الصفحات

2014/06/27

"غصة رغيف" فصل من رواية "هذا فراق بيني وبينك..!" لطه حسن

غصة رغيف
(فصل من رواية "هذا فراق بيني وبينك..!")
بقلم:  حسن طه
    التحق المستخدم "توبان" بالشركة. وجد الكاتبة القديمة الجديدة "ربيعة " قد تم تنقيلها، إثر ترقيتها، إلى المديرية حيث يشتغل الشاف " زنكاوي"... كانت ربيعة ذات ثقافة وخبرة مهنية عالية: ابتداء من طبع الرسائل، مرورا بتهيئ الملفات وفهم مجراها، و انتهاء بإحصاء كل شاذة وفادة، سابقة أو آتية، صاعدة أو نازلة... . لم يبق لها على التقاعد سوى سنوات قليلة. تعيش حياة بسيطة من حيث الأكل والملبس والتمريض، مهزوزة المعاشرة الزوجية، مقهورة من حيث الاشتغال مع رؤساء المصالح. تعمل أكثر من تسع ساعات في اليوم. لا تقيل ولو دقيقة واحدة. لا تتردد في إضافة ساعة أو أكثر كل يوم لوقت العمل القانوني. تفرغ  جهدها في إرضاء  رؤسائها إلى حد الدلال، حتى لا تحرك فيهم سورة الغضب. تقدم لهم جميع الخدمات، بما في ذلك على شرفهم فناجين القهوة الصباحية والمسائية من الموزع الآلي. تحاول أن تكون رهن إشارتهم في كل وقت، حريصة على الجدية والتأدب معهم في كل آن. تبالغ أحيانا عندما تعطي لرئيسها الحق المطلق فيما يقول ويفعل، ظالما إياها أو غيرها بالباطل...؛ لا تقبل الاستفادة من عطلتها السنوية إلا في نفس الفترة التي يحصل فيها الشاف على إجازته السنوية، لا يرتاح لها البال إلا إذا تزامن رجوعها إلى العمل مع عودة رئيسها من العطلة...

 لم يكن زوجها "حمامصي" يعيرها في البيت أي اهتمام. كان مصابا بعدة أمراض. في نهاية كل شهر، يخصم من أجرتها ما يلزمه لمعاقرة الخمر. تصرف ربيعة ما تبقى من أجرتها في قضاء حاجيات البيت وأولادها. كان حمامصي يهددها بالطلاق من حين لآخر، يهجرها إلى خليلته بمدينة أخرى، لا يعود  إلى ربيعة إلا بعد أسبوعين، يفتعل الرعب والفزع في البيت كما يفعل زنكاوي في العمل...، إلا أن ربيعة لم تكن تقوى على الاحتجاج. كانت تعمل في صمت على أن ينشأ أولادها في المدارس، تصابر رغم إصابتها كذلك بأمراض مختلفة...

 تزامنت ترقية ربيعة  من مرتبة <<كاتبة رئيس قسم>> إلى  مرتبة <<كاتبة مدير>> مع حصول زنكاوي على منصب مدير. بجرة قلم، وجدت نفسها في قبضة زنكاوي. لطمت خديها. رأت في ترقيتها نقمة عليها. إنها فرصة ثمينة بالنسبة لزنكاوي الذي يستمرىء الانتقام بأناة ونفس طويل، ولا يعدل عن جوره وظلمه إلا إذا خاف بطشا من جهة معينة غير قابلة للتحايل والمراوغة. عند تسلمه لمهامه الجديدة، تذكر زنكاوي واقعة اختفاء ملف ذي أهمية خاصة. حك راحة يده اليمنى  براحة  يده  اليسرى عدة مرات. زم فمه، ثم حرك شفتيه  قائلا بنشوة:  "جرت الرياح بما اشتهته سفينتي". تنهدت ربيعة بشدة  لما عرفته عن زنكاوي. بكت بمرارة. جلست في الكتابة. قالت لزملائها:

   -  جنيت على نفسي. سبق لي أن ارتكبت خطأ جسيما بحق  زنكاوي رئيسي المباشر القديم.

سألها توبان الذي لم  يكن على علم بالواقعة:

   -  كيف ذلك؟ ما الخطب يا ربيعة؟

   أجابت:

   -  لما رأيت الشاف زنكاوي، تذكرت حدثا مر بي منذ سنوات، إذ تم تنقيلي إثره إلى مصلحة أخرى. كنت سأتسبب في طرده من العمل لأن شهادتي كانت حاسمة في موضوع اختفاء أحد الملفات.

اندهش زملاؤها. استطردت في سرد الحكاية: 

-  استطاع زنكاوي أن يأتي شيئا نكرا بالشركة. كذب بلا تردد  ولا خجل على الرئيس المدير العام السابق  سمار عندما استفسره حول اختفاء الملف. تستر على خطإ فادح ارتكبه رئيسه المباشر السابق "المعطي" الذي كان يلقبه المستخدمون الكارهون له ب "...". أدليت بشهادتي في الواقعة. أكدت لسمار بأن الملف اختفى من المصلحة منذ أيام قليلة فقط. لم يكن ينبغي لهذه الشهادة أن تصدرعني لولا الضمانات التي منحها إياي "سمار"،  منذرا الشافات الحاضرين للشهادة بأن كل من ألحق بي ضررا ما في الشركة أو خارجها سيتحمل وزر فعله. بارك الجميع هذه الضمانات بآمين. كان سمار أشد بأسا من كل المدراء الذين تعاقبوا  قبله على رأس الشركة. إذا عاقب لا يرحم، وإذا غلب لا يعف. كان توقيع الطرد أبسط إجراء يقوم به، وقطع الأرزاق أهون فعل يلجأ إليه...؛ خلال فترة التحقيق في ظروف الواقعة، قام سمار ببعث الشاف المعطي في مهمة مفتعلة إلى الخارج، لكي لا يعلم أي شيء عن الإجراءات التي ستتخذ في حقه. انتهى البحث بمكتب المعطي عن وثائق أخرى  قصد ضبط حالها ومآلها. أمر سمار حراس أمن الشركة بمنع المعطي من الدخول إلى الشركة بعد عودته من الخارج. طلبوا من المعطي الانصراف إلى إشعار آخر. بعد أسبوع، توصل المعطي برسالة توقيفه من العمل لمدة ثلاثة أشهر...؛ قرر سمار كذلك معاقبة زنكاوي الذي تضرع إليه و إلى الشافات الآخرين تضرعا شبيها بالبكاء، انسلخ به عن تحرشاته وظلماته إلى حد الانبطاح والخنوع. بكى بكاء ملؤه المكر والخداع  من منبت دموع التماسيح. تدخل  زملاؤه لدى سمار. بعد أخذ و رد، أصدر سمار عفوه، قائلا بغضب: "هذه آخر مرة أرى فيها وجهك الممسوخ". فأفلت  بمشقة من عقوبة التوقيف، لكن نال حصته من التأنيب. كانت هذه هي المرة الأخيرة التي أرى فيها بدوري وجهه. استمر في عمله إلى أن التحقت اليوم  بمديريته...

اعترض عليها عبدالحق متسائلا:

    -  هذه الواقعة تدخل في حكم الماضي، أين يكمن المشكل؟ أنت أدليت بشهادة طلبها منك سمار في وقت ما. لا يجوز لزنكاوي أن يعتبر هذه الشهادة خطأ جسيما.

    ردت عليه:

    -  كانت شهادة حق في زمانها،  لكن اليوم سيكيفها زنكاوي على أساس أنها خطأ فادح في الماضي له امتداد في الحاضر.

حاول عبدالحق التخفيف من روعها قائلا:

   -  لا تأبهي بذلك. غالبا ما سيكون قد نسي أو تناسى واقعة اختفاء الملف، لأنه هو بنفسه يكره أن  يذكره شخص ما بالواقعة. كيفما كان الحال، سيحميك الله قبل القانون من انتقامه إن شاء ظلما.

ردت عليه ربيعة بامتعاض:

   -  إنك لا تعرفه جيدا، إنه شيطان يستحضر الماضي بكل تفاصيله في كل لحظة. لا يغفل عن أي شيء، وإن ظهر عليه النسيان، فإنه يتظاهر فقط بذلك لغرض في نفسه. بل الأمر الغريب هو أنه بحكم  ترقيته بسرعة وبسهولة من منصب إلى آخر، أصبح يعتقد كامل الاعتقاد بأن السماء تحميه وتزكي أفعاله. إني أخشى بصدق حقده وانتقامه.

عقب توبان:

    -  لا تبتئسي يا ربيعة بما سيصنع. إن الله توعد الظالمين، وسيعذب من يعذب الناس.

أضافت ربيعة:

   -  إنه بيرو- قراطوي كبير. أنا مجرد كاتبة، من ذا الذي سيصيخ السمع إلي؟ إنه "شريف"  الذي  يتعامل مع الآخرين خارج مكتبه  كأنه مسؤول متزن وإنساني، وأكثر وداعة من الحمل، وأحرص على الوفاء من الكلب. لكن حيثما وجد الحمل والكلب  فعل بهما  ما يفعله  الذئب في رقصته مع فريسته. له  دوره في شبكة  البير- وقراطويين الذين يتآمرون فيما بينهم على كل من اقترب منهم  بسبب العمل أو بغيره من الأسباب. لو لم يتم تعيينه على رأس المديرية في الأجل المحدد، لرأيته بأم عينيك  ينفث سعاره في هذا المستخدم أو ذاك.

    اقترحت عليها الكاتبة الجديدة  وصال قائلة:

    -  إذا كان الأمر كذلك، اطلبي الانتقال إلى مديرية أخرى.

    اعترضت ربيعة على اقتراحها:

    -  ستكون هذه هي المرة الثالثة التي سأتقدم  فيها بطلب الانتقال. وهذا شيء  مذموم إداريا وينزع إلى الريبة. وأكثر من هذا، بماذا سيفيدني الانتقال مادام أن هناك شبكة منظمة على شاكلة عصابة لا تخشى الله  ولا ترحم العباد؟  علاوة على أن زنكاوي سيرفض طلب انتقالي بسبب تلك الواقعة حتى ينتقم مني.

    في هذه اللحظة، رن الهاتف. أخذت ربيعة السماعة مجيبة: 

    -  نعم أسيدي، بسرعة.

    اعتذرت ربيعة لزملائها قائلة:

    -  اسمحوا لي، إنه زنكاوي. طلب مني أن ألتحق بمكتبه خلال دقيقة.

    نظر زنكاوي إليها بعينين زائغتين. مطط شفتيه بابتسامة صفراء. استلطفته ربيعة قائلة:

    -  أتمنى لك ، أسيدي،  منصب "مدير قطب" إن شاء الله.

رد عليها في يأس مفتعل:

    -  اسمحي لي، إنك تحلمين أو بك هذيان، أين أنا من منصب "مدير قطب"؟...

صمتت هنيهة. شعرت بأن كلامها مردود عليها كأن زنكاوي يقول لها: "لن تنفعك معي حيلك، ولو كنت صادقة في كلامك". قام زنكاوي من مكتبه. أضاف  قائلا:

    -  يبدو لي أن فهمك للأمور متأخر جدا...، أعيدي طبع هذه الرسالة بسرعة على ضوء الحواشي المدونة فيها بقلم الحبر.

    أجابت:

    -  نعم أسيدي، بسرعة.

    حاولت ربيعة أن تقرأ خربشاته، لكن بدون جدوى. عادت إليه لتستشيره في الأمر. أشاح عنها بوجهه، فقال:

    -  الشاف الشديد هو الذي يكتب بخط رديء شبيه بكتابة العقود العدلية القديمة والوصفات الطبية الحالية، فهو كذلك يوثق الأقوال والأفعال، ويداوي من لا دواء له. أما من هم دونه من المستخدمين، فيجب عليهم أن يحرروا رسائلهم أو يضمنوها تعديلات بخط واضح  ومحترم  يقرأه الشافات بسهولة وبدون تعثر.

    عقبت ربيعة:

    -  شكرا أسيدي على هذه النصيحة. سآخذها بعين الاعتبار.

   التحقت بها وصال. قالت متأسفة:

     -  كان عليه أن يرد على متمنياتك له بقول "إن شاء الله".

    أوضحت ربيعة:

    -  "متى كان الطرق ينفع في الحديد البارد؟". يعرف زنكاوي من أين تؤكل الكتف، يتستر دائما على سعيه في الحصول على  المناصب والترقيات. يتنازع عليها  في الخفاء بكل الوسائل وعلى حساب المستضعفين من المستخدمين. تتجاوز طموحاته في السلطة واقع منصبه الحالي بكثير. ولاريب في أنه يسرح الآن في هوسه بالاستيلاء على منصب الرئيس المدير العام للشركة، كيف لا  وهو الذي  يِؤمن  بأن أصابع البيرو- قراطويين تلمس السماء، ويصنعون المستحيل دون غيرهم من المستخدمين الذين لا يكدحون إلا في الممكن البهيمي البسيط؟! 

   عقبت وصال:

   -  عليك بالصبر، ماشاء الله. في المنزل، تجدينه  دائما في خشية من ظله. في العمل، "يتمودر" ويتجبر ويطغى على أولاد الناس، لكن ما أكثر أمثاله...

انصرفت وصال. بقيت ربيعة تردد في مكتبها: "حسبي الله ونعم الوكيل"... . لم يكن زنكاوي يشفق على حال ربيعة. كلما سمع قولها أو رآها، يتذكر شهادتها،  ينزع إلى الانتقام منها ولو بكلمة نابية، يستفزها، يأمرها بتنفيذ أشغال تافهة على وجه السرعة،  يطلب منها البحث عن وثيقة وهو يعلم تمام العلم بأنها لم يبق لها أثر بالشركة. هدفه الوحيد هو أن يتعبها في البحث عن اللاشيء، أن يتفرج على تعاستها في البحث عن فقاعة متقادمة خطرت بباله. يلاحظ عليها:

   -  لقد استغرقت وقتا طويلا  في غرفة المحفوظات.

تبرر ربيعة قائلة:

   -  اجتهدت في البحث عن الوثيقة ولم أعثرعليها. لقد مرت عليها أكثر من عشرين سنة.

   يرفض زنكاوي الأعذار، لا محل لها في الحياة المهنية...، يلاحظ عليها مرة ثانية:

-   تنقصك االفاعلية في العمل، من المفروض أن يكون لك من التجربة ما يكفي لإيجاد هذه الوثيقة بسرعة، ولكن تشفع لك المقولة التي تروقني فاعليتها:"كم من حاجة قضيتها بتركها".

تعقب:

-  أعتذر أسيدي، العفو أسيدي...

يأمرها زنكاوي بالقيام بعمل أخر، مؤكدا: "إنه مستعجل". يتوجه نحو مستخدم ثان، يطلب منه تهييء ملف نزاع تجاري خلال نصف ساعة . يهتف إلى مستخدم ثالث، يأمره بمباشرة بعض الإجراءات على وجه الاستعجال في ملف التأمين. يتصل بمستخدم رابع، يطلب منه أن يحضر بسرعة  سجلات التحملات السنوات الخمس الأخيرة. تكون هذه الأشغال غيرمرتبطة فيما بينها، لكن كل واحد منها يحتاج إلى تضافرجهود المستخدمين الأربعة في نفس الوقت. يخوضون في استنجاد بعضهم  بالبعض لتنفيذ أوامر زنكاوي الموقوتة. ينتج عن تضارب الأشغال صراع الأولويات المفتعل. تصير الأمور بينهم إلى عتاب متبادل ومشاداة كلامية. تنشب بينهم العداوة. يرتاح زنكاوي في مكتبه  منتشيا بقدرته الفائقة على الإيقاع بالمستخدمين في التطاحن، متفرجا على إفرازات استعجاله الماكر. بعد مرور الوقت المحدد لهم، تكون الأشغال غير منجزة . يخلي سبيل المستخدمين جميعا إلى وقت لاحق. يستدعي ربيعة إلى مكتبه. يطلب منها تحرير استفسار حول تأخرها في إنجاز العمل المطلوب وعن أسباب الملاسنة الواقعة بين المستخدمين، يشعرها بالذنب ويحملها مسؤولية ماحدث...، فتنال جزاءها من فائض قاموس الإهانات والتأنيب...

تتوالى عليها ملاحظات زنكاوي القاسية صباح مساء: منها ما يهدر كرامتها ويخدش صبرها، ومنها ما يثير غضبها، إلا أنه غضب صامت. تحاول أن تكون  جد حذرة من أن  ينفلت منها أي سلوك يستفزه. لكن زنكاوي يسمح لنفسه بكل فعل من شأنه أن يذيقها المرارة أو يبث في نفسها جرحا غائرا. تصبر مرة،   تعتذر مرة أخرى ولو كانت على حق. تلتمس منه العفو حينا ولو لم ترتكب أي خطإ، تذرف الدموع حينا آخر في بيت الراحة...

مرت شهور وربيعة لم تستطع الصبر. تأبى <<أناها>> الظلم. تقول لنفسها: "لم أتمكن من الاستمرار في تحمل طغيان زنكاوي...، علي إذن بمواجهة نفسي، سأقهر هذه النفس اللوامة حتى أستزيد من رضوخها وإذلالها  لزنكاوي". سبق لها أن سمعت في صغرها بأن من دأب على الأكل في بيت الراحة "يقتل نفسه"،  تذهب أنفته وكبرياؤه، يصبح كالكلب لا يبالي بالسباب، يقبل بكل الشتائم، يستسلم للخنوع ببساطة، يتحمل الإهانات بصورة اعتيادية، لا تهزه أية قيمة لينتفض ضد الظلم  والاستبداد، ولو في محيطه الصغير... . أخذت ربيعة تتناول وجبة الغذاء في "مرحاض النساء" بعدما يغادر زنكاوي مكتبه إلى مطعم الشركة. ظلت تعيش على هذه الحال  لأسابيع... . في النهاية، تبين لها أن تجريب هذه الفكرة الخرافية لن يسعفها في إذلال نفسها وإرضاء زنكاوي، نظرت إلى مرآة  بيت الراحة، أحست بشيء من  مرض ما  بدأ يتسرب إلى نفسها، لم تتبين سر هذا الإحساس، حاولت الإقلاع عن هذه العادة المقززة، لم تفلح...

عاين توبان حالة ربيعة. سجلها في " ورقة  محترمة" كما يروق  للرئيس "شلمان"، زميل زنكاوي، أن يصفها في كل اجتماعاته. عندما يطلب شلمان ورقة بيضاء من مستخدم لكتابة شيء ما، يشترط أن تكون "محترمة ". ترك توبان الورقة في بيته. جاءت "نورا" صديقة زوجته أنيسة لزيارتها يوم السبت كالعادة. قرأت بالصدفة محتوى الورقة بمعية أنيسة. سمعها توبان من مكتبته تقول: "أنا هي ربيعة التي تشتغل في شركة المال والأعمال، أنا ربيعة التي تتناول وجبة الغذاء في بيت الراحة". التحق بها توبان على التو، معترضا:

-   أنت لست ربيعة لأسباب دونتها في ورقة أخرى غير محترمة ولم تطلعي عليها، احتفظت بها في مكتبي بالعمل. كانت ربيعة مرغمة على الأكل في المرحاض. أما أنت، فتقومين بذلك عن طواعية.

ردت على كلامه:

   -  لا، أنا لم أكن كذلك في البداية. أنا الآن موغلة في الإذلال وجد متقدمة في الهوان بالمقارنة مع ربيعة. أتحمل الإهانات والتعسفات الصادرة عن الشافات وعن بعض الزبناء على حد سواء. جعلني التوقيت المستمر وانعدام المطعم وحاجتي إلى القيلولة تحت رحمة التجاوزات والإهانات أخلد إلى الراحة في المرحاض لأتناول وجبة الغذاء بسرعة، حتى ألفت هذه الحالة الوضيعة وأنا لا أشعر...

أضاف توبان:

   -  لكن الأسباب تختلف...

التحق  توبان بعمله صباح الغد. روى لمسعود ما لاحظه بشأن ربيعة وما جرى له مع نورا. عقب مسعود:

    -  أعتقد أن ربيعة تعتقل نفسها بنفسها كل مرة بالمرحاض في انتظار <<المحاكمة>>.

اندهش توبان لهذا التعقيب. سأله:

   -  كيف؟ ماذا تقصد بذلك؟

أجاب مسعود:

   -  أمرني زنكاوي في العام الماضي بتمثيل الشركة في إحدى القضايا. عند الوصول، شعرت بحاجتي الطبيعية إلى التبول. سألت الحارس عن بيت الراحة. أجابني بغلظة: "مشغول". انتظرت لحظات ولم أشهد أي شخص يغادره. عدت إلى الحارس. سألته من جديد. أجابني بنبرة جد حادة: "الفاهم يفهم، راه مشغول بمعتقلين في انتظار محاكمتهم، وأنا أحرسهم الآن". بحثت عن مقهى، لم أجده. التفتت يمينا وشمالا، رأيت بعض الأشخاص يتوجهون فرادى نحو السور. حذوت حذوهم، وجدتهم يقضون حاجتهم الطبيعية، فعلت كما يفعلون، عدت من حيث أتيت...؛ ألا ترى أن ربيعة تعتقل نفسها بنفسها مثل هؤلاء المعتقلين في بيت الراحة كل يوم في انتظار محاكمتها من لدن زنكاوي؟ ألم تطاردها لعنة اختفاء الملف  وممارسة حق الشهادة بخصوص زنكاوي؟ ألا تعلم أن زنكاوي  "يحاكم" المستخدمين يوميا بدون أسباب؟  لقد سمعتها مرة من مرحاض الرجال تتوسل في بيت الراحة إلى وصال بأن تدعو لها بسلامة الخدمة.

حرك توبان رأسه مؤيدا كلامه بقوله:

-   مع الأسف الشديد، ستظل ربيعة كما أعرفها  "تحترف الهموم" رهينة بين الاعتقال الذاتي بالمرحاض و"محاكمات" زنكاوي في المكتب إلى حين إحالتها إلى المعاش...

تلوذ ربيعة بالحاسوب، تنقر على أيقونة  <<وورد>>  نقرتين، تكتب البسملة والحمدلة لرسالة تحمل شكواها إلى ابنتها "ابتسام" التي تقطن بلندن:

"عزيزتي ابتسام، أريد أن أروي لك ما أقاسيه في عملي بالشركة، وما كنت أخفيه عن أبيك، تفاديا لإزعاجه بإفرازات بيرو- قراطوية زنكاوي. إنني في حاجة إلى دعم معنوي أكثر منه مادي. أنا مواطنة مغربية. أشتغل الآن كاتبة المديرية. وزنكاوي مواطن مغربي، هو الآن <<الشاف ديالي>> بالشركة. أظهرت لي علاقتي بهذا الشاف المواطن فظاعة العمل وبشاعة الاشتغال تحت إمرته، أوكما يصفه عبد الصبور: "خطر عمومي".  يسيء إلي صباح مساء. يستنزف وقتي كله في المسائل التافهة. يعاملني باحتقار في كل لحظة. يستنفذ طاقتي بدون مقابل. يبالغ بشكل مثير في استغلالي. لا يهتم إلا بنفسه ومصالحه وعياله. يجهز على حقوقي التي يخولها لي القانون الداخلي ورب العمل. يرجىء ترقيتي بدون سبب . يكلفني ما يغلبني. يفوت علي وقت الخروج من العمل،  فتضيع مني فرصة الاستفادة من سيارة نقل المستخدمين، كما يفعل بتوبان وعبدالصبور. ينبس في بعض الأحيان بكلمات قبيحة ومستفزة، يقول: <<خادمة الفيلا في هذا الزمان أفضل بكثير من كاتبة المديرية، إنها في وضع مريح...>>. تتسم هذه الأساليب والسلوكات بالتكرار والإصرار وتضر بقيمتي ووضعيتي الإدارية...

"عزيزتي ابتسام، أنت تعلمين أشياء ولو بسيطة عن ظروفي السابقة في العمل التي لم تعد تسمح لي بتوجيه تظلم ضد زنكاوي، خصوصا الآن، إذ استطاع بين عشية وضحاها أن يكون له نفوذ واسع لدى البيرو- قراطويين بالشركة...؛ حدث مرة أن أحسست بعياء قاتل في مكتبه، اضطررت معه إلى الجلوس فوق الكرسي المقابل لمكتبه في انتظار استرجاع  قواي الجسدية والعقلية. التفت إلي وقال في غضب: <<من أمرك  بالجلوس؟>>. لم أجب على سؤاله، نهضت معتذرة. لا يستحي في أن يأمرني بأن أظل واقفة لمدة تفوق الساعة بجانب مكتبه، وهو ناكس الرأس، يكتب ويشطب، يستبدل وينقح، يضع القلم، <<يطرطق أصابعه وينحنح>>، يفتعل التفكير وشرود الذهن. عندما أحاول الذهاب إلى الكتابة لأرتب وأسجل المراسلات والملفات المتراكمة بها، يبادرني بالقول: <<أين ذاهبة؟ ابقي واقفة هنا، إن الشغل الذي أقوم به الآن ضروري ومفيد لتكوينك المهني الذي أصبح متجاوزا في الوقت الراهن>>. يجعلني الوقوف في بعض الأحيان أعتمد على سبابة  يدي اليمنى، أتوكأ بها على أقصى زاوية من طاولة مكتبه. يلاحظ علي  دون أن يرفع رأسه، قائلا: "ابتعدي قليلا عن طاولة مكتبي، خليك واقفة حتى نسالي". كم من مرة أضطر فيها إلى الوقوف بعد الساعة السادسة مساء لمجرد الوقوف، لكنه عقاب، وقد يبلغ بي التعب مداه، فأعود منهكة الجسم إلى البيت، أستسلم للنوم، فلا يغمض لي جفن. أستشيره أحيانا إن كان في حاجة إلى فنجان قهوة بعد وجبة الغذاء حتى أتفادى الوقوف بجانب مكتبه. يمنحني هذه الفرصة، ألتحق بالكتابة حتى يحتسي القهوة بجرعة واحدة، يتثاءب ملء فمه، يصحو من غفوته وعيناه مفتوحتان، يشخص علي بهما، يدب النشاط في جسمه، يشرع  في التحرش بي كأنه يكتب على جبيني الإغاظة والشقاء، ثم يقول: <<أنت  لست في حاجة إلى الحرية، لكنك في حاجة إلى التنفيس من حين لآخر مثل جميع زملائك الذين هم الآن في حالة  تنفيس مؤقت>>...

"عزيزتي ابتسام، لقد أصبحت كارهة لزنكاوي. إنه بيروقراطوي حتى النخاع، يتستر على نزعته الاستعبادية بالتدين والتظاهر بما ليس فيه. يحول المديرية متى شاء إلى شبه مقبرة مستقلة عن مرافق الشركة الأخرى، يئد فيها حقوق المستخدمين. في أحسن الأحوال، يمارس سلطته بشكل أشرس من بطش الحيوان. أما في أسوإ الأحوال، فالله أعلم، إلا أني أتوسل إلى الله عزوجل أن أكون وقتئذ قد غادرت زنكاوي وبني جلدته وكتابته الخاصة والشركة في كامل قواي العقلية. أجزم الآن أنه مادام  زنكاوي وأمثاله يحتلون مواقع النفوذ في هذه الشركة وغيرها من مؤسسات الوطن العربي، فإن هذا الوطن الجريح لم يعرف بعد استقلاله التام...

"عزيزتي ابتسام، لقد تراكمت همومي.حاولي أن تفكري جيدا في حلول لوضعيتي التي ترزح تحت عنف مكتب زنكاوي وتحرشه المتعدد. لا تنسي أن الشيء الآخر الذي  يحزنني كذلك هو طغيان والدك الذي لا يقل جورا عن زنكاوي. سأتقاعد قريبا، لكن اليوم الذي كنت أشتغل فيه تحت رحمة زنكاوي،  سأقضيه بعد التقاعد في البيت مع والدك الذي كنت لا أراه  يوميا إلا بعد الساعة التاسعة ليلا. لا فرق بين هذا وذاك. ولا أخفي عنك أن سأما غريبا أصبح يساورني دوما في الشركة والبيت...، والسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته. أمك الحنونة ربيعة".  

انتظرت ربيعة خطاب ابنتها ابتسام  بفارغ الصبر. مر أسبوعان، شهر...، توصلت ربيعة برسالة من ابنتها ابتسام تقول فيها:

"أماه، لقد لمست سوء حالك من بعيد، ورأيت في منامي جفونك جد مقرحة، كما استخلصت من رسالتك أن زنكاوي يتمثل في علاقته بالمستخدمين مقولة  <<لا كرامة لنبي في وطنه>>. ولكن لا يضيرك في شيء قسوة زنكاوي وأمثاله في زمن البيرو- قراطية المتلوثة، خصوصا وأن تقاعدك من العمل المقيت أصبح وشيكا. لم تبق لك إلا فترة قصيرة من الآن. سيكون يوم  إحالتك إلى المعاش أسعد الأيام في حياتنا. سنحتفل بذلك اليوم الأغر في بيتنا المتواضع...

"أماه، اسمحي لي أن أذكرك  بوصيتك بالصبر التي آمنتنا من البيرو- قراطوية. سيأتي الفرج بإذن الله لا محالة. أما بشأن والدي، لا تبالي، سأداوم على منحه  بعض المال عند نهاية  كل شهر، وسأعمل كل ما في وسعي لأستقدمك إلى لندن حيث أقيم بلا ضباب، وتقضي معي ستة  أشهر من كل سنة..؛ دعيني أسر إليك بأنني حبلى منذ أيام قليلة، ستصبحين جدة، سألد لك من يؤنسك ويذكرك بصباي، فأنازعك الأمومة حتى أصبح أما مثلك...، هنيئا لنا. ابنتك ابتسام"...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق