الصفحات

2012/10/30

مقطع من رواية "حبيبتي مروة" لنصر عبدالرحمن



مقطع من رواية "حبيبتي مروة"
نصر عبدالرحمن

كنت أجلس على المقهى، أتابع العابرين، ومن حين لآخر أتابع اللعب، وذهنى منصرف إلى نقطة بعيدة، غير محدودة، يحاول القبض عليها وهي تراوغ كأنها اسم أحاول تذكره، ولا أستطيع.
" الوحدة عبادة " عبارة انطلقت في الهواء شديدة الوضوح بين ضجيج المقهى والشارع. تردد بريقها في رأسي، فبدأت أغزل فكرة، وأحاصرها حتى لا تزوغ وتهبط إلى أعماقي من جديد.
الوحدة عبادة.. الوحدة عبادة.
يسلك الأنبياء والمتصوفة والرهبان والعباد والزهاد والدراويش طرقاً وعرة على مستوى المجاز والحقيقة في آن. يخوضون في قلب القفار، ويصعدون إلى قمم الجبال. يلجأون إلى المغارات والغابات ليبتعدوا عن الناس. يهجرون الضجيج والعلاقات العابرة. ثمة ما يتكون في رؤوسهم، وثمة ما يجب حرثه في أجسادهم استعداداً للفكرة.
كلمة الحرث استدعت الحقول إلى رأسي. نهضت دون كلمة، ومشيت بسرعة. أحزنى أن أحداً من أصدقائي لم ينتبه لنهوضي، ولم أسمع صوتاً ينلدى علىّ، أو يسألنى إلى أين أذهب. اتسعت خطواتى وغالبت هذا الضيق المفاجىء، حتى لا تضيع الفكرة. تواطنت الشوارع معى، وانتهت بسرعة، لم يبق سوى عبور الكوبرى ثم مربع من البيوت، بعده المحكمة ثم الحقول بسوادها القطيفى ورائحتها الثقيلة. خليط من الهواء القوى المشبع بالندى، المعجون بالتراب، الممتزج برائحة ماء المصرف، وعبير زهور برية، وفوح أغصان وأوراق مدهوسة. عطر مفاجىء وحاد كخنجر ينغرس في الروح.
درت حول نفسى وصفقت بقوة، لكن صدى الصوت رجع مكتوماً، مختلطاً بصوت جرار زراعى يقترب. كاد يقضى على نشوتى. قفزت دون تفكير وعبرت قناة صغيرة ثم اختبأت خلف شجرة كبيرة حتى يمر الجرار.
إلى تلك البقعة- أو بعدها بقليل فيما أظن- تبعت عيال الشارع منذ زمن بعيد، لنشاهد مسرح جريمة قتل حدثت في الليلة السابقة، حيث جلس ثلاثة رجال صامتين في الظلام، ينتظرون قدوم غريمهم وقاتل أخيهم. حين لمحوه، انقضوا عليه وقتلوه ثم مزقوا أوصاله وعلقوا رأسه على فرع شجرة. كنا نمنى أنفسنا ونحن في الطريق أن نرى أشلاء الرجل وضابط البوليس أثناء عملهم، لكننا لم نجد سوى التراب، وبعض الرجال، وكثير من العيال، جاءوا يراودهم نفس الأمل تقريباً. ادعى أحدهم أنه وجد بقعة دم، فاندفعنا نحوه، ودفعناه، وتدافعنا لنلمس بأيدينا دماً بشرياً. لكنها كانت مجرد قطعة طين، اختلطت بدم أم بماء، تظل قطعة طين.
سمعت يومها عبارة، لا أعرف من قالها لمن، كأنها انطلقت من الهواء:" محمد أبو حامد قابله على الكوبرى، وقال له الجماعة هناك على راس الأرض." لكنه رفض العودة واستمر في طريقه الطويل المعتم- أيامها –إلى الموت.
مسارات غامضة تتبعها الأجساد الحية في سبيلها إلى الخلاص.
المواجهة والهرب مساران متعارضان أم مسار واحد؟!
ذهبت إلى الحقول كى أحصل على عزلة أكبر بكثير من عزلتى الصغيرة في حجرتى. يقولون أن عزلة الصحراء أكبر. الصحراء أساساً لا تنتج سوى الصبار والعزلة. أما عزلة الجبال- فيما أتصور – طرية وطازجة.
قلت لنفسى: هل أخطأت حين ذهبت بعيداً.. أنا أساساً في عزلة أينما وجدت أو اتجهت. ولا أملك من هذا العالم سوى عزلتى، تتبعنى كظلى. لا .. الظل يختفى باختفاء الشمس.عزلتى تتبعنى مثلما يتبع الكلب صاحبه. لا.. ليس هكذا بالضبط، وليس مثل ملابسى.. إنها شيىء بداخلى، لا يمكن فصله أو إبعاده عنى!!
أيام الثانوية العامة، والمذاكرة في عمق الليل، أدرت مؤشر الراديو، وتوقفت عند موجة صافية، تحمل حواراً بالفصحى. مسرحية عن بحارة عالقين في سفينة شراعية، وسط المحيط الهائل الاتساع، الذى يحيط بهم من كل جانب. ثم انقطع النور فانطفأ الراديو، ولكننى رأيت على ضوء النجوم الساطع، موج البحر وهو يطوح بالسفينة. يلقى بها إلى أعلى ويتلقفها، حتى تفككت ألواحها الخشبية، وانهارت صواريها، وغرق البحارة. لم ينج منهم أحد غيرى. نجوت بالطريقة القديمة المألوفة، ووجدت نفسى في الصباح على شاطىء جزيرة صغيرة بها ينبوع ماء وحيد، ومئات طيور البحر، وزمن ممطوط. فكلما وضعت علامات تحدد الوقت، محتها الرياح العاصفة والأمطار.
انهمكت في جمع بيض الطيور، ونصب الكمائن لسرطانات البحر. آكل وأنام وأجلس على الشاطىء ثم آكل وأنام. توقفت حتى عن محاورة نفسى حتى ضاعت اللغة وانتهى التفكير. لكن أيامى الفارغة الشاسعة الأطراف احتشدت بصوت واحد، يشبه صوت جرس نحاسى. يدق كلما هبت نسمة هواء باردة، معه يراودنى الأمل في العثور على أنثى ترقد على الشاطىء ذات صباح، حتى تهدأ أحلامى.
أريد أنثى واحدة فقط، دون شروط. عزلتنا معاً ستجعلنا نتفاهم دون كلام، دون إشارات أو نظرات. كما أفهم الريح والطيور وموج البحر وغروب الشمس. سنكون أنا وهي واحد ضد لدغات الآخرين الخبيثة والعفوية، بعيداً عن أشواكهم. سنكون واحداً صحيحاً مكتملاً، يحتل مربعاً صغيراً، بحجم العالم.
حين عادت الكهرباء، مسحت دموع عيني. دموع الشوق والحاجة إليك، حتى قبل أن أراك. عرفت أنك موجودة. أيقنت أننى سوف أجدك، وإن وجدتك لن أفقدك أبداً.
لكن الأطباء وقفوا ضد هذه العلاقة. قالوا لى: جسدك ضعيف وروحك هشة هشاشة لا تحتمل.. ضعف لا يحتمل.. خفة لا تحتمل. ثم سألنى أحدهم: ما لون حبيبتك؟ قلت لون البحر تقريباً. فأخرج مشرطاً من جيبه، وفتح فتحة في ذراعي، وضغط بقوة. ثم رفع كيساً في الهواء وقال انظر.. ها هي حبيبتك.. أخرجتها من جسدك. تاخد مضاد حيوي يومين وبعدها تبقى زي الفل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق