الصفحات

2012/03/21

"يقولون إن للوطن عيدا كأم " بقلم: د. نهلة الشقران

يقولون إن للوطن عيدا كأم
 د. نهلة الشقران
تدغدغ أوصالي المتعبة رائحة قطعة خبز حارة تنسج لي عالما دافئا كخبز أمي....
تجمعنا حولها في صباح تشرين، تلفنا بقطعة قماش صوفية تضعها بجانبها لتقلع الخبز من الفرن، متوهجا دفئا وحنوا...
وبيديها التي اعتادت حرارة الألم تقطع الخبز المحمر وتوزعه قطعا صغيرة، تدس في فمّ كل منا قطعة متساوية، ويجمعنا رغيف واحد...
أنظر في وجوه أطفالي الخمسة، فأرى شحوبا يعلو وجنتي كل منهم، أشتم رائحة عفن في زاوية ما من زوايا الغرفة التي تأوينا، أتكوّر في الزاوية ولم يعد من جسدي شيء يذكر إلا وجها مقوسا ترى خطوطه الكثيرة كأنني تجاوزت السبعين من عمري، وأقداما طويلة هزيلة لا تكاد تحملني، يبكي رضيعي، أفتش عن شيء ما أسدّ رمق جوعه به، فلا أجد إلا قضمة خبز جافة سقطت سهوا ليلة البارحة بين الأمتعة الملقاة بجانبي، أبلّلها بريقي وأدسّها في فم طفلي...
تتراءى لي صورة أمي البعيدة، أشتمّ رائحة الحياة من جديد، أناديها وتبسم في وجهي، تخبرني أنها خبّأت لي رغيف خبز، ورشة زعتر، وأنها تنتظرني كل مساء، وتجلس في ظل شجرة الزيتون تدعو الرب عودة الوطن...
يا خبزك الدافئ ..ويح قلبي من برودة الأصقاع..
يا عطرك القمحي...ملّ وجهي رؤية الغرباء....
ما ألذّ أن يكون للمرء أم ووطن...!!
من منّا غادر الثاني، أخبرني ترابي بحق السماء..!!
لم تغب عن مخيلتي صورتك وأنت محمّل على خشبتين، ودّعتك بابتسامة مجتثة من قعر ألم، حملت برودة أوطاني معي وغادرت..
قطعة قماش صغيرة وعلم ورغيف خبز زوادتي..
يد أم بعيدة تلوح لي في الأفق، وخمسة أجساد بالية تتكوّم بجانب جثتي....
يقولون إن للوطن عيدا كأم، وصفوف سنابل القمح تنشد صبيحة كلّ يوم له، وسنونو مهاجر بعيد يحلّق حول سربه الضائع....
يقولون إن دمائه عربية عندما روت جرداء أرضي، ودم قاتله عربي أيضا، ملّ الغريب أصناف الخبز الأمريكية العديدة، وذابت قضمة خبزي ولم تسد جوع صغيرتي..
زرعت بيدي المتهالكة حبة قمح على قبره، وحملت في جيبي حفنة من رائحة الوطن...
كان حملي ثقيلا، لا أستطيع الهرب يا جلّادي وأنا أشتم أنفاسا خمسة، وخبز أمي يطوّقني في مهب الترحال، ولزاما عليّ أن أروي قمحتي على تراب وطن لم يعد إلا مقبرة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق