الصفحات

2013/05/24

الأمل: كاتب .. بقلم: محمد محمد مستجاب



الأمل: كاتب
 محمد محمد مستجاب

فشلت أن أنجب أديبا..!!
جملة أنهي بها والدي إحدي مقالاته.
جملة شقت حياتي نصفين.. وملئتني بالحيرة والأسئلة.. كانت كالزلزال، لم تزل توابعه مستمرة.
جعلت الولد الذي يتصعلك ويتقافز في المقاهي والمباريات، ويتشاجر مع طوب الأرض، ويتحرك في حياته دون وجهه ودون هدف محدد، أن يحدد ولأول مرة في حياته: ماذا يريد..؟
وكان القرار.. ان اصبح كاتباً..
لكن أي كاتب!! وانت خلفك سد عالى ضخم اسمه : محمد مستجاب.

لم اكن اعلم ان الحياة تعدك كي تكون كاتباً، فبعد هذا الاعلان الواضح من والدي، بفشله أن ينجب اديب، قررت التحدي، لكن الحياة اثبتت إنه ليس تحدي بل إنها تُعدك ان تكون كاتباً، وكاتب قصة قصيرة، لتصبح حياتي منقسمه نصفين: نصف تجذبه القصة وجحيمها ومتعتها وطرقها، ونصف لإنسان عادي يشاغب ويتعارك ويعيش حياة ملايين البشر.

فالخيال، والمغامرة اللغوية، والحكاية، والصحراء، والظلال، والظل، والمدينة، والطبيعة، والإشباع، والحارثون، والعذوبة، والبيت، والكتابة، والعدة، والمدخل، والورق، والسينما، والرسم، والموسيقي، والوحدة، والمكتبة، والحب، والحيوانات، والبحر، والتراث، والأساطير، والبدابات، والتاريخ، والمهن التى امتهنتها، والأصدقاء، والثورة، والبؤس، والفقر، والضحك، والسفر، والسخرية، والبحث عن عمل، والفشل، ورحيل أبي،  أشياء حملتها على جسدي، وتدثرت بها، فأصبحت  تكويني وخلايا جسدي، اشياء غامضة وساحرة ومقلقة وساكنة، تصرخ فيّ أن اسكت، واصمت، لأنها تعدني كي اكون كاتباً.

نعم هي أشياء وضعت في تكويني ولم اكن افهمها قبل الولوج إلى عالم القصة.
وبين الشد والجذب، اركن واستريح في القصة: معتمدا على جميع ما شاهدته عيني وما قرأته من سطور وشخصيات ومواقف حياتيه، لأجد أن ما مررت به سابقاً، وما امتهنته من مهن، هو العداد والعدة لكي أرسوا في قصتي الخاصة.

وبعد ان عرجت على اشكال كثيرة من البوح والفضفضة في قصاصات صغيرة من الورق والكثير من اساليب التعبير سواء التصوير أو كتابة السيناريو،  قررت أن اكتب قصة قصيرة، فكان امامي مجموعة من العتبات التى يجب ان تجتازها القصة وهم : الاشباع، الخيال، مغامرة لغوية، ومناطق جديدة، والعذوبة، لكن القصة لا تأتي بتلك السهولة، يجب أن تمر في مراحل وضعها أو ولادتها، كي تهبط او تصب في قالب، هو محدد سلفاً، فلا توجد كلمة او جملة زيادة او نشاذ، إنه الاختبار الحقيقي لأي كاتب.
نعم القصة مختلفة عن الرواية والسيناريو وغيرها من اشكال الكتابة الأدبية.
إنها المراوغة الحقيقية والاختبار والاختيار الصعب.

وبدأت أكتب.
لم اكن اعرف ماذا اريد، وماذا اكتب، بداخلي اشياء غير منظمة، وموضوعات تطرق باب العقل، فهل هذا يسمح، وبدأت القراءة من جديد، ولا انكر إنني بدات أقرأ محمد مستجاب – والدي- بعيداً عن فكرة إنه والدي، وماذا فعله بالقصة العربية، وماذا يريد، ليفتح لي باب القصة الضخم، وليصبح كل شيء ممهداً لي، وابدأ في اكتشاف المختبيء بداخلي، لكن المحيطين بي في تلك الفترة وخاصة الأصدقاء والأقارب، كانوا يرفضون فكرة ان يروا اديباً جديداً أمامهم، وكأنهم يغلقون الباب بكل حب في وجهي، لكن القدر يريد شيء آخر، شيء لا نعلمه بداخلنا، إنه الموهبة،  ولا أنكر هنا إنني قابلت الكثير من الموهوبين وكانت بدايتهم قوية، إلا إني وجدت موهبتهم تموت تحت وطأه متطلبات الحياة اليومية التى نعيشها أو يتم استهلاكهم على المقاهي والمنتديات وثرثراتها، ان القصة تحتاج إلى رعاية خاصة جداً، كي تبدا في فتح ابوابها لك.

يقولون الأسد أربعة خراف: حقيقة لم أكن اعرفها ولكني عشتها وأنا استعد للدخول لعالم القصة الواسع الرحب، وكانت اول الأشياء ما وفره لي والدي، ألا إنني اكتشف ان جهاز استقبالي – وهو شديد الحساسية – قادر على استقبال وامتصاص كل الأشياء حولي، قادر على استيعاب كل الدقائق والرقائق والمواقف التى امر بها، لتتسع مداركي وادين بكل ما حققته إلى كل الذين حولي، فهم زادي وقوتي والمعون الذي امتلكه، جميعهم من: استاذتي وجيراني واقاربي ورؤساء دول ومدرسين وافاقين وظرفاء ومستولين وجيران، وكل من قابلتهم من قتلة وبلطجية وآفاقين وموظفين، ليتضح في النهاية إنهم أنا، وإنهم أصبحوا خلايا جسدي ونقاط دمي، التى اصبحت جزء من تكوين عقلي، بلازما الدم الذي اعيش به، فالقصة جعلتني منتبهاً لكل ذلك، ودون قصد، أن الأمر في البداية يحتاج إلى تدريب، الا انه بعد فترة، يصبح شيء اساسي تسير به، فكل ما يحدث حولك سوف تهضمه وتمتصه ، وستأتي له لحظة دقيقة حاسمة كي تفرغه على الورق وانت تكتب قصتك .

يأتي بعد ذلك الخيال: واعترف انني وجدت ان نقطة الضعف الأولي في القصة العربية الحديثة هو الخيال، فكان يجب أن ابتعد بتفكيري عن كل الأشياء والموضوعات التى استهلكتها القصة القصيرة منذ بواكيرها، وقد تجاوز الشعر ذلك، إلا ان القصة توقفت عند موضوعات مستهلكة لابطالها: مثل الحصول على وظيفة او معالجة حبيبته او معانأة الأب لسداد المصروفات المدرسية لابنائه، كان ذلك اختبار ان تكون القصة محلقة، جامحة، يصعب أن تمسك فكرتها الأساسية، أي انه كلما قرأتها كلما  فتحت لك آفاقا جديدة، واظهرت وجهاً من وجوهها،  لذا تشبثت بهذا الركن الأساسي، ان احلق بخيالي وان يكون ابطالي واقعين جدا جداً ألا انهم محلقين في النص، اي يصعدون على ظهر القمر ويحاربون الشياطين  ويذوبون في نيران جهنم ثم يتهاوون بين الغيوم ليستكينوا في احضان حبيباتهم، وقد كان ذلك مجهد جداً ألا انه اثمر قصة مصرية خالصة، او عربية خالصة.
ثم يأتي المكان كبطل في القصة، بأشخاصه وتضاريسه ومفرادته الخاصة، فالريف في مصر يختلف من قرية إلى أخري، وكنت احاول ان تكون الكتابة ذات مذاق خاص جداً، وهذا ما يضعني في اتهام: انني قليل الانتاج،  وذلك لانني احب ان اطرح ما اعيشه من خلال كتاباتي، فأريد ان اكتب نصاً عن الصحراء أو أن افتت التراث والثوابت التى نشئنا عليها، لتصبح الأسطورة تلك المعون الأساسي في كتاباتي، هي النهر المتجدد الذي يمدني بالطمي والأسماك، كما أنها تفتح جوانحني لما حدث في الماضي كي استطيع ان اضع نبؤتي في قصة اكتبها، وهذه هي فائدة من فؤائد القصة او الأدب بشكل عام،  ان تري ما لا يراه احد، وتتوقع ما لا يتوقعه احد، وأن كان في حينه أقرب إلى الجنون لعدم حدوثه أو واقعيته،  مع ان الجميع يعيشون تلك الحياة، وقد حدث هذا مع قصة "هارون"، وهو مراكبي لا يفارق قاربه، ألا انه يحب لعبة التحطيب، وعندما يقع جريمة قتل على قاربه، من اشد عائلة في القرية، تنكر القرية تلك الجريمة التى شاهدها الجميع تحت وقع الخوف، ألا انه يصمم على تحدي  كل القوي، وان الاشجار والشمس ومجدافي قاربه هما شهوده وقوته بعيداً عن خوف الناس، ليصبخ البطل الذي يقود القرية للثورة على تلك العائلة التى سلبتها حريتها، ان تلك القصة كان من اولي القصص التى كتبتها، وعندما حدثت ثورة يناير، وجدت من يقول أنه تبأ بالثورة، هنا يكون التفاعل بين ما تكتبه وتراه وبين الواقع، وهو هام للكاتب لانه يشعره إن قصته قد اصابت ونجحت.

يضاف إلى ذلك إنني احب ان اكتب عن الحيوانات، وان البسها كساءً حديثاً، أي يكون بطل القصة حيوان، ومع أن النص العربي والقرأني مليئ بقصص الحيوان،  ألا ان ذلك نجده نادراً في قصصاً العربية الحديثة، نعم النموذج الاوربي يطغي علي نصوصنا، وهذا ما يضايقني، حتي إنني اكاد القي تلك النصوص، الا ان النص العربي، باشكالياته ومفرداته وتجربته وطموحه يجذبني، فكتبت قصة قصيرة جداً، في ست سطور، عن العصفور الذي يتغني بصوته، ألا أن يتجمد من البرد ويقع على الأرض ويكون الموت قريباً منه، فتمر عليه بقرة وتتروث عليه، فيزيب الروث بروده جسده وتعود له الحياة، فيعود لغنائه، وهنا ينتبه قط جائع لغنائه، فيقوم بتنظيفه من الروث ويبدأ في إلتهامه، إنني هنا اكتب ما اشعر به على مستوي الإنسان في كل مكان، لكن الهدف من وراء القصة يتغير بتغير الأشخاص وطريقة استقبالهم للنص، وهذه متعة وميزة الكتابة والأدب.

والمدخل الذي يستقبلك في القصة كان يحيرني، ربما يكون بعيداً عما اريد طرحه، الا انه الذي يتسقبلك قبل ان تدخل الى صحن او قاعة النص الرئيسية، فاذا كان المدخل معتم ودرجات سلم القصة محطمة فسوف تعيق القاريء في استقباله وبالتالي سوف يلقي بالقصة، أن الاستهلال، شيء صعب في القصة ألا انه اساسي، لانه اول درجات النجاح.

ثم نأتي إلى أن القصة تحب الهواء الطلق، أي البراري والصحراوات والأشجار والشواطيء والشمس، وتموت خلف المكاتب وشاشات التلفزيون وظلال المقاهي وثرثراتها، فتذبل جملتها وتتكرمش كلماتها وتتجعد حروفها، وتتحول القصة إلى مواعظ وإنشاء مدرسي فاقده التأثير والتواصل والرؤية، فالقصة تحب أن تخرج من حدود المدن إلى الهواء الطلق في المزارع والبراري والصحراوات، فالشمس لاتثمر النباتات الضعيفة والهواء الحر الطلق علاج لكل الكابة والنحافة وقصر النظر وكرمشة وجة الجملة في القصة العربية.
ولا انكر ان والدي كان محقا في ابتعادي عن المدينة، أي الخروج من الزحام والضجيج والمطالبات اليومية التى تستهلك الإنسان، فالمدينة قتلت القمر وفتته وحولته الى كلوبات ومصابيح وسيارات، واغتصبت الشمس وحولتها الى أجهزة تكيف وقطع حشيش ومولات تجارية، وكان الانتقال الى مكان أري فيه الشمس بلهيبها وكسوفها، وانتظر القمر بتقلباته، وابحث كل ليلة عن بنات الحور وهن يتجولن حول القمر ثم يقمن بمضاجعته في نور الشفق كي يتحولن إلى قصة قصيرة خاصة بي، وبخيالي الذي خشيت أن تلوثه المدينة بكل ضيق أفقها وبؤسها اليومي، حتي اتمكن من كتابة نص عذب وصافي ورائق ودسم، يشعرك بالشبع والامتلاء الوجداني، يناوش عقلك ويجذبك من مدينتك ومدنيتك ويرتد بك إلى البواكير أي ان تكون انساناً فقط كما خلقك الله.
واجمل ما في القصة أنها تعطيك احساس شفاف ورائق بأن تكاد تحس ان احدا قبلك لم يكتبها، وانك اول من اخترق هذا الموضوع وتلك القضية، وان كتابتك تاركه أول اثر على اديمها النعم الخشن القاتل والصادق، كي تصبح القصة ذا شان وتأثير وقيمة،  أي تجعلك تنصت انصاتا كاملاً لايقاع البيئة وعناصرها  وتشكيلات جمالياتها، حتي نحس بطعم المكان ورائحة المكان وجبروته وسطوته أيضاً.

والسفر والانتقال والذهاب الى أماكن جديدة على القلب والعين والجسد، تقوم بغسلك كل فترة زمنية، تخلصك من الادران والطفيليات التى علقت بذاكرتك وببدنك،  لذا اصبحت القصة فاترة كئيبة فاقدة الوهج والتنوع، محدودة الالفاظ والمعاني ، ضيقة الصدر وباردة الوجدان، فالسفر علاج إلى كاتب القصة، فيه يتجدد وينفض غبار الحياة اليومية بسخافتها وبؤسها.

والأشباع، احد العناصر التى وضعتها في بؤرتي أثناء كتابتي للقصة، أي تلك الحالة التى تحس معها إنه لم يعد هناك مساحة لمزيد، وأن القصة مكتملة ووصلت الى الذروة، أي متقدفة وصاعدة ومتشابكة ثم انفراجة حتي تصل بالقاريء الى الاستكانة العقلية العذبة، ان الأشباع عنصر أساسي وصعب الوصول إليه في القصة، وتشعر به كلما ازادت قرأتك، وكلما اتسعت معارفك، فأذا شعرت ان القصة لم تقدم لك ذلك العنصر، فأعلم ان الأشباع هو السبب، إنه ملح القصة، فلا هي حادقة ولا هي غير مستثاغة، وقليلين هم من فعلوا ذلك: ذكريا تامر ويوسف إدريس ومحمد المخزنجي، أن الأشباع هنا يقودك إلى الأمتلاء الأدبي التى تفتقده الكثير من القصص التى نقرأها في الكثير من الجرائد والمجلات.

ثم يلي الأشباع عنصر هام من عناصر تكوين القصة وهو العذوبة : أي السلاسة في استقبال النص، بتراكيبه اللغوية والذي يمنحه الله للاديب فيضعه في سطوره، تجعلك ذو مذاق خاص متوهجا وبسيطا وقادر على النفاذ للوجدان والعقل، والعذوبة من اخطر العناصر في القصة العربية، تلك التى تجعلك تنفر من نصوص ولا تصادقها مهما حملت من قضايا او موضوعات، انه اللمسة الساحرة والمسمار النافذ، هاديء لا يشوشرك بمطبات وتقاطيع خارجة عن النص وعن مستوي اللغة، فشعر بأن القصة التى تقود يد القاريء غير ممهدة وغير عذبة وغير مكتملة.

بعد تلك العناصر الأساسية في القصة، تعلمت إنه يوجد عناصر أخري يجب أن تتوافر في الكاتب، أي كاتب، اولها: الحارثون في الادب، اي الذين قلبوا تربة حياتي من روايات وافلام وموسيقي ونصائح وتوجيهات، امدوني بالمثير دون ان اكون منتبهاا لهذا، وكأنه استعداد وتجهيز كي تزرع قصتك الخاصة، انني ادين إليهم سواء كانوا شخصيات او اماكن او كتب أو حيوانات أو مواقف حياتيه، وثانياً: البيت: بتكوينه وجدرانه ومكتبته وفرشته،  ذلك البيت  الذي يحرس لبداعك من الصعلكة  والمعارك الأدبية الوهمية والجري خلف لقمة العيش، ان البيت هو مقر كي يحمي تكوين الفنان أو الاديب، فهو المكان الذي تركن فيه بعد كل تجاربك، كي تخط قصتك، والمكان عنصر أساسي في استقبال القصة، بنظافته وملبسه وطقوسه التى تصنعها، فتصبح جزء أساسي من تكوين قصتك، اضف إلى ذلك العدة التى تستخدمها سواء كانت كتب او معاجم او موسيقي تسمعها او اوراق بيضاء وقلم تتعامل بها، قد يبدو هذا شيء خارج عن إطار الكتابة، لكن التجربة اثبتت ان المكان بكل طقوسه جزء اساسي وهام لاسقبال نصك.
  
ان الطبيعة في الخارج تداور الشجر والصمت والرمل والحكمة والنجوم والقمر،  منتظرة فنانا جديدا يصنع ادبا جديدا وقصة جديدة لم تكتب بعد، وانني عندما اكتب القصة فأنني غني جدا جدا جدا، واتمني ان اكون قد نجحت في ان ينجب محمد مستجاب الأب اديباً.

مجلة الجوبة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق