الصفحات

2011/09/30

ترنيمة الوجع العراقي قراءة في رواية "نساء العتبات" لهدية حسين

ترنيمة الوجع العراقي
قراءة في رواية "نساء العتبات" لهدية حسين
هشام بـن الـشاوي*

 بالتأكيد، يحتاج المبدع إلى وجود مسافة زمنية حتى يكتب عن الأحداث الكبرى، كالثورات والحروب..  ولن نستغرب إن وجدنا الكاتبة العراقية هدية حسين تذيّل روايتها الصادرة حديثـا عن دار "فضاءات" الأردنية بأنها كتبت عام  2009، فهل كانت تحتاج إلى كل هذا الصمت (التأمل؟) حتى تكتب عن مهزلة احتلال بلد عربي في القرن الحادي والعشرين؟  
كما يقال : الصورة بألف كلمة، لهذا نفضل متابعة الأخبار عبر الشاشات، حيث تتوالى الصورُ مشكّـلة مَشاهدَ تقارير إخباريّةٍ. لكن أغلب المَشاهِد تتوارى في عتمات الأرشيف في ظل عالم تراجيكوميدي في ديناميكيته فننساها بسرعة !!،  لذا نرى هدية حسين تنكأ جراحنا، وهي تنتشل تلك المشاهد الأليمة من تلك المنطقة المعتمة في ذاكرتنا، والتي عايشتها بطلة روايتها (أمل مصطفى) من الأردن،  وكانت تدوّن عناوين الأخبار في دفتر خاص، وهو ما كان يثير استغراب خادمتها جمّار... وسرعان ما تطفئ التلفزيون، حيث لا تتحمّل رؤية مشاهد  الدمار والجثث، وعويل الأرامل واليتامى.
ولأن تاريخ صلاحية التقارير الإخبارية المصوّرة ينتهي بسرعة، ولا يمكن مشاهدتها مرة أخرى.. إذ ستشعر بالملل والتأفف عند رؤية ما سبق   رؤيته، يحتاج الكاتب الروائي إلى تأنٍّ، صبر وحنكة سردية، وهو يعيد تشكيل ما سبق رؤيته وفق قالب درامي إنساني.

***
"نساء العتبات" رحلة سردية، تروى على لسان البطلة، عبر  لغة شاعرية، ومن خلال بناء دائري، حيث تبدأ بمغادرة عمّان،  وتنتهي بالوصول إلى بغداد، وتتوسل الكاتبة بالتذكر والاستباق أحيانا لتكسير تراتبية السرد،  حيث تتدفق مشاهد حياتها السابقة كشريط سيء الإخراج، ولن يدرك القارئ تلك الحيلة الفنية إلا في الفصل الأخير.
في البدء،  تتذكر أمل مصطفى قرار زوجها جبار منصور (أحد قادة الحرس الجمهوري) بترحيلها إلى الأردن، دون معرفة سبب ذلك، وتستحضر معارضة أمها زواجها منه، لأنه يكبرها بثلاثين عاما، ولأنه عسكري ("اسمعي.. العسكريون إما جلادون وإما ضحايا، ولا أظن هذا الذي يحمل النجوم الزائفة على كتفيه يمكن أن يكون ضحية". ص : 43)، وستخفت دهشة حياتها الجديدة، لتكتشف أنها سجينة قفص مخملي، وتحس بالملل القاتل، ولن تجد سلوى  سوى في قراءة الكتب، وتعلم من أخته أم لؤي أن زوجته الأولى ماتت بحسرتها وأن ابنه هجره وفضّل العيش في المنفى.
في عمّان، يستقبلها وجمّار الشاب العراقي  زهير، ويصطحبهما بسيارته إلى شقة فارهة في منطقة تلاع العلي، وتمنع أمل خادمتها من الحديث مع الشاب، حين حاولت معرفة سبب مغادرتهما العراق :
"-  لا تتحدثي مع الغرباء بهذه الطريقة.
أسرعت للقول.
-   غرباء؟ إنه عراقي مثلنا، و...
قلت لأسدّ مجرى الكلام :
-   كفى.. إنه مجرد سائق لا نعرف عنه شيئا" (ص : 38).
تحس أمل أنها استعادت حريتها، فلا رقيب يعد عليها أنفاسها، ولا أسوار تعيق حركتها ولا كاميرات خفية تراقبها... تمشي في  طرقات عمّان، وتكتشف   زوايا المدينة بلا دليل.. تدخل الأسواق والمتاجر و"المولات". هكذا تنفرد بذاتها بعيدا عن أسوار القصر وحرّاسه، وتتحرر من أشباح الأزقة القديمة، التي تقتحم خلوتها، وتكتشف الكثير من معالم البلد، وتعشق "وسط البلد"  بمكتباته وأكشاكه، أسواقه ودكاكينه، ويذكره صخب المكان بصخب الباب الشرقي مركز مدينة بغداد، وتشعر بحاجة إلى ضياع آخر يرافق طمأنينة المدينة المستقرة على الجبال.
مع برودة عمّان،  يبدأ القلق في التسلل إلى حياتها الجديدة إزاء صمت جبار واختفاء الشاب العراقي، وتحس بالندم لأنها اشترت أغراضا لا تحتاج إليها، وتفكر أنه كان عليها تقنين المبلغ، وهي تتساءل : "ماذا يحدث في كواليس العراق؟ هل ستبدأ الحرب فعلا أم أنها مجرد تلويح لإخافة النظام؟" وهي تتابع الفضائيات، وتتذكر حكاية المعلم محمود، الذي اهتدى إلى وسيلة لسحب البث الخارجي، فوشى به أحد الجيران، واعتقل تسعة أشهر، وفصل من وظيفته، واشترى مركبا ينقل به الركاب، وحين سرق مركبه لم يتقدم بأية شكوى، وصار يبيع أغراض بيته ليطعم زوجته وأبناءه الثلاثة، حتى جاء اليوم الذي رحل فيه من الزقاق  إلى جهة غير معلومة...
 وهكذا  تهتدي الساردة إلى بيع بعض مجوهراتها، وتبدأ في متابعة الأخبار، متنقلة بين الفضائيات، حيث التظاهرات التي "تندد بالحرب وتطالب أمريكا بعدم الإقدام على مثل هذه الحماقة"، وتدهشها خادمتها، الخمسينية الأميّة بقولها : "وماذا فعلت التظاهرات في حرب الكويت؟. إيه.. الحكّام يفعلونها والفقراء يأكلون التراب."( ص : 61). وحين تسألها أمل إن قتل أحد أفراد عائلتها في الحرب، ترد :" كلا.. ألم أقل لك إنني مقطوعة من شجرة؟ ولكن تريدين الحق، كل واحد مات بالحرب هو بمثابة ابني أو أخي.. كانت حربا لا داعي لها من الأساس.
سحبت نفسا عميقا وقالت :
-   أنا لا أفهم في السياسة ولكنني أعرف أن الكويت دولة عربية مسلمة، وكان رئيسنا يكرر دوماً بأن العرب إخوة، فكيف يغزوهم؟ لقد "قشمرنا" وأدخلنا حربا أحرقت اليابس والأخضر.. ألم تكفه ثمانية أعوام من الحرب مع إيران؟" (ص :61).
وجاءت الحرب الثالثة، وسحبت آخر خيط  أمل، وتبدأ أمل في تدوين عناوين الأخبار، ولا تملك جمّار سوى الدعاء لأهالي بلدها،  وتستحضر الساردة مشاهد  الاختباء في  الملجأ،  وأمها التي كانت تحشرها بين النساء خوفا من ملامسة أحدهم، وتستحضر سخريتها منها لأنها كانت تسارع إلى احتواء كتبها : " كتب؟ تخافين على الكتب ولا تخافين على نفسك؟" (ص :  78)، و تمعن هدية حسين في تعرية تداعيات الحرب، حيث تتذكر  الساردة الطفلة/ أمل رؤية رجل يبحث عن بقايا الطعام في القمامة، مزاحما القطط، وتتذكر  فطومة، التي تمنت في الملجأ الموت بصاروخ للخلاص من حياتها، وهي امرأة،  وحيدة بائسة، لم تكن تكلم أحدا، ولا تلقي التحية على نساء العتبات.. فبادرتها إحداهن بالسؤال عما تحمل في صرتها، ودعتها للجلوس. 
كانت تلقب بأم الشهيد، وحين رفض ابنها الثاني المشاركة في الحرب مع إيران - وكانت في سنتها الأخيرة-، ليكمل دراسته اعتقل مع عدد من الشباب بتهمة التخاذل، ودعيت بعد ذلك للتعرف على جثته بعد إعدامهم :
"- وقّعي على الاستلام وخذيه.. بسرعة.. خونة.
صرخت به :
-   لقد مات ابني البكر في الحرب وأنا أم الشهيد.
ردّ بعصبية :
-   والآن أنت أم الخائن، هيا، لا أريد هذه الزبالة" (ص : 82).
     وبعد مغادرتها المشفى في اليوم التالي، رأت جيرانها ينظرون  بعيون جامدة إلى الجرافة،  التي هدمت بيتها، والجنود المسلحون  يرصدون ملامح الوجوه، وتشتت بعدها من بيت إلى آخر، بين الأقارب والمعارف، حتى عثرت على  "خرابة" تشاركها فيه  الصراصير  والجرذان.
****
في اليوم الثامن للحرب، تردد جمّار بصوت منكسر :"... أنا لا أعرف شيئا عن العاصفة التي تتحدثين عنها، ما أعرفه أن حرب الكويت يسمونها "عاصفة الصحراء" وهي التي جرفت كل شيء وبدّلت حياة الناس، وكنا نظنها الحرب الأخيرة، كانت أسبابها معروفة، فالعالم لا يقبل باحتلال الكويت، أما هذه فلا أفهمها، هم يقولون بسبب أسلحة دمار... (هوّ) دمّرنا، بأسلحة وبدون أسلحة... أظنهم يريدون إسقاط الرئيس" ( ص : 94).
   تتساءل، بعد أن رفضت أمل مشاركتها الحديث :  "لماذا لم يسقطوه  في تلك العاصفة  ويوفروا علينا كل هذه المصائب؟ لماذا خذل بوش شعبنا حين انتفض؟ وماذا يريد بوش الثاني منا هذه المرة؟". (ص : 94).
وفي مقطع سردي آخر، حين تذكرها لاحقا بأن هذه الحرب لا علاقة لها بالكويت ترد جمّار : "كلها سلسلة واحدة أوصلتنا إلى  ما نحن فيه، أكثر من مليون شهيد فقدنا في حرب إيران، آلاف المعوقين والمفقودين، ملايين الأرامل، لو نطقت الصحراء لأخبرت العالم كم من المغدورين تحت رمالها." (ص : 114).
في اليوم الحادي عشر للحرب، يظهر المذيع مبتسما، وهو يقرأ إحصائية جديدة للقتلى، تتساءل أمل  والغيظ يأكلها : "لماذا يبتسم المذيع؟" وتغير القناة، بينما جمّار تسألها : "لماذا تكتبين هذا العذاب؟"، فترد : لكي لا أنسى، وجدير بالذكر أن هدية حسين كتبت تلك العناوين بخط بارز، كما "المانشيتات" الصحافية، وهو ليس مجرد تقليد اعتباطي، وإنما للضرورة السردية، حتى يمكن التمييز بين طبقتين سرديتين.
 يبدأ شبح الأم في الظهور وتفرض نساء العتبات سطوتهن على السرد، فتستحضر الساردة صبر أمها، الوفية لذكرى الأب  المفقود، ثم خوف أمها من عزلتها مع كتبها أو مع موسيقى ياني (حين تكبر) وهمسها لصاحبتاها، اللواتي يجترن حكايات تقطر حزنا، وتذوب حسرة على الرجال الغائبين : " إذا استمرت هذه البنت في عزلتها سوف تجن". وتفقد  أمل دهشة متابعة الروايات، وتحن إلى العتبات، وهي لا تدري إن كان زوجها يقود معركة أم يختبئ في جحر أم يرفع راية بيضاء ويسلم نفسه للأمريكان؟ وتهذي : "العراقيون وحدهم يعيشون في الصفحة الخطأ والزمان الخطأ من التقويم" (ص : 154)، بعد أنت تتذكر عبارة من قراءاتها السابقة : "إننا نموت في الصفحة الخطأ من التقويم". وعند ارتطام عصفورين بزجاج النافذة تستبشر خيرا جمار بزيارة ضيف، وتنادي عليها بعد لحظات، وتجد نفسها في مواجهة صاحب الشقة يسألها : " مدام.. هل ستبقين شهرا آخر أم ستخلين الشقة؟"، وتنتقل إلى شقة أرخص.... بأثاث رث.
ولا يبدد وحشتها في المسكن الجديد سوى الحنين إلى العتبات/إلى الوطن، هذا الحنين الذي كان سبب اعتلال صحة خادمتها. تستعيد أمل الوطن الموشوم بندوب لا تلتئم..  من خلال حكايا نساء مكلومات، معطوبات الأرواح، وهن : أم عدنان، صبرية،  فطومة، الأم، وبقية جوقة نساء الأحزان، وهن يتحايلن على واقعهن المرير بالمشاركة الوجدانية، ولو عبر فعل الحكي.  وتصير حكاياهن  "زادها الوحيد  للصبر على ما حلّ بي، غريب أنني لم أكن أهتم بمثل اهتمامي هذا بتلك العتبات" ( ص : 196).
    واللافت للانتباه أن القارئ لن يحس بأية مشاعر دافئة للساردة تجاه الأب، الذي  اختفى منذ سنوات طويلة خلال الحرب العراقية الإيرانية،  وكأنما تعتبر أمل الرجل المسؤول الوحيد عن تعاستها وتعاسة باقي نساء العتبة، بشكل أو بآخر، وهي  التي ولدت دون أن تراه.. وبخلاف باقي الأحداث، لم تكتف الساردة بتدوين عناوين الأخبار، ربما لأهمية هذا الحدث، حيث تصف عملية سقوط التمثال كمعادل موضوعي لسقوط النظام، الذي كان  السبب في  تساقط الكثير من  الرجال كشهداء أو معطوبين أو مفقودين ومن نجا من هذه المصائر المأساوية، فالجنون في انتظاره كعباس الهايم، الذي عاد  من الأسر  في إيران، بعد أربعة عشر عاما  ليجد زوجته تزوجت من أخيه،  ثم تصف  بعد ذلك  مشاهد تفشي السرقة والنهب والانفلات الأمني.. وقبيل العودة تبيع خاتم الزواج، كأنما تتخلى عن آخر ما يشدها إلى زوجها جبار منصور- ويمكن تأمل الدلالة الساخرة للاسم-، وعند عودتها إلى بغداد لا تسأل عنه ولا تبحث عنه... فهو في عداد المفقودين، لكنها لن تنتظره كنساء العتبات، لأن زواجها منه عجّل بموت أمها. هكذا تتصالح مع ذاتها، وتكفر عن ذنبها، عن جحودها العاطفي تجاه  أمها  بسبب تطلعاتها الطبقية.
****
"نساء العتبات"  رواية تدين وحشية عسكرة الحياة والاستبداد، وتروي فصولا  سرمدية من مأساة وطن، من خلال عذابات نساء محطمات، لا تلتئم جروح أرواحهن، ينتظرن على عتباتهن  أملا مجهضا لا يأتي أبدا، حتى لو كان هذا الانتظار  رديف العبث واللاجدوى، في واقع سكوني انهزامي سلبي، حاولت أمل التمرد عليه، فمنيت بالانكسار.. ثم تصالحت مع واقعها ومع ذاتها، واقتنعت بلا جدوى الحلول الفردية،  وهكذا رأت نفسها  في لحظة استباقية تجلس على عتبة بيت أمها، الخالية إلا منها، تسرد حكايتها على نساء مفترضات يغزلن الحكايات على نول الأحزان.
-------------
-"نساء العتبات"، هدية حسين، فضاءات للنشر والتوزيع- الأردن، ط : 1، 2010م.
*كاتب من المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق