وتـحلـــيــــل الـخطاب وقضايا نظـرية الأدب بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بــوفـلاقــــة

الـــــنـــــقـــد وتـحلـــيــــل الـخطاب وقضايا نظـرية الأدب
 بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بــوفـلاقــــة
  تحتاج النظرية الأدبية إلى مزيد من النقاش الأكاديمي الرصين،والبحث المتعمق،والمساءلة العلمية الجادة، فقد عرفت في مفهومها العام كونها جملة«من الآراء، والأفكار القوية، والمتسقة، والعميقة، والمترابطة،والمستندة إلى نظرية في المعرفة، أو فلسفة محددة،والتي تهتم بالبحث في نشأة الأدب، وطبيعته، ووظيفته،وهي تدرس الظاهرة الأدبية بعامة من هذه الزوايا في سبيل استنباط وتأصيل مفاهيم عامة تبين حقيقة الأدب وآثاره،لذا فإن كثيراً من الآراء التي تدور حول الأدب أو جوانب منه لا ترقى إلى مستوى النظرية، لأنها لا تستند إلى فلسفة محددة، أو تفتقد إلى القوة ،والاتساق،غير أن العمق والقوة والاتساق والاستناد إلى فلسفة أو نظرية في المعرفة لا يعني بحال أن أية نظرية أدبية خالية من الثغرات أو نقاط الضعف،فكل نشاط ثقافي مرتبط بمرحلته الاجتماعية والحضارية،وكل نشاط في نظرية الأدب مرتبط أيضاً بالوضع التاريخي والأدبي الذي استند إليه في استنباط آرائه وأفكاره»(ينظر:د.شكري عزيز الماضي:في نظرية الأدب ،ص:2 ).
          ويؤكد الدكتور شكري عزيز الماضي على أن مهام نظرية الأدب تتمثل في البحث عن نشأته وطبيعته ووظيفته،أي أن اهتمامها يرتكز على مقومات الأدب كحقيقة عامة في أي زمان أو مكان وفي أية لغة كتب بها،فالبحث في نشأة الأدب يعني بيان العلاقة القائمة بين الأديب والعمل الأدبي،والبحث في طبيعة الأدب يعني بيان جوهر الأعمال الأدبية،أي خصائصها وسماتها العامة،والتركيز على وظيفة الأدب يعني بيان العلاقة بين الأدب وجمهور القراء،أي بيان أثر الأدب في المتلقين.
       ومن جهة أخرى يشير الدكتور محمد التونجي في توصيفه لنظرية الأدب إلى أن كتاب أرسطو«فن الشعر» يعتبر باكورة دراسات نظرية الأدب،وهي اليوم(نظرية الأدب)من الفنون الأدبية النقدية الحديثة،تدرس أصول الأدب وفنونه ومذاهبه،وتضع القواعد المناسبة لدراسة الأدب،وتعالج المفاهيم الجمالية،وهي بذلك تتميز عن النقد في أنه يدرس النصوص دراسة فنية،ويُصدر عليها الأحكام،بينما نظرية الأدب تقنن الأسس النظرية لدراسة الأدب.
          ويذهب الدكتور محمد العمري إلى أن نظرية الأدب تدخل في إطار« تأمل الذات ومساءلة الهوية،وهذه عملية تمارسها المباحث العلمية عند تحقيق قدر من النضج نتيجة تراكم وصفي وتأويلي لمختلف مظاهر تجلي الظاهرة،ومجالها البحث في طبيعة الموضوع وتخومه وآليات اشتغاله،ومن المفارقات أن هذا النضج الذي يدفع إلى تأمل هوية الظاهرة قد يؤدي كما هو الشأن بالنسبة للأدب إلى التشكيك في وجود هذه الهوية،إن لم يكن على مستوى الوظيفة فعلى الأقل على مستوى البنية المنتجة لها،وهذا ما يفسر الجنوح في العصر الحاضر إلى استعمال كلمات أخرى مثل:الخطاب والنص والكتابة لمعالجة المادة المدرجة عادة ضمن خانة الأدب». 
         وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أسماء بعض الأساتذة المتميزين في مجال نظرية الأدب،وأخص بالذكر أستاذنا العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض،والدكتور دودو-رحمه الله-  ،والدكتور الرشيد بوشعير،والدكتور شايف عكاشة،والدكتور عبد المنعم تليمة،والدكتور شكري عزيز الماضي،ود.مصطفى الجوزو،ود. محمد العمري، ود.محمد مفتاح،ود.صلاح فضل...،وغيرهم.          
      إن المتابع لمنجزات وجهود العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في المرحلة الأخيرة،يُلاحظ  أنه يسعى إلى التنظير لمجموعة من القضايا الأدبية والفكرية،فهو يكشف عبر كتاباته المتنوعة عن رغبته الدائمة في التنظير إلى الكثير من القضايا الأدبية، والمعرفية التي شغلت اهتمامه،حيث أصدر مؤخراً مجموعة من الأبحاث والمؤلفات التي قدم من خلالها مجموعة من الرؤى والأفكار الجادة والعميقة،نذكر من بينها:«في نظرية الرواية»،  ،و«نظرية القراءة»،و«نظرية النص الأدبي»، و«نظرية البلاغة».
        و تتركز فعالية الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض على محاور متعددة،وهذا ما يدل على مدى عمق وثراء ثقافته ومعرفته،وتنظيراته النقدية،فالدكتور عبد الملك مرتاض يتميز بالموسوعية في الإنتاج والنأي عن التخصص الدقيق،وقد لعب دوراً حاسماً في تألق الأدب والفكر الجزائري،وازدهار المعرفة الأدبية، ولذلك فهو   يشكل امتداداً لجيل من الرواد الكبار من بُناة النهضة الفكرية،والأدبية،والثقافية،     وكما يرى الأديب كمال الرياحي فعبد الملك مرتاض من الأسماء القليلة التي يمكن أن نسمّيها بـ«الكائنات الأوركستراليّة» والتي تعزف على أوتار مختلفة، فهو الناقد والروائي والباحث في الإسلاميات وفي التراث.      
        ويندرج كتابه الموسوم ب:«في نظريّة النّقد»في هذا الإطار،فقد قدم من خلاله متابعة شاملة لأهم المدارس النقدية المعاصرة،وتوقف مع نظرياتها بالتحليل والنقاش والمساءلة العلمية الجادة.
       قسم الدكتور عبد الملك مرتاض كتابه إلى ثمانية فصول،بعد مقدمة مطولة ناقش فيها جملة من المفاهيم التي تتصل بالقراءة والكتابة والنقد،ورسم من خلالها صورة واضحة لمجموعة من الإشكاليات التي تتصل بالقراءة والكتابة والنقد،حيث ذكر أن الكتابة واجب،وإن كانت حرية كما يقول رولان بارط فهي أيضاً واجب محتوم على الكاتب أن يؤديه للمجتمع ولا يستطيع الإفلات من فعله،إذ لا يسعه إلا أن يكتب،وأن يقول شيئاً،حيث يقول الدكتور عبد الملك مرتاض في هذا الصدد:« السّعْيُ في الكتابة كلُّه قائمٌ على وهْم حقيقيّ. أو قل على حقيقة وهميّة. أو قل: على لا شيءَ إطلاقاً، فأن نكتب، كأنّنا نهدِم. نقوّض  ما كان مبنيّاً. فإنْ حافظنا على المبنيّ لم نستطع الكتابة. فالكتابة هدْمٌ للكتابة السّابقة. تقويضٌ لها. إقامةُ بنيانٍ وهْميّ على أنقاضها. ولذلك فالذين يَسْتَعِفُّون عن التّقويض ويأْبَوْنَه إباءً، سيعجزون  في الغالب عن أن يكتبوا شيئاً البتّةَ، أو شيئاً ذا بال على الأقلّ.
فكأنّ اللّغة قتْلٌ للقِيَم، في رأي بعض المفكّرين الغربيّين. أو هي قتْلٌ، على الأقلّ، لما نراه منعدمَ القيمة، في عصرنا. وهي قتْل للمؤلِّفين السّابقين، ولو أنّهم أمواتٍ، أو أحياءٌ، معاً. لأنّ الإبقاء على حياة أولئك الذين كانت الكتابة قتلتْهم لا يُفضي إلاّ إلى قتْل الذي يريد أن يكتب هو نفسه، فلا يكتب شيئاً»)1(.
   وقد أشار الدكتور مرتاض إلى منظور جان بول سارتر الذي قدمه في كتابه:«ما الأدب؟»،ورأى أنه  على الرّغم من الأسئلة الكثيرة التي طرحها   عن الكتابة، أو عليها، قُبَيل منتصف القرن العشرين، واجتهد في أن يجيب عن بعضها في كتابه «ما الأدب؟»؛ إلاّ أنّه لم يُجِب عنها، في الحقيقة، إلاّ بطريقته الخاصّة، وإلاّ حسَب مذهبه الوجوديّ في التّفكير، ووفق رؤيته إلى الحياة؛ ممّا قد يجعل من حقّ كلّ كاتب مفكّر أن يثير الأسئلة الخالصة له؛ ثم يجتهد في الإجابة عنها بطريقته الخاصّة، إن استطاع أن يجيب عنها، هو أيضا. و يؤكد المؤلف على أنه حتّى إذا تساءل ولم يجب، وحام ولم يقع، وشدّ ولم يَصلْ؛ فإنّ تلك الْمُساءلات تظلّ في حدّ ذاتها وجهاً من المعرفة، وأضرُباً من الأجوبة، ووجوهاً من التّفكير. فالعجز عن الإجابة عن السّؤال، هو في نفسه جواب. والتّفكير الصّامت، هو أيضاً، جواب.
وتساءل الدكتور عبد الملك مرتاض هل الكتابة مجرّد مستحيل؟ 
 وذكر في إجابته على هذا السؤال أن   أيّ مجتمع متحضّر راقٍ لا يستطيع أن يستغنيَ عن الكتابة؛ فالكتابة مثل الوجود المنشود، ومثل السّعادة الغائبة، ومثل الحلم الشّارد... ومثل الهواء الذي لامناص من شمّه. الاِستغناء عن هذه الأمور غيرُ ممكن. فالكتابة مماثلة للحلم بالسّعادة المعسولة. فأن نكتب إنّما نحاول تجسيد هذه السّعادة ولو في اختلاطها بأمشاج الشّقاء وأدْرانه. فلْنكتبْ، ولنكتبْ؛ ولْنُدمنِ الكتابة إلى يوم القيامة؛ فإنّما الكتابة تجسيد لحياة البشريّة بما فيها من آلام وآمال؛ على الرّغم من أنّها قد لا تدفع ألماً، ولا تحقّق أملاً.
كما يشدد المؤلف على أنّ هناك ثلاثةَ أطراف تتلازم وتتداخل؛ فيرتبط بعضُها ببعض، ويُفضي بعضها إلى بعض، ويُظاهر بعضُها على بعضٍ؛ وذلك  إذا انصرف الوهم إلى ماهيّة الكتابة التي يتولّد عن فضائها المسطور وجودُ الكِتَاب. وهذه الأطراف الثلاثة التي هي الكتابة -أو الأدب، أو النّصّ الأدبيّ-  والكتاب بكلّ أشكاله ومظاهره، والقراءة بكلّ أشكالها وأنواعها أيضاً، هي التي تكوّن هذه العَلاقة التي بمقدار ما تنهض على التّناقض، نُلْفيها أيضاً تنهض على التّناسق والتّرابط. ويتولّد عن ماهيّة القراءة أشكال أدبيّة أخرى، متفرّعة عن المعنى العامّ لها، ومنها:
1. القراءة الاِستهلاكيّة؛ وهي قراءة عامّة للأدب ابتغاء الاِستمتاع بنصوصه، أو ابتغاء الإفادة من معرفته وأفكاره، وهي قراءة عقيمة في ظاهرها، مُنتجة في باطنها حيث إنّه على الرّغم من عدم تَوَلُّدِ أيّ نصّ مكتوب عن هذه القراءة؛ فإنّها، في حقيقتها، تنتج نصّاً غير مكتوب. ويجتزئ هذا النّصّ غير المكتوب، أو الغائب، بأن يظلَّ مكتوباً في ذاكرة القارئ، قابعاً في مجاهلها، إلى أن يتاح له، إن أتيح له ذلك، إعادةُ إنتاجه ولو في شكل ردّ فعل شفويّ ما.
2. القراءة الاحترافيّة؛ وهي القراءة المركَّبة المعقّدة التي تنهض على جملة من الإجراءات التّجريبيّة والاستطلاعيّة والاِستنتاجيّة جميعاً؛ وهي، أيضاً، القراءة المنتجة التي يتولّد عنها نصّ أدبيّ مكتوب؛ وذلك لأنّ النّصّ الأوّل المقروءَ يُفضي إلى إبداع نصّ أدبيّ آخر مكتوب على القرطاس. وكان يطلق على هذه القراءة، من بعض الوجوه، مصطلح «النّقد».
3. ويتولّد النّصّ الأدبيّ المكتوب عن القراءة الإنتاجيّة بواسطة إجراء «التّأويل» الذي يتولّد عنه، هو أيضاً، بناء على ما يراه أمبرتو إيكو على الأقلّ، شكلان اِثنان من النّصّ المكتوب:
أ. تأويل النّصّ؛
ب. استعمال النّصّ.
  ويقرر المؤلف في الأخير أنه« أيّاً ما يكن الشّأن، فقد جاءت كتابة أخرى تُكتب عن الكتابة الأولى: تعلّق عليها، وتناقش أفكارها، وتعالج مدى ما فيها من قبح أو جمال، أو رداءة وجَودة؛ فأطلِقَ على هذه الكتابة، التي هي في الحقيقة نتيجة حتميّة لضرْب من القراءة، مصطلح «النّقد». ولَمّا كان الذين يكتبون الكتابة الثانية، عن الكتابة الأولى -وهم إنّما يقرءون- أو النّقد، تتنّوع انتماءاتُهم الفكريّة والإِيدْيولوجيّة؛ فقد كان لا مناص من أن تتعدّد أشكال هذه الكتابة وتضطرب في مُضْطَرَبات مختلفة: كلّ مُضْطَرَب  يمثـّل اتّجاهاً معيّناً، قائماً على فلسفة معيّنة، أو إدْيولوجيَا معيّنة؛ فتفرّقت الكتابات النّقديّة، تأسيساً على ذلك، طرائقَ قِدَداً؛ فكانت هذه الطّرائقُ هي ما يُطلَق عليه «المدارس -أو المذاهب- النّقديّة . وكان موضوعُ هذا الكتابِ هو هذه المدارسَ النّقديّةَ يبحث في أصولها وجذورها، ويخوض في  تلاقيها وتَنائيها».
   انصب الفصل الأول من الكتاب،والمعنون ب« النّقد والنّقّاد: الماهيّة والمفهوم» على رصد مفاهيم ومدلولات النقد في الثقافتين العربية والغربية،ففي الثقافة الغربية كان مفهوم النقد يلتبس بمفهوم نظرية الأدب وربما كان مفهومُ النّقد يلتبس بمفهوم نظريّة الأدب حيث كانوا يَصرِفونه، في وظيفته، إلى تعريف الشّعر، ووصْف الأدب. بل ربما كانوا سقطوا في اليأس القاتم الذي يمثـّله رُمي دي كورمون (Remy de Gourmont) في مقولته المعروفة: «لا يوجد نقدٌ أدبيّ، ولا يمكن أن يوجد، ما انعدمتِ الشِّفرة الأدبيّة».
ويذكر الدكتور عبد الملك مرتاض أن   لفظ النّقد في الغرب نشأ زُهاءَ عام ثمانين وخمسِمائةٍ وألْفٍ للميلاد. ويبدو أنّ أوّل من اصطنع مصطلح «النّاقد» (Le Criti¬que) هناك، في صيغة المذكّر، صارفاً إيّاه بذلك  إلى من يمارس ثقافة النّقد، أو «النقد» (La critique)، في صيغة المؤنّث، كان سكالينيي (Scaligner). وقد كان يصرف معناه إلى نحو ما يعني في التّأْثيل الإغريقيّ «فنّ الحُكْم»،وانطلاقاً من هذا المفهوم التّأثيليّ، فإنّ النّقد قام على وظيفة تُشبه الوظيفة القضائيّة لدى القاضي بحيث لا مناصَ لصاحبه من إصدار الأحكام، ومحاولة التّدقيق في الأوصاف لدى إصدار هذه الأحكام التي أهمُّ ما كانت تقوم عليه لدى قراءة الإبداع: هل هو جيّد أو رديء؟ وفيما عدا هذين الوصْفَين الاثنين، فإنّ الأوصاف الأُخرَ  كلَّها، والأحكام التي تصاغ فيها، تظلّ عائمة في إطار هذين الأساسين.
 وقد تطور النقد الأدبي مع تطور الثقافة النقدية في الغرب ،ولاسيما مع ظهور نظريّات الشّكلانيّة الرّوسيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى (التي تولّد عنها في فرنسا ما يمكن أن نطلق عليه «الشّكلانيّة الجديدة» بعد منتصف القرن العشرين): حيث أشاروا إلى مفاهيم أدبية الأدب لأنّ موضوعه هو دراسة الأدب؛ واغتدى أدبيّاً أيضاً لأنّ خطابه في حدّ ذاته جزءٌ من الأدب»،وقد ـاثر الكثير من النقاد الفرنسيين بهذا المذهب،حيث يقول المءلف في هذا الصدد: «  لم يبرَحوا يُصرّون على الذهاب هذا المذهب الذي مِن أوائل من روّج له في نظريّات النّقد الجديد كبيرُهم ﭘول فاليري (Paul Valéry, 1871-1945) الذي كان لا ينفكّ يردّد أنّ «الأدب موضوعه الأدب نفسُه». وإذن، فلمّا كان الأدب موضوعه الأدب، ولَمّا كان النّقد هو  أيضاً الأدب؛ فإنّ كلَّ شيء يُمسي كلَّ شيء آخرَ؛ أو قل: فإنّ كلّ شيء لن يُمسيَ إلاّ الشّيءَ الآخر،ويرى أندري أكون أنّ «النّقد، هذه اللّغة التي تُساق حول اللّغة، وهذه الكتابة التي تدبَّج على الكتابة، أمست ربّما واحداً من الأشكال الأكثر أهمّيّةً لأدبنا».  فكأنّ الكتابة اغتدت معادلاً للمستحيل. ولعلّ هذا المستحيل تجسّده مقولة كافكا (Franz Kafka, 1883-1924): «إنّني أكتب على غير ما أقول؛ وأقول على غير ما أفكّر؛ وأفكّر على غير ما كان يجب عليّ أن أفكّر؛ وهكذا دَوالَيْكَ إلى أعمق أعماق الظّلام».
ولعلّ مثل هذه المقولة العجيبة التي كان كتبها كافكا هي التي أوحتْ إلى موريس بلانشو (Maurice Blanchot, 1907-1998) ليقول: «إنّ كلّ كاتب، بفعل الكتابة نفسِها، مُزْدَجىً إلى أن لا يفكّر، (...) وإلى أن لا يكتب».
افتتح الدكتور عبد الملك مرتاض الفصل الثاني من الكتاب الذي عنونه ب «النّقد: والماهيّة المستحيلة» بالتساؤل ما النقد؟ وقد أثار في هذا الفصل جملة من القضايا الفكرية المتميزة التي ترتبط بفلسفة النقد،وتوقف في إجابته على هذا السؤال مع الفرق بين النقد النظري والنقد التطبيقي،حيث ذكر في إجابته   النّقد النّظريّ ضروريّ لازدهار الحقل المعرفيّ لهذا الموضوع من حيث هو ذو طبيعة تأسيسيّةٍ وتأْصيليّة معاً. ولعلّه ببعض ذلك يشبه العلوم التّأسيسيّة (Sciences fon¬damentales) بالقياس إلى العلوم التّطبيقيّة (Sciences appliquées) في تجاوُر حقليْهما من وجهة، وفي تشابُه طبيعة هذين الحقلين الاِثنين من وجهة ثانية، وفي تظاهُرهما على تطوير كلّ منهما لحقل صِنوه من وجهة أخرى. إذ لولا التّأسيسُ لما كان التّطبيق. ولو لم يكن إجراء التّطبيق في العلوم بعامّة لَمَا أفضت نظريّات العلماء المجرّدة إلاّ إلى نتائجَ محدودة. فهذه الحضارة الإنسانيّة العظيمة التي ننعَم اليوم برخائها وازدهارها ليست إلاّ ثمرة من ثمرات تضافر العلوم التّأسيسيّة مع العلوم التّطبيقيّة،فهو  يبحث في أصول النّظريّات، وفي جذور المعرفيّات، وفي الخلفيّات الفلسفيّة لكلّ نظريّة وكيف نشأت وتطوّرت حتّى خبَتْ جذوتُها، ثمّ كيف ازدهرت وأفَلَتْ حتّى هان شأنها؛ ويقارِن فيما بينها، ويناقش تيّاراتها المختلفة، عبر العصور المتباعدة المتلاحقة معاً، أو عبر عصر واحد من العصور. وسواء علينا أ دُرِسَتْ مثلُ هذه المسائلِ تحت عنوان «نظريّة الأدب»، أم «نظريّة الأجناس»، أم «الأدب المقارن»، أم تحت أيّ عنوان آخر مثل «نظريّة الكتابة»: فإنّ الإطار الحقيقيَّ كأنّه يظلّ هو النّقدَ العامَّ؟
على حين أنّ النّقد التّطبيقيّ إنّما يكون ثمرةً من ثمرات النّقد النّظريّ الذي يمدّه بالأصول والمعايير والإجراءات والأدوات، ويؤسّس له الأسُس المنهجيّة، ويبيّن له الخلفيّات الفلسفيّة، التي يمكن أن يتّخذ منها سبيلاً يسلُكها لدى التّأسيس لقضيّة نقديّة، أو لدى دراسة نصّ أدبيّ، أو تشريحه، أو التّعليق عليه، أو تأويله، معاً.
ولعلّ غاية النّقد في الحاليْن الاِثنتَين تظلّ هي السّعيَ إلى اِهتداءِ السّبيلِ إلى حقيقة النّصّ، بتعبير فلسفيّ، أو إلى فهمه بتعبير التّأويليّة (Herméneuti¬que)   الغاداميريّة (نسبة إلى هانس غادامير)، أو إلى «تفسيره»، بمصطلح علماء التّفسير، أو إلى استكشاف علاقة الدالّ بالمدلول بتعبير اللّسانيّاتيّين (Les lin¬guistes) البِنَويّين، أو إلى الكشْف عن نظام الإشارة فيه بتعبير السِّيمَائيّين، أو إلى تقويضه، (أو «تفكيكه») بمصطلح الدَّرِيدِيِّين (نسبة إلى دريدا [ Jac¬ques Derrida,1930-2005]. فالغاية من النّقد، كما نرى، تختلف باختلاف الاتّجاهات الفنّيّة، والتّيّارات الفكريّة...
  في الفصل الثالث من الكتاب تابع الدكتور عبد الملك مرتاض مناقشته لمختلف قضايا النقد الأدبي،وتحدث عن« النقد والخلفيات الفلسفية»،ومن أبرز الأسئلة التي طرحها في هذا الفصل: هل للفلسفة من «الكفاءة الأدبيّة»   ما يرقَى بها إلى تحليل الظّاهرة الأدبيّة تحليلاً «أدبيّاً» حقيقيّاً بعيداً عن تمحّلات الفلسفة؟
  ووفق رؤيته لهذه القضية فالذي يحمل الفلسفة الذي يحمل الفلسفة على الخوض في النّصّ الأدبيّ ويُغريها به، أنّها تزعم أنّ لها من الأدوات الإجرائيّة، ومن الإحاطة الإبستيمولوجيّة، ومن الكفاءة المنهجيّة، ومن وسائل القدرة على الفهم والتّأويل، وربّما البرهنة على هذا الفهم وتأويل الفهم أيضاً: ما ليس لِسَوائِها من حقول المعرفة الأخرى. فلمْ يزل النّقد يبحث، منذ فجر تاريخ الأدب الإنسانيّ، قبل خمسة وعشرين قرناً على الأقلّ، عن الطّرائق الْمُثلى التي يتولّج من خلالها إلى النّصّ الأدبيّ من أجل فهم مقصِديّة نصّه من وجهة، ومقصديّة مؤلّفه، والخلفيّات التي أفضت إلى كتابة ذلك النّصّ، على ذلك الشّكل بالذات، وليس على شكل آخر، من وجهة أخرى. فلقد ظلّ القاسمُ المشترك للفلاسفة النّقّاد، أو للنّقّاد الفلاسفة، هو تأسيسَ فلسفةٍ واعيَة للأدب تسعى إلى تجديد سيرة العالَم من وجهة، وإلى تنشيط الأعمال الأدبيّة على نحو يجعلها تطرح هذا العالم على بساط البحث محاوِلةً تجميل الحياة فيه في الوقت ذاته؛ وذلك من أجل ممارسة تجربة ميتافيزقيّة، أو اختيار وجوديّ، من وجهة أخرى
 عالج الدكتور عبد الملك مرتاض في الفصل الرابع من الكتاب موضوع:«النقد الاجتماعي في ضوء النزعة الماركسية»،وتطرق إلى المبادئ الرئيسة التي بُني عليها النقد الاجتماعي،حيث يرى تين أن النقد يقوم على المؤثرات الثلاثة:العرق والزمان والبيئة،أما الماركسية فهي تقيم النقد على ضرورة ذوبان الفرد في المجتمع إنّ الماركسيّةَ لا ترى أنّ حياة الكاتب في حدّ ذاتها هي التي تستطيع إفادتَنا بشيء، خلافاً لنظريّة تين (H. Taine) التي كانت تركّز على ترجمة الكاتب وعهده وبيئته، وأنّها لا يمكن أن تقدّم إلينا كلّ المعلومات الضّروريّة حول إبداعه المفقود. ذلك بأنّنا إذا أردنا أن نضع النّصّ الأدبيّ موضعَه المطلوب في المركّب الاِجتماعيّ؛ فعلينا أن نؤوّلَ منه المضمون. ونتيجة لذلك، فإنّ كُلاًّ من الوسط الاِجتماعيّ الذي ينشأ فيه الإبداع، والطّبقة التي يعبّر عنها، ليسا بالضّرورة هما المكان الذي قضى فيه الكاتب أيّام صِباه، أو طرَفاً مذكوراً من حياته
وأمّا مسألة الشّرعيّة الأدبيّة، أي تمثيليّة الأدب أو عدم تمثيليّته للمجتمع الذي يكتب عنه، أو يكتب فيه، والتي أثارتها المدرسة النّقديّة الماركسيّة وأسالت من حولها كثيراً من الحبر، فخلاصة رأيها فيها أنّ كلّ إبداع يستطيع عكسَ بعض المظاهر لمرحلة تاريخيّة بعينها، بحقّ: يُعَدّ «شرعيّاً». ذلك بأنّ الإبداع المقبول والمهمّ أيضاً هو الذي «يزرع جذوره في وعي مرحلة تاريخيّة معيّنة، ويعبّر عنها بواسطة تأويل عالَم الشّخصيّات المنسجم الغنيّ».  والماركسيّون لا يرفضون ذاتيّة الكتابة، ولكنّهم بمقدار ما يربطون عظمة الإبداع بها، تراهم يربطونه بمدى قدرته على التّعبير عن المجتمع، وعن صراع الطّبقات، وعن مدى عناية الطّبقات الاِجتماعيّة بتأويله والاِشتغال به.
ويدور كثيراً مصطلح «الشّرعيّة» في نوادي الماركسيّين النّقديّة؛ ولكنّها لا تنتظم لديهم في سِلْك سيكولوجيّ. إنّ كلّ عمل إبداعيّ يعكس عكساً حقيقيّاً بعض المظاهر في طور تاريخيّ، أو في الطّور التّاريخيّ العامّ الذي يتعاصر معه، يُعَدُّ من الشّرعيّة بمكان. إنّ العمل الإبداعيّ القيّم، صاحب الشّأن الكبير، يمدّ جذوره في أعماق ضمير العصر الذي ينشأ فيه، ويعبّر عنه بواسطة عالَم من الشّخصيّات: مترابطٍ مِعطاء.
ويرى الماركسيّون بأنّه بمقدار ما يكون إبداعٌ أدبيّ ما ذا شأن كبير، يَخْلُد ويُلهِم؛ فإنّما يتّضح فهمُه بواسطة تفكير الطّبقات الاِجتماعيّة المختلفة. ولكن بمقدار ما يكون مثل هذا الإبداع عظيماً يكون متميّزاً بقوّة شخصيّة مبدعه؛ إذ لا يمكن أن يعبّر عن رؤية العالم إلاّ كاتب ذو شخصيّة ذات بال، وتفرّديّة قويّة، ثرّة العطاء معا. ولكنّ العبقريّة الفذّة لا تكون في العادة، كما يلاحظ ذلك لوسيان جولدمان (Lu¬cien Goldmann)  إلاّ تقدُّميّة.
وبحكم أنّ النّزعة النّقديّة لدى الماركسيّين تنهض، أساساً، على الفعل (L’action) فإنّها لا تجعل من موضوعها تقويم مضمون النّتاج الأدبيّ بوضْع العلاقات الطّبقيّة المحتومة مرجعاً فحسب؛ ولكنّها تحكم على ذلك من خلال قدرة العمل الأدبيّ على الإسهام في إعداد عمل أدبيّ آخر جديد من شأنه القدرةُ على توجيه الأنظار نحو المستقبل.
  كما تحدث الدكتور عبد الملك مرتاض في هذا الفصل عن   سُسْيُولوجيّة الأدب، والسُّسْيولوجيّة الأدبيّة،وقد افتتح حديثه عن هذه القضية بالإشارة إلى التساؤل الذي أطلقه  جاك لييناردت، في مقالة رصينة كتبها في الموسوعة العالميّة عن: هل هناك فرْق بين سسيولوجيّة الأدب، والسّسيولوجيّة الأدبيّة، فيقرّر أنّ هناك، فعلاً، فرْقاً دقيقاً بينهما؛ ممّا يقتضي التّمييز بين هذين المفهوميْن الاِثنيْن: فسسيولوجيّة الأدب (Sociologie de la littérature) تعدّ جزءاً لا يتجزّأ من علم الاِجتماع نفسِه. وهي من أجل ذلك تجتهد في تطبيق مناهج علم الاجتماع فيما يخصّ التّوزيع، والرّواج، والجمهور (وهو موقف سيلبرمان (A. Sil¬bermann) أيضا. في حين يسعى بعض المفكّرين الآخرين (جان ديبوا J. Du¬bois) تعميم تطبيق هذه المناهج على المؤسّسات الأدبيّة، وعلى المجموعات التي تحترف الكتابة مثل الكتّاب، والأساتذة، والنّقّاد؛ وبعبارة أدقّ، تطبّق هذه المناهج -وذلك في سياق الأدب- على كلّ ما ليس نصّاً أدبيّاً في ذاته
في حين تُعدّ السّسيولوجيّة الأدبيّة (Sociolo¬gie littéraire) على أنّها مناهج لعلوم الأدب؛ كالمنهج النّقدي الذي ينحو نحو النّصّ (من دلالة الصوت إلى الدّلالة العامّة للّغة)، كما ينحو نحو معنى هذا النّصّ وتأويله. ولقد جنح هذا العلم للنّصّ الأدبيّ، متطلّعاً في توسّعه وتطوّره إلى فهْم هذا النّصّ عن طريق تسخير كلّ العلوم المساعدة مثل الظّواهر الاِجتماعيّة التي ينطلق منها في الحقيقة، ومثل البِنَى الذهنيّة، ومثل أشكال المعرفة الأخرى، منطلقاً من الأدب المقارن (من لانسون إلى إسكارﭘـي De Georges Lanson à Robert Es-carpit) إلى سسيولوجيّة «الرّؤية إلى العالم» (من دلتي إلى جولدمان:De W. Delthey à L. Goldmann).  وجاءت الشّكلانيّة الرّوسية فأعنتتْ نفسها من أجل إخراج الأدب من الدّائرة المغلقة التي كان يَقبَع فيها، والتي ألجأه إليها سانت بوف (Sainte-Beuve (Charles Augustin), 1804-1869)، وتَين (Hypopolyte Taine, 1828-1893)، وبدرجة أكثر منهجيّة، وأعمق إديولوجيّة لوكاتش وجولدمان؛ وزعمت أنّ تلك الدّائرة المغلقة كان يضطرب داخلها ثلاثةُ أطراف لم يجد أيٌّ منها نفسه فيها: المؤلّف الذي كان البحث جارياً من أجل العثور عليه، والقارئ الذي كأنّه لم يكن معترفاً بوجوده أصلاً، والنّاقد الذي كان يجب أن يسلّح بثقافة أعمق عمقاً حتّى يستطيعَ أن يزعم أنّه قادرٌ على تعليم القارئ كيف يجب أن يقرأ، ويفهم ما يقرأ...
ولعلّ من منطلق تلك الشّكلانيّة المتطرّفة بدأ التّفكير، ثم الانزلاق إلى الفعل، من أجل المروق، فعلاً، من تلك الدّائرة الضّيقة التي لم نكن نجد فيها إلاّ الأفراد، وليس هؤلاء الأفراد على أساس التّفرّغ لعقلانيّة مجرّدة للأشكال الأدبيّة، ولكن من أجل تمثّل الإبداعات الأدبيّة ليس فقط على أنّها نِتاج لنشاط فرديّ للإبداع الأدبيّ، ولكن على أساس أنّها ظاهرة تندرج في التّاريخ الجماعيّ، أي في التّاريخ الاِجتماعيّ.
وعلى أنّ الماركسيّة جاءت إلى منهج تين الذي كان ينهض على عدّ الإبداع الأدبيّ مجرّد نِتاج لوسط اجتماعيّ (Produit d’un milieu)، أو انعكاس مباشر للواقع الاِجتماعيّ: فأعنتَتْ نفسها في تصحيحه، وإنقاذه من المثاليّة، أو قل الوضعانيّة، التي كان يضطرب فيها؛ فصَفَّتْها وصحّحتها، أو زعمت ذلك للنّاس على الأقل، في تحليلها لهذه المسألة؛ وذلك في ضوء تحليل تاريخ المجتمعات، والعلاقات الجدليّة بين البِنى السّفليّة، والبنى الفوقيّة. وزاد هذه المسألةَ تعميقاً وبلورة -وخصوصاً فيما يعود إلى فكرة «رؤية العالم»- الفيلسوف الهونغاريّ جورجي لوكاتش في كتاباته عن النّقد الرّوائيّ الذي وَقَفه خصوصاً على بالزاك والواقعيّة الفرنسيّة. وكأنّ لوسيان جولدمان لم يأتِ شيئاً غيرَ السّيرِ على هدْيه، والمشْي على آثاره قَصصاً؛ إذِ اسْتكشف في آثار باسكال، وراسين النّظرة التّراجيديّة نفسَها إلى العالم، وهي التي كان توقّف لوكاتش لديها.
إنّ الشّكل الجديد للنّقد الاِجتماعيّ يُمَوْقِع تدخّلَه بين علم اجتماع الخلْق، وعلم اجتماع القراءة: إنّ علم الاِجتماع يُعْنَى، فعلاً، بإدماج إسهامات النّقد النّصّانيّ ( La critique textuelle) الذي تُرفده اللّسانيّات بجهازها اللّغويّ من وجهة، والسعي، ليس فقط،  إلى مُساءلة الوضع الاِجتماعيّ للنّصّ فحسب، ولكن الوضع الاجتماعيّ بالقياس إلى المجتمع. وكأنّ هذا النّقد يدعو، على نحو أو على آخر، إلى قراءة جديدة للرّواية، وإلى تأويلٍ ألطفَ وأكثرَ جدليّةً للعَلاقات بين العوالم الرّوائيّة، والواقع الاِجتماعيّ.
والمسألة كلّها تمثُل، بالقياس إلى النّقد الاِجتماعيّ، في تصوّرنا الخاصّ على الأقلّ، في البحث عن منهجيّة صارمة وكاملة بها يمكن فهمُ النّصّ الأدبيّ ليس من حيث لغته وشكله فحسْبُ؛ ولكن من حيث الأطرافُ الفاعلة فيه، والتّاريخ المهيمن عليه، والمحيط الذي يَظرفه بطابَع خاصّ. ثمّ لمّا زادت الإديولوجيا التي ينهض عليها هذا النّقد تحكّماً فيه، التمس الطّوائلَ التي جاءت بها الماركسيّة فعمد إلى الاِنغماس في مسألة الصّراع الطّبقيّ بين الأغنياء والفقراء، وأمعن في هذا التّيه حتّى نسِيَ نفسه، وانحرف عن وضعه الأصليّ الذي وضع نفسَه فيه؛ وهو قراءة النّصّ الأدبيّ في ضوء اللّعبة الجماليّة التي من خلالها تتكشّف الخلفيات الأخرى؛ فترتسم الصّورة المُثْلى لهذا النّصّ بحيث يغتدي مفهوماً أكثر لدى عامّة القرّاء خصوصاً...
والحقّ أنّ كلّ مدرسة نقديّة تجتهد في أن ترسم لنفسها صورة ما عن الأدب؛ فلمَ، إذن، لا ينهض النّقد الاِجتماعيّ، هو أيضاً،  ببعض ذلك؟ وما ذا عسى أن يمنعه من التّورّط في مجالٍ يبدو عنه، من حيث مادّته الأولى وهي اللّغة، بعيداً على نحو ما، أو على نحو كبير؟...
وأيّاً ما يكن الشّأن، فإنّ المدرسة الاِجتماعيّة لم تزد النّقد الأدبيّ إلاّ إغناء؛ وذلك بظهور المدارس النّقديّة الأخراةِ التي حين ثارت على اجتماعيّة الأدب استطاعت أن تُثْمرَ كتاباتٍ أدبيّةً رصينةً ومفيدة ما كانت لتكون، لو لم تكن المدرسة النّقديّة الاِجتماعيّة التي يمثّلها بامتياز في مرحلتها الأولى، أساساً، تين وسانت بوف، ويمثلها في مرحلتها الأخيرة، المتبلورة والنّاضجة، لوكاتش وجولدمان...
    ضم الفصل الخامس من الكتاب دراسة موسعة عن:«النقد والتحليل النفسي»،وقد اشتملت دراسة الدكتور مرتاض على مجموعة من التحاليل الدقيقة والرؤى المتميزة،ومن أبرز القضايا التي ناقشها المؤلف في هذا الفصل علاقة التحليل النفسي بالنقد الجديد،حيث أكد في رصده لهذه العلاقة على جملة من الوقائع الموضوعية:
1- إنّ كُلاًّ من النّقد الجديد، والنّقد القائم على   ،   يصطنع اللّغة أداةً في التّوصّل إلى النّتائج، والكشف عن الحقائق. لكنّ الغاية تختلف من نقد إلى آخر. فإذا كان نقدُ التّحليل النفسي   يتّخذ من لغة الإبداع مجرّد وسيلةٍ من أجل التّوصّل إلى استخراج المكبوتات والهواجس   المترسّبة في أعماق نفْس المعالَج، أي اتّخاذ اللّغة وسيلة للمعرفة: معرفةِ ذاتِ الإنسان الباطنة؛ فإنّ النّقد الجديد يتّخذ من لغة الإبداع وسيلةً وغايةً في نفسِها للكشف عما يريد أن تقوله لغة النّصّ الأدبيّ.
2. لكنّ النّقد الجديد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، يختلف مع نقد التّحليل النفسي   في أنّ الأوّل لا يعدّ اللّغة حاملة للحقيقة، ولا للمعرفة، ولا لشيء من المعاني نتيجة لذلك؛ في حين أنّ نزعة التّحليل النفسي  تعتقد أنّ اللّغة ليست حاملة للمعاني فحسب؛ ولكن يمكن من خلالها التّوصّل إلى حقيقة الإنسان في أعماقه؛ وما دام هذا التّوصّل إلى معرفة نفس الإنسان، بل إلى معرفة أعماقه؛ لم يكن إلاّ عن طريق اللّغة التي يستعملها المعالَج في حواره اللاّواعي؛ فإنّ هذه اللّغة –وإن لم يعلن عن ذلك أصحاب التّحلفسيّ إعلاناً- تغتدي ذاتَ وظيفة تُفضي إلى المعرفة.
3. إنّ نقد  التّحليل النفسي يركّز كلّ أبحاثه على الكاتب الذي كتب اللّغة، أي على الإنسان بتعبير آخر، من أجل معرفة أسرار نفسه من خلال اللّغة التي يهذِي بها وحدَها، بما يَهذي بها عبر لاوعْيِه على كلّ حال؛ فكأنّ هذا اللاّوعي المزعوم الذي يفترضون وجوده ،   ثمّ يُقيمون عليه علاج المرْضَى (وكأنّ كلّ عباد اللّه بالقياس إلى هؤلاء مَرْضَى، ومنهم الأدباءُ والكتّاب الذين يلتمسون لهم ألف علّةٍ من خلال اللّغة التي يصطنعون فيما يكتبون): هو الوسيلةُ الْمُثلى لاسترجاع الوعي؛ فاللّغة مرتبطة به، معبّرة عنه، دالّة عليه، بل مفجّرةٌ إيّاه؛ فهي مفتاح المعرفة، وهي دليل الحقيقة المنشودة، في حين أنّ النّقد الجديد يرفض انتمائيّةَ الإبداع إلى مبدعه على الصّورة التّقليديّة التي كان يفكّر بها تين (Hippolyte Taine, 1828-1893) حين أسّس نظريّته القائمة على العِرْق، والوسط، والزّمن. فاللّغة لدى المحلّلين النّفسانيّين وسيلة لمعرفة الإنسان... وأمّا اللّغة لدى النّقّاد الجُدُد فهي وسيلة لرفْض الإنسان والتّاريخ والمجتمع جميعاً. فاللّغة بالقياس إلى هؤلاء هي الحقيقة، ولا شيءَ من الحقيقة يجب أن يُلْتَمَسَ خارجها.
4.  يؤمن أصحابُ نزعة التّحليل النفسي أشدّ الإيمان بمعنويّة اللّغة حتّى حين تستعمل في حالٍ من اللاّوعي، وفي الهذيان المحض (وإن كانوا هم يستعملون في ظاهر الأمر الدّوالّ، كما يستعملها النّقّاد الجُدد، لكنّ الأوائل يربطون الدّوالّ بالمدلولات حتماً)؛ على حين أنّ أصحاب النّقد الجديد، وبخاصّةٍ البِنَويُّونَ، لا يرَون أيّ معنىً تحمله اللّغة فهي محضُ دوالّ؛ حتّى إنّ ستيفان مالارمي (Stéphane Mallarmé, 1842-1898)، كان قرّر منذ أواخر القرنِ التّاسعَ عشرَ:«أنّ الشّعر لا يُكتب بالأفكار، ولكنْ بالألفاظ».
5. تقوم نزعة  التّحليل النفسي على المرور إلى معرفة «نفسيّة» الكاتب من خلال لغته،  و من خلال دراسة كلّ حياته الماضية، وسيرته الذاتيّة بعناية فائقة. بل إنّ الدّراسات التّجريبيّة الأولى التي نهض بها فرويد، وأوطو، وصاش في مطلع القرن العشرين عن كتّاب عالميّين أمثال فلوبير، وراسين، كانت تتّخذ لها من سِيَرِهم الذاتيّة أسُساً لاستنتاجاتها، وحقلاً لتحليلاتها؛ وربّما مفاتيح للأسئلة التي تُلقَى على المعالَج. فإن كان المعالَجُ من الميّتين (وذلك على أساس أنّ نزعة  التّحليل النفسي لا تكاد تتناول كاتباً إلاّ من أجل الكشف عن «عِلله» الباطنة) عمدوا إلى دراسة لغته وتحليلها، في ضوء علاقاته مع الآخرين، أي، بعبارة أخرى، في ضوء سيرته الذاتيّة، للانتهاء من خلالها إلى النّتائج التي تُثمِرها.
على حين أنّ النّقد الجديد يرفض رفضاً يكاد يكون مطلقاً    المرورَ إلى تحليل لغة النّصّ عن طريق مؤلّف النّصّ، وهو الذي يرفضونه جملةً وتفصيلاً؛ وأنّه ليس هو الكاتب الحقيقيّ الذي يكتب النّصّ؛ وإنّما هناك مؤلّف آخر يقوم فيه، أو يتجلّى عبره –ويسمّونه في شيء من المغالطة البادية: «المؤلّف الضّمنيّ»- هو الذي يكتبه. وما ذلك إلاّ لرفضهم المجتمع والتّاريخ والإنسان والأديان.
 في الفصل السادس من الكتاب ركز المؤلف على«علاقة النقد باللغة واللسانيات»،وقد أشار في رصده لهذه العلاقة إلى أن اللغة تعتبر أداة ضرورية وهي اللّغة التي هي أداة ضروريّة للتّعبير بالكتابة، والأدب الذي هو نِتاج خياليّ يتّخذ من اللّغة تُكَأَةً للتّعبير عن خلجات النّفس وما يصطرع في أعماقها من العواطف الجيّاشة، والإحساسات الرّهيفة؛ ثم الأسلوب الذي هو المظهر الجماليّ الذي يمتدّ إلى اللّغة في إفرادها، وإلى لغة الكتابة في تركيبها، ليتولاّهما بالصقْل والتّصنيع، والزّينة والتّنميق، والتّفريد والتّخصيص: بمقدار ما يوجد بينها من تداخل متشابك متين طوراً، ووَاهٍ متراخٍ  طوراً آخر. لكنّ التّوالج بين العناصر الثلاثة والتّواثق هما الأولى بالاعتبار، وهما الأجدر بالاِستنتاج. غير أنّ هذه العناصر الثلاثة ليست شيئاً إذا لم يُضَف إليها عنصرٌ رابع؛ وهو المتحكّم والفاعل، وهو الكاتب الأديب. واللّغة مادّة على ما فيها من حياة نابضة، هي في الوقت نفسه، ومن كثير من المناحي، مادّةٌ ميتة كامنة في الذاكرة إن شئت، وقابعة في بطون المعاجم إن شئت، وجاثمة بين أسطار المجلّدات إن شئت أيضا؛ وإنّما الذي يمنحها حركة وحياة ونبضاً، ويحملها على النشاط الدّلاليّ هو ذلك العنصر الرّابع الذي يُدْعى، في معجم النّقد، المؤلِّفَ الذي قد يشاركه في بلورة دلالة اللّغة، والتّحسّس بجمالها، طرَف خامس يُدعى القارئَ...
على حين أنّ الأسلوب بمثابة صورة عَموديّة الشّكل، وقالَبٍ تعبيريّ يُجمل المظهر الجماليّ لعطاء اللّغة منفردةَ الألفاظ. فالأسلوب في جماليّته وتناسُقِه وتفرّده إنّما هو ثمرة من ثمرات تعاطي اللّغة وازْدِيَانِها، وتفاعُلِها واعْتِمالها، وما يقع بين ألفاظها من مُلاعبةٍ ومشاغبة معاً، في نظام نشاطِها الطّبيعيّ الذي يمكن تشبيهُهُ بحركة الصّبيّ العشوائيّة التي لا تلبث أن تغتديَ مفهومة، بل ربّما ذات دلالة بعيدة...
واللّغة والأسلوب معاً يتضافر كلٌّ منهما مع صِنْوه: فأمّا أحدُهما فبحكم مادّيّتِه، وما فيه من قدرة عجيبة على التّبليغ؛ وأمّا أحدُهما الآخرُ فبحكم طبيعة تركيبه، وما فيه من طاقة جماليّة بديعة لا تنفَدُ؛ وذلك على نحو يسمح بتحويل كتابة الكاتب الأديب  التي هي في أصلها أشتات من الألفاظ المتطايرة إلى بناء بديع الجمال: هو اللّغة الأدبيّة التي تستميز بمظهرها النّظاميِّ الشّديدِ التّعقيدِ، المشتبكِ العناصر. على حين أنّا نجد الأسلوب، كما يزعم رولان بارط (Ro¬land Barthes, 1915-1980)، هو الضّرورة التي تربط مزاج الكاتب بلغته
 ناقش الدكتور عبد الملك مرتاض في هذا الفصل إشكالية الكتابة الأدبيّة بين اللّغة واللّسان،وأكد في مناقشته لهذه القضية الشائكة على أن  كلّ أدب محكوم عليه بأن ينضويَ تحت لواء لغة ما. فاللّغة (من حيث هي نظامٌ صوتيّ ذو إشارات وعلامات مصطلَحٌ عليها فيما بين مجموعة من النّاس في زمان معيّن، وحيز معين) هي التي، وذلك بحكم طبيعتها الأداتيّة التّبليغيّة،  تحتوي على ما يمكن أن نصطلح عليه في اللّغة العربيّة مقابلاً للمفهوم الغربيّ (Langage littéraire) «اللّغة الأدبيّة».
وإذن، فلا بدّ من الاِستظهار بالتّاريخ الذي يمكن أن يحدّد لنا، بدقّة ما، العَلاقاتِ القائمةَ بين اللّغة الأدبيّة، ولغة أدب ما (Langue d’une littéra¬ture)؛ أو،  إن شئت، بتعبير لسانيّاتيّ تقنيّ، بين اللّغة واللّسان. واللّغة واللّسان مفهومان مختلفان منذ قريب من قرنين من الزّمان. فاللّغة الأدبيّة كأنّها المعجم الفنّيّ الذي يصطنعه كاتب من الكتّاب، أو يردّده في كتاباته كلغة الحريريّ في مقاماته فيعرف بها، وتعرف به. ومثل هذه اللّغة هي التي تحدّد طبيعة التّفرّد الذي يتفرّد بها كلّ أديب عملاق. وأمّا اللّسان فهو مجموعة القواعد النّحويّة والصّرفيّة، والألفاظ المعجميّةِ الأوّليّةِ الدّلالةِ، أو ذات الدّلالة العامّة التي يغترف منها جميع الأدباء والكتّاب. اللّغة الأدبيّة هي الخصوصيّة التي يتفرّد بها الأديب؛ في حين أنّ اللّسان يمثّل الرّصيد، أو المخزون العامّ لكلّ الذين يستعملون لغة ذلك اللّسان. ويكون اللّسان، في مألوف العادة، أداةً للتّعبير مشتركةً ضمن محيط جغرافيّ. وقد يَسْتميز هذا اللّسان، أثناء ذلك، بأنّه كائن اجتماعيّ يتطوّر إذا تطوّر متحدّثوه، وينحطّ إذا انحطوا هم أيضاً: اجتماعيّاً وحضاريّاً وتكنولوجيّاً؛ من أجل ذلك لا يخلو اتّصافُه ببعض العِرْقيّة الدّالّة على الأصل، والوطنيّة الدّالّة على الاِعتزاز.
إنّ عواملَ كثيرةً من العوامل المتشابكة هي التي تكون علّةً في تكوّن الألسنة البشريّة، عبر الأزمنة والأمكنة. ويستميز كلّ منها بخصائصَ صوتيّةٍ مستقلٍّ بعضُها عن بعض. والدّلالة والصّوت والتّركيب في أيّ لسان بشريّ هي التي تمثّل نظامه، وتشكّل قواعده. فكأنّ اللّسان (La langue)، من هذه الوجهة، يتّسم نظامه بالكمّيّة. وقد يكون اللّسان قابلاً للوقوع تحت تأثير، أو فعْلَيِ الزّمانيّة والآنيّة جميعاً. فاللّسان يتطوّر في الزّمانيّة المتعاقبة المتواصلة، في سلسلة مترابطة الحلقات؛ لكنّ هذه السّلسلةَ المترابطةَ الحلقاتِ ليست إلاّ انعكاساً أميناً  للتّطوّرات الدّاخليّة التي تعتور اللّسان في زمن معيّن، وفي مكان معيّن... إنّ اللّسان بقواعده وتراكيبه ونظامه الصّوتيّ والدّلاليّ ذو طبيعة جمعانيّة.
على حين أنّ اللّغة الأدبيّة (Le lan¬gage) يتّسم نظامها، على عكس اللّسان، بالنّوعيّة من وجهة، وبقِصَر الأزمنة التي تحكم نظامَها الدّاخليّ من وجهة أخرى. فهذه اللّغة الأدبيّة المتّسمة بالخصوصيّة والتّفرّد هي التي تتيح لشخص ما، أو قل على الأصحّ لأديب ما، أن يعبّر عن هذه الخصوصيّة اللّغويّة مستعملاً طائفة من الألفاظ والتّراكيب التي تنتمي إلى النّظام اللّسانيّ العامّ. إنّ اللّغة الأدبيّة تنبع من طبيعة النّتاج الأدبيّ نفسِه الذي تجود به قريحةُ أديبٍ من الأدباء؛ فكأنّها تجسّد النّظام الذاتيّ الخالصَ الذي يؤسّسه الأديب في كتابته؛ فيتميّز بهذه الذاتيّة، أو الحميميّة التي تمتدّ إلى الدّلالة والأسلوب جميعاً، ويغتدي متميّزاً عن سَوائِه في هذه اللّغة؛ وذلك على الرّغم من أنّه ينهل من معين اللّسان العامّ الذي ينهل منه أدباء آخرون أيضاً.
وإذا كانت اللّغة الأدبيّة ممّا قد يتشابه ويتقارب، فهي في الوقت نفسه ممّا يتفرّد ويتمايَز. فهذه اللّغة الأدبيّة هي التي تَمِيزُ كاتباً من آخر؛ فإذا نحن نقول: هذا أسلوب يشبه أسلوب الحريريّ، وكأنّ هذا الكلام لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، أو كأنّ هذا النّصّ من إبداع طه حسين، وهلمّ جرّاً. وإذن، فلا يجوز أن نجدنَا أمام كلاميْن ذَوَيْ صفةٍ أدبيّة واحدة (Avec deux langa¬ges identiques). وإذن، فإنّ اللّغة الأدبيّة هي هذا الكَلامُ الماثل في التّفرّدِ باختيار شكل من اللّغة دون سَوائِه، ثم ذلك المتجسّد من طريق اختيار طريقة تركيبها في جُمل هي التي تميّز أحدَنا عن الآخرين وتجعله لا يُقارَن بسَوائه؛ أو يقارن به ولكن دون ذوبان خصوصيّته، أو فقدان تفرّده، أو فقدان حدّ منهما على الأقلّ، من بين جميع الذين يكتبون أو يتحدّثون، داخل لغة واحدة.
وكان صمويل بكيت (Samuel Bec¬kett) يرى في تأسيس علاقة اللّغة بالإنسان، أنّ هذا «الإنسان هو الكائن الذي يتحدّث ويعتقد أنّه يمارس سلطانه على الأشياء لدى تسميتها. على حين هو لا يفعل، في الحقيقة، شيئاً غير تدمير نفسه وتدمير العالم في الوقت ذاته. إنّ الألفاظ التي يلفِظها هي بمثابة سيلان دمه، وذهاب حياته». 
ولقد نعلم أنّ من العسير بمكان العثورَ على شخصين اِثنين في العالم، داخل لغة واحدة، يتحدّثان بالصّوت نفسه الذي يتحدّث به الآخر، والطّريقة نفسها التي يصطنعها الآخر في نطْق الألفاظ، وإخراج الحروف، وتشكيل النّبر. ويجب أن لا يقال إلاّ نحو ذلك في الكتابة، وتشكيل اللّغة، وبناء الأسلوب...
 في الفصل السابع من الكتاب الذي خُصص للحديث عن«النقد البنيوي والتمرد على القيم»توقف الدكتور عبد الملك مرتاض مع الكثير من الأفكار و الرؤى التي قُدمت من قبل متزعمي النقد البنيوي،ووصفها بأنها مدرسة فكريّة تقوم على «مجموعة من النّظريّات التي تُؤْثِر، في العلوم الاِجتماعيّة والإنسانيّة، دراسةَ البِنْياتِ وتحليلَها».  ولقد عظم شأنها في الأعوام السّتّين من القرن العشرين. ولعلّ أكبر الأعمال البِنَويّة في المجال النّقدي هي تلك التي كتبها رولان بارط وميشال فوكو. وتعدّ البِنَويّة قطيعة مع التّقاليد الموروثة عن الفيلسوف الألمانيّ كانْط. وأهمّ ما تقوم عليه البِنَويّة من الأسس الكبرى لفلسفتها أنّها تتعامل مع اللّغة والخطاب وترفض الإنسان 
وقد أوضح الدكتور مرتاض منظور الباحث الأنثروبولوجيّ كلود ليفي-سطروس (Claude Lévi-Strauss) الذي يذهب إلى أنّ «البِنَويّة في اجتهادها  تشكّل درجاتٍ من العلوم الدّقيقة لتطبيقها على علوم الإنسان».  في حينِ يزعم مؤرّخو البِنَويّة أنّ هذه المدرسة الثوريّة لم تأتِ من عدم؛ وإنّما كان لها خلفيّات كبرى: فلسفيّة وتاريخيّة؛ «فليست البِنَويّة تمثلاً جديداً للإنسان (...). وإنّها تُؤْثِرُ الأنظمة المغلقة على التّوقّع الذي رفضته في العلوم الإنسانيّة. كما أنّ البِنَويّة ليست بصدد تقديم تعليمات للمجتمع المصنَّع؛ بل هي تقدّم تقويماً للفكر المتوحّش؛ إنّها الضّمير السّيّئ، بالمفهوم الرّوسويّ (نسبةً إلى روسو [ Jean-Jacques Rousseau, 1712-1778]) للإنسان في المجتمعات المتطوّرة. وإنّها لا تسعى إلى تعويض التّاريخ بالأبديّة، ولا التّغيير بالكائن».
 كما لخص المؤلف الأسس الرئيسة التي تقوم عليها البنيوية،ومن أبرزها:
النّزُوع إلى الشّكلانيّة
كثيراً ما يتحدّث النّقّاد المعاصرون عن المدرسة، أو حتّى عن المدارس، الشّكلانيّة في الأدب؛ منطلقين في ذلك من عهد ميلادِ الحركة النّقديّة الشّكليّة الرّوسيّة خلال الحرب العالميّة الأولى. غير أنّ الحركة الشّكليّة، أو «الشّكلانيّة» (Forma¬lisme) تعود، من حيث هي نزعة فكريّة إلى ما قبل ذلك؛ وإلى عهد كانْط  (Kant) خصوصاً؛ حيث ربّما صُنِّفت فلسفتُه، في بعض منازعها، على أنّها شكليّة؛ وذلك من حيث هي «نظام ميتافيزيقيّ تخضع التّجربة بحسَبِه لشروط عالميّة مسبقة».  والشّكلانيّة، من حيث هي تطلُّعٌ إلى التّعلّق الْمُفرط بالأشكال والشّكليّات، شكلٌ قديم من أشكال التّفكير في الكتابات الإنسانيّة؛ ولا نعتقد أنّها تعود إلى عهد كانْط، وأقلّ من ذلك إلى عهد الشّكلانيّين الرّوس. ولقد كان النّقد العربيّ القديم كثيراً ما يتحدّث عن «ديباجة البحتريّ» التي لم تكن، في رأينا، إلاّ شكلاً جديداً للكتابة التي تنهض على جماليّة النّسج اللّفظيّ قبل كلّ شيء... فكأنّ أصل الفكرة جاء من هذا السّلوك الذهنيّ، ثم انتقل من بعد ذلك إلى السّلوك الخياليّ.
وحين جاءت البِنويّة لم تأْتِ شيئاً غيرَ التّعلّق الْمُفْرط بنزعة الأشكال؛ فعدّت الكتابة شكلاً من أشكال التّعبير قبل كلّ شيء؛ في حين أنّ اللّغة، في تمثُّلها، هي أيضا لا تعدو كونَها شكلاً للتّعبير أو أداته؛ وهي لا تحمل أيّ معنًى، والمدلولُ عبرها مندمج في الدّالّ. ومن أجل ذلك رفضت مضمون اللّغة، ومن ثمّ مضمون الكتابة وعدّتها مجرّد شكلٍ.
 2. رفض التّاريخ
قامت النّزعة الاِجتماعيّة التي كان روّج لها المفكّر الفرنسيّ هـيـﭙوليت تَين (Hyppo¬lyte Taine, 1828-1893) الذي كان يعتقد أنّ الظّاهرة الأدبيّة والفنّيّة يجب أن تخضع في تأويل قراءتها، وتحليل مضمونها لثلاثة عناصر تتمحّض للمؤلّف وما يحيط به؛ وهي:
أ. العِرْق (ويريد بها إلى عِرْق الكاتب وأصله السُّلاليّ)؛
ب. الوسَط ، أو المحيط الجغرافيّ والاِجتماعيّ للكاتب وبيئته؛
ج. الزّمن (ويقصد بها إلى التّطوّر التّاريخيّ الذي يقع تحت دائرته الكاتب وهو يكتب إبداعه، ومثله في ذلك كلّ مبدع أيضاً).
ومن الواضح أنّ هذا المذهب الذي روّج له مفكّر اشتهر، خصوصاً، باشتغاله بالتّاريخ: تاريخِ الفنّ، وتاريخ الأدب، وتاريخ فرنسا: ظلّ سائداً طوال القرن التّاسع عشر الذي ربّما يكون هو العهد الذهبيّ للنّقد الاِجتماعيّ بعامّة، ولعلم الاِجتماع نفسه بخاصّة.
ولعلّ العنصر الأوّل الذي تقوم عليه النّزعة الاِجتماعيّة التّينيّة، وهو «العِرْق» أن يكون كافياً للارتياب من هذه النّزعة التي تمجّد العنصريّة، باشتراطها البدءَ بمعرفة عِرْق الكاتب. وهذا العنصُر العنصريُّ كان يتماشَى -ذلك بادٍ- مع الحملة الفرنسيّة الاِستعماريّة التي كانت تستعمر أقطاراً، وتهيّئُ  لاستعمار أقطار أخرى، في قارّات مختلفة من العالَم. فكان المفكّرون يبشّرون بأفكار ساستهم الاِستعماريّين الذين كانوا يقهرون الشّعوب الضّعيفة بقوّة الحديد والنّار.
فكيف، إذن، بالنّاقد يعمِِد لدى قراءة نصّ أدبيّ إلى البدْء بصاحبه للبحث في عِرقه؛ فإن كان أوربيّاً فهو كاتب كبير، ومفكّر رصين؛ وإن كان غيرَ ذلك من الأقوام والأجناس -من البشر- ممّن ينتمون إلى الشّعوب الضّعيفة المقهورة فلا يجوز لكتابته إلاّ أن تكون رديئة منحطّة...؟ حقّاً إنّ تين لم يقل هذا صراحة؛ ولكنّ إيراد عنصر العِرق في ثلاثيّته لا يعني إلاّ هذا صراحة أيضا.
وأمّا إخضاع كلّ شيء للتّاريخ وللمجتمع ولمؤثِّرات البِيئة في المسألة الإبداعيّة فلا نحسبه إلاّ مستوحًى من اهتمام تين بالتّاريخ أوّلاً، كما لا نستبعد تأثُّرَه بالمادّيّة التّاريخيّة الماركسيّة (التي عاصرته وعاصرَها؛ وإن كان ماركس (Marx)  تُوفِّيَ قبل تين بعشر سنوات فإنّ ذلك ما كان ليمنع من وقوع هذا تحت تأثير ذاك) آخراً.
ولمّا جاءت الشّكلانيّة الرّوسيّة أثناء الحرب العالميّة الأولى لم تأتِ شيئاً غيرَ المناداة بمراجعة كلّ القيم والمعايير الفنّيّة التي كان الأدب ونقدُه ينهضان عليها. ومن عجيب المصادفات أنّ نزعة أخرى، وهي عابثة ساخطة، ناقمة من الإنسانيّة، جاحدة لكلّ قِيَمها الرّوحيّة، وهي النّزعة الدّادويّة التي أعلن عن نشوئها الكاتبُ الفرنسيّ [ذو الأصل الرّومانيّ]  تريستان تزارا (Tris¬tan Tzara, 1896-1963)، هي أيضا، أثناء الحرب العالميّة الأولى، وبالتّحديد في ثامن فبراير عامَ ستّة عشرَ وتسعمائة وألفٍ بمدينة زريخ السّويسريّة.  وكانت الغاية من تأسيس النّزعة الدّادويّة التي نشأت تحت تأثير فجائع الحرب العالميّة الأولى التي كانت في أعين المثقّفين الأوربيّين الشّباب حرباً قذرة، ودون معنى، وشديدة الاكتساح والتّخريب: «تدميرُ كلّ القيم الجماليّة، والأخلاقيّة، والفلسفيّة، والدّينيّة التي كان المجتمع الغربيّ يقوم عليها».  ولم تلبث السّرياليّة أن ظهرت في فرنسا حيث يرتبط نشوءُها وفلسفتها بالدّادويّة غالباً. وممّن روّج للنزعة السّرياليّة (Le surréalisme) الأديبان الفرنسيّان أندري بريطون (André Breton, 1896-1966)، وأراجون (Louis Aragon, 1897-1982)...
فكان إذن لا مناص من متابعة هذه الحركات النّقديّة الكبرى التي ظهرت إبّان الحرب العالميّة الأولى واستمرّ تأثيرها بادياً إلى اندلاع الحرب العالميّة الثانية؛ فظهرت هذه الحركة الأدبيّة والنّقديّة التي تقوم فلسفتها على رفض  القيم التي ينبني عليها المجتمع الغربيّ، ومنها التّاريخ الذي ليس في أوّل أمره وفي نهايته إلاّ سجلاًّ لمآسي البشريّة في إيلاعها، منذ الأعصار الموغلة في القِدم،  بالقتل والتّخريب والتّدمير. وحتّى البنّاء الذي يبنى، كثيراً ما يقع على أنقاض بناء آخر كان الأوائل بنَوْه فجاء الأواخر ليخرّبوه، ثم يبْنُوا على أنقاضه ما يبنون. فما هذا التّاريخ الذي كان تَين يبشّر به، ويبني عليه نظريّته النّقديّة الاِجتماعيّة؟ وما معناه؟ وما فائدته ما دامت الإنسانيّة لا تتّعظ بالمآسي، ولا تتذكّر الجرائم البشعة التي حصدت مئات الملايين من البشر منذ بدءِ الخليقة؟ وما قيمة الشّيء إذا كنّا نعرفه، ولا نُفيد منه فتيلاً؟...
لقد جاءت البِنويّة إلى هذه القيمة فرفضتْها لانعدام منفعتها، في تمثلها هي على الأقلّ، فنادت بموت التّاريخ، وبموت كلّ القيم التي كان نادى تريستان وبريطون بموتها أيضاً. ولم تكن المناداة بموت التّاريخ الذي كانت الماركسيّة روّجت له، من بعض الوجوه، ببلورة نظريّة «المادّيّة التّاريخيّة» (Matéria¬lisme histori¬que) إلاّ إعلاناً لموتِ الإنسان نفسه. ولعلّ موت الإنسان هنا يراد به إلى موت القيم التي ظلّ النّاس يناضلون من أجل تكريسها، عشرات القرون، دون غَناء.
وإذا كانت الدّادويّة والسّرياليّة نشأتا ونيرانُ الحرب العالميّة الأولى تدمّر وتُحْرق وتُميت؛ فإنّ البنويّة كأنّها نشأت متأخّرة، بالقياس إلى الحرب العالميّة الثانية. ثمّ إذا كانت الدّادَويّة كأنّها نزعةُ كُفْرانٍ بالثقافة الغربيّة وجحودٍ لحضارتها وقِيَمها؛ ذلك بأنّها كانت لا تبرح تردّد أنّ هذه الحضارة لا تعدو كونَها «شظايا بائسة، لثقافة تالِفة»؛ فإنّ البنويّة على ثوريّتها وتمرّدها على كثير من القيم المثلى ومنها التّاريخ؛ تظلّ، من وجهة نظرنا، معتدلةً، إلى حدّ ما،  في تمثُّلها للأشياء. ورفْضُها للتّاريخ لم يكن إلاّ ثمرةً من ثمرات خيبة الأمل في هذا التّاريخ الذي لا يكاد يمجّد شيئاً غيرَ انتصار الأقوياء على الضّعفاء، واستعلاء الأغنياء على الفقراء.
ويحاول رولان بارط في حديث أدلى به لمجلّة فرنسيّة يخفّف من غلواء رفْض البنويّة للتّاريخ؛ فيستشهد بنظريّة التّناصّ في بعض كتابات جوليا كرِسْتيـفا (Julia Kristeva)  مقرّراً: «إذا كان الأدبُ هو تناصِّيَّةً -هو «حوار كتاباتٍ»- فإنّه سيوجَد في اللّغة الأدبيّة كلُّ الحركيّة التّاريخيّة؛ لكنّها الحركة التّاريخيّة التي الزّمن فيها يظلّ زمن الأدب نفسه».
فليس هذا الحديث هنا، إذن، إقراراً حقيقيّاً من البِنويّة بشرعيّة التّاريخ، كما يزعم أندري أكون؛ ولكنّه مجرّد توكيد على رفض هذه الشّرعيّة الزّمنيّة واعتبارها مجرّد «زمنيّة أدبيّة» بكلّ ما تحمل دلالة الزّمن الأدبيّ من معنى الأسطورة والخيال والمتخيّل؛ أي كلّ ما هو مخالف للواقع والحقيقة التّاريخيّة، بالقياس إلى المؤرّخين، على الأقلّ.
3. رفْض المؤلّف
والحقّ أنّ مسألةَ رفضِ المؤلّف ابتدأت إرهاصاتُها قبل تأسُّس النّزعة البِنويّة وازدهارها في الأعوام السّتّين من القرن العشرين. ولعلّ أهمّ من ألحّ عليها في أكثرَ من مقولة إنّما هو الشّاعر الفرنسيّ ﭬاليري (Paul Valéry, 1871-1945) الذي كان يزعم أنّ «المؤلّف هو تفصيلٌ لا معنىً له» (L’auteur est un détail inutile). ولقد ذهب هذا المذهب، فيما بعد، جملة من المنظّرين الفرنسيّين منهم جيرارجينات، ورولان بارط، وميشال فوكو، وكلود ليفي سطروس...، كما كنّا فصّلنا القول في ذلك، في الفصل الخامس من هذا الكتاب.
ولكنّ الشيء الذي نودّ التّوقّف لديه هنا أنّ فكرة رفْض المؤلّف والإعلان عن موته جاءت امتداداً لرفض «شرعيّة» التّأثير الاجتماعيّ (وهي النّظريّة التي سادت طوال القرن التّاسع عشر، بل امتدّت إلى بعض القرن العشرين...)، ومن ثمّ الاِعتراف بوضع التّاريخ على أنّه عامل مؤثِّر. وتقوم فكرة الرّفْض، بالإضافة إلى هذا العامل، على عامل آخر هو مجهوليّة المؤلّف بالقياس إلى الأدب الشّفويّ، وبخاصّةٍ الأسطورةُ التي كان كلود-ليفي سطروس قدّم عنها أعمالاً كبيرة، ومن ذلك انتهاؤُه إلى الإعلان عن انعدام المؤلّف لمثل تلك النّصوص الشّعبيّة. ويبدو أنّه وقع تسرُّع لدى بعض المنظّرين الفرنسيّين حين استهوتْهم الفكرة، دون تأنٍّ كافٍ، وراحوا يروّجونها لابسين بين النّصّ الشّعبيّ المتوارَث عن الذاكرة الجماعيّة، والنّصّ الأدبيّ المكتوب الذين يزعمون أنّ صاحبه يفقد حيازته عليه مجرّد نفْض يده منه؛ كما يمكن أن يُفهَمَ ذلك من بعض كتابات ميشال فوكو.
وأمّا عن مسألة ضرورة الرّبْط بين الإبداع الأدبيّ ومبدعه لدى فرويد؛ فإنّ البِنَويّين لا يُقِرّون بأهْليّة فرويد النّقديّة، ولا يعترفون له إلاّ بما هو مختصّ فيه وهو علم النّفس حيث قال قائلهم: «إنّ فرويد ليس ناقداً أدبيّاً؛ ولكنّه نفسانيّ».
4. رفْض المرجعيّة الاِجتماعيّة
وقد كان لا مناص من وصْف المرجعيّة بالاِجتماعيّة؛ ذلك بأنّ البِنَويّة، في الحقيقة، لا ترفض المرجعيّة من حيث هي مطلقاً؛ ولكنّها ترفض فقط الرّجوع إلى المجتمع في تحليل الإبداع؛ أي أنّها تُنكر تأثير المجتمع تأثيراً مباشراً في المبدع وفي إبداعه، على نقيض المدرسة الماركسيّة. أرأيت أنّ البنويّة لا تعترف إلاّ  بالمرجعيّة اللّغويّة للعمل الأدبيّ الذي تراه مجرّد تجلِّيَات لغويّة تتفاعل داخليّاً فيما بينها (وهو ما تطلق عليه جوليا كرستيفا «التّناصّيّة» (Intertextua¬lité)، وما قد يُطْلِق عليه رولان بارط: «حوار الكتابات»؛ ثمّ لا شيءَ وراء ذلك يذكر. فلا مرجعيّة، إذن، يمكن ذكْرُها في الكتابة الحداثيّة خارج لغة الكتابة نفسِها.
ولعلّ من الواضح أن يتصوّر المرء لما ذا هذا الرّفض المرجعيّ الذي كان يروّجه أصحاب المدرسة الاِجتماعيّة بالمفهوم التَّينيّ (تأثير العِرْق، والوسط، واللّحظة التّاريخيّة)، وأصحاب المدرسة الاِجتماعيّة بالمفهوم الماركسيّ؟ فقد تجرأت البِنَويّة على رفْض التّاريخ الذي يصنعه الإنسان؛ فضربت عصفورين بحجر واحد: فالرّفض المعلن للتّاريخ؛ هو رفض، في الحقيقة، لكلّ ما له صلة به: من الإنسان الصّانع لأحداثه، ومن المجتمع المتأثِّر بذلك، والمؤثِّر في ذلك أيضا. وقد أفضى بعض هذا إلى رفْض كلّ القيم الرّوحيّة والإنسانيّة جملة وتفصيلاً. فلا عجب أن نجد الكتّاب البِنَويّين يُعلنون في أكثر من موقف أنّهم لا يُؤْمِنون بمرجعيّة الكتابة؛ ويَعُدّون المرجعيّة الاجتماعيّة للأدب من أساطير الأوّلين.
5. رفض المعنى من اللّغة
 لقد عُنِيَ النّقّاد والبلاغيّون العربُ القدماء عناية شديدة بمسألة «اللّفظ والمعنى» فنجد كثيراً منهم يعرض لها في كتابته بتفصيل شديد كما نُلفي ذلك لدى أبي الحسن محمد بن أحمد بن طباطبا العلويّ (ت.322هـ.). فقد تحدّث عن هذه المسألة اللّطيفة في كلام طويل هذا بعضُهُ: «وللمعاني ألفاظ تشاكلها؛ فتحسن فيها وتقبح في غيرها؛ فهي كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حُسْناً في بعض المعارض دون بعض». 
في حين أنّ ابن رشيق كان يرى أنّ «اللّفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الرّوح بالجسم: يضعف بضعفه، ويَقْوَى بقوّته؛ فإذا سلِم المعنى واختلّ بعضُ اللّفظ كان نقصاً للشّعر وهُجْنة عليه». وسواء علينا أتعلّق الوهم بالمعنى أم باللّفظ فإنّ اللّغة تُعامَلُ في ثقافة الكتابة الحداثيّة مُعاملة خاصّة؛ بل إلى درجة الذهاب إلى اعتبار اللّغة وحدَها وتجاهل المعنى تجاهلاً مطلقاً.
وعلى حينَ كان فلوبير يردّد مشتكِّياً من اعْتِيَاص اللّغة عليه، وليس المعنى، حين كان يكتب روايته الشهيرة «السيدة بوفاري» (Ma¬dame Bovary) فقال: «في كلّ سطر، وفي كلّ لفظ، كانت اللّغة تُخْطِئُني، وكانت الألفاظ تنقصني على نحو كنت أُضْطَرُّ فيه غالباً إلى تغيير تفاصيل الأشياء»،  كنّا ألفينا شاعراً عربيّاً كبيراً وهو الفرزدق يشكو من اعْتِيَاص هذه اللّغة عليه فكان يَعُدّ إملاءَ بيت من الشّعر بمثابة قَلْعِ ضِرْس.
ولقد خاض المنظّرون العرب القدماء كثيراً في هذه المسألة وأوْلَوْها عناية شديدة؛ وخصوصاً عبدَ القاهر الجرجانيّ الذي كان يَعُدّ المعنى أشرف من اللّفظ، والأصل في تدبيج الكلام حيث كان الشّيخ لا يبرح يقرّر أنّ «الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يُدَلُّ عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفُسِها. لأنّه إذا لم يكن في القسمة إلاّ المعاني والألفاظ، وكان لا يعقل تعارُض في الألفاظ المجرّدة إلاّ ما ذكرت؛ لم يبقَ إلاّ أن تكون المعارضة معارضة من جهة ترجع إلى معاني الكلام المعقولة، دون ألفاظه المسموعة
ودون أن ننزلق إلى محاولة شرح الغامض في هذا النّصّ البلاغيّ النّظريّ القديم؛ لأنّ ذلك يوشك أن يستحيل إلى فصل قائم بذاته؛ مع ما اشتغل النّاس على عبد القاهر الجرجانيّ طوال القرن العشرين؛ فلعلّ الشّيخ كان يريد إلى أن يقرّر أنّ الْمَدار في الكلام على المعاني لا على الألفاظ؛ وأنّ الألفاظ مجرّد هياكلَ تقتفي آثارَ معانيها. في حين أنّنا كنّا ألفينا ابن طباطبا العلويّ وابن رشيق، وكان قبلهما أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فيما أورده من آراء مختلفة من كتاباته، يعتدلون في الموقف فيُؤْثِرون توزيعَ أقدار المعاني على أقدار الألفاظ. ولكنْ لا أحدَ من النّقّاد العرب ذهب صراحةً إلى تجريد اللّفظ من المعنى؛ وهي السّيرة التي يسلكها كثير من النّقّاد الغربيّين الجُدُد.
ولقد غالَى في ذلك الجرجاني حتّى أسّس نظريّة «معنى المعنى» في الكلام؛ ذلك بأنّ قولك: «قرأت الكتاب» لا يعني إلاّ معنىً واحدٍ ظاهرٍ هو قراءتك الكتاب؛ في حينَ إذا قال قائل عن امرأة: «نؤومُ الضّحى»  فإنّ القائل يقصد أوّلاً إلى أنّ هذه المرأة هي فعلاً كثيرة النّوم في الضّحى، وهذا هو المعنى (أو المعنى الأوّل)؛ كما يَقصِد في الوقت ذاته، وهو الأهمّ والمراد في قوله، إلى أنّ هذه المرأة موسِرة مخدومةٌ لا تحتاج إلى الإبكار للقيام بشؤون البيت؛ وهذا هو معنى المعنى (أو المعنى الثاني). والحقّ أنّ النّاس كثيراً ما يظلمون عبد القاهر الجرجاني، والتراث العربيّ الإسلاميّ من خلال تنظيراته لهذه المسألة، فيعتقدون أنّ هذا الذي أورده، كما ذهب هو نفسه إلى ذلك، هو من صميم البلاغة بحكم كنائيّته. ولكنّه فاتهم أن يدركوا أنّ الجرجانيّ كان يخوض، من حيث لم يكن يعلم، في نظريّة التداوليّة التي يقوم الخطاب فيها على المسكوت عنه... فما يطلق عليه «معنى المعنى»، أو «المعنى الثاني»، بتعبيرنا، هو من صميم التحليل التداوليّ للّغة...
وكان النّقّاد والأدباء الغربيّون التّقليديّون أنفسُهم يرَوْن بمعنويّة الألفاظ المصطنَعة في الكتابة، وأنّها تمثـِّل أساس العمل الأدبيّ؛ فلم يكن «الأدب العظيم، في رأي الشّاعر الأمريكيّ إزرا بوند (Ezra Pound, 1885-1972) وبكلّ بساطة، إلاّ حين تُشحَن الألفاظُ بأسمى ما يمكن من المعاني». لكنّ ناطالي صاروط كانت تتساءل في شيء من السّخرية البادية من هذه المقولة قائلةً: «لكن أيّ معنى؟ وكلّ السّؤال هنا
وكان الجاحظ، على عكس عبد القاهر الجرجانيّ، لا يرى في المعاني إلاّ أنّها أفكار مطروحة في الطّريق؛ وهي يمكن أن تقع لجميع النّاس.  وهذه هي النّظريّة التي طبّقتها المدرسة البنَويّة بخاصّة، ومدارس النّقد الجديد بعامّة (دون الاِدّعاء بأنّ هذه المدرسة تأثرت بمقولة الجاحظ فبلورتْها؛ ولكنّ الذي أودّ قوله للّذين يرفضون عبقريّة العرب، من العرب أنفسهم، أنّ هذه حقيقة تاريخيّة؛ ولا يمكن لأحد إنكارُها؛ فقد سبق الأدبُ العربيّ الأدبَ الغربيّ إلى تناول كثير من القضايا، ومنها النّقد البنويّ، ومسألة اللّفظ والمعنى؛ كما تعترف بذلك الموسوعة العالميّة نفسُها).
وأيّاً ما يكن الشّأن، فإنّ المدرسة البنويّة ترفض معنويّة اللّغة؛ بل ترى، كما يذهب إلى ذلك رولان بارط، أنّه من العسير التّسليمُ بأنّ نظام الصّور والأشياءِ التي المدلولاتُ فيها تستطيع أن توجَد خارج اللّغة؛ وأنّ عالَم المدلولات ليس شيئاً غيرَ عالَمِ اللّغة.
وكذلك ألفينا المدرسة البِنَويّة ترفض أهمّ القيم التي كان النّقد التّقليديّ ينهض عليها؛ ومنها رفض التّاريخ، وفكرة المؤلّف والمناداة بموته، ورفض المرجعيّة الاِجتماعيّة للإبداع، ثمّ رفض معنويّة الألفاظ وعدّ اللّغة مستقلّةً بنفسها، غير مفتقرة إلى غيرها...
 جاء الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان:«في نقد النقد»،وقد قدم المؤلف في مستهله مجموعة من التعريفات المتعلقة بمصطلح«نقد النقد»الذي يُفهم في لغتنا العربية على أنه النقد الثاني الذي يتصل وارداً بمعنى النّقد الثاني الذي يكتب عن الأوّل؛ فإن قلنا، وقياساً على ذلك، »نقْدُ نقْدِ النّقدِ«، مثلاً؛ فإنّ هذه العبارة المركّبة تكون واردةً بمعنى النّقد الثالث الذي يجب، أو يمكن، أن يكتب عن الثاني. وواضح أنّ هذه العبارة المركَّبة تفيد التّعاقب لا الأفضليّة التي تظلّ شأناً آخر .
وإذا رأيت الفلاسفة العرب المسلمين أطلقوا على المصطلح الفلسفيّ الأرسطيّ «Métaphy¬sique» مصطلح «ما وراء الطّبيعة» فلدلالته على ذلك فعلاً في أصل الاستعمال المعرفيّ الإغريقيّ، كما أومأنا إلى ذلك من قبل. فالطّبيعة هي ما هو مرئيٌّ ومعروف في العالم؛ لكنّ تكلّف البحث فيما بعد ذلك، أو فيما وراء ذلك؛ يندرج ضمن التّعلُّق بما لا يُعرف على وجه اليقين المطلق. فهو، إذن، نادٌّ عن نطاق طبيعة الأشياء المرئيّة والمحسوسة. على حين أنّ ترجمة النّقّاد العرب المعاصرين العبارة الفرنسيّة: «Métacriti¬que»، مثلاً، بمصطلح «ما وراء النّقد»، أو بـ«ما بعد النّقد»؛ وذلك كما يطلقون على:«Métalangage» قولهم: «ما وراء اللّغة»، أو «ما بعد اللّغة» هو من العِيِّ والفَهَاهة بمكان. ذلك بأنّ «المِيتا» سابقة إغريقيّة تعني في حقل العلوم الإنسانيّة والفلسفيّة بالذات، غيرَ ما تعنيه في الكيمياء العضويّة مثلاً. فهي تعني في الحقول الإنسانيّة الاِحتواء،  أكثر ممّا تعني الإبعاد والإخراج. من أجل ذلك لا نعتقد أنّه يكون معنًى دقيقٌ لقولهم: «ما وراء اللّغة»، أو «ما وراء النّقد». وقد يكون من الأفضل استعمال ذلك تحت مصطلح: «لغة اللّغة»، و«نقد النّقد»؛ وهو المصطلح الذي جارَينا فيه الذين استعملوه قبلنا. وقد كنّا رأينا أنّ مثله كان متداوَلاً في لغة العلماء العرب المسلمين القدماء («زمان الزّمان»، و«معنى المعنى» إلخ...).
هذا كلّه والأمر يتمحّض لِلشِّقِّ الأوّل من عنوان المقالة. وأمّا ما يتمحّض منه للشِّقّ الآخِر، فإنّه لا مناص من البحث في شأنه في أصليْنِ من أصول المعرفة: في المعرفة العربيّة القديمة، وفي المعرفة الإغريقيّة القديمة أيضاً. نأتي ذلك ابتغاء التّأسيس والتّأصيل.
فأمّا في المعرفة النّقديّة العربيّة فقد أخذوه من لغة الصَّيَارفة العرب الذين  كانوا يختبرون العُمْلة الفضّيّة (الدّرهم) بتَنْقَادِها أهي زائفةٌ أم صحيحة. فالأصل في المعنى الأوّل للَفظ «النّقد [هو] تمييزُ الدّراهم وإعْطاؤُكَهَا إنساناً؛ وأخْذُها الانتقادُ. (...) ونقدْتُ الدّراهم وانتقدتُها: إذا أخرجت منها الزَّيْف،ويوضح الدكتور عبد الملك مرتاض جملة من الإشكاليات المرتبطة بنقد النقد في الثقافة العربية والغربية،حيث يقول في هذا الصدد: وعلى أنّ مصطلح «نقد النّقد» في اللّغة العربيّة قد يفهم منه أنّه يعني أنّ النّقد الثانيَ يسعى إلى نقد النّقد الأوّل الذي يكتب عنه بنيّة الغمْز والتّهجين، وبدافع النَّعْي والتّنقيص؛  وهو أمر غير وارد في أصل المفهوم الغربيّ القائم على استعمال السّابقة الإغريقيّة التي تعني الاحتواء والإيعاءَ، أو المجانَبة والْمُهامَشة؛ دون أن تعنى، على وجه الضّرورة، كبير عناية بتسليط الضّياء على النّقائص المنهجيّة، والضّحالة المعرفيّة، والغَثاثة التي قد تعتور أفكاره، والضّحالة التي قد تُقارِف نظريّاته؛ والتي يمكن أن تقوم عليها أصول نزعة نقديّة ما. فالنّقد الثاني الذي يُكتب عن الأوّل، أو الثالث الذي قد يُكتب عن الثاني، أو حتّى الرّابع الذي قد يُكتب عن الثالث (لا يمتنع ذلك نظريّا) ليس بالضّرورة أن يكون من أجل المعارضة والمناوأة، ولكن من أجل إلقاء مزيد من الضّياء على أصول المذهب النّقديّ وتِبيان أصوله المعرفيّة، وتوضيح الخلفيّات التي تستمدّ منها مرجعيّاته: على المستويَيْن المعرفيّ والمنهجيّ جميعاً. ويمكن أن نتخيّل أنّ مثل هذه الكتابة يمكن أن تتناول أيضاً مدى تأثير ذلك المذهب أو هذا في المحيط الأدبيّ، المحلّي والعالميّ معاً، وإلى أيّ حدّ يكون، إذن، قابلاً للاندماج في النّظريّة النّقديّة العامّة. لكنّ «نقد النّقد» العربيّ -المعاصر- وذلك في تقديرنا نحن على الأقلّ، يتمّ غالباً بإبداء المعارضة لموقف نقديّ على نحو مّا؛ وقلّما نُلفيه يتسامَى إلى البحث في أصول المعرفة النّقديّة على نحو منهجيّ عميق. ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ العالم العربيّ، على عهدنا هذا، يمتلك نقّاداً كباراً، ولكنّه لا يمتلك نقداً كبيراً.
والذي يُلاحَظ أنّنا نصادف كثيراً من الكتابات النّقديّة في الشّرق وفي الغرب، في القديم وفي الحديث، تمارس، في الحقيقة، موضوع نقد النّقد؛ لكن دون أن تُدْرجَ نشاطها تحت عنوان: «نقد النّقد» على الوجه الصّريح.  ويبدو أنّ ذلك لم يكن صراحةً، في الكتابات النّقديّة، إلاّ مع عمل تزفيتان طودوروف في كتابه المترجم إلى العربيّة: «نقد النّقد». وإلاّ فإنّنا نتصوّر أنّ جميع الكتابات التي تتناول نظريّة نقديّة ما، أو ناقدا منظّراً ما، يمكن أن تُصنَّف في إطار مفهوم «نقد النّقد»؛ ذلك بأنّ النّقد، انطلاقاً من هذا المنظور، سيتمحّض للكتابات التي تكتب مباشرة عن النّصوص الأدبيّة بأجناسها المختلفة، وربّما للكتابات التي تتناول تاريخ النّقد، ولكن بدرجة أدنى. والذي يعود إلى كتاب «مقالات نقديّة» لرولان بارط يتصادف مع جملة من الأعمال التي يمكن أن تنضوي تحت مفهوم النّقد مثل مقالته: «الأدب الأدبيّ»، و«لا وجود لمدرسة ألان روب قريي»، و«جواب كافكا»... على حين أنّ هناك مقالاتٍ أخراةً في هذا الكتاب نفسه يمكن أن تُصنَّف في جنس «نقد النّقد».
 توقف الدكتور عبد الملك مرتاض في هذا الفصل مع تجربة نقد النقد لدى الجرجاني،وتطرق إلى تجربو نقد النقد لدى طه حسين،ورأى في معالجته لتجربة عميد الأدب العربي أن الذي يعود إلى كتابات طه حسين النقدية يلفيها تتراوح بين النقد ونقد النقد،وقد رؤيته لنقد النقد عند طه حسين معتمداً على مقالته الموسومة ب«يونانيّ فلا يُقرأ».
 ولم يُغفل الدكتور عبد الملك مرتاض الحديث عن ممارسة«نقد النقد»لدى النقاد الغربيين المعاصرين،فتحدث عن رولان بارث الذي مارس أنشطةً نقديّة كثيرة بالإضافة إلى مجالات النّقد التّقليديّة كالتّعليق على نصوص أدبيّة وتحليلها، وكالتّنظير لبعض القضايا النّقديّة التي لا تتعلّق بالتّعليقات على النّقد مث «لا مدرسة لروب قريي»،  «الأدب واللّغة الواصفة...» يمكن أن ينضويَ بعضُها  تحت مفهوم «نقد النّقد» وذلك على الرّغم من أنّ بارط لم يتكلّف إطلاقَ مصطلح «نقد النّقد» على ما كتب أصلاً. ويمثُل ذلك في جملة من المقالات التي اشتمل عليها كتابُه «مقالات نقديّة»؛ ولاسيّما مقالتَاهُ: «النّقدان الاِثنان»،  «ما النّقد».
 كما سلط الضوء على تجربة تزفيتان طودوروف من أوائل، إن لم يكن أوّل، من اصطنع مصطلح «نقد النّقد» صراحة، ومنحه الإطار المنهجيّ، ورسّخ له الأسس المعرفيّة؛ وذلك في كتابه «نقد النّقد» الذي ترجم إلى العربيّة ببيروت. ولقد تناول فيه قضايا نقديّة عالميّة من خلال نقّاد عالميِّي الصِّيت: فتناول في الفصل الأوّل التّيّار النّقديّ لدى الشّكلانيّين الرّوس، ومن خلال ذلك اللّغةَ الشّعريّة؛ وفي الفصل الثاني عودة الملحميّ ومن خلاله عالج دوبلن وبريخت؛ وتناول في الفصل الثالث النّقّاد-الكتّاب: سارتر، وبلانشو، وبارط؛ في حين وقف الفصل الرابع على موضوع الإنساني والتّداخل الإنسانيّ من خلال ميخائيل باختين. وأمّا الفصل الخامس فإنّه وقفه على المعرفة والاِلتزام من خلال نورثروب فراي. ووقف الفصل السّادس على النّقد الواقعيّ من خلال مراسلة لطودوروف مع إيان وات. أمّا الفصل السّابع فتناول فيه الأدب من حيث هو حدث وقيمة وذلك من خلال حديث وقع له مع بول بنيشو. وختم كتابه بفصل ثامن تناول فيه مسألة النّقد الحواريّ.
وينتهي الدكتور عبد الملك مرتاض في ختام هذا الفصل إلى أن الفصل أنّ نقد النّقد شكل معرفيّ مكمّل للنّقد، ومهدّئٌ من طَوره، وضابط لمساراته؛ فكما أنّه كان للمبدعين من السّاردين والشّعراء نقّاد ينقدونهم؛ فقد كان يجب أن يوجد نقّادٌ كبارٌ ينقدون أولئك الذين ينقدون. وأنّ نقد النّقد ليس بالضّرورة أن يكون اختلافاً مع المنقودون؛ ولكن من الأمثل له أن يكون إضاءة لأفكارهم، وتأثيلاً لمصادر معرفتهم، وتجذيراً لأصول نزعاتهم النّقديّة. فهو إذن تأصيل وتثمين، أكثر ممّا يجب أن يكون تقريظاً مفرطاً، أو نعْياً قاسياً. ونحن نعتقد أنّ وظيفة نقد النّقد لا تقلّ أهمّيّةً عن وظيفة النّقد نفسها؛ من أجل كلّ ذلك نرى أنّ نقد النّقد سيزدهر ويتطوّر حتماً نحو الأفضل، ما ظلّ النّقدُ الأدبيّ نفسُه يتطوّر، هو أيضاً، نحو الأفضل. كما أنّنا نعتقد أنّ التّصنيف بين النّاقد، وناقد النّاقد لا ينبغي له أن ينزلق نحو المفاضلة السّاذجة؛ فيقع الاعتقاد بأنّ ناقد النّاقد (أو نقد النّقد) سيكون بالضرورة أرقى وأفضل من النّقد في مجال المعرفة؛ فالشّأن هنا لا ينصرف إلى تحديد المكانة والأفضليّة، ولكن إلى تحديد الماهية والوظيفة.
 وبقي أن نقول في الختام إن الجهود التي بذلها أستاذنا العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في تأليفه لهذا الكتاب جديرة بالاحترام والتقدير،فقد تضمن الكتاب مجموعة من الرؤى والأفكار  والتحاليل العميقة التي تتصل بالمدارس النقدية ونظرياتها،وقد اعتمد المؤلف على مجموعة كبيرة من المصادر والمراجع الثمينة،وقدم من خلاله جهداً كبيراً أسلوباً ولغة ومعرفة،فهو يشتمل على مسح شامل للمدارس النقدية المعاصرة،ويركز بشكل دقيق وعميق على تحليل توجهات نظرياتها،ويمكن أن نصف هذا الكتاب بأنه تحفة نظرية وعملية وموسوعة شاملة رصدت أهم المدارس النقدية،وناقشت نظرياتها،ولا يمكن أن يستغني عنه كل مهتم بنظرية النقد.
  الهوامش:
(1)د.إبراهيم عبد المنعم إبراهيم:بحوث في الشعرية وتطبيقاتها عند المتنبي،مكتبة الآداب،القاهرة،2008م،ص:02.
(2)د.حميد حماموشي:آليات الشعرية بين التأصيل والتحديث-مقاربة تشريحية لرسائل ابن خلدون-،منشورات عالم الكتب الحديث،الأردن،2013م،ص:11.
(3)د.عبد الملك مرتاض:قضايا الشعريات-متابعة وتحليل لأهم قضايا الشعر المعاصرة-،منشورات دار القدس العربي للنشر والتوزيع، الجزائر،2009م،ص:17.
(4)د.عبد الملك مرتاض:قضايا الشعريات-متابعة وتحليل لأهم قضايا الشعر المعاصرة-،ص:74 وما بعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق