الصفحات

2012/09/13

قراءة لقصيدة في الظلام لإبراهيم ناجي بقلم / مصطفى حمد عبد القادر




قراءة لقصيدة في الظلام لإبراهيم ناجي
بقلم / مصطفى حمد عبد القادر

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أمّا بعد أضع بين أيديكم أساتذتي الكرام قراءة نقدية لقصيدة شاعرنا الكبير إبراهيم ناجي 1898-1953، (في الظلام)، سأقف مع هذا النص وقفة متأملة محاولاً أن أقدم في هذه القراءة المتواضعة رؤية تفسيرية للقصيدة وأرجوا من الله أن أوفق إلى ما أريد لأرضي ما تستحقه هذه القصيدة من قراءة نقدية فاحصة.
وأول ما يلفت نظري في القصيدة هو عتبة النَص (في الظلام) الذي يُسهم في فهم بنيته وتأويل القيمة التي ينطوي عليها، فعنوان القصيدة يدل على القهر من قبل الإنجليز والقصر الحاكم اللذان اتحدا ضد الشعب، وأرى أن شاعرنا استطاع بحرفية شديدة أن يجعل القارئ يحلق بخياله في سماء النَص، باحثًا عن دلالة هذا العنوان فهل في الظلام يقصد بها الفقراء الذين يقضون أوقاتهم في حومة البؤس يستجدون، أم هذا الظلام المُخيم على القاهرة في سنوات الحرب الأخيرة، أم يُعبر عن المجهول وأن مِصر لا ملامح لمُستقبلها.
فقد جاء العنوان مُناسبًا لمحتوى القصيدة المُغطّاه بالحزن والتشاؤم والحالة النفسية المُضطربة:
كأن على مِصر ظلامًا مُعلقًا ................. بآخر من خابي المقادير مربد
رقودٌ وإبهامٌ وصمتٌ ووحشةٌ ............... وقد لفّها الغيب المحجب في برده
من مطلع القصيدة لا نشعر أننا أمام قصيدة للشاعر المُنتمي للتيار الرومانسي (إبراهيم ناجي)، وإنما نشعر بأننا أمام قصيدة تنتمي إلى الشِعر العربي القديم، الذي يلتزم بالوزن والقافية، فهو لا يسير في الاتجاه المُجدد الذي يدعوا إلى التحرر المعروف لديهم من تغيير القافية واستخدام الوزن ومجزوءه في محاولة
منهم للخروج على الشكل العروضي التقليدي، وهذا عكس ما نراه في هذه القصيدة التي تبدأ في قوله:
أليلاي ما أبقى الهوى فيا من رشد .............. فردي على المشتاق حجته ردي
أينسى تلاقينا وأنتِ حزينة .................. ورأسكِ كابٍ من عياءٍ ومن سُهدِ
فبدأ بالإشارة إلى قضية قديمة عن العشق العربي وهي (الفراق العاطفي)، ومناداة الحبيب للمحبوب، فاختصر هذه التجربة العاطفية في قوله "أليلاي"، وفي المقولة العربية نقول: "كل يبكي على ليلاه"، إذًا كان ناجي من البداية يُعلمنا أنها قصيدة على الشكل القديم، ولكن الطابع وجداني، مع وجود بعض المفردات القديمة، وفي رايي الشخصي أن ناجي لم يوفق في هذا المطلع فهو من ناحية لم يُشر إلى اسم محبوبته، ولكنه اكتفى على طريقة القدماء بقوله "أليلاي".
ولم يعلمنا من هي (ليلاه) حتى مجيء البيت الرابع والعشرين بذكره اسم مصر فعرفنا من هنا من هي ليلاه التي أحبها التي أفقدته رشده، وهنا نزعة غزلية وهي التي يقدم فيها الشاعر حياته قربانًا لمحبوبته، إذًا فهي مُقدمة معروفة من الشِعر العربي القديم كغيره من شعراء الجاهلية وعصر صدر الإسلام من حالات الوقوف على الأطلال ورسم طيف المحبوبة ووصف الخمر.
وهذا مأخذ على الشاعر في هذه الفترة العصيبة الداعية إلى التحرر والتجديد، فكيف لمذهب ينادى بالتجديد و التحرر ويقع فى براثن الماضي الذى يريد تجديده.
فقد استخدم بحر من بحور الشعر العربى التى تحتل المراتب الأولى من حيث نسبة الشيوع وهو بحر الطويل بإيقاعه البطيء الهادئ نسبيا و الذى يلائم العاطفة المعتدلة الممتزجة بقدر من التفكير سواء أكانت حزنًا أم سرورًا وفي الحالتين كان الوجدان هادئًا لا صراخ فيه ولذلك أرى أن العاطفة في القصيدة صارخة ثائرة ولا تتناسب مع بحر الطويل، وأرى أنه كان من الأفضل استخدام بحر الكامل الذي سينسجم مع عاطفة هذه القصيدة الذي نجد فيها حزنًا شديد الجلجلة، ويتعجب من أن بحر الكامل هو البحر الغالب عند شِعر ناجي.
وأنا أرى أن الاختيار للوزن مهمة يقوم بها الشاعر من دافعه ونتيجة لظروفه الاجتماعية ففي هذع الفترة –فترة كتابة ناجي لهذه القصيدة- كان هناك صدامًا
بين الشعب ووزارة إسماعيل صدقي الذي كمم الأفواه واستعان بالإنجليز وهي فترة التيار الرومانسي الذاتي، وهو ما عبر عنه ناجي صارخًا:
فردي على المشتاق مهجته ردي
إذًا الاختيار كان اجتهادًا خاصًا من الشاعر في أن يعي عالمه وواقعه، والموقف أو الرؤية لا يقوم لدى الفنان احتيار المضمون فقط وإنما يساهم أيضًا في اختيار أدوات التشكيل والتي منها الوزن، حيث يشكل بها الكاتب التجارب المكثفة والعميقة، ولا أطيل في هذه النقطة ولكن أريد أن أقول مقولة الشاعر الرومانسي أحمد زكي أبو شادي وهي: "إن المعاني الشِعرية هي التي تبحث عن ثوبها اللفظي وليس الثوب هو الذي ينبغى أن يسيطر عليها" فكان على الشاعر تطويعه الشكل للتعبير عن المعنى، وأبو شادي كما نعلم شاعرًا رومانسيًا ، إذًا أنا أقول ذلك انطلاقا من الاعتقاد السائد في المذهب الرومانسي والذي ينتمى إليه كاتب هذه القصيدة.
وفي هذه الفترة كما قلت كان التيار الغالب فيها هو الرومانسي العاطي ومع اضطهاد وزارة إسماعيل صدقي أصبح الشعراء لا يستطيعون الكتابة والتحدث إلا عن أنفسهم وعواطفهم وغرامهم ، وأرى أن إبراهيم ناجي فعلة في هذه القصيدة والتي تبدأ بتوسله للمحبوبة في تقنية قصصية وهي "الفلاش باك" أي تذكره لموعد التلاقي وهي حزينة ورأسها كاب من عياء ومن سهد و قد وسدها راحتيه "كما توسد طفل متعب راحة المهد" وهذه صورة متكررة عند الرومانسيين وهي الربط بين الطفل والمحبوبة فبينهم علاقة هي البراءة، ثم نجد حسن انتقاله من المطلع إلى مشهد اللقاء ووصفه للمحبوبة، فهو يقدم لنا مجموعة من المشاهد بداية كانت اللقاء ثم وصف المحبوبة :
و ما راع قلبى منك إلا فراشـــــــــــــــــــــــة ..... من الدمع حامت فوق عرش من الورد
مجنحة صيغت من النور و الندى ..... ترف على روض و تهفــــــــــــــــــــو إلى ورد
ثم إنتقل إلى مشهد الفراق حيث يقول :
لقد أقفر المحراب من صلــــــــــــــــــواته ...... فليس به من شاعر ساهر بـــــــــــــــــعدى
وقفنا و قد حان النوى أى موقف ......... نحاول فيه الصبر و الصبر لا يجدى
و هذا التعبير رائع وذلك لأنه يوحي لنا بالحالة النفسية التي كانت مسيطرة على الشاعر في لحظة الفراق، ثم يهرب إبراهيم ناجي إلى الطبيعة و مناظرها في جو مليء بالتشاؤم حيث يقول:
و أسلمنى لليل كالقبــــــــــــــــــــر باردا .... يهب على وجهى به نفس اللحد
و أسلمنى للكون كالوحش راقضا ... تمزقنى أنيابه فى الدجى وحدى
فيذكر المحبوبة فى مشهد الوداع و الفراق فيقول تعبير جميل نجح فى تصويره شاعرنا :
تقلصت إلا طيف حب محير ..... على درج خابى الجوانب مسود
متذكرًا يوم رحيلها و كأن طيوف الرعب والبين موشك والآلام مزدحمة والوجد في حشد والأنفاس مضطرمة مواكب خرس في جحيم مؤبد.
ثم يأتى ويقدم لنا على الطريقة القصصية "لحظة التنوير" في إشارة منه في البيت الرابع والعشرين أن محبوبته هي مصر فاستطاع الشاعر هنا أن يصنع علاقة إيجابية بينه وبين المتلقي من خلال المفارقة الشعرية، فجعل القارئ مشاركًا في صنع العمل الأدبي فجعله يفكر معه من بداية القصيدة حتى هذا البيت ليكتشف من هي ليلاه، فيعبر في البيت التالي عمّا أصاب مصر في وزارة إسماعيل صدقي من ركود وإبهام وصمت ووحشة ويتساءل:
أهذا الربيع الفخم و الجنة التى ......... أكاد بها أستاف رائحة الخلـــــــــــــد
تصير إذا جن الظلام و لفهـــــــا ......... بجنح من الأحلام و الصمت ممتد
و هذا التدخل يعتبر من عناصر نجاح هذه القصيدة، حيث يجعل القارئ يشارك في الرد على هذا التساؤل.
ثم نلاحظ هنا أن بالفصيدة تمهيدًا للواقعية، فنحن أمام شعاع جديد من الشعر الواقعي يعبر عمّا في الواقع من بؤس ومأساة الحياة الاجتماعية، فيقول:
مباءة خمار و حانوت بائع .... شقى الأمانى يشترى الرزق بالسهد
وهو هنا أصاب في الوصف فقدم لنا الكاتب السمة الفنية التي تتمثل في حاسة الإدراك البصري الذي يقوم الكاتب من خلاله برصد المرئيات كـعين الكاميرا، وهذا يساعد في ثراء الحدث، وقد نجح ناجي في الانتقال إلى الطبيعة بعد لحظة الفراق، فمن المعلوم في فلسفة الرومانسية أن صدمات الغرام أو خيبة الأمل
وفشل الطموح هي التي تدفع الشاعر إلى الهرب إلى الطبيعة وهذا ماحدث بالفعل كما سبق أن بيننا، وأيضًا قد دفعه إلى التأمل الصوفي كما في قوله:
و قد وقف المصباح وقفة حارس .... رقيب على الأسرار داع إلى الجـــــــــــــــد
كأن تقيا غارقا فى عبــــــــــــــــــــــــــــــادة .... يصوم الدجى و يقطع الليل فى الزهد

وكما نجد أيضًا في قصيدة من روائع قصائده مثل "العودة" التي يقول في مطلعها:
هذه الكعبة كنّا طائفيها ..................... والمُصلين صباحًا ومساءً
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها ................ كيف بالله رجعنا غرباء
فهنا نجد أيضًا البعد القصصي والدرامي، فيعقد مقابلة بين نائم يفترش الإفريز في الحر والبرد بعد أن ظل طيلة يومه يستجدي ، وبين سيارة محجبة الأستار تمضي لأمر محجب في إشارة منه لإظهار حال الرعية والقصر، فهنا يقص علينا مأساة ويتساءل قائلاً:
متى ينجلى هذا الضنى عن مسالك ...... مرنقة بالجوع و الصبر و الكــــــــــــــــــــــد
ينقب كلب فى الحطام و ربمـــــــــــــــــــــــا ...... رعى الليل هر ساهر و غفا الجندى
فى هذه الأبيات"مشهد" يكشف عن النزعة التاريخية ، فيستطيع مؤرخ أن يجد فى هذه القصيدة أحلام الشعب و كيف كانوا يعيشون في وزارة إسماعيل صدقي فقدم لنا ظلاً واضحًا للحياة في هذة الفترة، وحديثه الذي يدل على أن القصر ٍاسترعى الذئب "الإنجليز" وقد رعى الليل هر وغفا الجندي وهذا يختلف عن نمطية الحياة، وهذه الأبيات أيضًا تحمل نزعة ثورية.
وأرى أن هناك بعض الأبيات مثل الأبيات من (41 – 43) قد قالها وهو يسقط عليها كل صفات الإله والمعبود، وهذه سمة من سمات الرومانسيين:
بعينيك أستهدى فكيف تركتنى ........ بهذا الظلام المطبق الجهم أستهدى
بوردك أستسقى فكيف تركتنى ......... لهذه الفيافى الصم و الكثب الجرد
بحبك أستشفى فكيف تركتنى ....... و لم يبقَ غير العظم و الروح و الجلد
وهنا الشاعر قد نجح، فالصورة جاءت في شكل منتظم وليس عشوائيًا "العين- الورد– القلب" وهذا عنصر من عناصر نجاح القصيدة.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى مشهد العتاب وما حدث فيه من كثر النوى ثم تعبيره الرائع لعينيها في البيت التاسع والأربعين ثم يعود بعد أن قد بدأ تقديمه للذكريات، حيث قال:
و يا دار من أهوى عليك تحيـــــــــــــــة ........ على أكرم الذكرى على أشرف العهد
على الأمسيات الساحرات و مجلس ........... كريم الهوى عف المآرب و القصد
و هنا البناء فى القصيدة متناثر، فالقصيدة ليس لها اتجاهًا واحدًا، فوجدنا الواقعية النقدية وهي الغالبة والواقعية الاشتراكية والرومانسية، ووجدنا انتقاله من النزعات الغزلية ثم التاريخية والثورية فوجدنا كلمات مجلجلة ثورية متوهجة (صرختى، جنح من الأحلام، بديل الشمل، الظلام المطبق، الفتك) حيث أكد هنا على رفض فكرة التمذهب، فانتقل بنا من فكرة إلى أخرى بدون أن نمل ومن مشهد إلى آخر، فنجد رقة في ألفاظه حينما يتحدث عن الحب حينًا وألفاظ قوية بعض الشيء عندما يتحدث عن البؤس.
العلاقة بين الشكل والمضمون في هذه القصيدة إيجابية، مثلا كلمة "مصر" لها إطار معرفي وتحمل دلالة تارخية، ونجد أيضًا لجوء الشاعر إلى الأساليب الإنشائية، فيجعل المتلقي مشاركًا في صنع العمل الأدبي وهذا عنصر من عناصر النجاح.
وقد قدّم لنا ناجي الجانب السلبي من الرومانسية، فصور تجربة حب فاشلة التي كانت لونًا من الإسقاط عكس عليها الشاعر إحساسه بالفشل في الحياة، وأنا أرى أنه كان عليه أن يبتعد عن التشاؤم "الواقعية النقدية" في هذه الفترة بالذات، حيث كانت مصر تمر بمرحلة عصيبة، وكان عليه أن يلزم نفسه بالواقعية الاشتراكية وإعطاء الأمل للخروج من هذه الكبوة ولكن في القصيدة حدث عكس ذلك وطغت الوافعية النقدية.
وفي النهاية أتمنى أن يكون نقدي قد قدم جديدًا وهو ما استنبطه من خلال الأبيات التي تناولتها بالتحليل والتفسير والنقد، وهو أن ناجى لا ينتمى إلى مذهب معين.
ونقدي للقصيدة ليس تقليلاً من شأن القصيدة أو شأن صاحبها، فالرجل شاعر كبير وشهادتي فيه مجروحة، وكما قال الشاعر:
"
ما تقصف الريح الأعالى الشجر"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق