الصفحات

2011/08/11

د.جميل حمداوي يكتب عن: أركان القصة القصيرة جدا ومكوناتها الداخلية

أركان القصة القصيرة جدا ومكوناتها الداخلية
د.جميل حمداوي 
توطئــــة:
 
تستند المقاربة النقدية لفن القصة القصيرة جدا إلى عدة معايير ومقاييس نقدية، تنصب على الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية. ومن هنا، فهذه المقاربة تميز بين الأركان والشروط، أو بين المكونات الداخلية والتقنيات الخارجية، أو بين العناصر البنيوية التي تميز فن القصة القصيرة جدا، وتفرده عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى ، وبين المقاييس المشتركة التي تجمع هذا الفن الجديد والمستحدث مع باقي الفنون والآداب والمعارف العلمية.
وبناء على ماسبق، فقد  حدد الدكتور أحمد جاسم الحسين مقومات القصة القصيرة جدا في كتابه: " القصة القصيرة جدا"، وذلك  في أربعة أركان أساسية، وهي:القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف [1].
أما  الباحث السوري الأستاذ نبيل المجلي، فقد جمع خصائص القصة القصيرة جدا في أرجوزة على غرار منظومات النحو والفقه والحديث ، فحصر أهم مميزاتها في خمسة عناصر أساسية ألا وهي: الحكائية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، وفعلية الجملة، فقال:
 
ســـرد قصير متناه في القصر
                                   كالسهم، بل كالشهب تطلق الشرر
كتبـــــها الأوائل الكبـــــــــــار
                                  وليس يدرى من هو المغــــــــوار
قد ميزتـــها خمسة الأركــــان
                                  حكاية غنيــة المعــــــــــــــــــــاني
وبعدهــــا يلزمها التكثــــــيف
                                  ووحـــــدة يحفظــــــــــــها حصيف
واشترط النـــاس لها المفارقه
                                  وأن تكـــون للحدود فارقـــــــــــــه
وجملة فعليـــــــة بها كمـــــــل
                                  بنـــــاؤها وحقه أن يكتمـــــــــــــــل[2]
 
وإذا انتقلنا إلى المبدع السوري سليم عباسي، فقد حصر ملامح القصة القصيرة جدا في الحكائية، والمفارقة ، والسخرية،  والتكثيف، واللجوء إلى الأنسنة، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، والاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها ، وقد ذكر هذه الملامح في  الغلاف الخارجي الخلفي من مجموعته القصصية :" البيت بيتك".[3]
ويتبين لنا  من كل هذا أن سليم عباسي يخلط بين الأركان والشروط، أو بين الثوابت الجوهرية والتقنيات الخارجية التي تشترك فيها القصة القصيرة جدا مع القصة القصيرة والرواية والفنون السردية الأخرى.
أما الناقدة الدكتورة لبانة الموشح ، فتحصر عناصر القصة القصيرة جدا في: الحكاية، والتكثيف، والإدهاش.[4]
ويرى لويس بريرا ليناريس أن للقصة القصيرة جدا مجموعة من المؤشرات، وهي:
·                حضور عنصر  الدهشة.
·                العلاقة بين العنوان والحبكة والنهاية.
·                تركيب الجمل داخل النص.
·                اجتناب الشرح أو التوسع.
·                تنوع النهاية.
·                القاعدة السردية.
·                النص القصير جدا ليس نكتة.[5]
أما الناقد الأرجنتيني راوول براسكا فيحصر مميزات القصة القصيرة جدا في ثلاثة أركان جوهرية ، وهي:
·     الثنائية: وتتمثل في وجود عالمين أو حالتين متقابلتين في النص القصصي(حلم/يقظة، صورة حقيقية/ صورة معكوسة،...الخ). قد تحدث الثنائية بتحول مفاجئ في وجهة نظر الراوي، أو بتقديم روايتين مختلفتين لنفس الحدث.
·                المرجعية التناصية؛
·                انزياح المعنى.[6]
 
وترى الناقدة الفنزويلية بيوليطا روخو أن للقصة القصيرة جدا مجموعة من المكونات الرئيسية، وهي:
·                المساحة النصية.
·                الحبكة.
·                البنية.
·                الأسلوب.
·                التناص.[7]
 
أضف إلى ذلك، فقد ذهب الناقد المكسيكي لاوروز زافالا إلى أن خصائص القصة القصيرة جدا هي:
·                الإيجاز.
·                الإيحاء.
·                التناص.
·                الطابع التقطيعي.
·                الطابع الديداكتيكي.[8]
 
 ومن هنا، نفهم أن للقصة القصيرة جدا أركانها الأساسية وشروطها التكميلية. ويمكن استجماع تلك الأركان والشروط في  المباحث التالية:
 
المبحث الأول: المعيار الطبوغرافي:
 
نعني بالمعيار الطبوغرافي كل ما يتعلق بتنظيم الصفحة تبييضا وتسويدا، وكل ماتحويه من مؤشرات أيقونية وبصرية وعلامات سيميائية تشكيلية.وفي هذا السياق بالذات، يمكن الحديث عن بعض الأركان الطبوغرافية التي يمكن حصرها في المقاييس النقدية التالية:
 
1-  مقياس القصر:
 
ينبغي أن تتخذ القصة القصيرة جدا حجما محدودا من الكلمات والجمل ، وألا تتعدى مائة كلمة في غالب الأحوال. أي : خمسة أسطر على الأقل، وصفحة واحدة على الأكثر، لكي لاتتحول إلى أقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية بنفسها السردي المسهب والموسع. ويعني هذا أن يحترم الكاتب حجم هذا الفن المستحدث، وألا يتعدى نصف صفحة، ويختار الجمل ذات الفواصل القصيرة، والجمل البسيطة من حيث البنية التركيبية ذات المحمول الواحد.
وهذا الحجم القصير جدا هو الميسم الحقيقي لهذا الجنس الأدبي الجديد، الذي ظهر ليواكب التطورات السريعة التي عرفها العالم بصفة عامة، والمجتمع المغربي والعربي بصفة خاصة. كما يستجيب هذا الحجم المحدود ، من حيث الأسطر والكلمات، مع سرعة الإيقاع الواقعي، وكثرة مشاغل الإنسان، وتخبطه في أزمات يومية ومشاكل كثيرة، يستوجبها الظرف الزمني المعاصر؛ مما يجعل المتلقي أو القارئ لا يستطيع أن يقرأ الأعمال الأدبية الإبداعية الطويلة والمسترسلة. لذلك، يلتجئ إلى القصة القصيرة والقصيرة جدا.
 ولقد صدق القاص الفنزويلي لويس بريتو غارسيا حينما قال:" نمر بسرعة من دراما الكتاكالي التي يدوم عرضها ثلاثة أيام، إلى التراجيديا الإغريقية التي تستمر ليلة كاملة، إلى الأوبرا التي تستغرق خمس ساعات، إلى الفيلم الذي يدوم ساعة ونصف، إلى حلقة المسلسل من عشرين دقيقة، إلى الفيديو كليب من خمس دقائق، إلى الوصلة الإشهارية من عشرين ثانية، ثم القصة القصيرة جدا من ثانية واحدة"[9]
ونلاحظ أن كثيرا من الكتاب لا يعرفون كيف يتحكمون في خاصية التكثيف والاقتضاب، فيطولون من قصصهم توسيعا وتمطيطا، حتى تصبح نصوصهم المتخمة بالاستطرادات والحشو الزائد أقرب من القصة القصيرة أو الرواية القصيرة جدا. وبهذا، التطويل يعكر الكاتب  صفو هذا الفن الجديد، ويميعه فنيا وجماليا. لذا، يستسهل كثير من الكتاب هذا الفن، ويعتبرونه مطية سهلة، يمكن تطويعها في أية لحظة، استعد لها الكاتب أو لم يستعد. والآتي، يركبها الجميع، حتى الفاشلون من المبتدئين والمجربين والمستسهلين في مجال الكتابة الشعرية والسردية والدرامية.
ويعتبر القاص المغربي حسن برطال في مجموعته: " أبراج" من أكثر كتاب القصة القصيرة  احتراما للحجم القصير جدا ، ومن أمثلة ذلك  هذه القصة التي لاتتعدى سطرا واحدا:" شرب من الماء... ولما علق العود بحلقه أدرك أنه في عين الحسود..."[10] 
أما  قصص مصطفى لغتيري في :" مظلة في قبر"، فتتسم بحجمها المتوسط الذي لا يتجاوز نصف صفحة، ماعدا نصين يستغرقان تقريبا الصفحة الكاملة، وهما: "الأسير"، و"كابوس".
أما نصوص الزهرة رميج في مجموعتها القصصية القصيرة جدا:"عندما يومض البرق" ، فتتميز في معظمها بالطول المسهب، والانسياب المسترسل، وتستغرق صفحة كاملة، كما يتضح ذلك جليا في قصتها: "واجهة":
 
" كل الطلبة منهمكون في الإجابة عن أسئلة الامتحان ماعداها.آخرون يحاولون... لكنها أكثرهم إصرارا.
تحرك رأسها في كل اتجاه...تهمس إلى مجاوريها، فينهرها الأستاذ:
- إذا كان غطاء رأسك يحول دون سماعك لصوتك، فإن أذني تسمعان دبيب النمل!
الوقت يمر وهي على حالها ، تتربص بإجابات الآخرين تربص الوحش بفريسته.
لم يبق الآن، سوى بعض الطلبة المتناثرين في القاعة. دائرة فارغة تحيط بها...لاأمل في تلك اللحظة الأخيرة التي يختلط فيها الحابل بالنابل!...
أخيرا، سلمت الأستاذ ورقة تحريرها.ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة وهو يقرأ ما كتبته أعلى الصفحة بخط عريض أحمر:" بسم الله الرحمن الرحيم.عليه توكلت وهو المعين"."[11]
 
وعليه، فهناك ثلاثة أنواع من الكتابة في مجال القصة القصيرة جدا على مستوى الحجم: كتابة قصيرة جدا، وكتابة متوسطة، وكتابة طويلة ومسترسلة.
 
2- مقياس الترقيم:
 
من أهم مكونات القصة القصيرة جدا الاهتمام بعلامة الترقيم، وتطويعها سيميائيا لخدمة أغراض الكاتب، ونواياه الإبداعية والتصورية . ونلاحظ في الكثير من المجموعات القصصية القصيرة جدا ثلاث ظواهر بارزة:
أولا: هناك من يتحرر من علامات الترقيم ، ويرفض الوقفات المفرملة، والفواصل المسيجة التي تحد من التدفقات الشعورية والتعبيرية، ويتمرد عن ضوابطها ثورة وانزياحا وجرأة، كما في قصة:" بدون" لعز الدين الماعزي:" دخل الحمام بقفته الفوطة الملابس الداخلية صابونة مشطا محكا وشامبوان...
نزع ملابسه ثوبا ثوبا ودخل للاستحمام.
 جاء الكسال دعك أطرافه جره جذبه ثناه طواه حمله وضعه أسنده كتم أنفاسه أفرغ عليه الماء وخرج التفت وجد نفسه بدون...."[12]
 
ثانيا: هناك من يحترم علامات الترقيم أيما احترام، ويستخدم وقفاتها الإملائية ، وذلك في سياقاتها الملائمة، ويضعها في أماكنها المناسبة، كما في قصص : " الخيل والليل" للحسين زروق:
 
" الابن: أماه أين أبي؟
الأم: مسافر ياولدي.
الابن: ومتى سيعود أماه؟
الأم: لاأدري ياولدي.
وبعد شهور...ومع استمرار الحرب.
الابن: أماه لماذا لم يعد أبي؟
الأم: لاأدري ياولدي.
بعد سنة...والحرب تزداد شراستها...
الابن: لماذا لانسافر أيضا يا أماه؟
الأم: ربما نفعل يا ولدي.
الابن: ومتى يا أماه؟
الأم: لا أدري يا ولدي.
وفي أول غارة كان القصد منها شل الحركة الطبيعية للأحياء سافر الابن ولم تضع الأم مزيدا من الوقت... بل سارعت لشراء تذكرة سفر... صارت تملك بندقية"[13]
 
ثالثا:هناك من يوفق بين الاتجاهين احتراما وتحررا. أي : يتصرف في هذه العلامات الترقيمية، ويطوعها لأغراض فنية وجمالية ومقصدية، ويكتفي ببعض العلامات تركيزا وتبئيرا، مثل: علامات الحذف والفاصلة ، كما هو حال فاطمة بوزيان في مجموعتها القصصية:" ميريندا":
 
" كان يوسف يحب الطائرات...
سمع الكبار يتحدثون عن طائرات دمرت أبراجا عالية فمزقها
وأحب يوسف صناعة الزوارق...
سمعهم يتحدثون عن زوارق الموت فأغرقها في الماء
راح يلعب في سيارات صغيرة...رأى في التلفزة سيارات تنفجر ودماء ودموعا فهجر اللعب، وقال إخوته:
- كبر يوسف!"[14]
 
ويلاحظ كذلك أن كثيرا من كتاب القصة القصيرة جدا يكثرون من علامات الحذف الثلاث والفاصلة، وذلك  من أجل تحقيق التكثيف والإيجاز والاقتضاب ، وخلق الجمل القصيرة المتراكبة والمتتابعة سرعة وإيقاعا.
فالكاتب  عزالدين الماعزي في مجموعته:" حب على طريقة الكبار"  يميل كثيرا إلى  الإضمار والحذف ، وذلك عن طريق تغييب علامات الترقيم التي لا تظهر إلا في حالات قليلة. أما أهم علامة تحضر لديه بشكل لافت للانتباه هي علامة الحذف بنقطها الثلاث. وهذه الخاصية الترقيمية إن دلت على شيء، فإنما تدل على الإيحاء والتلميح والإخفاء ، وإسكات لغة البوح والاعتراف و الامتناع ، وذلك عن توضيح الواضح وفضح الفاضح. والآتي، أنها تحرك هذه العلامة الترقيمية  مخيلة القارئ، وتحفزه على التفكير والتخييل، والإجابة عن الألغاز المطروحة، وذلك  في سياقاتها المرجعية، وأبعادها الانتقادية.
هذا، ويشغل عبد الله المتقي في مجموعته" الكرسي الأزرق"  علامات الحذف الثلاث ، مع توظيف علامة الاستفهام قصد دفع القارئ إلى التخييل ، وتدبر الجواب، وملء الفراغات بأجوبته الافتراضية والممكنة، كما في قصته  التي تدور حول السينما التي يهرب إليها الشباب والكبار على حد سواء ، للتنفيس عن مكبوتاتهم، والالتحام مع الخطاب الجسدي الذي يجسده الفيلم السينمائي. وهنا ، تتحول قاعة السينما إلى فضاء الاستهتار والاستمناء:" أطفئت مصابيح القاعة....خيم الصمت....وبدأت أحداث الشريط الفاحشة....الأجساد العارية....القبل....مايشبه اللهاث....و.... سقطت نقطة ساخنة على حافة صلعته...تحسسها بأصابعه...كانت لزجة ودافئة...
-        تفو!
-        وانسحب من القاعة....
-        فقط، كان يشعر بتفاهته".[15]
و نجد حسن برطال أيضا في مجموعته " أبراج" يكثر من علامات الحذف، والنقط المتتالية الدالة على حذف المنطوق، واختيار لغة الصمت والتلميح، بدلا من التوضيح وتفصيح ماهو واضح؛ لأن الواضحات كما يقال من الفاضحات. وتعمل نقط الحذف  على إثارة المتلقي، ودفعه إلى التخييل ، وتصور المحتمل، والبحث عن الجواب الصحيح ، وإيجاد الحلول الممكنة للأسئلة المطروحة؛ لأن الأسئلة كما يقول الفيلسوف كارل ياسبرز أهم من الأجوبة.
 ويكثر الكاتب المغربي حسن برطال من نقط الحذف ليخلق بلاغة الإضمار والصمت، بدلا من بلاغة الاعتراف والبوح التي نجدها كثيرا في الكتابات الكلاسيكية شعرا ونثرا. يقول الكاتب متوكئا على بلاغة الحذف ملمّحا إلى الموت وبشاعة القتل البشري:" قابيل دفن أخاه...الغراب دفن أخاه....والذي قتل بغداد دفن نفسه".[16]
هذا، ويستلزم الفراغ النقطي قارئا ذكيا لما يكتبه حسن برطال، لأن قصصه قنابل موقوتة، يمكن أن تنفجر في أية لحظة، يحتك فيها المتلقي بأسلاك قصصه القصيرة جدا، والتي على الرغم من حجمها الكبسولي، تحمل في طياتها أسئلة كثيرة ، وقضايا إنسانية شائكة.
ويلاحظ  في  مجموعة" ميريندا"  لفاطمة بوزيان ظاهرة الانسياب السردي،  والتحرر من علامات الترقيم  التي تتحول إلى علامات معطلة وسالبة في كثير من الأحيان ، أو تتحول إلى علامات الحذف والإضمار كما في قصة:" ماسنجر" مثلا.
 والسبب في تعطيل علامات الترقيم في كثير من قصص المجموعة، ربما يعود إلى رغبة الكاتبة في التحرر من شرنقة الإملاء والفواصل المفرملة للأفكار والعواطف، والانسياق أيضا  وراء اللاشعور الوجداني الذاتي،  مع ترك التخيلات السردية  تنساب بدون تقييد، أو وضع للحواجز التي تكبح اللغة وتسلسل المعاني.
 
4- مقياس التنوع الفضائي:
 
تتنوع الفضاءات البصرية للقصة القصيرة جدا إلى فضاءات متنوعة، يمكن تصنيفها حسب الشكل التالي:
 
-  فضاء الجملة الواحدة: كما في قصة :" المستبد" لجميل حمداوي:" استيقظ الحاكم المستبد،يوما، فلم يجد شعبه..." [17]؛
- الفضاء المسردن: وهو الغالب على القصة القصيرة جدا، كما في هذه القصة السردية التي يطغى فيها السواد على البياض:
 
" ينظر مليا إلى رسم كاريكاتوري على جريدة ويبتسم
" حذاء الوزارة على رأس النيابة، حذاء النيابة على رأس المدرسة،
حذاء المدرسة على رأس الأب..." فإذا بحذاء الأب يكاد يقتلع رأسه:
- " نوض تحفظ المسخوط"[18]
 
 - فضاء القصيدة الشعرية: مثل ما نجد عند سعيد بوكرامي، الذي كتب قصة قصيرة جدا تشبه الشعر المنثور:
 
" عاد بلحية خفيفة كغيفارا
أحب أن يعود طبيبا
لكن موسكو تريده أن يعود
قي نعش.
صامت يبتسم وحين يتعب
يتشرد في الذكريات
لماذا تحول إلى نحورنا؟"
 
- فضاء الكتابة الدرامية: كما في هذه القصة للحسين زروق، وهي من مجموعته : " الخيل والليل":
 
" الابن: أماه أين أبي؟
الأم: مسافر ياولدي.
الابن: ومتى سيعود أماه؟
الأم: لاأدري ياولدي.
وبعد شهور...ومع استمرار الحرب.
الابن: أماه لماذا لم يعد أبي؟
الأم: لاأدري ياولدي.
بعد سنة...والحرب تزداد شراستها...
الابن: لماذا لانسافر أيضا يا أماه؟
الأم: ربما نفعل يا ولدي.
الابن: ومتى يا أماه؟
الأم: لا أدري يا ولدي.
وفي أول غارة كان القصد منها شل الحركة الطبيعية للأحياء سافر الابن ولم تضع الأم مزيدا من الوقت... بل سارعت لشراء تذكرة سفر... صارت تملك بندقية"[19].
- الفضاء الشذري أو المتقطع: يتراوح  الفضاء في القصة القصيرة جدا بين فضاء كبسولي متجمع في وحدة منسجمة ومتسقة، و فضاء متقطع ومتشذر في مقطوعات ومتواليات سردية متجزئة، كما في مجموعة الحسين زروق:" الخيل والليل".
ونعني بالتقطيع البصري  عملية التجزيء والتشذير والتقسيم . أي: تقطيع القصة القصيرة جدا،  إما بتقسيمـها إلى مقاطع نووية متكاملة فيما بينها دلالة ومقصدية، وإما تقطيع الكلمات إلى حروف وأصوات ومورفيمات لسانية.
فهذه الكاتبة المغربية وفاء الحمري تستعين بالتشكيل الحروفي المتقطع كما في قصة :" كتاب":[20]
 
" قرأ الكتاب العالمي (كيف تصبح مليونيرا) إلى نهايته...
وضعه برفق تحت الحصير...
بحث على ضوء شمعة عن كتاب الواقع
قرأ ماتيسر منه
و
ن
ا
م"
ويقع التقطيع عن طريق تمديد الكلمات، وتوسيعها تشكيلا ودلالة، كما فعلت الكاتبة المغربية سعدية باحدة ، حينما مددت من الكلمات والحروف بصريا وأيقونيا ، للتعبير عن سخريتها وانفعالاتها وموقفها من الأحداث المروية،  كما يظهر ذلك جليا في قصة" جرد"، وقصة" انتكاس":
 
" هنااااااااااااااااااااااااااااك
مازالت بينيلوب مشتعلة/منشغلة
...
وتلمبع طيور أل فرح الصدئة...
منخووووووووووووووووورة
مت ----------------------عبة
..."[21]
إذا، ثمة فضاءان أساسيان: فضاء كبسولي متسق ومنسجم عضويا وموضوعيا، وفضاء متشذر ومتقطع كتابة ومتوالية.
 
 
المبحث الثاني: المعيار السردي:
 
يرتكز المعيار الشكلي أو الفني أو الجمالي لفن القصة القصيرة جدا على مجموعة من المقاييس، التي يخضع لها هذا الفن المستحدث في أدبنا العربي الحديث والمعاصر. ومن أهم المقاييس التي ينبني عليها المعيار الشكلي، نستحضر المقاييس الفنية التالية:
 
1- مقياس القصصية:
 
تشترك القصة القصيرة مع باقي الفنون السردية، كالأقصوصة والقصة القصيرة والرواية والرواية القصيرة، في الانطلاق من الفكرة، ومعالجتها من خلال أحداث مركزة، تؤديها عوامل وشخوص معينة وغير معينة ، وذلك في أفضية محددة أو مطلقة ، مع الاستعانة بالأوصاف المكثفة أو المسهبة ، وذلك عبر منظور سردي معين ، ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعة وبطءا ، مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة، للتعبير عن رؤية فلسفية ومرجعية معية.
وإذا افتقدت القصة القصيرة جدا مقوماتها الحكائية، فإنها تتحول إلى خاطرة أو مذكرة انطباعية أو نثيرة شعرية...
ومن شروط هذه القصة أن تخضع لفاعلية القراءة، ومستلزمات الاتساق والانسجام والبناء الحجاجي مراعاة أو انتهاكا.
وهكذا، تكتمل - مثلا - في مجموعة عزالدين الماعزي النزعة القصصية والتخطيب السردي الحكائي. ونعني بهذا أن قصصه الرمزية والتقريرية معا تتوفر فيهما  الحبكة السردية والنزعة القصصية، وذلك  بمكوناتها الخمس: الاستهلال السردي، والعقدة الدرامية، والصراع، والحل ، والنهاية . وقد تكون هذه النهاية مغلقة معطاة، أو مفتوحة يرجى من القارئ أن يملأ فراغ البياض ونقط الحذف ، وذلك عن طريق التخييل والتصوير، واقتراح الحلول الممكنة. ويا للعجب العجاب! فما تقوله قصة من قصص الماعزي الموجزة  في أربعة أسطر أو صفحة واحدة  من الحجم المتوسط،تعجز كثير من الروايات الكلاسيكية والحداثية  بصفحاتها الطويلة، ومجلداتها المتسلسلة، أن تقوله بوضوح و جلاء  وروح شاعرية فكاهية مقنعة. ومن هنا، نرى أن القصة القصيرة جدا ستكون جنس المستقبل بلا منازع، مع التطور السريع للحياة البشرية، والاختراعات الرقمية الهائلة، وسرعة الإيقاع في التعامل مع الأشياء وكل المعنويات الذهنية والروحية.
ومن أمثلة النزعة القصصية المحبكة بشكل متكامل ، وذلك في صياغة الأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور والزمن والسجلات اللغوية والخاصية الوصفية، نذكر قصة: (حذاء شطايبه):" يضع شطايبه قبعته نظارته السوداء يهيم في الشارع يخيط بعينيه أرداف الفتيات ويمسح غبار الأزقة وكراسي المقاهي.
لا يدري شطايبه الذي أصابه إنه قلق منقبض كتوم...
شطايبه يضع صندوقه في يده يتابع سيره بين المقاهي يتطلع إلى الأحذية التي تود المسح... وهو في طريقه يصطدم مع كلب هو الآخر يبحث عن عظمة أو فتات أمام باب مقهى يلتفت إليه ينهره يرفع رجله ليضربه يرفع الكلب أذنه تظهر أنيابه يفتح فاه يزمجر الطفل يغضب الكلب يرفع رجله يتلقاه الكلب فيلقم حذاءه يهرب الكلب بالحذاء يرمي شطايبه الصندوق يجري ويجري يضيع الصندوق والحذاء..." [22]
ويبدو لنا أن هذه القصة تتوفر على مقومات الحبكة القصصية من أحداث، وفواعل، وفضاء سردي، ومنظور،  ووصف، وأسلبة، وتزمين.
 
2- مقياس التركيز:
 
نعني بخاصية التركيز أن تنبني القصة القصيرة جدا على الوظائف الأساسية  والأفعال النووية، مع الاستغناء عن الوظائف الثانوية والأفعال التكميلية الزائدة والأجواء المؤشرة الملحقة والقرائن الظرفية المسهبة. أي: إن على المبدع أن يشذب الزوائد المعيقة، ويبعد عن نصه كل الفضلات والملحقات التي لاتخدم الحبكة القصصية بأي حال من الأحوال. ويعني هذا أنه من الأفضل للمبدع أن يركز على الأفعال الإسنادية التي تكون بمثابة العمدة، ويجتنب قدر الإمكان الفضلات القائمة على التوسيع والإسهاب والتمطيط. كما ينبغي عليه أن يبتعد قدر الإمكان عن التفصيلات المتشعبة، ويكتفي إن اقتضى الأمر بالتفصيلات الجزئية المختزلة التي تخدم النص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق