الصفحات

2011/07/03

"الطبيب العاشق" قصة قصيرة لأحمد جاد

الطبيب العاشق
أحمد جاد*
وحده يجلس علي طاولة مستطيلة،بين إصبعين تحمل يده اليسري سيجارة،ترتفع رأسه لأعلي قليلا،ينفث دخانا ضبابيا ثم يعاود رأسه للإنحناء مطلا علي دفتر يكتب فيه بعض الكلمات،داهمه صوتي قائلا :
- مساء الخير .
ارتفع رأسه كاتما دخانه في حلقه،قال في صوت مختنق بالدخان:
- - مساء الخير،تفضلي .
جلستُ،خرج دخان سيجارته في بطء،لفني بنظرة حانية،وضع قلمه،تقاسم معي حديثا معادا عن أحوال المعيشة والسؤال عن الأهل والعائلة.
امرأة تزحف نحو أربعينها بوجه عشريني،وتفاصيل جسد جالس علي قارعة خريفه القادم .
(انتهي الحزن المؤقت،ابتدأت نوبات الحزن الحقيقية)
كتب في دفتره تلك الكلمات،أكان يصف حالي وما بدا علي وجهي من شحوب،وتلك الهالات السوداء التي تقبع أسفل العين .
- منذ متي وأنت ِلم تذوقي النوم؟
خط سطرا أفقيا في دفتره،كأنه يبدأ كلاما جديدا،جاوبه صمتي .
- يبدو أنك لم تنامي منذ فترة فترة بعيدة .
(البقع السوداء أسفل العين تنبئ أن نوبات الأرق كثيرة في الأيام السابقة،العينان غائرتان،الأطراف مرتعشة،مهدئات،أقراص للنوم،الآثار الجانبية أهون).
سعال هادئ يتقاطر من فمها بتقاطع،تلتمع العينان وخيط من الدمع يسيل،،تمتد يدها،تسحب منديلا من علي الطاولة،تمسح خيطين من الكحل الأسود؛ جميلة تبدو بعض النساء في حزنهن،ملابسهن السوداء،كحلهن المنساب علي خدودهن،جميل هو البياض عندما تؤطره خيوط الليل .
تزحف أطراف المنديل لتجفف الدمع، يفترش السواد علي حوافه،ثم يتمدد لحظة بعد لحظة .
سطرٌ آخر يكتبه في دفتره،لم أتمكن من رؤيته،خطه يبدو رديئا هذه المرة،أتعمد ذلك؟ أم أن الكلام ليس له علاقة بحالتي،كلمات متقطعة،رموز ذات دلالات لا أفهمها،يستنجد بسيجارة أخري أشعلها من سابقتها قبل أن تنطفئ،تنحسر أكمامه عن شعر أسود كثيف يفترش علي ظهر ساعده،خيوط الدخان تواصل رحلة الصعود ويواصل الكتابة .
(علي الرغم من حزنها لم تنس تزجيج حاجبيها وإزالة زغب الوجه الصبوح،في أقسي الظروف لا تنسي النساء أدق تفاصيل جمالهن كأنهن ذاهبات لموعد حب).
كتم الكثير من الأسئلة التي تبديه كعاشق لا كطبيب،توقفت علامات الاستفهام علي حافة شفتيه،كبح جماح عواطفه،بدا هادئا،طبعه رماديٌ كشعره الذي اختلط بياضه بسواد فاحم يختبئ قليلا قليلا بين موجات البياض القادمة يوما بعد يوم .
تواصل جلسات العلاج بين حين وآخر تأتي لزيارته،كثيرا ما تأتي دون موعد،كانت تجد في بوحها خروجا من قفص الذاكرة القلقة .
مع اختفاء الأرق قلّل المهدئات وأقراص النوم،يكفي قرص واحد عند الحاجة.
الملابس السوداء تتبدل بملابس أكثر إشراقا،خصلات الشعر تنسدل لتلامس أهداب العيون الناعسة التي يفضحها الكحل،أصباغ خفيفة تعلو بؤبؤ العين،وثمة عطر نسائي يقتحم الأنف،ويجبر الحواس علي تنسيق فوضاها .
(تبدّلُ المرأة رَجلا برَجل ٍ كما تبدل ثوبا أسودا بآخر أكثر إشراقا)
في دفتره امتلأت الصفحات،تواريخ بأيام الجلسات،كلمات متناثرة،قائمة بأقراص ٍ وأدوية ٍ،خطوط لا تدل ولا تُبين ُ،سطور متعرجة،بوح مكتوب ينسال علي ورق الدفتر.
في المرات القادمة اكتشفت أنه خصص لها دفترا خاصا علي غير عادته،كان المرضي يحملون صفحات قليلة من دفتر كبير يغيره مع امتلائه بدفتر آخر ملقيا القديم في دولاب ممتلئ ٌ بدفاتر قديمة تحمل أسماء مرضي تماثلوا الشفاء،غادروا الدفتر إلي الحياة،تحولوا من رموز ودلالات مبهمة،وقوائم للعلاج والدواء إلي أناس يدبون في الأرض محاولين نسيان ذلك الدفتر،وتلك الجلسة المحببة الآن إليها .
قالت له في نشوة العاشق لا في نشوة المريض المعافي توا من مرضه :
- أعطني دفتر حالتي كي أقرأه .......
لم تكن المنامات السعيدة وما تحمله من أحلام سكري تُختصر في دفتر يحمل مشاعر طبيب عاشق،تبدو من بياض فوديه سنوات عمره الخمسين،يتهيأ قلبه لحب امرأة تسكن في دفتر .
أجهزتْ علي صفحاته في ليلة ٍ واحدة،ومع ابتسام ندي الفجر كانت يدها تعبث بهاتفها باعثة له برسالة عدد كلماتها لم يتجاوز حبات العقدِ المنظوم على جيدها .

* سوهاج


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق