الصفحات

2015/11/29

"كِشْتِنْ" البطوسى بين خيال الأسطورة وحقيقة الإرادة الإنسانية بقلم: أ.د. صوفياعباس



"كِشْتِنْ" البطوسى
بين خيال الأسطورة وحقيقة الإرادة الإنسانية
أ.د. صوفياعباس
رئيس قسم المسرح ـ جامعة الإسكندرية
لن أنحو وأنا أكتب رؤيتي لرائعة عادل البطوسي الجديدة "كِشْتِنْ" نحو تقليديَّة فعل النقد الذي يبحث في العمل الإبداعي عن رموزه وإسقاطاته المعاصرة، فهو منحى يستوعب المعنى والدلالات المباشرة والواضحة في النص، غير أن القراءة في أعمال كاتب بقدر عادل البطوسي تبدو مختلفة في عين الناقد وتحتاج لدرجة من التأني للكشف عما وراء النص من قيم كبرى، هذا من ناحية، ثم التأني في تذوق ما يقدمه من تقنية في الكتابة من حيث الشكل والصياغة من ناحية أخرى ..
ومن أجل التأكيد على القيمة الأدبية للنص الذي بين أيدينا سعيت أن تتجه قراءتي لهذا العمل في إتجاهين أساسيين وإن كان النص يحمل ما هو أكثر وما يستوجب توفر الباحثين على دراسته والخروج منه بمزيد من القراءات النقدية ..
أول هذين الإتجاهين هو البحث في القيم الأبدية التي تبقى حية دوما مع حياة الإنسانية وثانيهما الغوص في عمق الكتابة الذي هو غوص بالضرورة في عقل من صنع فعل الكتابة، والتأمل في فعل تلك الملكة الربانية التي تمنح للمصطفين والتي تجعل من إنتاجهم أنواراً تضيء دروب الإبداع فتكتب لهذا الكاتب ولذاك النص الخلود في عالم المبدعين ..
لقد حمل النص قيمة العدل الذي بموجب تحقيقه وتفعيله يعتدل ميزان الوجود ودوما يكون المسؤول عن إقراره هو "الكبير" ومن أكبر من الإله ليحمل تلك المسؤولية؟ وما الذي يحدث من خلل عميق في الوجود الإنساني إن قرر الإله أن يتخلى عن مسؤوليته أو عجز عن السيطرة على إعتدال الميزان أو شارك في صنع هذا الخلل؟!
ومن ثم يأخذنا الكاتب إلى موقف وجودي لا يحسد عليه البشر ولا الآلهة حين يحاول البشر بأنفسهم وباستنهاض الإرادة الإنسانية إصلاح ما حدث من خلل وإعادة ميزان العدل؟ ما الذي يحدث حين يبدأ الصراع بين الآلهة والبشر، بين الناقص والكامل، بين الزائل والخالد، بين الضعيف والقوي؟!!
يفاجئنا الكاتب بمرارة الوضع ونحن نقف أمام هذا الكم من الأسئلة العبثية حول قيم الوجود ونحن نجد الناقص والزائل والضعيف في صراع غير متكافئ حين يسلب الإله حق البشر في الحياة ليمنح نفسه الخلود الذي هو من ثوابت الآلهة وربما تأتي فكرة موت الإله العبقرية من الكاتب بوصفها نوعا من زعزعة اليقين في قيمة الإله ذاته حين لم ينتهج نهجا إلاهيا في عظمته المطلقة وعطائه غير المحدود، حين تصاغر بكامل إرادته و طلب حق الحياة ممن يفترض أنه يتحكم في مقدرات حياتهم، فإذا الإنسان يبدو كما لو أنه يملك القدرة على العطاء أكثر من قدرة الإله ذاته ويكون هذا الإنسان هو المانح والواهب والمعطي وتتبدل الأدوار لكي تبدأ رحلة أكثر مرارة من ميل وانحراف في الميزان ويدخلنا البطوسي في مزيد من الخلخلة العقلية والوجدانية في قيمة ما ندين به من معتقدات حول الإله وعطاءاته لا سيما ونحن نرى أن فعل الإستلاب من قبل الإله قام على المكر والخديعة والخيانة والأنانية التي لا ينبغي أن تصدر عن الآلهة، وأن ضبط إيقاع الوجود لا يتحقق إلا من خلال رفض الإنسان للجور والظلم وتوسل كل الوسائل السلمية وغير السلمية في إعادة الحق لأصحابه من ذوات النفوس الكريمة التي تؤثر الآخرين على أنفسها وهذا الحق المستلب ليس حقا عاديا وإنما هو حق الحياة وحق الوجود ..
أما الاتجاه الثاني - والذي يهمني الوقوف عنده في نقد العمل الأدبي- فهو يتخذ من العمل الإبداعي ذاته مرتكزا والذي لا ينفصل بأي حال عن الكتابة عن الكاتب نفسه وعادل البطوسي له سمت ومذاق خاص في الكتابة ظهرت تجلياته في تفرده في الكتابة الشعرية الحديثة ذات الطابع الوجداني الذي يجعل القارئ لايلامس الأرض خفة وتحليقا فما أن تقرأ حتى تتصعد الروح إلى عوالمه العليا من خلال توظيف فريد للغة الكتابة فكأنه يضيف إلى كل مفردة كشفا جديدا لم تسبقه إليه معاجم ، فيطعم اللفظ باللفظ مرة يؤكده ومرة ينفيه ..
يقتحم هذا النص عالم الأسطورة بكل خيالها وعوالمها الميتافيزيقية في مقابل الإرادة الإنسانية بكل حقيقتها ووضوحها، ينفض عن الإنسانية ثوب الإستسلام والخضوع ويلبسها رداء القوة والثبات والتحكم مستخدما تقنية سليمة في الكتابة المسرحية الناصعة تتبدى في دقة وصف الملامح والانفعالات والحركة والسلوك بتمكن كاتب عالم ببواطن خطط الكتابة المسرحية وبإدراك لأن هذا الكلام لن يبقى طويلا رهين محبسه في الورق وإنما ستأتيه لحظة الخروج الكبير وحينذاك لن يملك أحد حبس قوته أو حتى ترويضها فتتلاقى قوة فعل الشخصية المسرحية عنده مع قوة لحظة الخروج المسرحي من الورق إلى الخشبة فيما يعرف بلحظة تحرير النص التي تتلاقى فيها ذات الممثل مع ذات المتلقي ويتحقق ما اتفق النقاد على تسميته بلحظة الإندهاش ..
وعلى الرغم من هذا التحليق الذي لازم الشعر المسرحي عند عادل البطوسي فإنه إستطاع بما يملك من تحكم في لغته أن يترجم به انفعالات الشخصية الإنسانية الواقعية فإن "كِشْتِنْ" تنوح شعرا وتحب شعرا وتتوَّعد شعرا وتنتقم شعرا وتناقش الفكرة شعرا وتتدفق الحكمة منها شعرا، لقد أحال البطوسي اللغة اليومية شعرا محتفظا في ذات الوقت للشعر بكل ماله من جلال ..
لقد إحترم البطوسى في هذه المونودراما الشعرية "كِشْتِنْ" خصائص المونودراما الثابتة بتقاليدها المتعارف عليها ولم يخرج فيها إلى جديد شكل كما فعل في تجاربه المونودرامية التجريبية الجريئة الأخرى (المزدوجة ـ الثلاثية ـ المركبة) التي يطمح من خلالها لتحديث الإطار المونودرامي وتطبيقاته، وبالرغم من ذلك إستبدل تحديث الشكل الفني بتحديث الجوهر من خلال توظيفه للأسطورة القديمة وطرح فكر جديد والدفع بها في خضم الإشارات والتحولات والإيحاءات المعاصرة من خلال إيمانه العميق بطاقة الإنسان على الفعل الإيجابي مهما بلغت التحديات حتى وإن كانت مع قوة الإله الأسطوري الذي يسقط من عليائه فيفعل ما يفعله البشر..
إن الآلهة ـ في النص ـ تمثل في فعلها ما أطلق عليه بعض النقاد "الآلهة البشرية"  أي الآلهة التي تنزل منازل البشر فيرتضون الإستفال على الإرتفاع والمحدود على المطلق ومادامت الفوارق الكبرى بين الإله والإنسان قد سقطت فقد وجد إذن مسوغ للصراع الذي تنتصر فيه إرادة الإنسان عل الإله الذي لم يحفظ لجوهره طبيعته المقدسة ..
من هذا المعنى تولدت "كِشْتِنْ" - نصا وشخصية –  وانطلق عادل البطوسي في تشابهات ومقاربات وتوصيفات لا يتسع المقام لنقلها ولا يجوز استقطاعها من سياقها في داخل النص الذي يخسر المرء كثيرا إن لم يقرأه ..!!!
د. صوفيا عباس
 رئيس قسم المسرح ـ جامعة الإسكندرية
(نقلا عن : جريدة مسرحنا القاهرية ـ العدد433 ـ 30 نوفمبر 2015م ـ ص :27)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق