الصفحات

2011/09/25

لحنٌ حالمٌ لعصافير ضوء حول المجموعة الشعرية الأولى للشاعر علي الهاشمي

لحنٌ حالمٌ لعصافير ضوء
حول المجموعة الشعرية الأولى للشاعر الشاب علي الهاشمي
أحمد الشادي
شاعر وكاتب عراقي مستقل

الناي يذرف دمعه
في خاطري
وأنا غدوت أنينه وأنا النغم
بهذه الجملة الشعرية أقدم الشاعر العراقي الشاب (علي عبد السلام الهاشمي) وباكورة أعماله الشعرية (عصافير ضوء) التي صدرت مؤخراً في دمشق عن دار (تموز ـ رند)برقم الايداع 1024 لسنة 2011 في دار الكتب والوثائق ببغداد والتي تتكون من 124 صفحة من القطع المتوسط، ضمت بين دفتيها 23 قصيدة متنوعة بين قصيدة (عمودية، تفعيلة، وقصيدة نثر) وقدَّم لهذه المجموعة الشاعر والناقد الدكتور (حمد محمود الدوخي) الذي أقتبسُ هنا قوله (( إن الكتابة بكل أشكالها ـ وعلى عليّ أن يستحضر ذلك دائماً ـ تشبه عملية التثقيب الأولى لقصبة الناي ، فبعد التثقيب لا تكتمل اللعبة بل تبدأ )) لكن عليّ صاحب الثلاثة والعشرين ربيعاً كعدد قصائد مجموعته ـ ولا أعلم هل جاء ذلك قصداً أم مصادفة ـ قدم إلى الساحة الشعرية كقطارٍ مسرع تسبقه صافرة قوية تعلن للآخرين حجم الإبداع الذي يكتنزه هذا الشاب المندفع بقوة وثقة ، إن من يعرف عليّاً يعلم أن له إضافةً للشاعرية والموهبة حاسة خاصة للالتقاط وذكاءً بيِّناً في الاستيعاب وطريقة خاصة في إعادة الإنتاج ، فهو يكتب ما يريد ممزوجاً بالحزن تارة وبالحب تارة وبالغضب تارة أخرى حيث تتحول المشاهد اليومية التي تمثل حياتنا ومعاناتنا وعراقيتنا الموغلة في التناقضات إلى عصافير تطلق أنغامها وتطير إلى عين الشمس لتتحول إلى عصافير ضوء كما أراد لها في عنوانه الجامع لقصائد المجموعة ، وعنوانه هذا ذو شقين فالعصافير صغيرة الحجم لكنها تلهم الشعراء بغنائها وموسيقاها ، وربما حملت مفارقة في أن شاعرنا لصغر سنه يشير إلى أنه يحتضن عصافيره وعلى الرغم من صغرها إلا أن كلمة ضوء المرادفة أعطت لهذا العنوان قوته الإيحائية الخاصة إضافة لدفقة شعرية فياضة تنير لنا بعضاً من جوانب الإبداع لهذا الشاب .
أما عناوينه الداخلية التي حملتها قصائد مجموعته فهي تتوزع على خارطة الحركة ومساحة الضوء الذي تطير به وفيه هذه العصافير الغضة، فخذ مثلاً ( حبيبتي وكأس دموعها ، وردة في كفن ، قواميس عزاء ، غصن الدموع ، إلى أبي الشهيد ، أشجار النزف ، غيميَ المثقوب ) فمن يتأمل هذه العناوين يرى نبرة الحزن الطاغية على العكس من عناوين غيرها مثل ( تعالي ، الليل الأبيض ، مرسى الصباح ، مهرة البوح ، نسمات ذكرى ، قبليني ، لحسناء ، تذكرة ) فهي تحمل روح الشباب وصوت الحب ، ولقد استوقفني بالإضافة لعنوان المجموعة عنوانان من عناوين قصائده فهما موحيان وشعريان ويحملان دلالات متعددة وعميقة فعنوان قصيدته (لا تخرجي من رأس أمسي) يناجي فيه طيف حب قديم يدق باب أفكاره وذكرياته بعنف وهو لا يريد له إلا أن يظل حبيس ذكريات الأمس لكن المفارقة أنه يتشتت بين قلبه ورغبته هذه . هذا ما توضحه لنا قصيدته وتهويمات إيماءاته عبرها .
أما العنوان الثاني الذي استوقفني أيضاً فهو (أمشط ليلي بضوء) فالإيحاء هنا كبير جداً وذو طاقة شعرية هائلة ، فعملية تمشيط الليل بالضوء فيه إصرار على تحدي العتمة واكتشاف المجاهل التي يَجنّ عليها الليل فيخفيها عن العيون ويحمل أيضاً الرغبة الأكيدة بصناعة الواقع الخاص لذا تراه في ختام قصيدته هذه يقول :
أحب جميع أحزاني فلولا             دموعي لم أعش أبداً شبابي
فإن كان العنوان هو البهو الذي ندلف منه لاستكشاف النص ومسالكه كما يقول (بورخيوس) فلننطلق مع عصافير عليّ الهاشمي في فضاءاتها الضوئية لنتعرف على الجوانب الإبداعية في شعره .
في البدء تطالعك (عصافير ضوء) بثنائيات متلازمة تتلمسها في جميع القصائد التي ضمتها كـ(ثنائية الزمان والمكان ، ثنائية الحزن والحب ، ثنائية الوطن والانتماء ، ثنائية القدوة والأنا الإبداعية ، ثنائية الرمز والحبيبة) حيث تتلازم هذه الثنائيات حتى آخر قصيدة في المجموعة حيث يقول في خاتمتها وخاتمة المجموعة معها :
من أين أبدأ
والنهار مزيف بالضوء والبسمات
والحرمان يجلس فوق أعتاب الزمان
والعشق أطفأ كل أحلامي
إذ منذ كان
ولادة الزمن المريض
كنت وحدي
كيف لي
أنا كيف أدخل بيت شعري
كل النوافذ أوصدت أبوابها
لا بيت عندي
وهنا انتهى عليّ لكنه يبحث عن البداية ويسأل من أين يبدأ ، وهو لا شك قد بدأ لكنها ـ هذه المتلازمات ـ لا تنفك حتى آخر بيت أو جملة شعرية .
والمكان يمثل عند عليّ الانتماء إضافة للدلالة المكانية والتاريخية وهنا يبرز اسم (العراق) واسم (بغداد) وإلا فبم نفسر قوله :
الناس في دمهم أصنافُ أربعة             لكنني غيرهم بغداد صنف دمي
أو قوله في ذات القصيدة :
عراقُ غصن طريّ فوقه قمرٌ            يجلو الظلام إذا ما سار في الظلم
وللزمان دلالات أخرى عند الهاشمي تنتظم في المكان المتحول أو المفترض المتخيل حيث يقول :
ورسمت في المرآة
وجه شتائنا
فكأنه صيف
أما الحزن فتراه ينتظم في سلك قصائده كلها التي ضمتها مجموعته ، وهذه ميزة عراقية واضحة في الشعر والغناء والموسيقى ولا غرابة إذا قلت إننا كعراقيين نقلناها معنا دائما حتى في قراءة القرآن فالمقامات التي يقرأ بها القراء العراقيون تستجيب لهذا الدافع استجابة عميقة فإذا شذ منها مقام كالماهوري مثلاً جعلناه لقراءة القرآن في الأعياد فقط ، فكيف وظف الهاشميّ هذه المزية العراقية ؟ لقد انتظم الحزن قصائده كلها فهو يلازم الحب والعاطفة ، ويلازم الأنا الإبداعية حتى أنه لازم قصيدته في مدح أشرف الخلق رسولنا محمد r حيث قال :
يا سيدي أشجار نزفي قد نمت
قوله هذا ذكرني بإحدى رسائله لي عبر الهاتف النقال وهو يزور في العيد مع أسرته مقبرة مدينته حيث قال ((لو كنت معي الآن ..... لعرفنا معاً بأن الحزن جذر في العراق أصله ثابت وفرعه في الدماء)) لذا ترى ذلك ينعكس في عنواناته وتجد في قصائده عبارات مثل ((نهرنا يجري دموعاً، جثث كالدمع في خد الشوارع ، نامت عليه شظايا بحر أيتامي ، قلبي تمزقه سكاكين الألم ، وغداً سأبكي عن غدي ، وأنا أصبح للأحزان خلا ، آه فؤادي ضاع في أحزانه)) فالحزن قضية لا تخطؤها العين في شعر عليّ وهنا أود الإشارة إلى قصيدته التي اختلطت فيها عاطفته الجياشة بفنية الشعر ومسالكه فأجاد فيها أيما إجادة وهي (إلى أبي الشهيد) فأبوه (رحمه الله) طيار مقاتل غاب عن بيته وأهله في زحمة الحروب التي مرت علينا ولم يعثر على رفاته ، ولا يعرف عليّ عنه إلا حكايات والدته التي اجتهدت أن تربيه على نفس قيم وروح الشرف التي ضحى من أجلها والده، ولم ير عليّ من والده إلا صوره التي تحتفظ بها عائلته ، ومن يقرأ قصيدته هذه لا يملك دموعه ولا يستطيع إخفاء إعجابه بالإتقان الشعري الذي نسج به عليّ قصيدته :
الكلُّ يسأل عن أبي
وأبي يلوِّحُ من بعيد
إني هنا
لا لم أمت
فأنا شهيد
وحين يشكو عليّ قسوة الدهر يتمنى حضور والده ولو طيفاً في أحلامه :
زرني بأحلامي فقد زاد الأسى
يا والدي أنت الصباح بشمسه
أنت المسا
أوَ لستَ تدري الدهر بعدك كم قسا ؟؟
أما معنى العشق والحب والغزل والحبيبة فلا شك أنها أخذت نصيبها من شعر عليّ ، ولا شك أيضاً أنها الدافع الذي دفع الكثيرين لسلوك طريق الشعر واحترافه آملين صياغة عواطفهم المتأججة وما تمليه لواعجهم بطريقة فنية تليق بالحب كعاطفة راقية كما يقول (دانيال غرانين) الشاعر والروائي الروسي ، وعليّ يرى الحب ريحاً تهدم وتعصف وتحدث آثارها الخاصة :
حسناء .....
تهدم سور حزني
توقظ الريح التي اختبأت بأوراق الرماد
ويقول في موضع آخر :
الحب ملجأ يُتم أحرفنا
وهذا القلب صار فتات أكوام
من الزمن المدجج بالصياح وبالنعيق
أما جرح عراقنا فهو الآخر يحتل مكانة كبيرة بلغة عليّ العالية النبرة وهو يحيل مشاهد الحزن اليومي إلى شعر :
للنائمين على الحجارة
للذين تشردوا
بين الديار
للطفل حين يبيع منشفة
تُعَبَّأ بالبُكا للدامعين على الدمار
ولكن عليّ يأبى ويتحدى كل هذا الواقع الأليم الذي فرضه الدمار لينقل قوة الحياة والإصرار حيث يقول في نفس القصيدة :
سنعيش ......
حتى لو بقطرة ما تبقى من دم
سنعيش ......
حتى لو بقلب مستعار
سنعيش ......
حتى دون دار
سنعيش .... من أجل التراب
وسنحمل الحلوى إلى كل اليتامى
ونوزع (الحلقوم) من باب لباب
وهنا نلاحظ استخدامه لمفردة عامية عراقية بذكاء فالحلقوم حلوى يعشقها الصغار .
وعليّ الذي أكثر من الأنا الإبداعية في قصائد مجموعته وأعطى لها أهمية إبداعية إضافة للذاتية الموضوعية غير المتعسفة وغير الأنانية لم ينسَ وهو الباحث عن القدوة أن يوجه من خلال قصيدته (إلى أشرف الخلق) رسالة القدوة الصالحة والأسوة الحسنة وقصيدته هذه من أجمل قصائد المجموعة فناً ومضموناً كما أرى .
أما أبرز قصائد مجموعته والتي تؤشر عمق موهبته ونضوجه الشعري قصيدة (تذكرة) وقد فازت هذه القصيدة بالمركز الثاني في ملتقى14 تموز في بغداد للشعراء الشباب دورة الشاعر الكبير(محمد علي الخفاجي) وهنا أقتطف منها ما أختم به كلامي عن (عصافير ضوء) :
أهواكِ حدَّ ثمالة الكلمات
في شفتي
فيا ليت الثمالة مغفرة
كوني فداءً للحكاية
نرتدي بعضاً
لأن الغيم كبَّلَ أنهره
لا تطفئي ليلي
فقنديل الكلام
يخاف أن أبكي النهار وأخسره
وخاتمة القول لقد صدق حدسي يوم بشرتُ بعليّ بين أوساط أهل الأدب ممن أعرفهم وهذه دعوة مني لقراءة مبدع عراقيّ آخر ستكشف الأيام كيف سيبني موقعه على خارطة الشعر العربي بوعيه وبشاعريته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق