الصفحات

2015/01/04

الأسطورة في شعر أمل دنقل زرقاء اليمامة أنموذجا !!! بقلم: د. محمد مبارك البندارى



الأسطورة في شعر أمل دنقل

زرقاء اليمامة أنموذجا   !!!

بقلم: د.  محمد مبارك البندارى

         توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر مسألة في غاية الأهمية، فما من شاعر عربي معاصر معروف إلا ووظف الأسطورة في أعماله ؛ لأنها تشكل نظاما خاصا داخل بنية الخطاب الشعري العربيّ المعاصر، وقد يبدو هذا النظام عصيًا على الضبط والتحديد، وذلك لضبابية الرؤية المراد طرحها، ولكثافة الأسطورة نفسها، غموضا وتداخلا مع ظواهر أخرى ،  وعندما نستحضر الأسطورة في الشعر العربى المعاصر ، فإننا نستحضر التاريخ متداخلا مع الميثولوجيا والخرافة ، ولذا فإنه يصعب علينا تلمس أوجهها كاملة، وذلك لتناصها مع الحقول المعرفية الأخرى، التاريخية والميثولوجية والسحرية والخرافية.
     وفى النقد الحديث تناول كثير من النقاد الأسطورة في الشعر العربى المعاصر عند بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وخليل حاوى ويوسف الخال وأدونيس [1]... ووجدت أن شاعرنا القنوى أمل دنقل (  ت 1983م     )[2] أكثر من استخدام الأسطورة ، ولم يدرس أحد فضاءه الأسطورى ، الذى جاء مجسدا للحالة السياسية في ستينيات القرن الماضى ، فقد أكثر من ترديد الأساطير من التوراة ( الإصحاح ) ، ومن السيرة النبوية ( ضمنا ) ، ومن الموروث العربى ( زرقاء اليمامة ) ، ومن الفلكلور الشعبى ، ومن الواقع المظلم ... إلخ ؛ لذا كان لزاما علىّ كباحث من إقليم جنوب الصعيد أن ألقى الضوء على الأسطورة عند الراحل أمل دنقل ، واتخذتُ من أسطورة " زرقاء اليمامة أنموذجا " أتكئ عليه ؛ لعلها تكون باكورة مهمة في هذا المجال . 
          وأبدأ بالتساءل هل الأسطورة عند دنقل هي الخرافة أم هي التاريخ، أم هي الفلكلور، أم هي جزء لا يتجزأ من أثنولوجيا وصفية، لا تزال بوصفها بنية معرفية عميقة تتعلق بمعتقدات الشعوب وروحانياتها وأعرافها وتقاليدها، تفعل فعلها في تاريخنا المعاصر؟
يبدو لقارئ شعر دنقل أنها مزيج من هذا وذاك، ومع ذلك تبقى عصية على الضبط والتحديد، لأنها رؤية متنامية متشعبة في بنية الزمان التاريخي، والمكان الأثنوجرافي. والأسطورة في مفهومها العام وتحديد دلالتها قليل من النقاد والباحثين الذين استطاعوا ضبط مصطلح الأسطورة ضبطا دقيقا؛  ولذا نلاحظ غموض النصوص النقدية التي تناولت هذا المصطلح، بحيث لا يعادل غموضها إلا غموض النص الإبداعي نفسه عند دنقل وجيله في الستينيات من القرن الماضى  .
     لقد أصبحت أسطورة " زرقاء اليمامة " [3]  تاريخا وخرافة، وتداخلها مع الخرافة زادها  تعمية وغموضا، والتاريخ العربى القديم نفسه أصبح  لدى جيلنا والأجيال السابقة أسطورة بالنسبة لنا ، فشخصية " زرقاء اليمامة " وشخصية " الحسين بن علي " ، و" المسيح بن مريم " ، و" الإصحاح التوراتى"  عند " أمل دنقل "  شخصيات تاريخية لها بعدها الإنساني، ومدى تأثيرها في الفكر العربي لا يزال يفعل فعله بشكل أسطوري يفوق حد التخيل.
     وبغضّ النظر عن كون شخصية زرقاء اليمامة  من التاريخ أو الأسطورة فإنها تبقى  في بنيتها العامة جزءًا من السحر والأسطورة والخرافة والتاريخ، والميثولوجيا والفكر والفن في آن واحد .
فشخصية زرقاء اليمامة  تاريخية عربية  أثّرت في تاريخ العرب لحقبة طويلة، ولا تزال تؤثر في بنية الحياة المعاصرة على مستوى الفن والأدب حال استدعاءها ، فهي تشكل رؤية جمالية ، واستشراف للمستقبل ،  وظفها الخطاب الشعري العربي المعاصر.

      ويبدو أن استدعاء زرقاء اليمامة واللجوء إلى هذه الأسطورة في الفكر العربي المعاصر هو استحضار للبطولة الغائبة، وحنين لها، وعندما نستدعي البطل الأسطوري والتاريخي عبر زمن القصيدة وشفافيتها، فإن توقاً شديداً ليدفعنا إلى تمثّل حالات هذا البطل علّه يكون المفدّي والمخلّص، والشعلة التي تنير لنا طريقا مظلما.
     إن توليد الأسطورة وتشكيلها وإعادة صياغتها عملية جمالية تهدف للبحث عن عالم فسيح جميل، لم تقتله بعد الشعارات الأيديولوجية، لكن العصر الذي شكّلها ويشكّلها ليس عصراً مضيئاً، فهي تولد لتمنع زحف ظلامه على المستوى التخيلي والتأملي ، فقد كتب أمل دنقل " بين يدى زرقاء اليمامة " عقب النكسة 1976م  ، فكان لا بد من استدعاء هذه الشخصية .

يقول أمل دنقل في قصيدته "  البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" :

أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!
أسأل يا زرقاء ..
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ !
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي ؟ ! دون أن أنهار ؟ !
ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة ؟ !
تكلَّمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. باللهِ .. باللعنةِ .. بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان ..
تلعقَ من دمي حساءَها .. ولا أردُّها !
تكلمي ... لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي .. ولا الجدران !
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..
ولا احتمائي في سحائب الدخان !
.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين .. عذبةُ المشاكسة
( - كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادْق
فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادقْ
وحين مات عَطَشاً في الصحراء المشمسة ..
رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..
وارتخت العينان !)
فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان ؟
والضحكةُ الطروب : ضحكته..
والوجهُ .. والغمازتانْ ! ؟
* * *
أيتها النبية المقدسة ..
لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ "اخرسْ .."
فخرستُ .. وعميت .. وائتممتُ بالخصيان !
ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها ..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ
دُعيت للميدان !
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن ..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،
أدعى إلى الموت .. ولم أدع إلى المجالسة !!
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. تكلمي ..
فها أنا على التراب سائلً دمي
وهو ظمئً .. يطلب المزيدا .
أسائل الصمتَ الذي يخنقني :
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
أجندلاً يحملن أم حديدا .. ؟!"
فمن تُرى يصدُقْني ؟
أسائل الركَّع والسجودا
أسائل القيودا :
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "[4]
الجناح الأسطورى
      يبدو أن الشاعر الجنوبى المبدع  الذى لاقى الظلم والمهانة – في الهزيمة - ،  كسر شموخه الإنساني وشرده ، فلجأ إلى الحلم والتخيل واستخدم الرموز الأسطورية المضيئة والموحية ؛
لذا يستهل قصيدته بنداء واستدعاء زرقاء اليمامة ويذكرها باسمها صراحة  ، ويتحدث معها ، وهو يبكى بين يديها ، وهنا يذكرنا ببراعة الاستهلال التى تميّز بها الشاعر العربى عبر عصور الأدب المختلفة ، والعصر الجاهلى خاصة ... فحوّل " دنقل " القصيدة من خلال هذا الحوار مع هذه الأسطورة إلى درما تراجيدية .
         فكان اللجوء إلى الأسطورة رفضاً لهذا الواقع المؤلم ، وتغلّب على مرارة الهزيمة ، وبالتالي كان استخدام الرمز الأسطوري المكثّف الدلالة، بعيد الإيحاء، هروباً وخوفاً من سلطة هذا الواقع، كان الشاعر الجنوبىّ – وما زال -  بل والعربي عامة يرتحل ويحمل همّه وهم قصيدته ، ورموزه الأسطورية، وأنّي حلّ كان ينشد الفرح والحريّة عبر دلالات هذه الرموز ، كما فعل عبد الوهاب البياتى ، وشاعرنا أمل دنقل الذى حمل زرقاء اليمامة معه .
واستخدم أمل دنقل في قصيدته – أيضا – أسطورة الفارس عنترة  ( ضمنا ) ، واستدعى الزبّاء صاحبة المقولة الشهيرة ( ما للجمال مشيها وئيدا ) ، وكانت الزبّاء قد سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين، وهو عمرو بن عدي،  ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله يكون ذلك. فحذّرت عمراً، واتخذتْ نفقاً من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني، ودعت رجلا حاذقًا بالتصوير، وأمرته أن يسير إلى بلد عمرو، ويخالط حشمه ويتقرب إليهم حتى يصور عمراً على جميع هيئاته فلما أتقن ذلك رجع إليها به ، ولكنها رغم معرفتها لحمل الجمال للرجال والأسلحة لقيت حتفها ، فهى – أيضا- تستشرف المقبل وتحذر منه ولكنه يقع  [5]... ويبدو أن شيئا واحدا يجمع ثلاثتهم : استشراف المستقبل الذى يعطى القوى ويقى الهزيمة المريرة .  

       حاول الشاعر أمل دنقل التوفيق بين الماضي وتجاوز الحاضر الأليم – عقب النكسة - ، وتطلّب الأمر منه معاناة طويلة في البحث عن الأقنعة الفنية، لكنّه وجدها في الرمز والتاريخ " في زرقاء اليمامة " ، فاستعاروها.
لقد استطاع أمل دنقل باستدعاء زرقاء اليمامة ، أن ينتقل  بالقصيدة من محليتها إلى قصيدة "كونية" حضارية تتضمن حاجات روحية وجمالية تتسم بالعمق والقدرة على التجذر في خيال الشعر العربي المعاصر.
       لذا يقول الشاعر والناقد الراحل د. أنس داوود: إن هناك أسباباً عديدة قدمها الشعراء والنقاد والباحثون عن الهدف من استخدام الأساطير في الشعر، بعضها ذات دوافع فنية وتعبيرية تجلت في رغبة الشاعر الخروج من الغنائية التي اشتهر بها الشعر العربي ودخول إلى مرحلة الموضوعية.إن من دوافع استعارة الأسطورة الاقتصاد في لغة الشعر والتركيز وتكثيف الدلالة، فضلاً عن نقل الرؤية الجمالية للأسطورة ومزجها بالصورة الشعرية.
ولا يعتدّ بالهجوم العنيف الذى شنه بعض النقاد وادعوا أن استدعاء الأسطورة - هنا - محض محاولة لـ"استعراض العضلات" المعرفية، لذا كانت مجرد ترف، ظانين أن جمهور الشعر سيقف من القصيدة المؤسطرة موقفاً جمالياً أفضل .إذ اكتظت قصائده بشخصيات أسطورية وحكايا من التاريخ ( زرقاء اليمامة – الحسين بن علىّ – الكتاب المقدس ... إلخ ) ، أدخلتها في مأزق الفشل في ملامسة الجوهر الإنساني للأساطير التي استخدمها.
      بيد أننى أرد برؤية  الشاعر فاروق شوشة ، التى  تقول إن الاستعانة بالأسطورة في الشعر يكون تعبيراً عن شمولية الفكر وحريته ، التي لا تحدها أية حدود، فهو يكون راغباً في تعبير جديد، ربما لا يستطيعه دون الاستعانة بالأسطورة.
      ويضيف شوشة: إن اختلاف الثقافة يواكبه اختلاف في الأساطير التي يلجأ لها الشاعر، لأنها في الغالب مرتبطة ارتباطاً عضوياً بعادات وتقاليد المجتمع التي تظهر فيه، ما يجعل الاستعانة بأساطير معبر يتقيد بأساطير المجتمع الذي يقرأ هذا الشعر الذي يطلق عليه الشعر الأسطوري.[6]
       لقد شكلت الأسطورة عند أمل دنقل ملمحا من أهم ملامح معجمه الشعري واتجاهاته الفكرية ومشكلاته النفسية، وقد حاول أمل  أن يكتشف في الأساطير «الأنموذج الأسطوري» الذي يحمل عبء التعبير عن خصيصة من خصائص المجتمع العربي . وقد كانت وجهة نظره في اللجوء إلى استخدام الأسطورة محاولة لإعطاء القصيدة عمق أكثر من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري؛ لهذا آثر قناع شخصية بزرقاء اليمامة ، وحاول إخفاء المادة التاريخية بشكل عام.
.
حقا كان أمل دنقل  من أبرز الذين وظفوا الأساطير في الشعر، ففي قصيدته « البكاء بين يدى زرقاء اليمامة » اتخذ من زرقاء اليمامة  علما على تجربته الشعرية، وعدّ نفسه مستشرفا للمستقبل يطلب  المعرفة، وقد حاول عبر هذا الرحيل أن الاستقراء للمستقبل يعثر على اللغة الفطرية البكر.
       في كل مجتمع يوجد شخص أو فئة قليلة من البشر لديهم قدرة على المعرفة وكشف الأمور من خلال فهمهم التام للواقع ولحقيقته ، وحقيقة وطنهم وأكثر من  ذلك حقيقة عدوهم  ، تسعى هذه الشخصيات للتبصير وتقوم بدورها التنويرى تجاه الجماعة ، بيد أنها غالبا ما ترفض من قبل المجتمع الذى ركن إلى الراحة وآثر السلامة وهى في حقيقتها ضياع وفناء ، لقد ذهبت " جديس " – قبيلة زرقاء اليمامة التى أنذرتهم  ولم يصدقوها  - مع من ذهب وبادت مع من باد لكن تبقى أزمة الإنسان وأزمة الأمة ، سواء أكانت هذه الأمة قبيلة أم دولة أم وطنا كبيرا ، وللأسف التجربة تتكرر في كل عصر ، تباد جماعة أو مؤسسة لم تستجب لرأى القلة الواعية المفكرة المبدعة ولم تكتشف حقيقة عدوها ، بل إن أول ما تفعله في مثل هذه المواقف التنويرية المصيرية هو السخرية من هذا العقل والإطاحة بإنذاره بل إنها عندما تنهزم تضحى أولا بهؤلاء القلة الذين قد أدركوا حقائق الأمور .  
من وجهة نظرى المتواضعة أن زرقاء اليمامة – هذه الأسطورة – أضحت رمزا لهذه الفئة المبدعة المستنيرة ؛ لذا كُتب لها الخلود في أدبنا العربى وواقعنا المرئى ، لا على صفحات أمثال " الميدانى " وبيان " الجاحظ " وغيرهما فحسب ، بل عاشت داخل ضمير كل مبدع منذر يرى ما عجز قادة المجتمع عن رؤيته ، لأنهم انشغلوا بمصالحهم فلا يرون غيرها ، وأصبح من الطبعى أن تعود زرقاء اليمامة من جديد  مع كل تجربة مثيلة لتجربة "  جديس " ونكستها .

الجناح الواقعى ( أو البعد الواقعى )
لقد ذكّره الحزن الأسطورى للقوم لأنهم لم يسمعوا نصيحة الزرقاء بهذا الواقع الأليم للقوم ، لأنهم لم يبصروا الأمور ، وهنا نرى أمل يعود إلى تحريك جناحى القصيدة معا : الأسطورى  والواقعى ، ونراه ممسكا بأهداب الأسطورة ولا يتركها :
أيتها العَّرافة المقدسة ..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار !
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار !
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاةَ والفرار !
ونحن جرحى القلبِ ،
جرحى الروحِ والفم .
لم يبق إلا الموتُ ..
والحطامُ ..
والدمارْ ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،
وفي ثياب العارْ

مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة !
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ ... عمياءْ !
وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياءْ !
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها.
في أعين الرجال والنساءْ !؟
وأنت يا زرقاء ..
وحيدة .. عمياء !
وحيدة .. عمياء !
ويضفى التضاد دلالة إيحائية على الأسطورة ، فهى الوحيدة التى أصبحت الآن عمياء لا ترى ولا تستشرف شيئا عن المستقبل القريب أو البعيد ، ولا تطلق تحذيراتها للمجتمع لأنها لكانت تبصر ما لا يبصره غيرها .
ونرى الواقع الممزوج مع الأسطورة في أغنيات الحب ... والأضواء يحيى هذا الرمز بصورة عصرية واعية .
      وفى النهاية نقرر أن الأسطورة  لعبتْ دورا في نقل قصيدة زرقاء اليمامة إلى ساحة الدرامية ؛ لأن الشاعر خلع على الأسطورة واقعا أليما في زمنه ، أى ألبسها معاناة الإنسان المصرى آنذاك ، فأصبحت تحلق بجناحين : تحمل عبئ التجربة ، وهى جسور للعبور بين الماضى والحاضر ، وبالتالى لاستشراف المستقبل ، فالأسطورة هنا لم يستخدمها أمل دنقل بالمعنى التاريخى فقط ، بل بمعناها الحضارى ، وأعطاها ملامح عصره الحاضر في ستينيات القرن الماضى ، وهذا هو الأستخدام الفنى للأسطورة في الشعر العربى المعاصر .  




[1] ينظر : الأسطورة في الشعر العربى المعاصر ، د . يوسف حلاوى ، ط . دار الآداب
[2] ولد أمل دنقل في بلدة القلعة بمحافظة قنا في جنوب صعيد مصر عام 1940م ، وله خمس مجموعات شعرية مطبوعة وهي: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، تعليق على ما حدث، مقتل القمر، العهد الآتي، أحاديث في غرفة مغلقة، وله مجموعة شعرية كتبها خلال فترة مرضه، وهي بعنوان أوراق الغرفة رقم 8، وقد جمع شعره في ديوان واحد بعنوان ديوان أمل دنقل. وتوفي في القاهرة حيث توفي يوم السبت 21/4/1983.
[3] زرقاء اليمامة : امرأة من بني جديس، من أهل اليمامة. ضرب فيها المثل في حدّة النظر وجودة البصر يقال لها زرقاء اليمامة ،وزرقاء جوّ ، لزرقة عينيها وجوّ هو اسم لليمامة .
قالوا كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فتري الأعداء من بعيد وتحذر قومها فيستعدون، فلما قتلت (جديس) طسما خرج رجل من طسم الى حسان ملك تبّع اليمن، فاستجاشه ورغّبه في الغنائم، فجهز جيشا وغزا اليمامة .
[4] ينظر : ديوان البكاء بين يدى زرقاء اليمامة على موقع الشاعر أمل دنقل .
[5] الزباء ملكة معروفة سادت قومها بعد أبيها عمرو ، واسمها نائلة ، ، ولكن هلكت بعد نبوءة الكاهنة ، فقد  خرجت يوما  الزباء من قصرها ، وأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من الثقل، فقالت: يا قصير:
ما للجمال مشيها وئيدا!
أجندلا يحملن أم حـديدا
أم صرفاناً بارداً شـديدا
أم الرجال فوقها قعودا؟
قال البيهقي: والصرفان الرصاص.
قال: "فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعيراً على بواب المدينة، وهو نبطي بيده منخسة، فنخس الغرارة فأصاب [خاصرة الرجل الذي فيها]، فضرط. فقال النبطي: "في الجواليق شر"، فذهبت مثلا.
"فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت. ودل قصير عمراً على باب النفق قبل ذلك، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح. وقف عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء مبادرة النفق لتدخله، فأبصرت عمراً واقفاً، فعرفته بالصورة التي كان مصورها قد أتقنها، فمصت خاتمها وكان فيه سم، وقالت: "بيدي لا بيدك يا عمرو". فذهبت مثلاً. وجللها عمرو بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعاً إلى العراق"
[6] مقال : الأسطورة في الشعر العربي ، السبت,5 أيار 2012هــ  الموافق ١٤ جمادى الآخرة ١٤٣٣هـــ مجلة الفكر العربى المعاصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق