الصفحات

2018/12/05

زُلَيخاتُ يُوسُف .. قصة بقلم: علي السباعي


زُلَيخاتُ يُوسُف

علي السباعي
   الحبوبي بعبائته الكاكية يرتسم على ملامحهِ حزن أسمر يشغل حيّز الصمت وسط الناصَّرية والناصَّرية فتاة التناقضات ، زليخة التي التهمتْ تفاحة الخطيئة الأولى فتكومتْ بين خطّي عرض ثلاثين واثنين وثلاثين . برزخان وهميان كنابين عاجيين للذئب الذي أكل يوسف . أهٍ. يا يوسف ! زليخة مدينةٌ وحيدةٌ محاصرةٌ رسمتها اصابع مبتور /وقطَعَن ايدَيهُنّ/ على خريطةٍ ورقها عذابات المحاصرين وقد اذهلتهم صيحات معلم تاريخ يضع حبل المشنقة على عنقه قائلا :-
-        سأشنق نفسي و لا ارى محاصرين لا يستحقون الحياة !!!
دهستْ آخر ذؤابات شمس النهار اقدام المحاصرين يركضون في برزخٍ مظلمٍ ، أجسادهم تراكم في قيعانها قلق عتيق . متصادمين . متلاطمين ، مذعورين داخل مديات متخثرة بهواجسِ خوفٍ باردةٍ . شل حركاتهم ضجرٌ افسد حياتهم كما تفشل الأمم المتحدة في اتخاذ قرار . يدور المحاصرون في الطرقات بانفلاشات راحت تنشطر ، تتكاثر داخل قيعانها معتمة تخثرت بنداءات المعلم :-
-        أفيقوا . رحى طاحونة الحصار تطحنكم .
المئذنة كبندول ساعةٍ عاطلةٍ لا يتكتك . توقف عن التكتكة متبوئاً بخبث مكانةً عاليةً في فراغٍ رمادي تطعنه اجسادٌ متراكمة تشاهد المعلم وقد احكم ربط حبلٍ بذراع تمثال الحبوبي . آلاف الحركات المتعبة لأيادٍ تزيح مشاهدات هزيلة ترسمها تلوحيات غليظة تنبع من الأرصفة المحيطة بالتمثال ، صاح بصوت حشرت فيه نبرة عذاب مكتومة :-
-        أفيقوا . ان الحصار يعنيكم .
زعيق . صراخ . طنين . هدير . هتاف ، وطنين طفح سائحاً من : صبّاغي الأحذية . بائعي الشاي والفلافل . جحافل الذباب بطنينها المقرف . بائعي الكتب القديمة . كناسي الشوارع . مضاربي الدولار ، ومنبه سيارة جمع النفايات التي كتب على جانبيها :- متى تينع الرؤوس؟ تزيح الناس منسكبين في ساحة الحبوبي يشاهدون المعلم يدفع الكرسي بعنف . سقط . شهق المحاصرون مبتعدين بضعة خطوات مرتبكة إلى الخلفِ ، الحبل بيد الحبوبي فارغ يتأرجح. يتكتك . لا فرق . يتكتك . يتأرجح بصمت لاهث يتعثر بدمدمة دائخة تغلي في صدور الناس عجباً مستفهماً عما يجري . نظروا لرؤوس بعضهم . هم بلا رؤوس يكابدون عناء أجسادٍ انتزع الكسوف رؤوسها فبقوا مجرد اشباح غبارية تؤدي طقوس : الحلم ، الضياع ، وجوع لا ينتهي لجسد زليخة .
كنستْ الظلمةُ آخر مناحر الضوء بمقشة الكسوف التي هرستْ رؤوس المحاصرين بين رحى ستراتيجيتها رؤى رؤوس اينعت وحان قطافها ، عاود المعلم صراخه :-
-        سأشنق نفسي ولا أرى محاصرين لا يستحقون الحياة !!!
                                                          
رّخ الكسوف قذف انفاسه مضمّخةً بسحابات دخانية سميكة العتمة جعلت مارد القمقم يستفيق داخل شرنقته النحاسية مهملا وسط جدرانها المجدورة بصدأ اخضر مستديم ، يزعق المعلم محاصرا بانكساراته :-
-        لاشبيك و لا لبيّك . فقط . الحصار بين يديك .
ملّت طرقات المدينة خطوات أبنائها كما تمل الكف خطوطها ، صبية المدارس يطوفون في دروب لفَّها الغبار يضربون بأكفهم الدبقة على كتبهم هاتفين :-
-        مَنْ انتزع الرؤوس ؟
آثار خطاهم اختفاءات مسورَّة بحصارٍ مدَّ اسواره عاليةً حول جسد زليخة ، مدينة بلا رأس . زليخةٌ بلا فضيحة تبحث في بقايا أسلحة الحرب المحطمة عن اصابع صويحباتها ، زفر الرّخ دوامات انفاسه سحباً لاهبة اسفرت عن انفجارِ يلّط أشعةً أيقظتْ (( سنة لوعة))(1) من رقدتها الأزلية .
استفاقتْ الدماء مندغمةً مع اختلاطات بقايا اطياف ضوء الأنفجار الذي تثاءب ممطوطاً كغرغرة ألم توجعتْ في الحلقِ بسخونة بترتْ يد زليخة تلك اليد التي قطفتْ التفاحة المحرمة . صخب الأجساد الملتئمة انسلخ متفتقاً من شرنقةِ الرهبة بانفراطات دموية تصب ممتزجةً مع : حطام أعلى المئذنة . رماد اسلحة الحرب . جثث مطمورة بتراب كاكي رَّقطهُ دم زليخة وهي تنبش التراب ، فتسألها لسنة الفضول :-
-        عمَّ تبحثين ؟
أجابتْ :-
-        / وَقطَعنَ أيديهُنّ / .
تساءلوا مستغربين :-
-         أَيَّـةُ أيادٍ ؟
قالتْ :-
-        الأيادي التي قطفت التفاحة المحرمّة .
ارتمتْ زليخة بارتعاشات زلزالية ملتقطةً بيسراها كفها المفقودة / تفاحة الخطيئة / يزينها خاتم ذهبي مرصع بفص كبير من حجر ازرق كريم ، وضعتْ كفها المبتورة تحت نعلها المتسخ برماد الدم ، راحتْ تنزع من اصبعه الأوسط خاتمها . سكون سميك ضبب أهل المدينة وهم منشدّون بتعجب طوق اجسامهم كالمعاطف ، لوّحتْ بخاتمها المرّصع بفص من دماء جلاتينية  وهي تترنم بمواويل أخذتْ شكل نوافير خيبة تطلق الآهات و الأصابع . الأصابع و الآهات ، فيتصاعد شدوها الطروب حارقا عتمة الكسوف (( شقيٌ من لعبت به الأوهام000)).
الكناسون يمسكون بمكانسهم لمتحركة كبناديل ساعات عديدة يرددون تعازيمهم الحماسية ، منشدين بشقاء أبدي محاولين كنس نفايات الأنفجار :-
-        الحياة قمامة هائلة والأخرون لا يكفوّن عن اضافة المزيد .
اخترق جامع نفايات حشد الكناسين ، يدفع امامه عربة جمع القمامة محملة بأنواع مختلفة من الرؤوس ، ينادي بصوته الأخن :-
-        رؤوس للبيع 000 رؤوس للبيع000 رؤوس للبيع !!!
وقف ابناء المدينة اشباحاً بلا رؤوس يلفهم غبار ذراتِ كحل بلورية متآصرة محاصرةً اجسادهم الواهنة بحصار جديد . حرب غير معلنة ، والحرب الغير معلنة حصار لنْ ينتهي ، ومعلم التاريخ يقف بجانب الحبوبي يمسك بحبله سائلاً طلابه بحرقة :-
-        مَنْ المحاصر ؟ ومَنْ المحاصرون ؟!
تباشر سؤاله حاصرتها طلائع اسئلة زليخة :-
-        مَنْ حاصرك ؟
أجابها :-
-        أخوتي !
كررت :-
-        مَنْ حاصرك ؟
أجابها مجهداً :-
-        رؤوسكم !
الحت:-
-من حاصرك؟
اجابها متضايقاً :-
-        ذئابكم !
قالت :-
-واجهها.
سألها :-
-كيف ؟
اجابت :-
-حاصرها.
قال :-
-حاصرتها.
قالت بأستهزاء:-
-انك تحلم.
قال :-
-        انا حاصرتها .
قالت ضاحكةً :-
-        انك لن تحاصر سوى نفسك.
اخترقهم جامع القمامة وهو يعرض بضاعته منادياً :-
-رؤوس للبيع رؤوس للبيع رؤوس للبيع  ..!!!
تجمهر المحاصرون متدافعين متزاحمين على عربتهِ، شرعوا يتفحصون بضاعتهِ ، كل شخص اختار رأساً يناسبه، رجل مبتور الساقين يقتعد كرسياً للمعاقين دفع عجلات كرسيه مخترقاً الحشد ، دهس قدم المعلم ، لوح المعاق بذراعه الضخم ذات الوشم المزرق /حياتي فداك يا يوسف / ،متسائلاً بغلظة :-
-هل انت اعمى ؟
اجابه المعلم في اكتئاب :-
-محاصرٌ بلا رأس !
لكمه هائلة لرأس معدة المعلم جعلت جسده يترنح بصرحة الم دوت محملة بأوجاع سنة لوعه:-
-        اين الله ؟
تصارعت قبضات البسالة تكيل اللكمات لأجساد كسيحة فتحطمت رؤوس، دهست رؤوس ،قذفت رؤوس ،تفتت رؤوس ، سقطت لإثرها عربة المعاق، حاول ركوبها ثانيةً ،فشل ،فصرخ جزعاً :-
-انها قدري !
المعلم يراوغ بجسده المتحفز موجة لكمات هستيرية كالتها له الايادي المتصارعة ، توجهت لكمات عشوائية غاضبة حطمت مرآة صدره ، زمجرة متأوهاً:-
-سأشنق نفسي وأرى محاصرين
عارضته زليخة بصوت معطوب قائلةً:-
-ولدتْ لأذيقكم مرارة الجبّ.
ضاع صوتها مشمعاً بدموع دمى ترتدي بساطيل سوداً ثقيلة تتخبط في أتون دوائر وهمية حرب وحصار.
أماطت اللثام عن زمن الطواطم المتراصفة كساعاتٍ عاطلةٍ تكدستْ فوق رفوف مصليحّها ، أمسك أحدهم بخناق جامع القمامة . صفعة . صفعة . صفعة . تساءلتْ زليخة :-
-        لِمَ  صفعته ؟
أجابها والدماء تلّوث قميصه :-
-   لقد عقدتُ صفقةً تجاريةً معه كوني انحت رؤوساً من الشمعِ باشكال وأحجام وألوان مختلفة لأبناء مدينتي 000
قاطعته قائلةً :-
-        ذئب .
استطرد النحاّت غاضباً :-
-        بدوره يبيعها باسعار رمزية / مساعدةً / منيّ لحل أزمتنا الحالية ، والربح مناصفةً .
-         موبوؤون بالوهم 000
جأر معلم التاريخ منهمكاً يُفصلُ من عباءة الحبوبي أكفاناً لأصابع الطباشير ، تراجع المحاصرون مأزومين بين فكيّ مقِصٍ كبيرٍ حادٍ ، منسكبين فوق الصراط يتمايلون بنفايات الخوف يميناً ، بقذارات الأوهام يساراً ، وبوساخات الوسواس إلى الخلف تحثهم على عبور الصراط كلماتُ معلمٍ هرمٍ ملَّ اكل التفاح المحرّم من شفاه زليخة ، قائلاً:-
-        في آخر العمر يصبح الرأس سلة مهملات .
تعكز الظلام على مئذنة الجامع المهدمة كأنها عصا موسى التي ضربتْ في الماضي البحر واليوم تضرب/ الحصار / ، فينفلش الكسوف منحسراً وعلى مهل تشرق شمس عذراء وسط سماء غبارها بنفسج مجذور بغيمات رمادية تتمطى في عالمٍ دخاني كقطط بلا رؤوس منذورةً تنفق عمرها تجوب طرقات المدينة تنقّب في المزابل ، تقلّب صفائح القمامة ، تتعثر بشرنقة نحاسية مهملة ، فأستيقظ المارد داخل قمقمه محاصراً بهمٍ عتيق ، نادى المعلم من مكمنه متآبداً:-
- لا شبيك و لا لبيّك . الآن ! حصارٌ جديد بين يديك .

                                                                                                            

توحمتْ زليخات الحصار بالتفاحة المحرّمة ، حوصرتْ نداءات توحمهَّن مندغمةً مع صهيل خيولٍ حبيسة . تصهل بهذيانات تزاحمتْ تبحثُ عن جماجم هلامية باردة في مزادٍ يَعلن على بابه معلمُ التاريخ بعدما رمى حبل المشنقة بعيداً عنه :-
-        / مزاد الرؤوس العلني / ، سارعوا لأقتناء أحد الرؤوس وبأثمانٍ زهيدةٍ .





(1) ( سنة لوعة ) :- سنة تلّوع فيها الناس من : جوع وقحط شديدين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق