الصفحات

2012/09/20

"جماهير لا تعرف معني الوطن" بقلم: فؤاد قنديل



جماهير لا تعرف معني الوطن
فؤاد قنديل
     يعتقد البعض أن أسوأ  ما يمكن أن يصيب الأوطان خاصة إبان الثورات تربص الأعداء أو تقاعس الأصدقاء عن مد يد العون ، أو تنازع الفرقاء ، لكن الأسوأ حقا أن تفاجأ الثورات بأن من بين الجماهير من لا يعرفون معنى كلمة وطن ولا يقدرون أزماته ولا يرحمونه من هول التحديات ولا يحاولون المعاونة لدفع مركباته التي تتعثر في أكداس العقبات ، وليس لديهم الاستعداد لتحمل نصيبهم المؤقت من الصبر والعمل والمساندة الإيجابية بأية وسيلة حتى لو كانت الدعاء . بل العكس هو الحادث في كثير من المواقف إذ يتعرض الوطن للرجم وإشعال الحرائق وتدمير المنشآت. وما تزال هذه الحالة محل انزعاج النخبة السياسية وجماعة المفكرين والمثقفين وعدد كبير من الدول ينظرون إلى مصر في دهشة ، فكيف يتقبل أي عقل أن يقدم ملايين المصريين على اقتراف كل هذه التجاوزات الصادمة مع أن أجدادهم هم الذين أسسوا الحضارة وسبقوا الجميع إلي عبادة إله واحد لا شريك له ووضعوا المبادئ واحترموا القيم وكانت بلادهم مهدا للضمير كما قال برستيد في كتابه " فجر الضمير " .
     من المؤسف حقا أن الثورة  المصرية اندلعت بقوة منذ 25 يناير وعلى مدي ثمانية عشر يوما قاطعة شوطا مهما تمثل في إزاحة رمز من أكبر رموز العالم في الفساد والاستبداد وانتهاك الكرامة والقضاء التام على أي ملمح من ملامح العدالة الاجتماعية ، وفجأة انشقت الأرض عن الملايين من أبناء مصر في شتى المناطق والمرافق والهيئات يدهسون عليها ويدفعونها للوراء ويقطعون طرقها ويحطمون مؤسساتها من أجل عشرات أو مئات من الجنيهات يطمع فيها كل منهم ، انطلقت الجموع في تظاهرات حاشدة تطرق كل الأبواب وتسد كل الشوارع وتحاصر المسئولين وقد تعتدي عليهم دون أن تعنيهم حالة مصر التي بالكاد أجرت عملية جراحية كانت فيها بين الحياة والموت ، وما أن فتحت عينيها وبدأت في محاولة اكتشاف ذاتها وما إذا كانت على قيد الحياة أم لا وما إذا كان قلبها لا يزال ينبض ، حتى هاجموها وهي لم تزل على سريرها مرتعشة وجائعة تعاني من آلام الجراحة ومن رؤية ضبابية ومن وهن وذبول .
      من حظ مصر التعس أن يتفق عليها البلطجية من كل صنف ، بلطجية مأجورين يشعلون الحرائق في المؤسسات الكبري لقاء عشرات الجنيهات ، ومثلهم من اعتدوا على سفارات السعودية وأمريكا وغيرهما ، ومثلهم على نطاق أكبر وأكثر تنظيما وأثري منهم علما وأكبر منهم دخلا  ويتمثلون في المعلمين ورجال الشرطة والأطباء وسائقي النقل والمهندسين وأساتذة الجامعات والعاملين الإداريين بها . وكل من له حاجة ، بل وأهل كل من مات على الطريق أو توفي في مستشفي أو تم اتهامه وجاري محاكمته . إنها البلطجة بكل تجلياتها تمزق الوطن دون أن تأخذ الفاعلين به أية رحمة لتتحول بلاد الحضارة والمجد الثقافي والحضور الإنساني الرفيع إلى ساحة من الفوضي والهمجية وبالتالي تراجع الإنتاج وثقلت الأعباء المالية وتوقفت كثير من المصانع والمرافق، وتأثر الإقتصاد المصري بشدة إلى الدرجة التي لا تجعله قادرا على التعويض قبل عدة سنوات من التقشف والعمل الشاق.
       ليس من شك أن بعض هؤلاء المعتصمين لهم حقوق لكن الوقت غير مناسب بالمرة ، وقد كان علي المعتصمين بدلا من قطع الطرق وهدم المستشفيات وتعطيل القطارات والهجوم على أقسام الشرطة انتقاء مجموعة تمثلهم يحملون المذكرات التي تتضمن مطالبهم  إلى المسئولين ، وعلى المسئولين دراستها فإذا كان من اليسير حلها تم السعي لحلها فورا دون إبطاء ، وإذا كانت معقدة أو مكلفة تم تبليغ أصحابها بضرورة إرجاءها لحين توفير الاعتمادات الكافية للوفاء بالمطالب المشروعة ، أما في حالة إصرارهم على الاعتصام فيجب التعامل معهم أمنيا وإداريا بمنتهي الشدة وليس بالقانون ، لأننا  في ظروف غير عادية  .. البعض يتصور أن كل حق يجب الوفاء به في أي وقت ، وينسي تماما أنه يكاد يُعد من المستحيل في ظروف مصر الحالية الوفاء خلال شهر أو شهرين  بما  تسبب التقصير فيه على مدي ثلاثين عاما وأكثر . والغريب أن كل المعتصمين من أجل زيادة رواتبهم  من ألفين إلى أربعة أوخمسة آلاف يعلمون جيدا أنهم أحسن بعشرات المرات من نصف المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر ، وفي أغلب الأحيان لا يجدون عشاءهم ، أما في المدن الكبري فقد يجد البعض عشاءه فقط في صناديق القمامة .
     ما يحدث في مصر يكشف أن الدولة رخوة تماما وبلا هيبة ولا قدرة لديها على اتخاذ قرار ، وقد كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو صاحب الريادة في هذا الخور وهذا التراخي . الثورات في كل زمان ومكان لها قرارات استثنائية  لا تخضع للقانون ولا يستقيم معها موضوع الديمقراطية .لابد أن الاضطراب الشديد والنزاعات غير المحدودة والاختلافات المحمومة بين القوي السياسية التي لا تسعي في الغالب إلا إلى مصالحها وترتيب منظومة أطماعها يتطلب يد قوية وغير مرتعدة أو خائفة للإمساك بمفاصل الدولة بحزم وصلابة وعدم السماح لأي فصيل أو تجمع من أي نوع بأن يختطف الأمن أو الاقتصاد أو السلطة السياسية ، وقد كان المجلس الأعلي بسبب قلة خبرته بشئون الحكم وافتقاده لفنون الإدارة السياسية هو المسئول الأول عما حاق بمصر من تفكك وارتباك عبرت عنه باقتدار المرحلة الانتقالية التي حفلت بالأخطاء مع تأكيدنا على حسن النوايا ولا تدار البلاد خاصة في هذه المنعطفات التاريخية بحسن النوايا ، ويكفي الإشارة إلى أن هذه النوايا هي التي سلمت الحكم للإخوان المسلمين والسلفيين وغيرهم من التيارات الإسلامية .
      إن ما يحدث نتيجة طبيعية لغياب الشرعية الثورية  التي كانت تقتضي منذ البداية تشكيل مجلس رئاسي مدني مؤقت مع عدم السماح بأية تظاهرات لمدة عامين على الأقل لحين ترتيب البيت من الداخل وبناء مؤسساته بالعلم والفكر والقانون مع ترميم اقتصادياته وإطلاق طاقات أبنائه بعيدا عن الديمقراطية التي لا مجال لها إبان الحروب والثورات والتحديات الإستثنائية ، لكن ما حدث هو فتح كل البوابات على مصارعها أمام الجميع بشكل عاطفي سقيم دون قيادة أو توجيه أو حتى علامات إرشادية أو أجراس تنبيه ، لذلك هاجم عدد كبير من  الشعب البوابات وقفزوا  فوق الأسوار . الشعب الذي عاني من القهر والحرمان والتجويع والأمية وعدم الانتماء  انطلق يعبر عن استمتاعه بالحرية .. حرية الغوغاء والدهماء لا المتحضرين والمتعلمين وعشاق الوطن .. لقد تمثلت حريته في العبث والتحطيم والنهب والقتل وكل صور التخريب والتدمير لعله يشعر بالراحة ، ولابد أن هذا الصنف من البشر قد شعر بالراحة لما فعله وما زال وسيظل يبدع في هذه الأعمال طالما لا يعرف معنى كلمة وطن وطالما الدولة رخوة .
      الديمقراطية بعد الثورات خدعة أو جريمة .. إدارة مصالح المواطنين بعد تغيير هائل كالذي حدث في مصر ما كان يجب أن يتم على النحو الذي تم به ، كان بحاجة إلى حزم شديد للوقوف أمام منظومة من العبث سواء كان المسئول عنها النظام السابق متعه الله باللعنة أو الثورة التي هبت دون قيادة أو كان السبب في ذلك تنازع القوي السياسية ، أو كان السبب بركان الغضب الذي تعتق واختمر على مدي سنوات فانطلقت حممه تركض وتصيب وتدمر ولا تحفل بشيء ، وما تزال براكين الغضب تتقلب أغوارها وتلقي باللهب
الذي لن يتوقف إلا إذا تم استخدام القوة والقضاء على هذه المهازل التي تصدر عن جماعات هانت في عينيها الأوطان ، واستمرأت الخروج الصاخب وتلذذت بدماء مصر التي تسيل وتستنزف بينما أمعاؤها على الأرض مطروحة لكل دابة ولكل كائنات الأرض لتلعق الدماء وتنهش في اللحم والعظم .. أفيقوا يا رجال النخبة بشتى أطيافكم ، وقفوا سدا منيعا قبل الانهيار فهو حتما قادم إذا لم تتحركوا وبكل قلوبكم وعقولكم وبأقصي ما تستطيعون لإيقاف النزيف .
    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق