الصفحات

2014/11/28

مغامرة الإنسان الأبدية رواية (سيرة الزوال) لهانى القط مثالا. بقلم : مفرح كريم




مغامرة الإنسان الأبدية
رواية (سيرة الزوال) لهانى القط مثالا.
بقلم : مفرح كريم

                       تعتبررواية سيرة الزوال المعادل الموضوعى لمغامرة الإنسان فى الكون، والتى تتمثل فى الرحلة التى تقع ما بين قوسين (الميلاد والموت)، فالرواية، من أولها إلى آخرها، تعتبر تمثيلا استعاريا لهذه الرحلة الأبدية والدائمة والمتجددة بتجدد الحياة ذاتها فى كل فرد من أفراد الإنسانية، ومع ذلك، فإن الأمر يبدو كأنه جديد فى كل مرة، أى أن كل حياة، وإن كانت تحتوى وتمثل حيوات البشر كلهم، إلا أنها ، مع ذلك، تحمل خصوصيتها التى تميزها عن غيرها. ولذلك فإن الكاتب يبين لنا ما هو خاص فى رحلة بطله فى الحياة، ويترك لنا نحن أن نستنبط منها ما يربطها بالعام، فالفصل الأول يرينا صالح وهو يكافح ضد طوفان النهر الهائج، وهو يستطيع أن ينجو بحياته، ولكنه – فى نفس الوقت – يخسر أبويه الذين ماتا فى الطوفان، وقد وجد جثة أمه التى تولى دفنها بنفسه، ولكنه لم يستطع أن يجد جثة أبيه، فقد أصبح عليه أن يبدأ رحلته فى الوجود ليصل إلى منابع النهر،  بحثا عن جثمان أبيه، وكأنه البطل الإغريقى الذى يواجه القدر، وقد اتخذت الرواية شكل البناء الدائرى، فصالح – بطل الرواية – يسافر على النهر فى إحدى المراكب، ويقابل على المركب شيخا عجوزا، ويجد نفسه مشدودا إليه، ويحاول التعرف عليه. ثم يتكرر نفس المشهد فى الفصل الأخير، مع فارق هام، وهو أن صالح قد أصبح هو نفسه الرجل العجوز، ويجد شابا يريد أن يتعرف عليه، كما حدث معه قبل ذلك،وكأن التاريخ يعيد نفسه مرة ثانية، وربما ثالثة أورابعة، وكأن الحياة ما هى إلا تكرار للرحلة الأبدية، من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة. ولكن صالح يظل طوال الرحلة يحاول أن، يبرز تضافر الإنسان مع الطبيعة، من أجل الوصول إلى بناء عالم أجمل وأرقى، خصوصا وأنه واجه فى حياته الكثير من التحديات والمشاكل التى استطاع مواجهتها والتغلب عليها، وإن كانت قد نالت من صحته ووقته الكثير.
       العتبات النصية:
                      وأول هذه العتبات هى عتبة العنوان نفسه، هذا العنوان الغريب الذى يحتاج من القارئ إلى وقفة لفك شفرته الدلالية، فالزوال يعنى المحو، أو نهاية الوجود، أو الكف عن الكينونة والبقاء، وبمعنى أوضح : الموت. أما السيرة، فهى تعنى رصد أحداث الحياة، وبهذا، يصبح المعنى هو تاريخ الموت، وهنا يأتى السؤال: وهل للموت تاريخ؟ فيقفز بنا المنطق العقلى إلى أن الموت هنا يقصد به النقيض، أى الضد، وكانت العرب تسمى الأشياء بأضدادها، فتسمى اللديغ، أى من لدغته حية أوثعبان أو عقرب، تسميه السليم. ولهذا سوف نفسر الزوال بمعنى الضد، أى البقاء، والبقاء يعنى الحياة، وبهذا فإن العنوان ( سيرة الزوال) سوف يفضى بنا إلى أن يصبح المعنى المراد منه هو ( تاريخ الحياة). ولأن هذه الرواية ترصد تاريخ حياة الإنسان كاملا، أى من الميلاد إلى الوفاة، ولأنها تجرد هذه الحياة من كل ما هو خاص وذاتى، فإن دلالة تاريخ هذه الحياة تمتد لتصبح تاريخ الإنسان بشكل عام، أى تاريخ البشرية على هذه الأرض.
                  وثانية العتبات النصية فى هذه الرواية تتمثل فى عناوين الفصول، فقد أعطى المؤلف كل فصل عنوانا، وهذا العنوان عبارة عن اسم الشخصية التى سوف تحكى عن نفسها فى هذا الفصل، وبالطبع، قد يتكرر ذكر الشخصية الواحدة عددا من المرات التى يخصصها لها المؤلف فى ثنايا الفعل الروائى أو الحكى أو السرد، وهذا الأسلوب يؤدى إلى تعدد الرؤى للأحداث، بحيث نراها فى كل مرة من منظور شخصية من شخصيات الرواية، ويؤدى بنا هذا إلى نوع من تفكيك العمل الروائى، وكسر وحدة الموضوع، والنظر إلى صلب العمل من بؤر متعددة.
أما ثالثة العتبات النصية : فهى عبارة عن مقطع صغير، قد يتكون من سطر واحد أو سطرين أو ثلاثة، وهو عبارة عن مقطع صغير يتميز بالكثافة التعبيرية، وبالرؤية الكلية، والنظرة الفوقية للأحداث، وكأنه – فى الأغلب الأعم – نص مقدس، يلخص الموقف العام، ويحدد الرؤيا الفلسفية، وكأنه تعليق فوقى على الأحداث، أو كأنه الرؤيا المقدسة لمسيرة الإنسان، وقد يومئ بأنه مختارات من كتاب الحياة المقدس، أو آيات من سفر التكوين الأبدى، ويذكرنا ذلك بما فعله الروائى إبراهيم عبد المجيد فى روايته ( بيت الياسمين)(1) حيث قسم الفصل الواحد إلى قسمين، أحدهما قصير، مكثف، كلى النظرة، والآخر يحكى الأحداث فى مسيرتها الطبيعية، التى تحمل صلب الموضوع الروائى.   
                  وتتميز هذه الرواية بأنها ذات إيقاع خاص بها، وهو إيقاع مناسب للفكر الفلسفى القائم عليه الموضوع الروائى، فالرواية تبدأ بوصف ثورة النهر العارمة التى تتسبب فى موت الإنسان والحيوان والنبات، ولكنها أيضا تتسبب فى أن تقذف إلى الحياة بشخصية صالح – بطل الرواية – الذى تخرجه إلى الحياة العامة، وكأنه ميلاد صالح، بعد أن كان يعيش فى هذه الجزيرة الصغيرة فى وسط النهر، وهو لم يعرف غيرها حتى هذه اللحظة، ولكن هذا الفيضان الهائج يتسبب فى غرق أمه وأبيه، وبالتالى لا يتبقى له سبب يجعله يستمر فى الحياة، وإنما أصبح واجبا عليه أن يسافر عبر النهر إلى نهاية العالم بحثا عن جثمان أبيه لكى يدفنه، بعد أن وجد جثمان أمه ودفنه بنفسه، وأصبحت هذه الرحلة هى الهدف من بقائه حيا، وكأنها  رسالة مقدسة، يجب عليه أن يقوم بها.
                   واعتمد الكاتب إيقاعا خاصا، يتمثل فى الوصف التقريرى لثورة النهر، وكان هذا الوصف أقرب إلى الرؤية البصرية التى تتحدد بها المرئيات، وتتجسد بها الأحداث، وكأنه يكون كادرا سينيمائيا للموضوع، مع إيقاع سريع يتميز فى استعمال الجمل القصيرة ذات الإيقاع السريع المناسب للطوفان، وكأن هذا الإيقاع هو الذى وحد الموضوع مع شكله الجمالى، كما أنه ينفى تلك القسمة التى شاعت فى الحياة الأدبية فى الستينيات حول تقسيم العمل الأدبى إلى الشكل والمضمون، أو إلى المسند والمسند إليه، أو إلى اللغة الشعرية واللغة النثرية، وإنما أصبح الإيقاع هو الرابط الأساسى بين أركان العمل المختلفة، فنحن نجد – مثلا – أن فيضان النهر يتسبب فى الشئ وضده، فقد تسبب فى الموت، كما تسبب فى الحياة، تسبب فى موت الوالدين، كما تسبب فى خروج صالح إلى الحياة، وكأنه ولادة له. إن إيقاع الرواية يقوم على التشكلات الجديدة المعقدة، والمتقطعة – أى المتكررة – للزمن، فى علاقاتها العضوية بمجمل عناصر الرواية وتقنياتها، وهى تساعد على أن يقوم هذا الرابط بتظيم الموضوع، وإلقاء الضوء على القيم الاجتماعية والجمالية، وذلك بحسب آراء باختين (2)الذى استعار مصطلح (البولوفينية) من موسيقى الاحتفاليات الشعبية (الكرنفالية)، ليتخذها أداة لمعالجة ظاهرة (تعدد الأصوات) فى الرواية، ويمكننا أن نستلهم من استعارته إمكانية الاعتماد على الصيغة ( المونوفونية) ( المونولوجية) التى تتسم بها إيقاعات عالم الجنوب وشعوب العالم الثالث التى ننتمى إليها بامتياز، وكذلك مقولته النظرية حول مفهوم "الزمكانية" ( الكرونوتوب)، والذى استعاره باختين من عالم الرياضيات، ليمثل مقولة أدبية للشكل والمضمون، وليمثل موضوعا محوريا - يمكن من خلال تطبيقه حرا – أن نعتمده فى اكتشاف الإيقاع الخاص بكل رواية، والتنويعات الهارمونية ( التناغم) ، أو الميلودية ( النغمة الأحادية) ، أو النشازية ( التنافر) ، التى ينتظمها هذا الإيقاع، وتظل هناك أهمية قصوى للبحث فى علاقة التلازم المجدولة بإحكام بين الزمن والإيقاع، حيث يمثل الزمن مقياسا لتحليل الأيقاع من حيث الطول والقصر، ومن حيث تكرار انتظامهما، أو انتظام تكرارهما.(3)
                   يلتقى صالح فى رحلته بالريس إبراهيم، وهو مراكبى سكير وزير نساء، زوج ابنته فاطمة لابن عمها رغما عنها، ثم قتلها لغسل العار، وتنشأ بين صالح وبينه صداقة تستمر طوال الرواية، وسوف نكتشف أن كل شخصية من شخصيات الرواية تمثل نزعة إنسانية ما، فالريس إبراهيم يمثل النزعة لعشق الحياة، وللاستمتاع بكل ما هو جميل، ولمعاقرة الخمر، ومعاشرة النساء، فالحياة عنده للمتعة، وإلا فلا لزوم لها، ولذلك نجد أن العتبة التى قدم بها الكاتب الفصل الثانى، الذى يبوح فيه الريس إبراهيم بدواخل نفسه، هى عتبة دالة على هذا الاتجاه، يقول  الريس إبراهيم ( علمنى النهر أن أعشق الحياة، وأن أقطف بيدى لذاتها، فهؤلاء المخدوعون يذهبون لإفناء عمرهم فى أرض غريبة ليحصلوا على المال، وبعد سنين طويلة من الشقاء والتعب يرجعون إلى أماكنهم ليشتروا أرضا أو بيتا ربما يسكنونه! وأين حياتهم إذا؟)
ويقول أيضا عن النساء: ( أيه، ولا امرأة واحدة أغازلها، ولا رفيق كأس يزيل كآبة الصمت والوحشةهذه. فكل ما تطل عليه عينى فى تلك الرحلة محزن كئيب، أيه، عطشان! )
وهو قد ورث هذا النهم للحياة ولذائذها من والده، ولذلك هو يتذكره ويفتقده كلما ضاقت عليه الحياة وحرمته من مطايبها (رحمك الله يا أبى، كان كل قولك حكمة، فمنك ومن النهر تعلمت:" لكى تحبك الحياة يا إبراهيم لابد أن تحبها، ولكى تحبها لابد ألا تهزمك أحزانها"، والأغرب من ذلك أنه شخصية شاعرية يتمتع بخيال خصب، فحينما يفيض به الحزن فإنه يلجأ إلى الخيال ( تخيلت فى السماء امرأة لم تخلق بعد، جلدها أبيض ناعم، وعيناها عسليتان، نهداها رمانتان، وجهها أملح من جنية البحر، تأخذنى لبحر لذة بلا ضفاف) إنه يمثل جموح المشاعر وارتشاف كأس المتع إلى النهاية، ولذلك فإن العتبة النصية التى تصدرت الفصل الذى يحمل اسمه تقول:
(لهمود الريح وقت
لهبوبها وقت
وللعشق كله)
أى أن الريح التى هى رمز الفعل الحياتى، لها أوقاتها التى نخصصها لها، لنهتم بأمورها، أما العشق فله كل الوقت. تلك هى فلسفة الريس إبراهيم، وهى الفلسفة التى وجدها صالح غير متناسبة مع اهتمامه الأساسى فى الحياة، حيث أنه محمل برسالة لابد من تأديتها، وهى العثور على جثمان الأب ودفن رفاته. وهو على العكس من السيد مصطفى الذى ورث عن أبيه القضاء، مع أنه لم يحب هذه المهنة، على الرغم من ان أبيه انتزع له هذه المكانة رغما عن الجميع، ورغما عن ابن عمه الطامع فيها، وظل الحقد بين ابن العم والسيد مصطفى يعمل عمله السئ فى النفوس، على الرغم من أن السيد مصطفى كان يعتبر أنه فى سجن كئيب، يتعذب فيه بالاستماع إلى آلام الناس ومشاكلهم، ويضطر إلى هجر لذائذ الدنيا. وكان أبوه يعلمه دائما أن بداخل كل جسد روحان: روح مشتاقة إلى الموت، والأخرى مشتاقة إلى الحياة.(5)
ويهدأ هنا الإيقاع، ويختلف عن إيقاع الفصل الأول الذى كان يصف الطوفان، فالإيقاع يتغير بتغير الحالة النفسية التى تمر بها الشخوص، ولكن هناك إيقاعا آخر ينتظم العمل الأدبى كله، هو الذى يحدد ملامح هذا العمل، ويكشف عن اتجاهه، ويجعل من السهل الإمساك بالعنصر الأساسى المكون للرواية. ومع ذلك فإننا سوف نجد إيقاعا خاصا ينتظم العمل الروائى كله، ويضعه ضمن إطار معين من الروايات التى ترسم موضوعها، كاللوحة، تتناثر الألوان على صفحاتها مشكلة بانوراما كلية تعطى الانطباع العام للرواية، والقارئ الذى لا يستطيع الإمساك بهذه البانوراما الكلية، يفقد – فى نفس الوقت – القدرة على فهم الجذر الأساسى للعمل، وبالتالى لا  يستطيع أن يتواصل معه على أى مستوى، ويضيع منه الطريق، ويفقد الاتصال الحميم بكلية العمل. فالإيقاع هو البوصلة التى ترشد السارى فى صحراء العالم الروائى، أو هو بمعنى آخر البصمة الحقيقية التى تحمل روح الرواية للتواصل الحميم.
          وهذه الرواية تدور حول محور العلاقة التبادلية بين الحياة والموت، فالجد سالم، ظل لمدة خمسة عشر عاما لا يكلم أحدا، لأنه عاش هو وكلبه فقط فى بقعة من الأرض بعيدة عن البشر، حتى يتجنب أذاهم، وهو قانع بوحدته، بل ربما نقول إنه سعيد بهذه الوحدة، لأن فى ذلك ابتعاد عن شر الآخرين، فإنه – فى نفس الوقت – بعيد عن شر نفسه، ( أهذا نوع من الصوفية ؟) وهو يمنع شره عن كل المخلوقات، فعلى الرغم من أنه يقتات على لحم الطرائد التى يصطادها، إلا أنه رفض أن يطعن ظبى الماء الذى دلى رأسه ليشرب (صعب على أن أغدر به وأنا غير جائع، فتركته.(6)، ومع ذلك، فإنه مشدود بنداء خفى إلى الموت، ويحس باقتراب الموعد (7)، ولكن جدلية الحياة والموت تفرض علينا أن نختار بينهما، مما يضطر الجد سالم إلى أن يصطاد (الغزال) ( أى يقتله) ليعيش هو، قائلا له )سامحنى، فإما أنا ، وإما أنت)  الرواية ص 47. وربما يقود محور العلاقة التبادلية بين الحياة والموت إلى فكرة التناسخ، فالموت ضرورة للحياة ف( كل شئ على الأرض يحيا ويموت) ص19، وذلك كما قال الأب لابنه مصطفى ( بداخل كل جسد روحان يا مصطفى، واحدة مشتاقة إلى الموت، والأخرى إلى الحياة) ص26، وتختلف مواقف الإنسان فى مواجهة الحياة كما تختلف فى مواجهة الموت، يوجد من يواجه مصيره بشجاعة، ومن يواجه هذا المصير برعب لا حدود له، مثلما حدث من سالم الذى ينتظر أباه وكأنه ينتظر الموت، وهو مرعوب دائما من فكرة الموت، ونجده يتحدث عن هذا الرعب كالتالى : (تسرى قشعريرة، أحسبه الموت فأستسلم، الشعلة ترتجف بنسمات الهواء، أعزم على الهرب، أى طريق أسلكه؟ أحاول النهوض، لا أقدر. الشعلة المرتجفة تنطفئ والحجرة تظلم. جسد يظهر واقفا دون حراك. أغمض العين وأفتحها فيبقى الواقف على سكونه. أتكور كرضيع، ترى ما سيفعله الناظر فى عينى. أسمع صوت أمى فتتجه عينى لها. تقبل فأظنها اتخذت صورته.) إن هذا الرعب المادى قد يؤدى بنا إلى الانتحار. مثلما قد يؤدى بنا إلى الهلاوس ( حملت رزقى على كتفى، بينى وبين الدار خطوات. من وراء حجر، هجم على ظهرى ذئب. قاومت بقفتى ويدى كى لا ينهش وجهى. قضم الذئب أصبعين وفر، فأكملت السير للدار صارخا. كل خطوة يسقط إصبع من المتبقين فى كفى. ينغرس فى الرمل منبتا شجرة أوراقها أصابع تتطوح يسارا مرة ويمينا مرة) ص(145)، هذا الخيال المريض الشبيه بالفانتازيا، يأخذ سالم إلى أصقاع من الرعب والخوف، تجسد الخوف الإنسانى من الموت على مدى الحياة، إن سالم هنا ليس شخصا منفصم الصلة عن أقرانه من بنى البشر، ولكنه واحد منهم ، يمثلهم، ويتحدث باسمهم، يلفت نظرنا هنا استعمال ضمير المتلكم، فهذا دليل على أن هذه الشخصية الروائية هى العمق العميق للنفس البشرية التى لا يصلح معها الخطاب بصيغة المخاطب، ولكنها الدواخل البعيدة للروح التى تستقر عندها نوازع البشر الحقيقية، وهذا يخالف الأسلوب الذى اتبعه الكاتب فى بقية أجزاء الرواية، حيث كان استعمال أسلوب المخاطب هو السائد مع كل الشخصيات، وفى كل الحالات، لأنها كانت شخصيات تمارس أفعالها الاجتماعية التى تحتاج أحيانا إلى التخلى عن الخصائص البعيدة للنفس الفردية.
                          ونلاحظ أن الكاتب يستخدم ضمير المخاطب لكى يعبر به عن ضمير المتكلم، وهذا هو الأسلوب الذى بنيت عليه الرواية كلها، ففى كل فصل نجد شخصية ما تعبر عن نفسها، وتتحدث إلى نفسها بضمير المخاطب، وكأنها قد انقسمت قسمين، قسم يحكى، والآخر يسمع ما يحكيه المتكلم، وهى لعبة فنية شديدة الذكاء، لأنها فى الحقيقة تخاطب القارئ، فى نفس الوقت الذى تخاطب فيه ذاتها، وكأنها تحكى الأحداث من منظور جديد، وكأنها هى نفسها لا تعرف الأحداث بشكل مسبق. ففى الرواية نجد أن المتكلم أساسا هو فرد اجتماعى، ملموس ومحدد تاريخيا، وخطابه لغة اجتماعية، وليس لهجة فردية، إن الخطابات الفردية التى تحددها الطبائع والمصائر الفردية لا تلقى فى حد ذاتها اهتماما من الرواية، ذلك أن كلام الشخوص الخاص، ينزع دوما نحو دلالة وانتشار اجتماعيين معينين، فالمتكلم فى الرواية هو دائما منتج أيديولوجيا، وكلماته هى دائما عينة أيديولوجية، واللغة الخاصة برواية ما، تقدم دائما وجهة نظر خاصة عن العالم تنزع إلى دلالة اجتماعية.(4) والراوى هنا محدود برؤيته الخاصة، لا يتعدى قدرته على العلم بالأشياء والأفعال، فهو ليس كلى العلم، ولكنه محدود بعالمه، لا يتخطى معارفه إلى عوالم أخرى. وهذه سمة عامة لكل شخصيات الرواية، وهذا يبين لنا كيف أن قدرات الإنسان محدودة، وأنها لا تستطيع أن تتخطى العالم المادى، ماعدا تلك الحالات التى تنطلق فيها ملكات الأشخاص إلى عوالم سحرية أو فنية أو صوفية، ويبرر هذا استخدام ضمير المخاطب، لأنه ، فى هذه الحالة، قد انقسم إلى المتكلم والمتلقى فى نفس الوقت.
                          وقد حاول الإنسان على مدى الدهر أن يحقق فكرة الخلود، هربا من الموت، ورعبا من الفناء، وتشبها بالآلهة. وهو فى هذه الحالة يلجأ إلى الأساطير التى تمنحه وهم الخلود، ويقص علينا الكاتب توق الإنسان إلى الخلود فى أسطورة الملك الذى رأى – فى نومه – الشمس، كلما أخرجت من قرصها المنير أشعتها، أتت غيمة فحجبت النور، أحس الملك بانقباض فى صدره، لكنه ظل ساكنا يتملى المشهد المعاد بحزن، فاستيقظ فورا ليدعو المنجمين ليخبروه نبوءة حلمه، وعرض أحدهم أن يبنى له صرحا بجوفه سر الدنيا، ويظل باقيا إلى أبد الدهر. وسحر الملك بهذه الفكرة وانطلق كى يحقق حلمه فى الخلود، ولكنه يقع بين يدى أحد النصابين الذين يبنون له صرحا عظيما، ولكنه يحمل صورة وجه الذى بنى هذا الصرح، ولما انكشف أمره أمر الملك بإعدامه وإصلاح ما فعله، ولكنه واجه الملك والجميع بأنه هو الذى سوف يحصل على الخلود، بفضل ما فعله فى وجه التمثال، تلك الأسطورة التى تشير إلى بناء أبى الهول، هى واحدة من الأساطير التى تسطر على أذهان البشر فى هذه البقعة من العالم، وتمتص منهم أعمارهم بحثا عن الخلود الذى يتمثل فى البقاء اللانهائى، أو فى الجنة الموعودة، والتى يظل الناس يكدحون فى سبيل الوصول إليها.
                          ولعل شخصية فرح تعتبر إحدى هذه الجنان الدنيوية، التى هى بديل للخلود أو للجنة الأخروية، فعلى الرغم من أنها امرأة متزوجة، إلا أنها ترتبط بعلاقة سرية مع الريس إبراهيم، لأنها هى الخطأ والخطيئة، وهى تتخذ من زيارة أمها عذرا للذهاب إليه والاستمتاع بالفاكهة المحرمة معه، أما السيد مصطفى، فقد ربطت بينه وبين زوجة ابن عمه عاطفة قوية، وكان يذهب إلى منزلها كل يوم بحجة زيارة زوجها المريض، ولما انكشف أمره، لم يستطع أن يكافح فى سبيل هذا الحب، واكتفى بالرجوع إلى خلوته وكتبه، وهو لايدرى ماذا أصابه؟ فهل الحب قدر علينا كالموت، يأتى من حيث لا ندرى، ويصيبنا فى الوقت الذى نحن على غير استعداد له؟ تماما كالموت الذى لا ميعاد له، ولا منطق، ولا مهرب منه؟
                          ولأن الرواية رواية فكرية، تتعامل مع أفكار أكثر من كونها تتعامل مع شخصيات حية من لحم ودم، فإن الشخصيات – كما رأينا – تمثل أفكارا، ولذلك فهى لا أوصاف لها، بل هى مجرد نوازع بشرية تتحرك إلى مصيرها الحتمى، فلا لون لأى أحد، ولا وصف للوجوه أو الملابس، ولا شرح لطريقة التصرف أو التحرك، ولعل الدليل الوحيد على الشخصيات وجود أسماء تميزها عن غيرها، ولكن هذه الأسماء-  مع ذلك - كما لو كانت مجرد لافتات تفرز هذا عن ذاك،و يستدعى هذا إلى الذهن قصيدة سفر التكوين للشاعر أمل دنقل حينما يقول :
                                   فى البدء كنت رجلا .. وامرأة .. وشجرة.
                                   كنت أبا .. وابنا .. وروحا قدسا.
                                   كنت الصباح والمسا.(8)
                فهذا التجريد الذى يحيل البشر إلى رجل وامرأة وشجرة، أى إلى الجنس والطبيعة، بحيث لا توجد أى حواشى زائدة، التجريد هنا مقصود، لأنه يدل على بداية الحياة وبكارتها، كما يدل على أن البشر جميعا أتوا من هذا الأب ومن هذه الأم، فكل شئ موجود منذ بداية الخليقة، وباختصار، فإن الحياة تكرر ذاتها إلى أبد الدهر، ولكن بأشخاص أخرى، وهذه هى سنة الحياة، الموت من أجل الحياة، والحياة التى تنتهى بالموت، فالدائرة لابد أن تكتمل حتى تكتمل تلك المغامرة التى نسميها الحياة.      
                المراجع :
                       1 – الشكل الفنى فى رواية بيت الياسمين، مفرح كريم، مجلة البيان الكويتية، العدد 287، فبراير 1990.
                          2 – أمينة رشيد، تشظى الزمن فى الرواية الحديثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص9.
                         3 – محمد حسن عبد الحافظ، محتوى الشكل فى الرواية المصرية، فصول، العدد 59، أبريل 2002، ص 277.
                         4 - ميخائيل باختين، الخطاب الروائى، ت: محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر، ص 202.
                       5 – الرواية ، ص 26.
                       6 – الرواية ص 41.
                       7 – الرواية ص 42، 43.
                       8 – أمل دنقل، الأعمال الكاملة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ص 284.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق