الصفحات

2011/04/08

شهادة الكاتب قاسم مسعد عليوة عن بورسعيد الثائرة

بورسعيد الثائرة وثورة 25 يناير الجسورة
شهادة:
قاسم مسعد عليوة
استقبلتُ نهار يوم الغضب (الثلاثاء 25 يناير 2011م.) بمشاعر هى مزيج من الحماس الفوار والترقب القلق. كنتُ قد تشبعتُ تماماً بما تنادى به الشباب عبر الفيس بوك وبما تجمع بداخلى من تراكمات الحنق والغضب من أفاعيل السلطة متعددة الصور عبر أكثر من ميدان.
جذب الشباب انتباهى، فرسائلهم ظلت تهمى على صفحتى بموقع الفيس بوك دونما انقطاع تقريباً. رسائل جادة، بسيطة، بها أقدار غير هينة من الصدق العفوى، والرغبة فى استنهاض الهمم. هممهم وهمم من يخاطبونهم.
ولعلى كنت بحاجة حقيقية لما ينفخ فى جمر الغضى الذى يتلظى به قلبى ويشعله ناراً، فجاءت رياح رسائلهم كيما تفجرنى بالثورة وتعيدنى إلى ما كنته فى الأيام الخوالى.. الأيام التى كنت أناطح فيها، مع أبناء جيلى، السادات ومفرمته، ونظام مبارك ومخاتلاته.
الجو شتوى لكننى استشعره حاراً بتأثير من لهيبى الداخلى. قبلها بيوم كنت بالقاهرة. التقيت والدكتور عبد الرحيم الكردى، العميد السابق لكلية الآداب بجامعة قناة السويس فى مقر اتحاد الكتاب. هو قادم من الإسماعيلية، وأنا قادم من بورسعيد. "ما الوضع عندك فى الإسماعيلية؟".. "هادئ، ولعله الهدوء الذى يسبق العاصفة، وما الموقف عندك فى بورسعيد؟".. "هادئ، ولعله الهدوء الذى يسبق الزوابع".
خرجنا من مبنى الاتحاد واتجهنا معاً إلى أرض الجزيرة لحضور اجتماع لجنة الدراسات الأدبية واللغوية التى تضمنا كلينا، كل شىء ظل هادئاً، أو بالأدق ظل معتاداً: حركة المرور وساريناتها، والناس وأصواتهم، وأوراق الشجر وحفيفه. قطعنا طريفنا بحديث طويل عما عساه أن يحدث بالغد. الغد.. ليس بيننا وبينه إلا عدد محدود من ساعات الليل، وكل خطوة نخطوها تقربنا منه وتقربه منا. على أية هيئة سيأتى؟.. هل سيكون حقاً يوماً للغضب كما تنادى الشباب؟.. وعلى أية وتيرة ستسير الأمور فيه؟.. وما هو مقدار الكثافة التى سيكونون عليها؟.. "اختيار شباب الفيس بوك والتويتر للغد للخروج إلى الشارع، اختيار موفق".. "نعم، هو اختيار موفق للغاية".. "حينما يقرر هؤلاء الشياب تحويل تحويل عيد الشرطة إلى يوم للغضب، فهذا هو التحدى بعينه".. "نعم، إنه قمة التحدى".. "ترى على أية صورة سيكون تصرف الشرطة؟".. " قل على أية صورة سيكون تصرف رأس النظام".
كنتُ والكردى موقنيْن من أن الخروج إلى الشارع سيحدث بالفعل، فشباب حركة كفاية هم أول من كسر حاجز الخوف من التظاهر، وأول من اكتشف أن الإعلان عن التظاهر والقيام الفعلى به أفضل من التنطع على أبواب آمرى الشرطة طلباً لتصريح لن يحصلوا عليه أبداً، وشباب 6 أبريل حرك الوطن كله من ميدان الشون بالمحلة الكبرى وأقلق السلطة فدفعت إليه بالبلطجية لتجد ذريعة لنشر الرعب الشُرطى فى البلاد، وشباب كلنا خالد سعيد هز أفئدة الشعب المصرى بأسره تجاه البشاعات والتلفيقات التى تمارسها قوات الشرطة ضد بسطاء الناس، وبعد تفجير كنيسة القديسيْن بالأسكندرية هب شباب مصر كلها، الشباب المكبوت المحروم من أسباب العيش اللائق ـ ومعهم الشعب، كل الشعب بفئاته وأجياله ـ فحموا مصر من فتنة ما كانت لتُبقى أو تذر.

اتفقنا على أن الخروج إلى الشارع سيتحقق بالفعل، وتنبأنا بأن شيئاً ما جليلاً سوف يحدث، وأن هذا الشىء سيكون عظيم الأثر لو أن كثافة المتظاهرين كانت كثيرة ومسيطراً عليها منهم، وإلا أتاحو االفرصة ـ بل الفرص ـ لقوات الشرطة والبلطجية لتشويه نبل مطالبهم، التى هى مطالبنا ومطالب سائر فئات الشعب المطحون بين شقى رحى السلطة: الاستغلال الرأسمالى والبطش الشُرّطى. لعل مصمصمة من شفتين أو هزة من رأس بدرت من بعض من رأونا ونحن نحلل ونطرح البدائل ونتبادل المخاوف، فمال هذين الشخصين يؤرقان نفسيهما بأمور ما تزال فى علم الغيب، والخبرات كلها تقول إن قبضات الشُرَطيين الباطشة خبرت أجساد هؤلاء الفتية، وإنها قادرة ليس فقط على إخافتهم وإنما أيضاً على تكسير عظامهم وجماجهم.

وحانت منى التفاتة إلى النيل فتساءلتُ: أترى سيظل لون مياهك بعد الغد لونها اليوم يا نيل؟".

بعد الاجتماع عدت إلى مدينتى بورسعيد.. عدت فى الفجر كالعادة، وكعادة كل فجر، كان الهدوء يعم كل شىء، وكانت الشوارع تغط فى سباتها إلا من واجهة محل تتثاءب أو مدخل مسجد مضاء يؤمه أو يخرج منه بعض المصلين. وإزاء الهدوء الذى يرين على المدينة سألت نفسى: هل سيخرجون حقاً فأنعم بالخروج معهم؟

فتحت عينى ضحى يوم الثلاثاء وأنا موزع بين حماسة وقلق.. حماسة للشباب الذين وقفتُ على قدراتهم وتعاطفت معهم، وقلق عليهم وعلى الوطن مما عساه أن تقترفه يد السلطة العمياء.

نذر الأعاصير بدأت هذا اليوم فى كثير من الأماكن داخل المدينة بوجود كثيف للشرطة بتوزيعاتها ورتبها ومصفحاتها وأسلحتها، عامود هذه القوات تشكيلات قوات الأمن المركزى المتمركزة بكامل أسلحتها ومصفحاتها. فى مواقع مختلفة تتمركز. وجودهم كثيف فى: شارع 23 يوليو، منطقة طرح البحر، مقار مديرية الأمن وديوان عام المحافظة والحزب الوطنى، ميدان الشهداء (ميدان المسلة)، وشارع الشهداء (شارع محمد على) الذى يفصل حى الشرق عن حى العرب. بخوذاتهم ودروعهم وبنادقهم وعصيهم يتراصون.. صفوفاً صفوفاً.. صفوفاً لصق صفوف.

ميعاد التظاهر كان الثانية عشرة ظهراً، لكن المتظاهرين تأخروا عن الظهور فى الموعد والمكان الذى اتجهت إليه، قلقت وانتابتنى هواجس خذلان اليقين الذى كنت عليه فانصرفت من مكانى، بينما كانوا يجمعون أنفسهم، ولما بدأوا فى الظهور كانت ساعتان قد مرتا. عددهم معقول بالنسبة لبداية مظاهرة فى مدينة صغيرة. أمر طيب أن يتجمع من خلال الفيس بوك والتويتر ما بين 1500 و2000 متظاهر. جلهم من الشباب حديث السن، وقليلهم من مخضرمى العمل السياسى، وفيهم عدد من الأهالى الذين جذبتهم المظاهرة. هويات الشباب السياسية متنوعة، فمنهم المنتمين إلى أحزاب المعارضة: تجمع، غد، جبهة، ناصرى، وفد، وربما منهم المنتمى إلى جماعة الأخوان المسلمين، لكن الوضوح الأكبر كان لغير المنتمين لهذه الأحزاب أو تلك الجماعة. البارزون هم الذين جمعتهم حركتى كفاية و6 أبريل وجماعة كلنا خالد سعيد والجمعيات الحقوقية.

كان ثمة اتفاق بين الجميع على عدم رفع رايات وشعارات الأحزاب والجماعات والحركات السياسية المشتركة فى المظاهرة، وعلى ضرورة المحافظة على شبابيتها وتوحيد الهتافات. منذ البداية هتف المتظاهرون ضد النظام وطالبوا مبارك بالرحيل، وتعالت الهتافات المنددة بالفساد والاستبداد وبسياسات الإفقار والانحياز للأغنياء، ونددوا كذلك بتوجهات الحكومة والحزب الوطنى التى أدت إلى تفاقم مشكلات البطالة والتعليم والصحة، وارتفع شعار "خبز.. حرية.. عدالة اجتماعية".

فى نفس الوقت جمع الحزب الوطنى بمساعدة الشرطة شرذمة من البلطجية الذين دأب الحزب على استخدامهم فى عمليات تزوير الانتخابات وترويع المواطنين لصالح الحزب فى كل ملمة تلم به. بدأت هذه الشرذمة من المنطقة الواقعة بين الغرفة التجارية وديوان عام المحافظة ومديرية الأمن، وتحركت فى مسيرة مضادة، تصدرها ضباط شرطة كبار يرتدون الزى الرسمى، وارتفعت صورة لـ "مبارك" فوق رءوس من إذا تفرست فى وجوه أصحابها لعرفتهم، فهم هم هتيفة النظام ومأجوريه وصبيان المستوردين والتجار وطالبى السكن من سكان العشوائيات ومرشدى الشرطة من ذوى السوابق الإجرامية وأتباع نواب الحز الوطنى.

بسرعة مخطط لها اتجهت هذه الشرذمة صوب مظاهرة الشباب وكانت قد وصلت إلى شارع سعد زغلول (الثلاثينى) فاعترضتها فى المنطقة القريبة من محلات الأزهر، ومارست أعمال الاستفزاز والبلطجة ليقع الاشتباك المدبر المحكوم، وتتوارى صورة "مبارك"، لينهال البلطجية ومعهم رجال الشرطة بالضرب على الشباب، ولتجد الشرطة تكئة لتمارس سطوتها فتعتقل عدداً من شباب المتظاهرين، وتحتجزهم فى قسمى شرطة العرب والمناخ، وتنكر وجود أى معتقلين لديها.
أذكر من شباب المعتقلين: اسامة جوهر، إسلام ناجى، شادى سليم، أحمد مراد، محمد السويركى، محمد محروس، أحمد رزق، كريم عطية، كريم عبد العزيز، محمد جمال أبو النور، على حسن محمد، أحمد صابر، محمد مصطفى، محمد ذو الفقار، وحمودة محمد، فقد قمتُ بنشر أسمائهم على صفحتى بالفيس بوك؛ كذلك قمت بنشر أسماء محرضى الشرذمة التى تصدت للمظاهرة على ذات الموقع من أعضاء بالمجالس النيابية وتجار.

فى المساء سمعنا بأوامر وزير الداخلية حبيب العادلى بإطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين بعد الساعة 12 فتأججت مشاعرنا، واستمرت حالة الهياج لا تهدأ رياحها ولا تنطفى نيرانها.
ظلت الشرطة فى اليوم التالى على إنكارها وجود هؤلاء المعتقلين لديها، مع يقيننا من احتجازها لهم، لذا لجأ عدد من المحامين إلى المحامى العام، فاضطرت الشرطة إلى عرضهم على النيابة العامة، لكنها آثرت ألا تعرضهم إلا بعد منتصف الليل، دونما إعلام لأحد، كى تحرمهم من حضور المحامين معهم. المفاجأة جاءت من النيابة إذ لم تبت فى أمرهم، وأعادتهم إلى قسمى الشرطة.
فى صباح هذا اليوم (الأربعاء 26 يناير 2011) علمت من صفحة الروائى إبراهيم جاد الله أنه قد اعتقل. ابنته هى التى كانت تدير صفحته، فبادرت على الفور بطمأنتها وإخطار اتحاد الكتاب فى القاهرة عبر البريد الإلكترونى. أرسلت خبر اعتقاله إلى أربعة من العاملين بالإدارة فيه تحسباً لتغيب بعضهم، وحتى يمكن اخطار هيئة المكتب حسبما طلبت، وهذا هو نص الرسالة التى أرسلتها فى الساعة 11.42.50 صباحاً تحت عنوان خبر عاجل.
" صباح الخير
اعتقل بالمنصورة الروائى إبراهيم جاد الله ـ عضو الاتحاد.
برجاء إحاطة هيئة المكتب لاتخاذ اللازم.
قاسم مسعد عليوة"
فى تلك الأثناء تنامت الدعوة، فى بورسعيد وسائر أرجاء الجمهورية، إلى مظاهرة كبرى يتم تنظيمها بعد صلاة الجمعة التالية (28 يناير 2011م.) لتكون مظاهرة كبيرة ليعرف النظام الحاكم أى شعب يواجه. قمتُ بنشر الدعوة وبثثتُ صور المظاهرات والأحداث التى وقعت فى بورسعيد وكذا مقطع فيديو للاشتباك بين المتظاهرين والبلطجية على الفيس بوك. وعبر الفيس بوك أيضاً، علمت بأنباء عن حصار ابن الروائى سيد الوكيل واحتجاز ابن الشاعر علاء عبد الهادى فى مظاهرات ميدان التحرير القاهرى فاتصلت بالمقر المركزى للاتحاد وأخبرتهم.

بعد قليل اتصل بى إسلام بيومى سعيد الموظف بالاتحاد يدعونى إلى اجتماع طارئ فى مقر الاتحاد بالزمالك لمناقشة الأوضاع.
أغلقت الشرطة مخارج ومداخل المدينة منذ الصباح، والسائقون متوترون، ولا يستطيعون الخروج بسياراتهم من المدينة، إما بسبب حشود الشرطة أو ترقبهم للأحداث. اتصلت بإسلام بيومى وبصديقى وزميلى فى مجلس إدارة الاتحاد رفقى بدوى وشرحت لهما الموقف.
وبقيت فى بورسعيد.
ظلت الشرطة على تعنتها حيال المعتقلين من الشباب، فعندما صدر أمر المحامى العام بالإفراج عن المعتقلين يوم الخميس 27 يناير 2011م. لم تنفذ القرار.
فى المساء وصلتنى رسالة على تليفونى المحمول من اتحاد الكتاب تتضمن قرار مجلس إدارة الاتحاد بتنظيم وقفة تضامن لأعضائه حدادا على أرواح الشهداء الذين سقطوا فى أحداث اليومين الماضيين وتضامناً مع المتظاهرين يوم السبت 29/1/2011 الساعة 6 مساءً، ووصلنى عبر بريدى الإلكترونى البيان الذى أصدرة مجلس إدارة الاتحاد حول الأحداث الجارية، وكان هو أول بيان يصدر عن نقابة مهنية، وفيه إعلان عن تبنى كامل مطالب الشباب والدعوة إلى الإفراج عن المعتقلين، وفيه أيضاً إيضاح بأن المجلس سيظل فى حالة اجتماع دائم، بالإضافة إلى الدعوة للوقفة الاحتجاجية. فقمت من فورى ببث نص البيان على الفيس بوك ونال استحسان كل من قرأه.

انشغلت بعد ذلك ببث دعوة أذيعت متأخرة لوقفة احتجاجية بورسعيدية أمام نقابة المحامين بكورنيش البحر بعد صلاة العشاء فى ذات اليوم.

على برودة الجو، فإن جمعة الغضب (28 يناير) كانت ساخنة جداً. بدأت السخونة فى الجامع التوفيقى بحى العرب، وكان قد وصل إلى الجامع أمين الحزب الوطنى محمود المنياوى وأحمد سرحان عضو مجلس الشورى عن ذات الحزب، ومعهما مجموعة من قرويى منطقة البحر البقر، فبانت نية الحزب الوطنى حيال المظاهرة المزمع القيام بها، وعندما تحدث الخطيب عن وجوب طاعة الوالى وحُرمة الخروج عليه وإن كان كافراً، ثارت جموع المصلين وارتفعت أصواتهم تقاطعه "حرام عليك" ولم يمكنوه من مواصلة الخطبة؛ وعبثاً حاول إكمال خطبته، فأصواتهم كانت أعلى من صوته، ومن مكبر الصوت الذى يمسك به؛ ولأول مرة فى تاريخ مساجد بورسعيد قام المصلون بإنزاله بالقوة من فوق المنبر، واختاروا غيره ليصلى بهم إماماً. بعد الصلاة خرجوا وهتفوا ضد النظام، وأعاقوا الذين جلبهم الحزب الوطنى للاعتداء عليهم. أمر شبيه بهذا حدث مع خطيب مسجد فقوسة حينما أطال فى الخطبة.

وكان أن تجمعت المظاهرة التى أقدر تعدادها بأربعين ألف متظاهر من جميع أبناء المدينة وجميع أطيافها السياسية والمهنية والدينية. بعد أن طافت بشوارع وأحياء المدينة. تصدى البلطجية لها فى أكثر من موقع، لكن المتظاهرين تجنبوهم وانهمروا إلى المدينة من قلب ميدان الشهداء. وإزاء ضخامة العدد خشى بلطجية الحزب الوطنى التحرش بالمظاهرة تاركين الأمر لقوات الشرطة التى بادرت بإطلاق القنابل المسيلة للدموع، والطلقات المطاطية والرصاص الحى، فما كان من المتظاهرين إلا أن مزقوا كل صور مبارك وابنه جمال وزوجته سوزان، وسقط أربعة شهداء من بينهم طفل عمره 9 سنوات، علمت أسماء ثلاثة منهم: محمد راشد درويش، محمد أحمد التميمى، ومحمد فرج (الطفل)، ثم علمت باستشهاد سيدة فى شرفتها اسمها ماجدة عوض على. بعدها اتجه الوضع نحو تحطيم واجهات مقار الحزب الوطنى وإشعال الحرائق فى أقسام الشرطة بأيدى بلطجية النظام. وقد صد الشباب من أحزاب المعارضة السياسية ومن الحركات السياسية وشباب الفيس بوك هجوماً شنه البلطجية على المقر الرئيسى للحزب الوطنى الموجود بحى الشرق.

وفى الخامسة من مساء الجمعة صدرت الأوامر بانسحاب قوات الأمن المركزى وسائر قوات الشرطة فانسحبت من الشوارع وكل المواقع، فإذا بالمنافذ الجمركية تصبح مباحة للمهربين، وإذا بالتخريب تحطيماً وحرقاً ينال أقسام الشرطة: العرب، المناخ، الشرق، الزهور، الضواحى، ونال كذلك سيارات الشرطة وعدداً من سيارات الأهالى والمحلات القريبة منها، وعمت الفوضى وسقط الضحايا، ليقوم الأهالى بتشكيل اللجان الشعبية لحماية المدينة فأقاموا المتاريس وتسلحوا ونظموا حركة المرور وحموا البنوك والمصارف والمبانى العامة والخاصة. كل هذا حدث على الرغم من إغلاق النظام لموقعى الفيس بوك والتويتر وقطعه لشبكة الإنترنت.

فى اليوم التالى (السبت 29 يناير)، لم أتمكن من السفر إلى القاهرة للمشاركة فى الوقفة الاحتجاجية التى نظمها الاتحاد، لأنه لم تكن هناك أية وسيلة مواصلات متاحة، بعدما رفض السائقون التحرك من المدينة بسبب قطع المجرمين للطريق السريع واحتلالهم لكمائن الشرطة ونقاط المرور وسطوهم على السيارات العابرة فضلاً عن انغلاق منافذ الدخول إلى القاهرة سواء عند منطقة الهايكستيب على طريق الإسماعيلية / القاهرة، أو ألماظة على طريق الشروق / القاهرة، بالإضافة إلى صدور قرار حظر التجول اعتباراً من الساعة السادسة مساءً ميعاد الوقفة الاحتجاجية.

فى نهار هذا اليوم (السبت) شيع 100 ألف متظاهر (حوالى خُمس سكان المدينة) جنازة الشهداء الأربعة؛ وإذا بالمجرمين يفدون إلى المدينة من السجون ومن بعض المدن والقرى؛ وإذا ببعض من رجال الشرطة يرتدون ملابس مدنية ويشاركونهم أعمال الترويع والسلب والنهب.

تتالى دوى طلقات الأسلحة الآلية فى شوارع المدينة وسقط قتلى كثيرون، ومع هذا فإن إرادتنا لم تفتر، واستقبلنا فى هذا اليوم الجيش بترحاب يستحقه فى هذا الظرف، وظلت مظاهراتنا ووقفاتنا مستمرة، على الرغم من التعتيم الإعلامى الرهيب الذى ضرب على المدينة، ومن تصريحات محافظ المدينة ـ المتحدث الأوحد عن بورسعيد فى تليفزيون أنس الفقى ـ ومن تهوينه للأمور الملتهبة داخل المدينة إلى حد الكذب الصريح، الأمر الذى أثار حنق أهالى بورسعيد عليه، فما من يوم طوال مدة الـ 18 يوماً توقفت فيه المظاهرات بمدينتنا، فقد وقفنا نحن الشيوخ ـ ووقف شبابنا قبلنا ـ مع الثورة. كل الأجيال تضامت.. الإناث والذكور.. اليسار واليمين.. الكبير والصغير .. المثقف والأمى.. الكل كان يهدر بالثورة.. الكل تداول مفرداتها منذ كانت دعوة إلى خروج فى تظاهرة حتى أضحت انتفاضة فثورة مكتملة الأركان وفريدة.. أى منذ ممهدات التنادى عبرالفيس بوك، ومع انطلاق الشرارات الأولى، حتى التوهج الكبير.

وعلى الرغم من موجات العنف الإجرامى والفوضى التى ضربت أطنابها فى أرجاء المدينة، فقد عززنا والشباب فى مقدمتنا مكاسب الثورة بأكثر من وجه: خلقاً وتحضراً وإصراراً وثباتا، من خلال اللجان الشعبية التى حمت البنوك ومرافق المدينة وتجمعاتها السكنية؛ ودعمت بورسعيد المظاهرات المليونية بمظاهرات حاشدة طافت بالمدينة طوال أيام الثورة وباعتصامات ووقفات بميدان الشهداء (المسلة) لم تنقطع، ومن شبابنا غامر عدد غفير وانتقل بسياراته الخاصة إلى القاهرة.. إلى ميدان التحرير.. ميدان الثورة.

وكم كنتُ سعيداً بتمكنى، بعد استئذان وسماح من زوجتى، التى تُعالج من جلطة مخية، من السفر إلى القاهرة (الخميس10 فبراير)، ومشاركة اتحاد الكتاب والمثقفين والفنانين وجموع الشعب المصرى الهادر بمطالب الثورة، صمودهم الباهر بميدان التحرير، كان ظهور الجيش بمدرعاته ومصفحاته سبباً فى تأمين طريق السفر، فسافرت، بعدما استأمن السائقون الطريق، وعشت يوماً من أعظم أيام حياتى وسط الملايين من أبناء مصر الثائرين على الطغيان باستبداده وفساده، ومثلهم جأرت بالهتاف باسقاط رأس النظام الفاسد هو وكل رموزه، وبإجراء التغييرات السياسية والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، تلك الأهداف التى أفنيتُ عمرى مطالباً بها، منذ سبعينيات القرن الفائت، مثلى مثل كثيرين، لكن كل نضالاتنا لم تخرج عن كونها مجرد روافد عرمت لمَّا حولها شباب الفيس بوك والتويتر إلى نهر لم أر، ولم ير العالم، ولم تر الإنسانية كلها عبر تاريخها كله، نهراً عارماً عرامته ولا هادراً هديره، ولا حاملاً لبشائر الخصوبة مثله.

وكان أن اضطر رأس النظام إلى التنحى، فانشرحت صدورنا وبدأنا نتنفس الصعداء، وإذ أنظر حولى متأملاً الوجوه التعبة، القلقة، الباكية، الفرحة، المتقلصة، المنبسطة، الصارخة، الحامدة، المذهولة، المشحونة بكل فى الذوات الإنسانية من مشاعر وأحاسيس وملامح، وجدتُ نفسى اتنهد وأقول: "ياااااااااه".

هل أحدثكم عما فعله بلطجية النظام الحاكم فى بورسعيد بعد نجاح الثورة، وعدم حصولهم على الرشا التى وعدوا بها ممن طنوا أنهم راسخون على صدورنا إلى الأبد؟.. لنؤجل الحديث عن هذه الأفعال إلى وقت آخر لنستمتع بإخراج الزفرة التى حشرت طويلاً فى حلوقنا: "ياااااااااه".. "ياه".

قاسم مسعد عليوة

(الثقافة الجديدة ـ مارس 2011م.)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق