الصفحات

2011/07/03

اللاسيرة الرامزة قراءة في كتاب أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ


اللاسيرة الرامزة
قراءة في كتاب أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ
بقلم/ أحمد جاد
لم تكن سيرة عادية،يشبع فيها الكاتب نهمه في سرد تفاصيل باليوم والشهر والسنة،يذكر الحوادث،تاريخها،أسبابها،تفسيرها،هذا مقام يليق بكاتب غير محفوظ،الذي عندما سئل لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية قال سيرة حياتي كأي إنسان عادي بسيط.
أصداء السيرة الذاتية فيها السيرة والذاتية،لكن بشكل ومضات،صدي لحكاية حدثت له في صباه أو في شرخ شبابه،نجيب محفوظ لا يهمه الحدث في كونه حدثا وحسب؛وإنما يهمه ما يتركه هذا الحدث من أثر فني،ومن صدي يتأرجح في جوانب النفس.
الباحث عن سيرة محفوظ بالمعني المتعارف عليه في كتابة السير الذاتية،ربما يجد ذلك من خلال شخوصه في رواياته،سوف يحس القارئ أن شخصية كمال عبد الجواد في الثلاثية هو أقرب الشخصيات لنجيب محفوظ،ربما هدوءه،سمته الوقور الذي يكمن خلفه الثورة والتمرد،أيضا(      ) في رواية ميرامار،وذلك الشبه الكبير بينه وبين طموح بيومي أفندي في رواية حضرة المحترم يتوازي وطموح محفوظ،مع فارق أن الأول سقط في لجة آماله،واكتوي بلهيب تطلعه،ومات دون مناه،في حين أن محفوظ كان طموحه هو الأتون الذي دفعه للنجاح والصيت.
ولن يعدم القارئ أن يجد في الأصداء أحداثا مباشرة لمحفوظ،لكنه يعرضها في شكل رامز،مكثف،يتنهي إلي مايشبه المفارقة.
فأول صدي في الكتاب بعنوان(دعاء)،يعبر فيه محفوظ عن الضجر الذي لازمه وهو طفل،وأمنيته أن تدوم ثورة 1919 إلي الأبد كي يتمكن في التخلص من ربق المدرسة؛ذلك السجن الذي يبعده عن فوضي الطفولة.
ويصف موت جدته وحجرتها(الحجرة التي حكت لي أجمل الحكايات)
في الصدي الثالث(دين)،يدين محفوظ لمرضه الذي جلب له أحضان الرعاية والحنان،ونظرات الشفقة من الآخرين،وبعد تماثله الشفاء رأي أن مفتاح السعادة في الاجتهاد والتفوق(هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي)
هذه الأحداث التي ذكرها في بداية أصدائه،كان يمكنه أن يفسرها،يشرحها،يعلق عليها،يذكر التاريخ،الأماكن،لكن ذلك يخص الحدث،ومقصد محفوظ هنا تجاوز الحدث إلي ماورائيته وصداه الفعال.
فما يمكن أن يكتب في صفحات يختزله في كلمات قليلة
(من صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلي الأبد)
 كلمات قلائل،ومعان متدفقة،ومع اتساع الفكرة،وتزاحم المعني تصير فضيلة الاختزال أفضل.
غموض الأصداء
    ربما يكتنف الغموض في بعض الأصداء،لكنه غموض فني،وليس استغلاقا مجانيا،ذلك الغموض الذي يبتعد به الكاتب عن المباشرة في عرض مشاهد الروح أثناء زحفها بعيدا عن معطيات الجسد؛حيث تتحول الأصداء في بعض الأحيان إلي مناجاة،صوت الكلمات الهامس،استشراف مساحات واسعة في الذات،ومع تجلي الخفي،وانبثاق الرؤي،تتحول الأصداء إلي ما يشبه الحلم،ومضات ضوء فجْري خافت سرعان ما ينبلج صباحه.
ومن الأصداء ما يفتح الباب أمام تاويلات عدة؛حيث المعني المفتوح إلي ما لا نهاية،نجد ذلك حاضرا في صدي(الأشباح)
(ولما بلغت مشارف الصحراء جلست فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام،سرح بصري في متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة وسرعان ما قيل لي أن أشباحا تتحرك نحو المدينة....)
  الأشباح أيضا لها أصداء عند نجيب محفوظ،لم يسمها لنا،حسبه أن يقول(لعلهم رجال الأمن)
فهذا المعني المتأرجح يعطي للقارئ خيط التنبؤ،التفسير،والتساؤل،لكن كاتبنا لا يتركه في حيرته إذ يقول:(تساءلت وأنا أرتجف عما يخبئه النهار لمدينتي النائمة)
ويمزج محفوظ في أصدائه بين المرئي والخفي،بين الواضح والغامض الضبابي؛يقول في صدي(قطار المفاجئات)
(كان علينا أن نختار بين رحلتين وقطارين،قطار يذهب إلي القناطر الخيرية،وآخر يمضي إلي جهة مجهولة يسمي قطار المفاجئات)
هنا يعرض الرحلتين/ الطريقين / الرؤيتين،لكن لكل وجهة هو موليها
(ذهبت كثرة إلي قطار القناطر،وقلة جرت وراء المجهول)
وفي أحايين كثيرة يتكأ يتكئ محفوظ علي التلميح دون التصريح،حيث يذكر الشيء إجمالا دون تفاصيله،وهذه طبيعة سائدة في غالبية الأصداء؛ذلك الاختزال المكثف الذي يُعني بالمعني،ولا يهمه زخرف اللفظ،وتوشياته؛فنراه يقول في صدي(فرصة العمر)
(قصت قصتها وأنا أتابعها بذهول حتي انتهت)
أين القصة التي قصتها السيدة العجوز؟
لم يذكرها الكاتب،لكن المعني الخفي/المعتم،يومض عندما يقول:(فرصة العمر أفلتت،ياللخسارة)
ولا يبتعد محفوظ في الأصداءعن رؤيته ونقده السياسي،وذلك في صدي(التحدي)؛وهو من أهم الأصداء،حيث تتضح المفارقة،في مجتمع متلوث طال الدنس كل أروقته يقول :(في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرا :
هل تستطيع أن تدلني علي شخص طاهر لم يلوث؟
فأجاب الوزير متحديا :
إليك ـ علي سبيل المثال لا الحصرـ الأطفال والمعتوهين والمجانين.
فالدنيا ما زالت بخير)
فما أشبه الليلة بالبارحة،فهذا الصدي يُغني عن مئات المقالات والتقارير الصحفية اليومية التي تبين فساد الجهاز الحكومي.
وفي صدي(الحوار)،المفارقة لا تغيب فحضورها قوي(رجع الأب فوجد الأبناء في انتظاره.
أخرج حافظة نقوده متجهما وغمغم
الاب في زماننا شهيد
فالتزموا الصمت ثم تفرقوا تفرق الشهداء)
ودعوي من الكاتب إلي نبذ السلامة مع الظالم،وضرورة طرح الجبن،يقول في صدي(عندما) :
سألت الشيخ عبد ربه التائه :
متي يصلح حال البلد؟
فأجاب :
ـ عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة..
الرؤية الصوفية في الأصداء
نجيب محفوظ يمرُّ علي المعني مرورا خفيفا،يمسه بخفة مسَّا رقيقا،الكلمات تعْبر في هسهسة عبر سراديب روح مظلمة تنيرها ومضات أشبه بنجوم ليل حالك غاب فيه قمره،حيث تولت مَهمة تأكيد حقيقة ظلمته. 
الأصداء هي رؤية شيخ خبر الحياة،وجربها،فرآها بعينين صافيتين؛ذلك الصفاء الذي تُجليّه شيخوخة الجسد في مقابل شفافية الروح،إذ تتسع الرؤية،ويشتد عود البصر فكأنه حديد،فيري ما لا يراه الآخرون،ويدرك كنه الحياة،وسرها المستغلق.
 الشيخ عبد ربه التائه
هذه الشخصية الرامزة التي اختارها نجيب محفوظ في الثلث الأخير من أصدائه؛فهي بطلة أغلب المواقف،حيث تتوافر في هذه الشخصية كل عناصر الرمز والدلالة التي يقصدها ويرمي إليها الكاتب في أصدائه،بداية من الاسم يمكن لنا استخراج دلالات لا حصر لها؛فمنها أنه شيخ حيث خبرات العمر المديد أو(الشيخ) الرجل(الدَّيِّن) الداعي لله،سالك الطريق إليه ؛فهو عبد لربه،متصل بأسباب السماء،صوفي متأمل في ملكوت الله سبحانه وتعالي،وهو فضلا عن ذلك(التائه).
هذه الحيرة التي تنشب في قلوب الصوفيين،حيث استصغار الفعل الخيِّر ولوكان كبيرا،مع استعظام الخطيئة ولو صَغرت،هذه الحيرة قد تجلت في كثير من شخوص روايات محفوظ،ولا يتسع المقام لذكرها الآن،أيضا شخصية الصوفي لها حضور في رواياته،مثل الشيخ علي الجندي في اللص والكلاب،وغيرها كثير يصعب للمقام هنا عرضه.
وحيرة الشيخ عبد ربه تنطوي علي فلسفة عميقة،ورؤية صوفية ذات دلالة،ونراه يقول في أحد الأصداء :
(وشعرت بأنني أنطلق من مقام الحيرة)
فهل كان الشيخ عبد ربه التائه هو نجيب محفوظ نفسه،يختبئ في عبائته،ويخرج لنا توهجات نورانية لتجربة حياة كاتب جرب أحوال الصوفيين ومكابداتهم؛إذ أن التصوف لم يكن بعيدا عن محفوظ  دارس الفلسفة،وقارئ كتب المتصوفة،فضلا عن تعلقه بأولياء الله الصالحين ومشاهدهم في القاهرة.
نري أول ظهور للشيخ عبد ربه التائه في الأصداء تحت عنوان(عبد ربه التائه)
(كان أول ظهور للشيخ عبد ربه في حينا حين سمع وهو ينادي:
ولد تائه يا ولاد الحلال
ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال :
فقدته منذ اكثر من سبعين عاما فغابت عني جميع ملامحه )
ويبدأ التعارف بينه وبين الشيخ عبد ربه،فالمكان هو الكهف،وسط المريدين والمحبين،حيث تسري النشوة في قلب الراوي بعد التعارف.
(دخلوا قلبي بلا وسيط،عروتهم ساحرة،أاصواتهم عذبة،والمكان جذاب هادئ،ورائحته زكية)
وتمضي الأصداء بعد ذلك،فيبدأ الصدي بـ قال(الشيخ عبد ربه التائه)
وتتنوع الأقوال ما  بين الحكمة والفلسفة والقصة ذات الدلالة والمغزي،فنجد في كثير من الأصداء،الحوار بين عبد ربه التائه وبين شخص مجهول،أو عجوز مهلهل الثياب
يقول في صدي(الحوار)
قال الشيخ عبد ربه التائه:
قلت له بخشوع وعيناي لا تفارقان طلعته:
-  لم أر أحدا في مثل بهائك من قبل
-  الفضل لله رب العالمين
-  أريد أن أعرف من تكون يا سيدي؟
فقال بهدوء وكأنه يتذكر:
أنا الذي كان يوقظك من النوم قبل شروق الشمس.
اصغيت باهتمام فواصل.
أنا الذي ناصرتك علي الكسل فانطلقت مع العمل.
فكرت بعمق فيما قال،واستمر هو:
-  أنا الذي أغراك بحب المعرفة.
-  -فهتفت نعم نعم.
-  -وجمال الوجود أنا الذي أرشدتك إلي منابعة.
-  إني مدين لك إلي الأبد
-  وساد صمت متوتر وشعرت بأنه جاء يطالبني بشيء،فقلت:
-  إني طوع أمرك
-  فقال  بهدوء شديد:
-  جئت لأضع فوق عملي نقطة الكمال.
في نهاية الأصداء يواصل محفوظ عملية التكثيف،ولكن بشكل أوضح،وأكثر وعيا،حيث اعتناق فضيلة الاختزال،والبعد عن خطيئة الإسهاب؛فنجد الصدي سطرا واحدا في بعض الأحيان أو أقل مثل:
بعض أكاذيب الحياة تنفجر صدقا.
في الكون تسبح المشيئة،وفي المشيئة يسبح الكون.
إذا أحببت الدنيا بصدق،أحبتك الآخرة بجدارة.
كما تحب تكون.
لوحات نجيب محفوظ في الأصداء،عبر بها عن تجاربه في الحياة،فكانت عصيرا لكل تلك السنوات وما تحمله من أعمال،لم يتبق لمحفوظ سوي الرمز إلي كل ذلك،بعدما انقضي زمن البوح والقص،وبقيت دلالتها.
هنا في الأصداء حيث اللاسيرة الرامزة،أصّل محفوظ لفن القصة القصيرة بمعطياته الحديثة ومفهومة الذي تغير مع مطلع التسعينات،فنجد في الأصداء قصصا قصيرة جدا،أضاء  من خلالها الضوء لهذه النقلة في القصة القصيرة،مثلما أضائه من قبل للرواية كأحد أهم روّادها.
ولنا أن نتسائل في نهاية حديثنا،هل وفق نجيب محفوظ في أصدائه،هل أشارت حقا إلي سيرته ولو من بعيد،أم أن ضبابية المعني غطّت في كثير من الأحايين علي ذلك،والقارئ للأصداء قد يفقد صبره أثناء القراءة؛ذلك لعدم تسلسل الأصداء في الكتاب تسلسلا منطقيا،أيضا مما يؤخذ علي كاتبنا تكرار المعني ودورانه في أكثر من صدي،يُلمس ذلك في الثلث الأخير من الكتاب،ورغم ذلك يبقي كتاب أصدء السيرة الذاتية علامة في طريق نجيب محفوظ الحافل بمعالمه المضيئة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق