الصفحات

2012/10/08

الموتُ يُطِلُ من ثنايا الحكي ( الأقدس ) .. ملاذاتٌ بالهروب بقلم: هشام علوان



الموتُ يُطِلُ من ثنايا الحكي

( الأقدس ) .. ملاذاتٌ بالهروب

هشام علوان

 يوشك أحمد قرني أن يدخلنا في عالمه ، ليس كقراءٍ بل كشخوصٍ فاعلين ، من خلال روايته
( الأقدس ) ، سأتجاوز الغلاف ، و العنوان الشائك ، الذي غيّره المؤلف في طبعة أخرى ، تحت مسمى ( كما يليق بحفيد ) ، و سأتوقف قليلاً أمام الإهداء :
" إلى نجيب محفوظ ، و يحيى حقي ... " ، و هما قامتان سامقتان في السرد العربي ، رآهما الكاتب يحوّمان وقت الثورة حول ميدان التحرير ، ثم يكمل إهداءه :
" إلى كل الثائرين في العالم من أجل الحرية " .
إنها بداية تشير إلى مضمون الراوية ، الحرية كملمحٍ رئيسي في النص ، يبدأ من الإهداء .
و كعادة معظم الأدباء الآن ، يُصدّرون أعمالهم بمقولاتٍ قد تكون عتباتٍ أولى و مفاتيح للسرد ، يقدم لنا المؤلف ، عبارة دي لافينيه :
" كل خطوةٍ في الحياة ، هي خطوةٌ نحو الموت " .
تذكرني بشكلٍ ما ، بمقولة للشاعر أمين حداد :
" المستقبل ما بينقصش  مع إن الماضي بيزيد ! " .
إنها مفتاح للنص ، حيث يتجلى الموت كبطلٍ رئيسي ، يُطلُ من بين ثنايا الحكي ، كملاذٍ نهائي لبعض شخوص الرواية .
تقع الرواية في ثمانية فصول ، يُصدّرُ المؤلف كلَ فصلٍ بعبارةٍ مجتزأةٍ منه ، ما عدا الفصل الأول ، الذي يُعد هو تصدير كامل للرواية كلها .
و تتسم الملامح الأساسية لـ ( الأقدس ) بالهروب كملاذٍ للأبطال المأزومين ، إنها رواية عن انكسار الروح ، و تحطم الأحلام .
يبدأ السرد بشخصية يوسف الواجدي ، الذي يخرج إلى الصحراء في ( كيمان فارس ) ، ليختار أرضه الجديدة البكر الطاهرة ، بعيداً عن كل الناس ، يلوذ بوحدته ، و يفر إلى العراء ، بوادٍ غير ذي زرعٍ ، مع أسرته ، زوجته التي لم يذكرها المؤلف ، و ابنته عائشة ، يبني بيته كما يريد ، يشيّد حديقته و أحواض زهوره النادرة ، و يسّور سياجاً من الطوب ليحمي حظائره و زروعه من هجمات الذئاب و الثعالب " المنحطة " ، كما يحلو للبطل تسميتها .
أوقد سراجاً كبيراً في البيت ، و تفاءل به ، فأمر عائشة و زوجها النقيب علي الباسل أن يسموا ابنهما ( سراج ) ، و لم يستطع أحد منهما مجادلته أو مناقشته في الأمر ، فهو عنيد لأبعد حد ، كما تقول عنه عائشة في حديثها لابنها سراج :
" كان جدك مثل العود الناشف ، إذا أردت أن تثنيه ، انكسر في يدك " ص 12 .
ثم يفر الجد يوسف الواجدي ، تاركاً عائشة و حفيده سراج وحدهما ، بعد أن أُسر زوجها النقيب علي الباسل في حرب 1967 م ، و يهرب إلى الجبل ، و كأنه خليل آخر ، يذر ذريته في البرية ، بعدما أيقن أن الثمرات و العمران سيحلان على الوادي و الكيمان ، و سرعان ما صدق حدسه ، و زحفت المدنية إلى المكان ، و جاءت أفئدة من الناس تهوي إليهم ، و تسكن في الجوار .
و رغم أن المؤلف لم يقدم لنا أسباباً لرحيل الواجدي الفجائي عن بيته الذي شيده كما أراد ، إلا أننا نستشف من الأحداث ، فيما بعد أنه كان مطارداً ، و مطلوباً لدى السلطات ، لنشاطه السياسي القديم ، تتضحُ معالمه في صورة يفتخرُ بوضعها في صدارة بيته ، و هو يصافح زعيم الأمة مصطفى باشا النحاس .
تبدأ الرواية بالظلام و السقوط ، و علاقات متفسخة بين الشخوص ، يقول الراوي :
" كائناتٌ شائهة بلا عيون ، تسقط مثل ديناصورٍ مخيف " ص 12 .
و يستطردُ قائلاً :
" ربما تسقطُ مثل حائطٍ قديم ، يسقطُ دائماً بلا سبب ، فقط لأنه قديم " ص 12 .
و تنتهي الرواية بالسقوط أيضاً ، حيث يقول :
" إنها الأحلام الباهتة ، تسقط صريعة ، تسقط كورقةٍ صفراء ناشفة ، تسقط دون دوي دون صوت ، دون أن يشعر بها أحد " ص 179 .
الاختلاف الوحيد في النهاية ، هو بارقة الأمل في الضوء المنبعث من المصابيح ، التي لها دلالة هنا ، يقول سراج :
" أخبري فرحة بقدومي ، سوف تعلّقُ المصابيح أمام بيت سعيد " ص 179 .
إنها محاولة لاستعادة الروح المنهزمة و المنكسرة ، حين يلوذ إلى قصر رشوان ، أرض الميعاد ، أرض شروق حبيبته المخلصة .
ثم تبدأ الأحلام في الانكسار ، حين يتحطم حلم الجد الواجدي في الحياة بطمأنينة و هدوء ، تهاجمه الذئاب و الثعالب ، يدافع مستميتاً عن أرضه و بيته ، ثم يلوذ إلى الجبال .
حلم علي الباسل الضابط في الجيش المصري بهزيمة اليهود ، و القضاء عليهم ، يتحطم على كابوس الأسر ، و الموت بين يدي الأعداء ، دون أن يشعر به أحد أو يهتم لموته أحد .
حلم سراج في طفولته ، أن يسقط القمر في حجره ، ليأخذ منه الفاكهة الجميلة ، و حلم الحبيبة " ولاء " الذي تحطم باعتناقها للبهائية دون علمه ، ثم حلمه بـ " سماح " التي تمناها ، و كتم أشواقه تجاهها في قلبه ، بعدما رأى صورة علاء زميلهم الثوري في الجامعة ، معلقة في حجرتها ، ثم هجرتها إلى فرنسا بعد مقتله على يد الأمن ، و زواجها من مراد .. إنها سلسلة من الأحلام المحطمة ، تشرخُ النفس و تكسر الروح .
حلم عائشة " فينوس " الجميلة ، التي يصفها أحد أصدقاء الواجدي :
" حفيدتك عائشة ، ستكون جميلة " ص 13 .
بأن يعود إليها زوجها الأسير ، تنتظره كل يومٍ ، و لا تصدق خطاب الصليب الأحمر بأنه أُسر ثم مات ، تظلُ تحلم بعودته ، دون فائدة ، و لا تفقد الأمل في ذلك بتاتاً .
حلمها أيضاً بعودة ابنها بحُجة البيت ، حتى لا تطردها الحكومة ، تظل تهاتفه ، و تحفزه أن يعود و معه الوراق التي تثبت ملكيتهم للبيت( الذي يرمز للوطن، و كأن أبناء الوطن هم الغرباء فيه )
لكنه يفشل ، و تستولي الحكومة على البيت ، و تحوله إلى مبنى للبلدية ، و تطردها خارجه ، و هي زوجة الأسير الشهيد ، و ابنة الواجدي المناضل ، حلم آخر يتحطم .
حُلم سماح الذي تبخر بمقتل علاء ، و فشلها في هجرتها إلى فرنسا ، و عودتها كحطام امرأة مطلقة .
كذلك حلم حسـين قاسم الإخواني ، في البـحث عن يوتوبـيا في الأرض ، و تخبطه الفكري ، و انضمامه إلى جماعة التكفير و الهجرة ، و موت زوجته في الصحراء ، وحيدة بعدما طردها الأمير ، و تمثيل الذئاب و الثعالب بجثمانها ، و مقتله في نهاية المطاف ، إنه هروب بالموت كملاذٍ ، و مُخَلّص من الآلام .
نفس الأمر تكرر مع سيد خاطر ( أرسطو ) اليساري ، الذي رأى حـلم الماركسية ينهار أمامه ، و فشلها كنظرية في التطبيق ، و هروبه بإدمان الخمر و الشعر ، تقول شروق ابنته عنه :
" منذ زمن بعيد ، أدمن الخمر و كتابة الشعر " ص 90 .
بل إنه يبحث عن يوسف الواجدي ، و ينتظره كمخلّصٍ و ملاذ لروحه السقيمة ، يقول سيد خاطر:
" أين جدك يا سراج ؟! هو الوحيد الذي يمكنه أن يعيدني إلى نفسي " ص 95 .
كذلك شخصية الريس عزب ، الهامشية التي تشبه فرجيل في الكوميديا الإلهية ، يقود أبطاله في الجحيم ، دوره كمراكبي ينقل الناس من شاطئ لآخر ، من بر لبر ، يأخذ شروق و سراج إلى خور عيسى ، يتوتر جداً حين يرى امرأة عارية تستحم ، تستر نفسها بالماء كعروس البحر ، يتبخر حلمه باستعادة شباب ولىّ ، إنه حلم آخر مكبوت في داخله .
ويأتي حلم شروق بالعالمية ، كفنانةٍ تشكيلية ، تكرّسُ حياتها لرسوماتها ، و تخلصُ لها بشدة ، ثم تنعزلُ في قصر رشوان رفقة أبيها سيد خاطر الذي لا يفيق من سكر ، تنتظر فارسها الوحيد سراج ، الذي سيأتي ليعمّر معها البرية .
أما عن حلم المحامي كامل الجوهري ، والد ولاء في نشر البهائية ، و هروبه بعد القبض عليه إلى إيران .
ضابط أمن الدولة ، هو الآخر من حقه أن يحلم بالقضاء على يوسف الواجدي ، و العثور على حقيبته ، و ضغطه الشديد على حفيده سراج ، كي لا يذهب إلى قصر رشوان ( أرض الحرية ) ،
يقول الضابط لسراج أثناء التحقيق :
" عندما تكون حراً ، تستطيع أن تقول كل ما تريده " ص 164 .
إنه حلم الهيمنة و الإحساس بنشوة الانتصار بقهر الآخر و قمعه .
أما عن ملاذات الهروب ، فتتضحُ جليّاً في هروب حسين قاسم الإخواني إلى مغارةٍ في أبي قرقاص ، بحثاً مع أقرانه عن يوتوبيا سماوية في الأرض ، و عالمٍ خالٍ من الجاهلية ، كما يعتقدون ، إنه ملاذٌ روحي يستحقُ التضحية من أجل فكرة استحوذت على عقولهم و قلوبهم فأخلصوا لها .
كذلك هروب سماح بعد فشل هجرتها للخارج ، و انهيار زواجها من مراد ، تلجأ إلى الخيال وتلوذ بالمخدرات و المهدئات ، كهروبٍ حتمي من واقع أليم .
هروب سراج بالنوم ، يقول :
" أصبحتُ أقضي معظم الوقت في السرير ، إما نائماً أو في غفلة " ص 170 .
نوع آخر من الهروب و المواجهة .
كذلك الهروب بالموت في قصر رشوان ، كما فعل سعيد عقرب ، لدغته أفعى كوبرا ، غيّرت جلدها ، و غدرت به ، تماماً مثلما غيّرت ولاء دينها و لدغت سراج ، سعيد عقرب نموذج خيالي داعب سراج طويلاً ، تمنى أن يكون مثله ، و بكاه بشدة ، لأنه أحس بضياع ذاته بموته ، و رغم رحيله الفجائي و غير المتوقع ، إلا أن الكاتب نجح في الموازاة بين شخصيتيّ سراج و سعيد .
أما عن الهروب داخل الذات كما فعل حسين حرب ، ظل يأكل التوت بنهم شديد ، و يمني النفس بإنجاب الذكور ، لكن تباعدت أمنياته ، فبقي حبيس الذكريات و الأوهام .
ثم يأتي هروب سراج من خوفه إلى قصر رشوان و خور عيسى ، بزعم البحث عن عقد البيت ، و هو الكسير الفؤاد ، لم يستوعب بعد ترك ولاء له ، و اعتناقها دين أبيها .
أيضاً هناك علاقة بارزة في أول الرواية ، بين سائق الميـكروباص الذي يركب معه سـراج ، و سيارته ، و محاولته لإصلاحها حين تعطلّت على الطريق ، أثناء رحلة ليلية إلى قصر رشوان ، و غناؤه الرديء الذي يعبر عن الضجر و القلق ، جاء كتمهيدٍ نفسي لمفاجآتٍ سيئة قادمة ، يعرف أنها آتية لا محالة .
كذلك صورة طلاء الحائط القديم ، جاءت موحية و معبّرة عن التفسـّخ في العـلاقات بين سراج و ولاء .
هناك أيضاً دلالات أخرى في النص ، مثل وصفه لبندقية الجد :
" بندقية الجد القديمة الصدئة المعلقة على الجدار " ص 21 .
إنها إشارة لهجوم الذئاب و الثعالب ، لأنه لم يعد هناك الفارس الذي يصدها ، و تتحقق الإشارة باستيلاء الحكومة على البيت ، و طرد عائشة و سراج منه فيما بعد .
أما عن صورة الطائرين الواقفين على مسلة الجرانيت ، و حلم رؤيتهما يطيران ، دلالة على التوق إلى الحرية و الانطلاق . ص 31 .
كما جاء وصفه لأول لقاء مع ولاء ، و التعبير عن حالة الحب من أول نظرة موفق للغاية ، يقول سراج :  " و أغمضتُ عيني ، كانت سيمفونية ترن في أذني ، لم يحدث أن سقطت هكذا في قاع بئر " ص27 .
و يصورها في موضع آخر ، بقوله :
" فتاة القرنفل سلبتك الراحة " ص 27 .
و أيضاً : " ولاء جميلة كصوت فيروز " ص 27 .
ثم تأتي افتتاحية الفصل الثالث :
" الحية التي ترقدُ أمامك في وداعةٍ ، لا تظنها نائمة ، إنها تستعد لشيء آخر " ص 32 .
إنها إحالة مباشرة إلى ولاء ، التي غدرت به كما غدرت أفعى الكوبرا بصديقه سعيد عقرب ،
و كلاهما أدمى قلبه و أحزنه ، صورة تراثية للمرأة الأفعوان التي تفتك بالرجال .
إحساسه بالخطر الداهم القادم ، من حيث لا يدري :
" الليل هنا يمتلئ بالوحوش و الكائنات المخيفة " ص 38 .
ثم تأتي لحظة المكاشفة ، و معرفته بديانة زوجته ، حين ضبطها تقرأ في كتاب الأقدس :
" أنا ذلك الرماد الذي يمتلئ بالحزن " ص 42 .
إنها لحظة التحطم الكامل و المباغتة في الألم .
علاقة الجبل بالواجدي ، تبدو كأسطورةٍ ، يقول سعيد عقرب لسراج :
" الجبل أحب جدك و كشف له عن أسراره و كنوزه " ص 48 .
ثم يستفيض في وصف الواجدي حين لاذ بالجبل :
" عند هذا الجبل مكث جدك أياماً يأكلُ من عشب الأرض ، و يتكئ على عصاته " ص50 .
إنها حالة تشبه التنسك ، يقول عنها :
" و يحلم مثل الصوفيين بالخلاص " ص 49 .
ثم يؤنسن الجبل ذاته ، و كأنه حل في الواجدي ، أو حلَّ الواجدي به :
" له أنف ضخم معوّج و تعلوه مغارتان تطلان كعينين جاحظتين في الفراغ ، و رأس صلعاء بدينة " ص 61 .
بل يُسقط غموضاً من الجبل و سحره على شروق ، ابنة سيد خاطر الشهير بأرسطو ، فيقول :
" شروق تمتلئ بالغموض ، و كأنها قطعة من الجبل الساحر " ص 65 .
إنها روح قصر رشوان التي حلّت بالبشر ، و أولهم يوسف الواجدي .
ثم يظهر الوجع الإنساني لسراج ، حين تصفه شروق بعين فنانة تشكيلية ، يغلب التصوير على الوصف قائلة :
" لماذا تبدو مهموماً هكذا ؟ لماذا لا تعيش سنك الحقيقية ؟ أنت تتحرك كدبٍ سمين ، مشاعرك مترهلة " ص 70 .
صورة معبرة توضح مدى الأسى الذي عليه سراج عندما رأته شروق لأول مرة .
يكشفه الحاج حسين حرب ، عندما يفاجئه بقوله :
" جئت تبحث عن أوراق بيت جدك ، و لا تبحث عنه " ص 78 .
إنه استنكار يبين أن سراج هارب من أحزانه و صدمته في ولاء ن جاء إلى قصر رشوان ليبحث عن أوراق بيته ، عن هويته و وجوده ، هو نفسه يصف حالته بقوله :
" حياتي الخاوية التي لا معنى لها ، تبدو مثل محطة قطار مهجورة .. أنا تائه " ص 105 .
ثم يردف :
" حياتي فارغة مثل كوبٍ مشروخ " ص 105 .
صورة توضح مدى إحساسه بالتشظي و الانهزامية . 
عكس شخصية سعيد عقرب ، الشارب سر صنعة صيّاد الثعابين من جده يوسف الواجدي ، يقول سراج :
" الناس في القصر لا يصدقون أن سعيد مات ،
مازالوا يترددون على بيته و يطلبون منه النجدة " ص 106 .
صورة سعيد كملاذ و مخلّص و حاوي و رفاعي ، يقيهم شرور الهوام و الثعابين .
في حين تغيب شخصية ولاء عن الحضور في السرد ، إلا في حالات قليلة ، حين تمسح دموع القرنفل ، أو من خلال خطابها له ، و جاء كثرة التذكير بأنها اعتنقت البهائية تأثراً بأبيها كاجترار سردي ، كان زائداً في مواضع كثيرة ، ربما ليؤكد على تحوّلات شخصيتها ، وهيـمنة أبـيها ، و بالتالي تأثير ذلك على سراج .
أما عن الأحداث التاريخية فتجيء دائماً في الخلفية ، ثورة يوليو و تسميتها " حركة / انقلاب " في ص 91 ، ثم قضية الأسرى المصريين في حرب 67 ( تعرض لها فؤاد حجازي في روايته الأسرى يقيمون المتاريس ) .
يسأله سيد خاطر :
" لماذا لم تأخذ بثأر أبيك يا سراج ؟ هل دفنوه حياً في الرمال ؟ .. هل تعرف ذلك ؟ " ص95 .
يأتيه رد سراج معبراً عن حالة اللامبالاة من قبل الحكومة تجاه أبنائها :
" لم تفكر الدولة أن تعرف مصيره ، كان يدافع عنها و نسيته هناك في الصحراء " ص 95 .
تلك العبارة وضحت للقارئ : لماذا ينقم سراج على عبد الناصر و ثورة يوليو ؟ ، إنه شعور بالظلم و الاضطهاد ، نتيجة للتقصير تجاه والده و كل الأسرى في 67 ، تتضح تلك الصورة السيئة في وصف سعيد عقرب لهم :
" و رأينا الضباط و العسكر يدوسون بأحذيتهم الميري بيت زعيم الأمة ، و يطلبون من زينب هانم ، و كان الباشا نائماً وقتها كعادته ، أن يقابلوه ، لكي يتلو عليه أمر مجلس قيادة الثورة ، بشأن تحديد إقامته في بيته " ص 104 .
يأتي الموت ملاذاً للأبطال في الرواية ، يقول سراج :
" الموت هو الطريق الوحيد للنجاة من هذا القلق " ص 110 .
و تبرز مأساة سراج في قوله :
" إنني أفقد كل الذين أحبهم بلا إرادةٍ مني " ص 111 .
إنه نفس التردد الذي صاحب هاملت قبل أن يتخذ قراراته المصيرية ، يقول سراج :
" يبدو أنني رجل أحمق ، لا يعرف على وجه الدقة ماذا يريد " ص 112 .
نفس القلق الوجودي و التردد ، يتجلى في رواية ( الطريق ) لنجيب محفوظ ، لدى بطله صابر سيد سيد الرحيمي ، حين أوصته أمه الراقصة بسيمة عمران ، عند احتضارها أن يبحث عن أبيه ، لأنه غني و سيصبح ملاذه الآمن ، يقيه عوز الحاجة ، و يصد عنه غائلة الدهر ، يقول صابر لأمه ، و هي على فراش الموت ك
" هل أُضيّع عمري في البحث عن شيء قبل التأكد من وجوده " .
إنه نفس القلق و التردد الذي لازم سراج أثناء بحثه عن جده و أوراق البيت ، يقول سراج :
" أريد أن اصل إلى أرضٍ لم تطأها قدم إنسان " ص 131 .
الشك أيضاً يتملك شروق تجاه سراج ، تقول متهمة إيّاه :
" أنت الذي أبلغت الحكومة عن كامل الجوهري والد زوجتك " ص 134 .
إنه شكٌ تنامى عبر مكتسبات من الخبرات السلبية للحياة ، و تجاربها المريرة .
ثم تأتي محاولة سراج التصالح مع عبد الناصر ، توضح مدى ارتباك شخصيته ، يقول :
" و كأنني سائر في جنازة تشبه جنازة عبد الناصر ، الذي رحل في هدوء ، بينما ترك كل الأسئلة الصعبة على الشفاه ، رغم السجون و المعتقلات ، حلمنا معه بالحرية و النصر ، الرجل الذي رد كرامة المصريين " ص 101 .
تناقض آخر في ذات الصفحة :
" لم أحب عبد الناصر مثلما أحبته سماح " ص 101 .
ملمح آخر في النص ، وهو التطهر ببراءة الطفولة ، يقول سراج بعدما ترك حسين قاسم ابنه عنده ليربيه : " الأطفال عالم آخر من المتعة ، إنهم يزرعون داخلنا حياة جديدة " ص 174 .
تحوّل آخر في شخصية سراج ، ربما تحقق له حلمه بالأبوّة ، عوّضه طارق عن ابن تمنى أن تنجيه له ولاء ، قبل أن يكتشف سرها الدفين .
أما عن دلالات الصور في النص فتوضح أبعاداً سياسية للشخوص تتجلى في :
صورة النحاس باشا في بيت يوسف الواجدي .
صورة عبد الناصر في صدر بيت الحاج صالح النويهي في خور عيسى .
صورة محمد نجيب في بيت والد سماح زميلته بالجامعة .
كلها ترسم خلفية سياسية للأحداث ، و جاءت معبرة عن الشخوص و انتماءاتهم الأيدلوجية .
أما عن الصورة السردية في النص فهي قليلة ، و هي وصفية ، تنقل الواقع و تحاكيه .
أما الصورة الشعرية ، فكثيرة ومتنوعة ، يقول سراج :
" يرانا القمر الذي يصعد إلى ربوةٍ عالية ، هناك عند مرعى الغيوم ، تتسلق أحلامنا " ص 174 .
ثم تأتي النهاية ، بهروبٍ أخير لملاذٍ آمن ، و هو قصر رشوان " ارض الميعاد " ، التي يقول عنها سراج في رسالة إلى شروق :
" أحن إلى أرضك ، أرض جدي ، و حيث تتوق العصافير إلى حريتها " ص 179 .
إنه حلم الحرية ، يَجُبُّ ما قبله و ما بعده ، ليصبح ملاذ سراج الأخير ، الذي سيسعى إليه مهما تكبّد من مشاق ، لأنه بحريته سيصنع نهج حياته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق