الصفحات

2011/03/20

كائنات الغبار بين المادي والافتراضي قراءة في رواية " كائنات من غبار" لهشام بن الشاوي

كائنات الغبار بين المادي والافتراضي
قراءة في رواية " كائنات من غبار" لهشام بن الشاوي

بقلم: محمد عطية محمود

ربما كانت العلاقة بين الإنسان وتجذر شعوره بالاغتراب والاستلاب بشقيه المادي والمعنوي ـ من خلال العلاقات المتشابكة لفعاليات الحياة ـ التي تعانق سمة التشظي التي يحفل بها الواقع المرئي المشحون، دافعا لسبر أغوار تلك الإحداثيات المنبثقة من العالم الذي يتشكل من لحمة مكان متشظٍ وزمان أكثر تشظياً وإقصاءً عن خريطة الوعي الإنساني، ذلك الوعي الذي يراهن عليه الأدب من خلال علاقاته العكسية الدالة على وجوب فعل المقاومة من أجل الحياة، والحياة فقط، والتي تنبثق من خلالها هذه الرؤية المتسمة بالسديمية والإغراق في الشعور بالعدم الذي ربما حول كل شيء إلى غبار، والذي قد تعمل على إنتاجه دلاليا مجموعة من الإحداثيات الجديدة التي تخرج أيضا من الواقع المادي الملموس والمحسوس معا، إلى الواقع الافتراضي أو عالم الشبكة العنكبوتية الأكثر إيغالا في التغييب والاغتراب، والتكريس لهما، والذي فرض على واقعنا المادي بتفاصيل أكثر غرائبية والتباسا، ليضع إطارا جديدا لتشابكات الحياة، وربما أدى إلى أنساق قد تخلق حالات جديدة مشوهة، تطرح علاقات لا إنسانية أكثر تشوها.

ومن هنا ربما أتي هذا التعانق الذي أحدثته رؤية الكاتب المغربي هشام بن الشاوي، في روايته "كائنات من غبار" بين تيمة الاغتراب النفسي التي تفرض أبعادها هذه الحالة من التوحد الذي ترسمه الخطوات الأولى لسرده الموجه بضمير المخاطب، والذي يمثل الشاهد على مدى التحولات النفسية في ذات السارد أو الموجه إليه الخطاب الذاتي، تكريسا لمفهوم وقوع المخاطب في دائرة الحصار الذاتي الذي يفرضه الخارج بتداعياته وأموره المتناقضة التي تفرض عليه هذه الحال التي تبدأ بها الرواية، وربما تنتهي بها:
"كما يجدر برجل وحيد وبائس تغفو إرهاقا، والحافلة تمخر عباب الإسفلت، في ظلمة المغيب الشاحبة.."(ص3)
حيث تمثل الحافلة هنا بداية ً معادلا للحياة التي تسير بالشخصية المأزومة في جو ممهور بالسديمية ومغلف بها، معطيا دلالات الجو النفسي ومنطلقا من هذا المكان المغلق الذي تنحصر فيه النفس، ويتحرك بها في حيز من الأماكن الخارجية التي تلقي بظلال قاتمة تسهم في التكريس لهذه السديمية، مختلطة بغبار الشخوص من حوله في واقع ذهني يتلقف الإشارات لينطلق منها إلى معانقة هذه الأطياف أو الكائنات التي تحولت في ضميره إلى غبار، فتتعدد تلك الأماكن مع الشخوص، وتتناثر في متن النص الروائي الذي يكسبها هذه الشرعية في كونها علامات فارقة في تشكيل الواقع المحيط بهذه الشخصية المأزومة المخاطبة، كما في قوله:
"بجوار ضريح "للا عائشة البحرية"، نصبت خيام مهترئة، على شكل مطاعم، ومزارات دجالين وعرافات، وعبر ممر ضئيل يتدفق جدول ماء عكر، وقدر كبير مفحم، ملئ ماء تغتسل به زائرات الضريح للتبرك. بعضهم يبيع شموعًا وبخورًا. يثير انتباهك اللون الأخضر لمناديل وأعلام تبيع الوهم..."(ص10)
هنا يبدو الوعي الخارجي للمجتمع من حوله، في هذه الصورة الممجوجة التي تطرحها هذه الرؤية المضببة التي ترتبط هنا بالوهم، كأحد مترادفات التغييب الذي يمارسه الواقع على وعي الشخصية، والتي ترفضها الشخصية أو تناوئها على نحو من تأصيل علاقة التنافر التي تشير إليها تفاصيل الصورة أو المشهد السردي الدال، الكاشف عن مفردات الواقع المتأثر إلى حد التشبع بهذا الجو الموغل في الخرافة والدجل.. والذي يسهم بلا شك في رسم الخريطة الخارجية للمكان، الذي تتنقل فيه الشخصية منقادة، تحت تأثير هذا الشعور الإنساني الذي يبرزه النص بالتعاطف مع المكان، كعنصر دال على مدى الارتباط بالمكان بالرغم مما فيه وما حوله:
"تلفظك حافلة أزمور، تحس بألفة غريبة حين تطأ قدماك أرصفة مدينتك، تدرك بأنك تحبها، رغم كل عيوبها، يهتف قلبك: ما أغرب الطبيعة الإنسانية!.
يتضاعف تعبك، تمني النفس ألا تتأخر الحافلة رقم 3، تلمح تجمهرًا بشريًّا، وسيارة الشرطة عند مدخل أحد الأزقة، يلتهمك الفضول.."(ص13)
تبدو الشخصية دوما في موقع المفعول به الذي يتلاعب به واقعه على نحو من العديد من الأفعال الدالة على وقوع تلك الشخصية تحت تأثير قوى خارجية تضغطها في هذا الحيز الضيق، بالرغم من إمكانية التحرك في مساحات مادية واسعة، أو فضاء (زمكاني)، إلا أن المساحات النفسية تكاد تنغلق على هذا الحيز الضيق الذي يمثله فضاء الحافلة، التي تلتهم الزمان وتختزله في صور تتداعى على خاطر هذه الشخصية المأزومة، والتي ما تكاد تلفظها حتى تستعيدها في مناطق أخرى من النص ومن خارطة المكان، الذي لم ينسلخ عنه هذا الذي مضت به أحداث النص بلا اسم، وهو ما يدلل على تلاشي وذوبان العنصر القيمي للشخصية، من ناحية، ومن أخرى إسقاطها على الجميع ، وبيان مدى ذوبان هذه الشخصية ماديا في أتون واقعها المحيط، فهو حي بداخل جماعته، شاخص بوجود شخوصه وعلاماته وما يجبله عليه من عاطفة حميمة، حتى تستعيده لتلقي به في مكان آخر.
كما يلج السرد الموجه في مناطق العتمة التي تعد من قبيل المسكوت عنه من خلال هذا التطواف الداخلي بالذات التي تستجلب التاريخ السري الذي يستحضره وعي الشخصية ويقدمه لها من جديد هذا الأسلوب المخاطب الممعن هنا في جلد الذات أو محاولة استبقائها تحت تأثير موروثها العائلي الخاص من جملة المسكوت عنه والمخزي والفاضح، الذي ينسحب على المجتمع من حوله:
"هذه الحكاية، تستروا عليها، كأشياء كثيرة مسكوت عنها، لا ينبغي أن يطّلع عليها الآخرون، كزواج غير متكافئ، رزقهم صهرًا يزروهم فقط من أجل بطنه،"يغسل مصارينه"، بتعبير عمك الأصغر، والوحيد الذي، بحكم رفقة العمل، لا تتحرج من التفوه في حضرته بكلام نابٍ"(ص19)
ليجسد النص هذا الشعور الحسي بالغبار، المختلط بمادية التعامل مع مهنة الشخصية كعامل بناء، من خلال هذه النقلة من العالم الافتراضي الذي ترتاده الشخصية لتمارس فيه حياتها ـ والذي سوف يأتي تفصيل الحديث عنه لاحقا ـ إلى العالم الواقعي المرتبط بهذه المهنة، على أعتاب يوم عمل جديد:
"تنفض عن ثيابك الغبار، تصعد درجات السلم برشاقة، تهلل وجه صاحبة البيت بشرًا، حين لمحتك واقفًا، متأملا " المعلْمين"، تترجاك أن تنهي أشغال الترميمات في بيتها، حتى ترتاح من الفوضى. يسود المكان هرج عند رؤيتك" .. (ص26)
***
يتحول ضمير السرد، ابتداءً من المقطع الثالث، إلى ضمير الغائب، أو السارد العليم، المتورط حسيا في هذه الأمور أو التداعيات التي تمتح هنا من وعي المسرود عنه، مقترنة بتفاصيل علاقات الآخرين من حوله، أو كائنات الغبار التي خرجت من الوعي الذاتي بها، خلال المقطعين الأولين، لتمارس حياتها على أرض واقع يحكمه الحكي بضمير الغائب المعبر صراحة عن الكل، فتبدو سمات الشخصيات المتداخلة على قدر كبير من الوضوح، بالرغم من التماهي، من خلال علاقات الجماعة المختارة ـ بحسب فرانك أوكونور في الصوت المنفرد ـ التي ينتمي إليها السارد والمسرود عنه في ذات الوقت، وهم جماعة عمال البناء، ومن خلال الجو النفسي الذي قد يمثله الغبار كأحد العناصر المكونة لخلفياتهم الشخصية فهم يتنفسون الغبار ذاته الذي يكاد يهرب منه السارد الذي تحول سارداً عليماً بامتياز وتورط معا:
"إنها الساعة السابعة صباحًا، وما زالت بعض الظلمة الخفيفة تطوق المكان، والبرد القارس ضيف ثقيل في مثل هذه الصباحات الكئيبة.. يلسع الأيادي ويصفع الوجوه. غيّر ثيابه، وفي الحلق غصة.. نفض أسمال العمل، اندلعت عاصفة غبار أبيض، سأله رفيقه ضاحكًا: "أكنت تتعارك مع الكلاب؟"، ملمّحًا إلى ثياب العمل التي تتمزق بسرعة. لم يرد عليه، تثاءب، وبصق بلا لعاب. بحث عن بقايا أكياس الأسمنت، وطلب قداحة من أحدهم.."(ص35)
من هنا تبدو العلاقة الملتحفة بالغبار وسط تلك الجماعة التي تعيش فيه، فتبدو شخوصها المحيطة من خلال علاقات أخرى تسهم في هتك ستر المسكوت عنه في هذا المجتمع الملتحم بالعمل وبعلائق الواقع المحيط به، وذلك من خلال مرور هذه الشخوص المارق وتطاحنها:
"بصق على الأرض لاعنًا كل نساء الأرض، لمح الجارة وهو يصعد درجات السلم الخارجي المؤدي إلى الطابق الأول من الفيللا.. رنا إلى الجارة المولعة باستعراض ثيابها الداخلية في حديقتها الخلفية، وهي تصعد الدرج مادة يدها إلى سروالها الضيق، تشده لتبرز فتنتها الخلفية الطاغية، وتوجع في صمت، غير قادر على أن يبوح لأحد رفاقه بما يكابد في حضرة هذه الأربعينية التي حيرته، التهم مفاتنها بعينيه في صمت نهم، وهتف لنفسه : "ربما كان زوجها العجوز....!!"(ص50)
وبالرغم من هذا الواقع المكشوف الآني الذي يواجه المسرود عنه، ووقوعه في هذا الحيز المعترك بالشخوص والعلاقات والمعروضات الإنسانية المحرمة، والواقعة في أسر حرمانها، والتي تنهش في قاع المجتمع فتجعله أكثر تهرءً وأقل قدرة على الخروج من نفقه المظلم.. قد يطل عليه ماضيه السعيد بصورته الطوباوية الفريدة التي كان فيها صغيرا، هذا المشهد الذي يقبع في قاع الذاكرة بالرغم مما يناوشها في واقعها الآني:
"وهو يتلفظ بكلمة "الكرمة"، شرد ذهنه للحظات، رأى نفسه صغيرًا، تائهًا في قيظ القيلولات بين أشجار الأوكاليبتوس الفارعة، وهديل اليمام يبث في النفس أسىً غامضًا، كأنه نواح أسطوري، وتحت أشعة شمس لاهبة، يطاردون أعشاش العصافير واليمام، والحجارة الصغيرة والتراب تحرق أقدامهم الحافية. بحنين ذابح، يتأمل كل ما تقع عليه عيناه: الشوك، النباتات الطفيلية، الصبار و"السْطاير" ، يحذرهم الأهالي من الخروج ساعة القيلولة، يغافلونهم حتى يخلدوا إلى النوم، فيلتقي كل صبيان الدوار في أماكن معينة، دون سابق موعد، عند البئر أو في البيدر أو في "الجْنانات" بين أشجار التين الهرمة برائحتها المميزة وأشجار الأوكاليبتوس."(ص53)
كما تأتي العلاقة المشتهاة بشخصية نادية التي تطل من خلال المشاهد المتتابعة كي تمثل عبقا متميزا وسط زخم العلاقات غير الشرعية التي تؤطر لواقع أكثر قماءة، فتبدو كالزهرة الندية، وهي إحالة من النص تلقي بحزمة ضوء كاشف على نوع من العلاقات قد يخرج من رحم هذه الأجواء، ويفتح بابا لبارقة أمل قد تسطع في هذا الفضاء الموغل في العتمة والسديمية، والتي يربط بها السارد بين نهايات المقطع السابع، وبداية المقطع الثامن، ربما للدلالة على كون ظهورها مرحلة مفصلية في بناء النص ومعماره، بالتوازي مع بناء الواقع وديمومة حركاته الكاشفة عن المزيد من العلاقات الإنسانية المرتجاة:
"أحس براحة داخلية عميقة وهو يستقل الحافلة رقم 8، خالجه ابتهاج عميق وهو يلمح مقعدًا شاغرًا إلى جانب نادية، وسألها في لطف بالغ إن كان بإمكانه الجلوس.
كانت منشغلة بأكل شيء ما لم يعره انتباهًا، كسرة خبز أو قطعة حلوى، وبعض التعب يستلقي فوق تعابير وجهها الطفولي الصبوح، وعلى فخذيها كيس بلاستيكي صغير، تحاشى التطفل على خصوصياتها، لاذ بالصمت بعد أن عبّرت له بابتسامة صافية عن موافقتها."(ص88-89)
هنا تقع شخصية نادية عند نقطة التقاء للتضاد مع كل من النماذج الواقعية الأخرى التي تتقاطع على وعي المسرود عنه وتطحنه بين تروسها المشتعلة بالرغبة والشبق وكافة أشكال التعامل الحياتي، كالمرأة/ الجارة سيئة الخلق التي تمثل نموذجا دالا على تفسخ الشريحة المجتمعية التي ينتمي إليها المسرود عنه، وغيرها، إلا أنها تظل نموذجا عصيا على الالتحام مع واقع تلك الشخصية المأزومة فتصبح حلما لا يتحقق.
كما يطل نموذج الصديق عماد، وعلاقته الشائهة بأمه، تلك الجارة التي تلقي بظلالها على سمات تلك الشريحة التي يمتح منها السارد، ليؤصل للمعنى الذي افترضه لكائناته من إحدى الزوايا المسكوت عنها في فضاء الواقع:
"يشيع عبد الرحيم، عماد الغارق في خطواته المرتبكة ودموعه، يصب جام غضبه على الزمن المقيت، وأمه.." العاهرة التي أنجبته"، كما تعود أن يصفها، تذكر أول مرة أحس بالرعشة الجهنمية تسري في بدنه، وأمه تنزل سرواله وتتفحصه، خشية أن يغتصبه المراهقون، كان طفلا فتان المحيا، تغار من وسامته الصبايا.. يستعيد متعته كلما دلف إلى البيت، وهي تحذره من الغرباء. صار يجد متعة ناقصة لا تكتمل إلا... حين يجلسه المدرس فوق حجره بعد أن يأمر التلاميذ بالانصراف."(ص92)
هذا الواقع المادي المتمادي في أسانته وحمقه والذي يفرض حصاره؛ لكي تتداعى كل هذه الصور بغبارها النفسي العالق بزوايا الروح، تلك الروح التي تدور في فلكها الموازي، لتحاول إعادة تشكيل الواقع بصورة ما أو بأخرى من خلال الكتابة عن ذات الشخصية القاهرة والمقهورة معا والمتمثلة في شخصية أم عماد، وإعادة تصوير علاقتهما في نص قصصي محبوك:
"تنفس الصعداء، والسيّارة تشق الطريق المحفـّر، ممزقة سكون المغيب بهدير محركها، أحس بالامتلاء الداخلي غبّ كتابة نصه الجديد، خامره إحساس بهيج بالتفاؤل:
"إنه يختلف عن كتاباتي السابقة، وحتمًا سيغير الكثير من المفاهيم. لا أعرف لم أتعاطف مع الشخوص حد الذوبان، بغض النظر عن نظرة الآخرين الضيقة إلى فضائحية الأحداث؟ هذا الإحساس بالشفقة لم أحس به من قبل،هل بدأت أقترب من نبض المجتمع؟ هل بدأت أقترب من الناس ؟"(ص102)
فبالرغم مما يحيق بالشخصية ويشعل غبارها، لا تتوقف الذات المبدعة، بفعل المقاومة الإبداعية التي يبديها الوعي المنفصل عن تداعيات الأزمة؛ لتتم إعادة التوجيه للخلاص بالإبداع كنوع من النضال النفسي، الذي ربما كان حياة موازية أخرى، قد يصطفيها المبدع لذاته، في محاولة للتطهر عبر الكتابة أو الفن بشكله العام، قد تتوازى مع ولوجه في عالمه الافتراضي.


متاهة موازية
من خلال قطاعات كبيرة من متن النص الروائي تبدو نفس اللعبة التي تعاد فيها صياغة الحياة بشكل ما أو بآخر مختلف يأتي هنا هذه المرة من خلال اللجوء إلى العالم الافتراضي لمحاولة استجلاب حياة أخرى موازية، من الممكن أن تتنفس فيها الشخصية وتجد لها مخرجا من حصار الكائنات السديمية المغبرة؛ فهنا تلعب التقنية هذا الدور الحسي الذي يؤطر ويكرس لظاهرة الخواء النفسي والتعب المادي التي تعالجها الرواية من خلال هذه الشخصية السديمية للمسرود عنه، والتائهة في خضم آخر من الصراعات المتلونة، ومن خلال التعامل مع نموذج قد يتقابل مع كل النماذج النسائية المتواترة في النص الروائي، حيث يتم التعامل على خلفية ثقافية وأدبية تمثل الجانب الآخر البعيد من تلك الشخصية، وتكمل البعد الرئيس في كونها شخصية سارد للواقع وللخيال معا..
"سألك عمك عن سبب شرودك الحزين هذا الصباح، لم تصارحه بأنك لم تنم جيدًا..
سيسخرون منك إن قلت لهم: "إن امرأة بينك وبينها مدن، بحار، وجبال أحبّـتك، وعاهدتها على الوفاء، و"اختصرت فيها كل نساء الكون".(ص26)
هكذا تبدو العلاقة المستحيلة، عاملا آخر من عوامل الحرمان التي يلاقيها المخاطب ـ هنا ـ في عالمه الافتراضي الذي يبدو في علاقة تنافر مع الواقع المادي المشتغل بإحداثياته وطقوسه الخاصة، فالواقع الجديد يفرض نفسه هنا على حيز مما يقول ناقلا بعض سمات التعامل التي تجعل من هذا العالم الموازي عالما آخر من الصراعات والتوجهات والتلونات التي انتقلت مع الشخوص من عالمهم المادي إلى عالمهم الافتراضي:
"وانشغل بتفحص ملف أحد الأعضاء، حدَّق في صورته الرمزية، قال في سريرته: "ألم تتعب من تغيير صورك كل ساعة، أيها التافه؟". توصَّل بإشعار بوصول رسالة خاصة من صاحبة المنتدى:"يكفي المنتدى أن معظم الكتاب هجروه، خفف من حدة ردودك". فكر في الرد عليها بأنه لا يجيد النفاق مثلهم، حدس أنها ستفقد صوابها.. "(ص60)
هذا الانشغال الذي يعقد بدايات العلاقة الجديدة مع هذا العالم لا يجعل الشخصية تبحر بعيدا بل يجعلها تزداد التصاقا بهذه التفاعلات الجديدة التي ربما مكنتها من الولوج إلى عالم حبيب إلى النفس تشتهيه، وتشتهي ارتياده، فربما تحققت المعادلة المستحيلة وتحول المفترض إلى كائن موسوم بالإنسانية بعيدا عن الغبار الإنساني الذي التهم كل عناصر الصورة الواقعية .
"يسبح في بحر ذكرياته مع حبيبته الإلكترونية، وهو يقرأ رسائلها القصيرة المسجلة على هاتفه المحمول.. يستحضر لقاءات المسنجر الأولى في المساءات الرتيبة، في وقت صار شبه مقدس أن يلتقيا فيه، حتى أحسا ببعض الألفة والانجذاب الخفي..
لخص لها تعاسته في إحساسه المرير بالوحدة والشجن، عرف منها أنها تزوجت أحد أقاربها، الذي فرض عليها من طرف أسرتها، وأنها خلعته وما زالت عذراء: "لا شعوريًّا، ستكره كل الرجال الذين لا يفكرون إلا في الجنس، وتبحث عمن يبادلها حبًّا عذريًّا". ووجد نفسه مدفوعًا إلى مجاراتها.." ( ص65ـ66)
لكن الغبار لا يكاد يفارق بسمته اللصيقة هذا العالم الذي تماهت مفرداته مع عالم واقعي ربما كان أقل إيلاما من هذا العالم الذي يحكمه الزيف والمواراة إلى حد بعيد، لتلاحقه في هذا العالم أيضا أطياف الغبار التي تحتل عالمه المادي، ليختلط العالمان معا، حين يظهر له واقعه المادي من خلال عالمه المفترض الذي كان يناجي فيه حبيبته المشتهاة روحا وجسدا ليبرز له الجسد المادي متمثلا في شخصية أم صديقه:
" وصلته دعوة إضافة من امرأة كتبت في حيز الرسالة القصيرة أنها أم عماد، أحس بفرح بهيج يسري في عروقه. أضافها للتو، بعد التحية كتبت تسأله عن ابنها بحروف لاتينية. بحروف عربية اعتذر لها لأنه كان مشردًا في الزمان والمكان. ..... ..... .... .....
ـ أظنك وحيدة! زوجك. أليس في البيت الآن؟
ـ في المداومة، لن يأتِ إلا صباحًا.. وأحسّ بالبرد والوحدة!!.."(ص104)
تشير العلاقة هنا إلى الانغماس الكامل نحو الواقع بكل دناسته وقماءته التي يتوارى فيها الحس الروحاني الذي كان يصاحب المسرود عنه ـ هنا ـ وهو يتنفس في مساحات الود الافتراضية، ليعانق في هذه الحالة المادية الصرفة، التي اخترقت حصاره المفترض لمعاودة التردي والدخول في حزامه الذي لا مخرج منه.. فهنا يغلب الغبار معنويا وماديا على الصورة التي تعاود السقوط، والانحباس في هذا العالم الذي يصير فيه استيحاش الإنسان لمفردات الواقع من حوله شعورا ملازما بالرغم من الالتصاق بالواقع ذاته و عدم القدرة على الانفلات من قبضته الآسرة.
"في الحمام، تأمل ملامحه الغائمة في المرآة، قال لنفسه " :الساعة الآن الثامنة بتوقيت غرينتش.. الحادية عشرة بتوقيت بلدها. لا شك أنها الآن أمام الحاسوب تنتظره، سأبتعد عن النت. لن أدخل أي موقع إلكتروني. يكفيني ما ضيعت من عمري على ضفاف السيليكون. ماذا جنيت؟!.."(ص117)
عبر المرأة التي تمثل هنا معادلا موضوعيا للحقيقة الواقعة، الملتصقة بكل ما هو مادي صرف، ترتد الشخصية بإحباطاتها المتكررة الملازمة كلية، إلى عالمها الواقعي بغباره، بكل ما فيه من تردٍ وسقوط واستلاب، وانغماس في علاقات آنية مستمرة موسومة بالغبار الذي تحولت إليه كل الكائنات المتهرئة على المستويين النادي المتجسد، والافتراضي المتخيل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق