الصفحات

2011/10/22

حجازي.. فارس الكاريكاتير والزمن الجميل

حجازي.. فارس الكاريكاتير والزمن الجميل
عبده الزراع
غيّب الموت رسام الكاريكاتير المصري حجازي مساء الجمعة 21 أكتوبر/تشرين الأول 2011 عن عمر يناهز الـ 75 عاما، فهو أبرز رسامي الكاريكاتير في مصر والعالم العربي لما تتصف به خطوطه من بساطة وتلخيص تصل لدرجة التفرد والعبقرية.
أحببت رسوم حجازي منذ كنت صبيا، وكتبت عنه أكثر من مرة، والآن أعاود الكتابة عنه مرة أخرى، ولكن بعد رحيله، فمثل حجازي لا يموت لأن رسومه ستظل باقية على مدى السنين والأيام تتعلم منها الأجيال الطالعة، فقد شغل الناس كثيرا برسوماته البديعة، حتى عندما انقطع عن الرسم، انشغل به الناس أكثر، وبحثوا عن سبيل لتكريمه وإعادته إلى ريشته التي افتقدوها، لكنه كان قد قرر أن يدخل قوقعته الاكتئابية، وأغلق باب شقته على نفسه، إلى أن قام وقتها بترك القاهرة عائدا إلى قريته، وكان ذلك عام 2002.
لم يتوقع حجازي في يوم من الأيام أن يصير رساما كبيرا، فقد كان يعد نفسه ليصبح شاعرا أو كاتبا، ظنا منه في ذلك الوقت أن الرسم شيء عادي، وأن الناس ترسم مثلما يرسم في البيت والمدرسة، فيشخبط على الورق بحرية، وهو يقبض بأنامله الرقيقة على قلمه الرصاص ليصور كل وقائع الحياة الاجتماعية من حوله، أو يشخبط على الحيطان بالطباشير ويرسم على الأسفلت ببراءة وتلقائية.
لم يكن يتوقع مطلقا، أن كائناته الطفولية هذه ستصع منه ذات يوم نجما في عالم الفن، على الرغم مما كان يلقى من اهتمام مدرس الرسم برسومه التي كانت تزين جدران الفصل في مدرسة "الأحمدية الثانوية" في طنطا، وكثيرا ما اصطحب مدرس الرسم الناظر وبعض مدرسي المدرسة لمشاهدة رسوم "حجازى" بفرحة وانبهار وتقدير لفن هذا الصبي الموهوب، حيث كانت رسومه في المدرسة تأخذ الطابع الأكاديمي، وحينما يرجع إلى البيت كان يرسم بحرية وطلاقة، وبشكل مخلتف، حيث تنساب خطوطه على الورق من دون رقيب أو حسيب رغبة منه في أن يرسم ما يريد.
كل هذا ولم يتوقع أنه يفعل شيئا ذا قيمة، فكان يرسم من دون أن يعي أهمية ما يرسمه، ولم يعرف أنه نوع من الفن إلا عندما طالع مجلة "روزاليوسف" ورأى رسوم عبدالسميع التي كانت تتصدر غلافها بالأحمر والأسود، وتملأ بعض الصفحات الداخلية، تهاجم الملك فاروق في أواخر حكمه، وتتصدى للاستعمار البريطاني وتحارب الرجعية، ولقد أحدثت تلك الرسوم بداخله، نوعا من الفوران والاتزان الذي جعله للمرة الأولى يشعر بقيمة ما أنجزه من رسوم في هذه السن المبكرة.
• بيرم وعبدالسميع
كان حجازي منذ طفولته مولعا بالقراءة باعتبارها متعته الأولى فكان يقرأ كل ما يقع تحت يديه في كشك "عم ابراهيم" في شارع البحر بطنطا، وكان يشترى منه الكتاب بقرش، أو يستعيره ويسرع في قراءته وتبديله بكتاب آخر، فقرأ كتبا لم يكن يدرك معناها، كتبا متنوعة من الشرق والغرب، في التراث أو في الأدب المعاصر، أو التاريخ والفلسفة، وشتى ألوان المعرفة.
لم يكن يعرف معنى ما يقرأ، في ذلك الوقت، ولكن حروف المطبعة تركت في داخله شيئا مختلفا ومؤثرا، وعندما عاود قراءة هذه الكتب مرة أخرى بعد مجيئه إلى القاهرة، أدرك قيمة ما قرأه في طفولته وصباه، وفي أثناء تردده على مكتبة البلدية في طنطا، قرأ ديوان بيرم التونسي ووجد في أشعاره ما يشبه الكاريكاتير من تلك المبالغات الموحية والساخرة كما في قصيدته "العامل المصري".
وشكلت أشعار بيرم التونسي ورسوم عبدالسميع في "روز اليوسف" معنى الكاريكاتير عند حجازي لأنهما توافقا مع ما بداخله وما كان يقوم به من رسوم.
• تنابلة الصبيان
عمل حجازي رساما للكاريكاتير في مجلة "روز اليوسف" منذ العام 1953، وكان شديد الاعتزاز بهذا العمل، ولم يكن يتصور ذات يوم نفسه يعمل عملا آخر، وقال بتواضع الفنان إنه تعلم الفن من كل من سبقوه وكل من جاءوا بعده، وأكد على أنه تعلم الكثير من الشاعر والفنان صلاح جاهين الذي أنشأ التحول الأساسي في خط الكاريكاتير المصري مغيرا أسلوب الخطوط بحيث تكون أكثر تعبيرا وعمقا ومباشرة.
وقد أخلص حجازى لفنه وأعطاه كل ما يملك من وقت وجهد وفكر، وبخطوطه المميزة وأسلوبه الخاص صار من أكبر رسامي الكاريكاتير في مصر والعالم العربي كله، لم يساوم أحدا على فنه، ولم يتوسل إلى صاحب سلطة ولا جاه، بل عاش حتى واتته المنية شريفا عفيفا وفارسا نبيلا.
وعندما ترأس الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين مجس إدارة "دار الهلال" طلب من حجازي العمل معه في مجلة "سمير" وكانت مجلات الأطفال وقتئذ تعتمد بشكل أساسي على الرسوم الأجنبية، وكل ما كانوا يفعلونه هو ترجمة النص الأصلي للغة العربية، وتغيير أسماء أبطال الحكايات من لغتها الأجنبية إلى العربية، فأجواء النصوص كانت أجنبية والنصوص عربية، وهذا التناقض كانت تقع فيه المجلات لعدم وجود الخبرات الكافية في هذا المجال، وكانت فكرة حجازي من البداية أن يكون المواطن على وعي ودراية بما يحدث حوله في المجتمع، والطفل مواطن صغير يتصور أنه يعرف كل شيء بما في ذلك السياسة، وذات مرة حينما كان حجازي طالبا في الثانوية العامة، سأل أستاذه بتلقائية قائلا: هل يتعلم الإنجليز العربية مثلما نتعلم نحن الإنجليزية؟ فكان رد أستاذه باستياء شديد "حا يتعلموا العربية ليه" وقتها شعر حجازي بالغيظ، وظل هذا الرد يراوده، وكلما تذكره يشعر بالحنق والمهانة، لهذا عمل حجازي أول مسلسل مصور للأطفال بفكر مصري ليس له علاقة بالنقل من الخواجات بعنوان "تنابلة الصبيان" كان يرسمه بمنطق "الهزار" كنوع من المداعبة مع الطفل المصري، وتعامل معه ومن خلاله كصديق ومواطن صغير له وجهة نظر.
• هزائم وانهيارات
ولأن حجازي فنان مرهف الحس، وصاحب رسالة سامية يؤمن بأن للفن دورا فاعلا في المجتمع، وعندما يرى أن هذا الدور غائب، وأن عالمنا العربي يمر بأسوأ حالاته على جميع الأصعدة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، والمجتمع يأخذ موقف المتفرج على ما يحدث في فلسطين والعراق وجنوب لبنان وأفغانستان، ومحاربة الاسلام في كل بقعة من بقاع الأرض ومحاصرته في كل مكان لم يتحمل هذا الفنان المرهف كل هذه الانهيارات، وكل هذه الهزائم المتلاحقة، فانسحب في هدوء شديد منذ سنوات طويلة وانزوى في منزله في المنيل مكتئبا ومحبطا ومكتفيا بأحزانه، التي تنوء عن حملها الجبال، لم يرفع سماعة هاتفه ليرد على سائل أو صديق إلا نادرا وانقطع عن الرسم فلم يرسم رسومه إلى مجلة أو جريدة إلا بين الحين والآخر، يفاجئنا ببعض رسومه هنا أو هناك، وقد فاجأ حجازي الحياة الفنية والثقافية منذ ما يقرب من عشر سنوات بانسحابه التام وتركه المفاجىء لشقته في القاهرة، متنازلا لصاحب البيت عنها ليرجع لمسقط رأسه طنطا صفر اليدين إلا من تاريخه المشرف في الوقت الذي كانت تساوي فيه هذه الشقة الكثير، وحينما سأل عن هذا أجاب قائلا: "إننى لم أدفع لصاحب البيت شيئا، فلماذا أخذ منه عندما أتركها!" لا يفعل هذا سوى فنان في حجم ومنزلة حجازي، بخاصة في هذا الزمن الذي اختلت فيه الموازين وضاعت القيم إلا من رحم ربه، رحم الله الفنان الكبير حجازي وأدخله فسيح جناته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق