الصفحات

2016/07/18

مرايا الشاعر النّبي في المنجز الشعري الرّومنطيقي بقلم: د.محرز راشدي



مرايا الشاعر النّبي في المنجز الشعري الرّومنطيقي
 د.محرز راشدي
I.     مفهوم الشّاعر:
قبل البحث في مفهوم الشّاعر من خلال المدوّنة الرّومنطيقيّة يجدر بنا أن نسجّل ملاحظتين لا تقلّ إحداهما خطورة عن الثّانية: أمّا الملاحظة الأولى فجماعها أنّنا لم نأت سبقا في هذا السّياق البحثي لا سيّما أنّ كتابات نقديّة ليست قليلة قد وقفت عند المفهوم وبسطت فيه القول، ورغم ذلك تظلّ فائدة المراكمة - توسّعا وإغناء- قائمة. أمّا الملاحظة الثّانية فموصولة بتقديم الرّومنطيقيّين صاحب الأثر على الأثر ذاته أو تنزيل صاحب الخطاب منزلة متقدّمة على الخطاب بما « أنّ النّظرية الرّومنطيقيّة، جعلت من الشّاعر قطب الرّحى في عمليّة الخلق الفنّي»[1]، ونقدّر أنّ هذا التّمركز حول الذّات الشّاعرة في مستوى الخلق الفنّي راجع إلى تشرّب النّظريّة الرّومنطيقيّة من فلسفة الذّات الّتي أعلت من قيمة الإنسان فردا، وحوّلت وجهة وعي العالم وأشيائه إلى وعي  وفهم ذاتيّين، فيهما تنسيب للمعارف وتذوّق للأفنان غير خاضع للإكراهات الخارج- ذاتيّة والأحكام القبليّة المترسّبة في الذّاكرة الجماعيّة.
وفي صلة بمبحث النّبوّة، قد أفصح عن هذه المركزيّة جدول انتقائيّ أثّثته مجموعة من المفردات هي بمثابة النّسخ المشدودة إلى نمط أعلى نرجّح أنّه الإنسان العظيم، هذه النّسخ الّتي ألمعنا إليها تسجّل حضورها في النّصوص بطريقة اعتباطيّة ولكن يمكن إرجاعها في نهاية المطاف إلى نواة جامعة (الإنسان العظيم) وهي النّبيّ، الكاهن، السّاحر، الرّائي، الرّائد، القائد، المخلّص، العبقري، المجنون وهلمّ جرّا.
وبما أنّ القصيدة الرّومنطيقيّة قد تبطّنت وعيا كتابيّا وهي تفكّر في قضايا شعريّتها فقد ورّطت المتلقّي في استنطاقها واستقراء قوانين الأدبيّة فيها انطلاقا من اللّغة الواصفة ( الخطاب على الخطاب/الشعر على الشّعر)، إذ يتّفق أن يدور الملفوظ الشّعري على نفسه محقّقا وظيفة ميتالغويّة (Métalinguistique) وهي إحدى وظائف اللّغة السّت كما تبيّن الخطاطة الّتي انتهى إليها جاكبسون[2] . وفي تعالق بمفهوم الشّاعر- وإن بشكل غير صريح- يقول إيليا أبو ماضي[3] : (الكامل)
لاَ تَسْأَلُونِي المَدْحَ أَوْ وَصْفَ الدُّمَى         ҉          إِنِّي نَبَذْتُ سَفَاسِفَ الشُّعَــــــــرَاءِ
بَاعُوا لِأَجْلِ المَالِ مَاءَ حَيَائِهِــــــمْ           ҉مَدْحًا وَبِتُّ أَصُونُ مَاءَ حَيَـــائِي
فَلِذَاكَ مَا لَقِيتُ غَيْرَ مُشَبِّــــــــــبٍ           ҉           بِالغَانِيَاتِ وَطَالِبٍ لِعَطَــــــــــاءِ
ضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيا الرَّحِيبَةُ فَانْثــــَنَى         ҉            بِالشِّعْرِ يَسْتَجْدِي بَنِي حَــــــوَّاءِ
شَقِيَ القَرِيضُ بِهِمْ وَمَا سَعِدُوا بِـــهِ           ҉             لَوْلَا هُمُ أَضْحَى مِنَ السُّعَـــدَاءِ
هذه الأبيات الشّعرية عبارة عن بيان "احتجاجي" - إن صحّ التّعبير- على البنية الأغراضيّة النّمطيّة الّتي سيّجت هامش الإبداع، وصادرت حرّية المبدع. وهي في ذات الآن هجاء صريح لصورة الشّاعر التّقليدي المتماهي مع الصّورة الشّاعر القديم. فمحنة الشّعر أنّه بات خطابا لا تاريخيّا؛ ينتمي ظاهريّا إلى عصر حادث ومغاير  لكنّه لا يزال يلهج بقيم ومعان  شعرية عفا عليها الزّمن، وتلك هي تجربة البعث والإحياء في وجهها عموما.
وفي مقابل ذلك عبّر الوعي الشّعري الرّومنطيقي عن ضرورة المجاوزة- حتّى لا نقول القطيعة- انسجاما مع منطق التّاريخ المتبدّل، وقضايا العصر الرّاهنة حتّى لا يكون انفصام أو انشقاق بين المبدع وما يبدع. ثمّ إنّ عدول الشّاعر الرّومنطيقي عن جدول الأغراضيّة، وتمرّده على المؤسّسة الجماليّة المهيمنة قد كان في القاع ثورة على مبدإ الصّناعة الشّعرية وتحقيقا لقيمة الصّدق فيما يقال. فالشّعر هو ما يشعر به الشّاعر وما يعتمل في وجدانه من عواطف وأحاسيس كان قد حرمها جليد العقل لعهود مديدة من التفتّح والإيناع، بل بالشّعور يكون الشّعر والشّاعر في آن، وذلك حسب دعوة الشّابّي في قوله:[4](الخفيف)
عِشْ بِالشُّعُورِ، وَلِلشُّعُورِ، فَإِنَّمَا      ҉      دُنْيَاكَ كَوْنُ عَوَاطِفٍ وَشُعُورِ
وتتناسب هذه الدّعوة إلى إعلاء قيمة الشّعور مع التّحديد الّذي أعلنه نعيمة فيما يخصّ الشّاعر؛ « الشّاعر نبيّ وفيلسوف ومصوّر وموسيقي و كاهن »[5]، إذ تبدّى كائنا مقدّسا مهيبا وصاحب رسالة مقدّسة، ولكنّه إلى ذلك مفكّر حامل لوعي جدلي، وفنّان اجتمعت فيه ثنائيّة الإبصار (مصوّر) والإصغاء ( موسيقي). فنكون- إزاء هذا التّحديد – قد تجاوزنا البنية الأحادية للنظّام، وولجنا بنية فسيفسائيّة تكشف عن شاعر رومنطيقي متعدّد الأفانين تناسبا مع تحطيمه لوثن العقل وحشده لملكات مكبوتة وطاقات مكتومة حرّرت العمليّة الإبداعيّة وأسعفتها بأفاق شاسعة لا تحدّها الحدود. هذا الغنى الرّوحي يستدعي من الشّاعر أن يستقيم نبيّا « يرى بعينه الرّوحيّة مالا يراه كلّ البشر»[6] وكاهنا متبتّلا في معبد الطّبيعة المقدّسة يتملّى الجمال المطلق، ورسّاما يستأنف الإنشاء الإلهي وهو قد حظي بعين تجلّ الحسن والجمال، وموسيقيّا استيقظت فيه الأذن الباطنة فوضعت بين قوسين عالم الصّخب والضّجيج لتلتقط موسيقى الطّبيعة العاكسة للفطري والحقيقي والانسجام العميق الّذي ضيّعه إنسان الثّقافة.
ويضيف نعيمة في سياق تمييزه الشّاعر من النظّام « الشّاعر (...) لا يأخد القلم في يده إلاّ مدفوعا بعامل داخليّ لا سلطة له فوقه () [أمّا] " النّظّام" فيأخذ قلما وقرطاسا ثمّ يبدأ بوخز دماغه وقريحته علّه يتمكّن من أن يهيّجهما ولو قليلا. غايته لا أن يترجم عن عواطف أو أن يعبّر عن أفكار بل أن « ينظم قصيدة»»[7].
هذا التّعريف إذ يرتكز على المقارنة بين فعل الشّاعر وفعل النّظّام فهو يضمر مقابلة بين الخلق الشّعري وفق مبدإ الحرّية وبين النّظم استجابة لمطلب خارجي  صنو للإكراه. فمع الشّعر الّذي يحقّق سيلان عاطفته وانكشاف مكنونه أفق الحقيقة الشّعرية نكون في حضرة صدق التّجربة الإبداعيّة، أمّا مع النّظّام- وهو يجاري النّسق الجمالي التّالد ولا يستطيع تمييز صوته من أصوات السّلف- فيكون التكلّف، ويرتكس الشّعر الحقّ؛ شعر النّفس والقلب.
ولم يفترق جبران خليل جبران عن نعيمة لمّا ذهب إلى أنّ « الشّاعر هو الوسيط بين قوّة الابتكار والبشر، وهو السّلك الّذي ينقل ما يحدثه عالم النّفس إلى عالم البحث، وما يقرّره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتّدوين»[8]، حيث استحالت الاستراتيجيّة الشّعرية خلقا وابتكارا على غير مثال. ولم يعد مطلوبا من الشّاعر أن يكون خبيرا من خبراء العالم الموضوعي وعارفا بعوارضه ووقائعه، بقدر ما يفترض فيه أن يكون لسان حال ذاته الباطنة طارحا همومها ومستكنها جوهرها، ومحمّلا الملفوظ الشّعري فضلة شعوره، بله الفعل الشّعري في عمقه انفعال داخلي والشّاعر هو الكشّاف عن حبله السّرّي الّذي يصله بالأعماق والمبشّر بلغته الجديدة. ومن ثمّ فإنّ الشّاعر في عرف الرّومنطيقيّين هو نبيّ مستقبل الإنسانية الّذي تنصّل من ربقة القيم الجماليّة القديمة، لأنّه وعى محدوديّتها وقصورها عن بلوغ جوهر الحقيقة وجوهر الشّعر.
هذا الشّعر ليس معطى موضوعيّا بل رؤيا وإصغاء، والشّاعر النّبيّ لم يتأطّر في عالم منتظم باعث على الطّمأنينة بل يقيم في كون تسوده الفوضى ويسوسه عماء الحواسّ لذلك كان رحّالة لا يهدأ له بال، وبحّاثة لا يلقي عصا التّرحال، قدمه على أرض مجهولة وعينه على حقيقة مهجورة؛ تلك الحقيقة الخالصة الّتي ترفع الزّيف عن العالم، والضّيم عن الذّات الشّاعرة، وهي عصيّة عن بنية العقل، متأبّية عن المنطق والحساب.وعلى غرار نعيمة، ارتأى جبران أن يعقد مقارنة بين الشّاعر والمقلّد[9] العمدة فيها تباين في تعامل كلّ منهما مع اللّغة؛ ففيما يعمل الشّاعر على تحقيق حيويّة اللّغة وبعثها من قمقم الابتذال وسجن التّنميط وجعلها قادرة على التّجدّد والحياة والتّدفّق، ينبئ فعل المقلّد بموت اللّغة لتعطيله فعل الخلق والإبداع وصدوره في قول الشّعر عن امتثال للمنوال المتقادم الّذي يمارس عنفا رمزيّا على الممارسة الجماليّة الحادثة بفعل التّواطؤ معه. وما يمكن أن نحصّله من التّصوّر الرّومنطيقي لمفهوم الشّاعر أنّه كائن متفرّد لا يلبّي إلّا نداء الذّات، ولا يفيد إلّا من وحي قلبه وإيحاء رؤياه. وهو إلى ذلك يتقدّم بوصفه المثقّف العضوي صاحب الوعي التّاريخي والمقدّر له أن يحرّر الإنسانيّة من أغلالها الكثيرة.
ولكن مكوثنا عند المدوّنة الرّومنطيقيّة قد بيّن لنا أنّ للشّاعر الرّومنطيقي صورًا عديدةً متحقّقة في الخطاب تختلف باختلاف الجهة المتلفّظة.
1.     صورة الشاعر متلفّظا:Le poèteénonciateur
1.1.          صورة الشّاعر- النّبي:
لقد استمدّت الحداثة الرّومنطيقيّة رؤيتها للشّاعر- النّبي من كشوفات الكوجيتو الدّيكارتي الّذي أعاد مقولة الذّات إلى المركز، ومن الانفتاح على التّراث الإنساني ومنه الدّيني والميثيولوجي تحديدا. فالإرث اليوناني قد ألحق الشّعر والشّاعر بمنطقة القداسة ونزع على الشّاعر جلباب الجلال حتّى لا تمايز بين التّجربة الشّعريّة والتّجربة النّبوية؛ إذ أنّ الشّاعر- مثله مثل النّبي- صفيّ من الأخيار أغدقت عليه ربّة الأشعار هبة الوحي الشّعري وقذف فيه أبولون قبسا من نور الاستبصار ليستوي    « ترجمان الإرادة الإلهيّة، والعرّاف، والنّبيّ، ومعلّم الحكمة، وباعث الحياة المتمدّنة »[10] . ويبدو أنّ مضايق الحداثة العقلانيّة والعلميّة هي الّتي أوجبت على الفلسفة الرّومنطيقيّة فعلا عكسيّا بمقتضاه وقعت العودة إلى صورة الشّاعر- النّبيّ وتدشين عهد « كهنوت الشّاعر»[11]من جديد من أجل الخروج من النّسق المعقلن الّذي موضع الرّوحي وتبرّأ من القيمي واستباح المعنى. ولكنّ هذا الطّرح لا يعدم أنّ الرّومنطيقيّة في سياقها الغربي أوّلا قد أفادت من رصيد الأفكار الّتي انتشرت في عهدها مثل الفردانيّة والحرّية والتّقدّم وغير ذلك. بل كلمة الحرّية قد أضاءت الإيمان بالمستقبل فجاهر كلّ الفكر اللّيبرالي بقابليّة الكمال[12] (Perfectibilité) .
والجليّ أنّ الوجود الإنساني المحفوف بالمخاطر قد بعث في الرّؤية الرّومنطيقيّة ضرورة الأخذ في البحث عن حضور الأصيل، وتأصيل جوهره الآفل، المهدّد بالضّياع كلّية. ومن ثمّ كانت الإشادة بحرّية الإنسان، وتنزيل الذّات الإنسانيّة المنزلة الّتي تستحق، وتبجيل الفرد على الجماعة، لأنّها جماعة اجتمعت على زيف، أو هي حاملة لوعي زائف بما أنّه نتاج ثقافة هجينة لا طبيعة خالصة.
هذه المقدّمات- على اقتضابها- ستمثّل نقطة ارتكاز في تخريج صورة للشّاعر الرّومنطيقي على أنّه ضمير الإنسانيّة المتلالئ، وصوت الحقّ الصّادح. وهو- على غرار المسيح- ابن الإنسان المنافح عن الرّصيد الرّمزي الواقع في النّسيان. فلا يصعد إلى السّماء إلّا ليعود إلى الكهف ويرفع العماوة عن نزلائه. وحينئذ، لا غرابة أن تقدّمه الأقاويل كائنا خفيفا يحفّه النّور، قابضا على جمرة المعرفة، والمعرفة سرّ تستّرت عليه الحداثة حين ادّعت أنّه على القارعة وفي هذا الخصوص يقول جبران خليل جبران واصفا الشّاعر- النّبي إنّه:« ملك بعثته الآلهة ليعلّم النّاس الإلاهيّات. نور ساطع لا تغلبه ظلمة ولا يخفيه مكيال، ملأته زيتا عشتروت آلهة الحبّ وأشعله آبولون إله الموسيقى»[13].
بمعنى أنّ الشّاعر- النّبي ليس صاحب رؤيا فحسب وإنّما هو شاعر- رسول (Poète-apôtre) يردم الهوّة بين السّماء والأرض ويهدي الإنسان إلى سبل امتلاك الحقيقة فهو متمّم العناية الإلهيّة ولاعب دور الأنبياء العظام مثل موسى وهوميروس ويسوع وغيرهم ممّن يجوز احتسابهم شعراء عظاما لهم مآثر خالدة [14]، بل هو "العلامة الكاملة" على الحضور الإلهي في العالم، أو بالأحرى مجلي ذلك الحضور، فالشّاعر النّبي حامل للمقدّس، يتملّى الكون والعالم ليمسك بأثر المقدّس. ففي ليل العالم، يقول الشّاعر المقدّس. ولهذا السّبب، ليل العالم هو « اللّيل المقدّس» بحسب عبارة هولدرلين. بل أكثر من ذلك يسطّر الشّاعر لإخوانه من بني الإنسان درب الخلاص من الهوّة، وبهذا المقدّس يتخطّى زمن الضّيق[15].
إذن، غياب المثل العليا هو غياب المقدّس اّلذي يترك مكانه للظّلمة بما هي خراب روحي وانكشاف العدم، والشّاعر- النّبيّ سيحمل على عاتقة تخليص الوجود الإنساني من السّقوط في العمى، وهو لذلك أضحى رمزا تعدّدت مدلولاته وتكثّرت؛ إنّه لسان الخير والفضيلة والجمال والحبّ الّذي يبحث له عن منزل على هذه الأرض، وعن أرض مهملة يلقحها ببذره فتخصب ويصلح نبتها. وهذا ما دعا إلى بناء معنى النّبوّة اعتمادا على جدول- والشّعر اشتغال على الجدولي بالأساس- تتعاوره مفردات النّور والألق والشّعاع والنّجم والضّياء والقبس وغير ذلك ممّا له صلة بالحياة والحقّ، وممّا يحيلنا على مرجعيّة دينيّة- مسيحيّة وميثولوجيّة، يقول علي محمود طه:[16] ( الخفيف) 
هَبَــــــطَ الأَرْضَ كَالشُّعَاعِ السَّنِيِّ      ҉         بِعَصَا سَاحِرٍ وَقَلْبِ نَبِــــيٍّ
لَمْحَةٌ مِنْ أَشِعّــَةِ الـرُّوحِ حَلَّــــتْ      ҉        فِــــي تَجَالِيدِ هَيْكَلٍ بَشَـرِيٍّ
أَلْهَــــمَتْ أَصْغَرَيْهِ مِنْ عَالَمِ الحِكْـ      ҉مَةِ وَالنُّورِ كُلَّ مَعْنًى سِـــرِّيٍ
إنّ أسطرة الشّاعر وإخراجه كائنا منيرا تعبّر عن حلم مفقود وحلقة إنسانيّة ضائعة في ركام الحضارة الصّناعية الفظّة، فلو كان العالم الإنساني عامرا بالنّور ما احتاج إلى من يجلب إليه شعاعا منه، ولكنّه عالم بحجم الهمّ البشري والضّيقة الكبرى ولذا تمظهر ذاهبا في السّواد والقتام، والحالة تلك تفترض من يؤدّي « رسالة مقدّسة على هذه الأرض الملعونة»[17].
وإضافة إلى معجم النّور الّذي نسج صورة الشّاعر- النّبيّ فقد تمّ توظيف معاجم لغويّة تدور على معنى الطّيران والتّحليق ما يوحي بتسام على الكثافة والسّماكة. فالطّيران حركة فضائيّة صاعدة تبتغي منزلا غير المنزل وحقيقة غير الحقيقة، وهو تفوّق للإلهي في الإنسان على البهيمي فيه، وتحرير للنّفس من عطالة الجسد، ومن الحواسّ بوصفها مقاتل الحقيقة. كما يمكننا أن نفهم الطّيران بوصفه انتصارا على تجربة الوجود الدّرامي الممثّلة في الخطيئة والسّقوط، وحركة مقاومة من الشّاعر- النّبيّ لقدر الالتصاق بمنطقة الشّقاء والنّقصان، يقول الشّاعر:[18]( الخفيف)
أَنَا فَوْقَ المُحِيطِ كَالطَّائِرِ التَّا       ҉ئِهِ يَعْلُو مَوَائِجَاللَّجَّـــــــــــاتِ
نَاشِرًا فَوْقَ عَرْضِهِ مِنْ جَنَـــا      ҉       حَيَّ ظِلَالَ الهُمُومِ وَالحَسَرَاتِ
مُمْعِنًا فِي سَمَائِــهِ أَتَغَنَّـــــــى       ҉       بِنَشِيدِ الخُلُودِ فِي صَدَحَــــاتِي
ويذهب جبران إلى أنّ« الشّاعر طائر غريب يفلت من الحقول العلويّة، ولكنّه لا يبلغ الأرض حتّى يحنّ إلى وطنه الأوّل ، فيغرّد حتّى في سكوته، ويسبح في فضاء لا حدّ له ولا مدى، مع أنّه في قفص»[19].
فقد جبل الشّاعر النّبيّ من عنصري الكون الأساسيّين: النّار والهواء أو النّور والأثير. وهذا في الحقيقة- يذكّرنا بأسطورة نرجس Narcisse وبقضيّة عشق الذّات، فمن ينظر إلى نفسه في مرآة الذّات سوف لن يرى إلّا الكمال والاكتمال فيما تنطمس كلّ العيوب. فإذا كان مجتمع الحداثة هو مجتمع الفردانيّة فإنّ صورة الشّاعر في اليوتوبيا الرّومنطيقيّة صورة مثاليّة قائمة في الفكر المتعالي على الواقع.
ويجرّنا الحديث عن أصول الشّاعر- النّبي السّماوية إلى الخوض في صلة النّبوّة بالتّشريع. ويبدو من نافلة القول اعتبار الرّومنطيقيّة مشروع هدم وبناء: هدم للقناعات والتّشريعات المهترئة واليقينيّات الماقبليّة، ولمصادر المعرفة الجاهزة، وبناء كون ينهض على الذّاتية الفرديّة المتحرّرة، وعلى تنويع مصادر المعرفة، والتّطلّع إلى مستقبل أفضل قد لا يأتي ولكنّه يظلّ هدفا نبيلا. وبديهي- عندئذ- أن ينحرف الشّاعر عن سمت الجماعة ومنهجها، ويحطّم ألواحها، لأنّه صاحب رؤيا لا تقنع بالسّكون، ولا تستكين إلى الموجود، بحكم تشبّعها بأفكار الحداثة من رغبة في التّغيير، وقطع مع السّائد، وميل إلى الاكتشاف والمجازفة.
ومن ثمّ سيتقدّم النّبيّ- المشرّع (prophète-législateurLe) المناهض لأخلاق العامّة، بوصفه الجذر المبدع لأخلاقه الخاصّة، والأصل الّذي عنه تصدر المعرفة في وجهها الأسمى، والفرد ذا الشّواغل والهموم الفرديّة. ولسنا نغالي إن ذهبنا إلى كونه مصدر الإدراك البشري؛ بما أنّ النّظريّة الرّومنطيقيّة قد أقرّت بألوهيّة الشّاعر وشاعريّة الإله وهي تؤسّس لوحدة الأكوان وتناغم العوالم مستفيدة من النّزعة الإشراقيّة الّتي أعلنت « أنّ الإنسان هو الله و الله هو الإنسان »[20].
ففي الشّاعر- النّبيّ استعداد فطريّ للعصيان والتّمرّد على كلّ القيود والمعوّقات الّتي استبطنتها الذّاكرة الجماعيّة، واستعداد للاستضاءة بمصباح القلب، واعتماد على نفاذ البصيرة  والحدس والخيال المبدع من أجل ملامسة حقيقة الذّات وبلوغ الحقيقة الغائبة، المحجّبة في عالم الأسرار.
وهذا ليس بعزيز على «كولمبس ميتافيزيقي»[21](métaphésienColomb) ما اِنفكّ شادّا رحاله إلى "بحر من الظّلمات" يضطرب في أعماقه حيث الإعتام والعتامة وتستّر السّرّ. فلقد قال جبران: «إنّني سائح وملاّح في وقت واحد وفي كلّ صباح أكتشف قارّة جديدة في نفسي »[22]. وإنّما أثبتنا هذه الشّواهد لنبيّن أنّ النّبوّة المشرّعة لها منشأ ذاتيّ موصول بالبحث عن الكيان وتحقيق الامتلاء، والإفلات من قبضة العقل الأداتي، والانفكاك من هيمنة الأنساق المنسّقة. وحينئذ حريّ بفريدريك شيلغل أن يقول:« يجب على الشّاعر أن يخلق أخلاقه مثلما يخلق فنّه، يجب أن يكون مشرّعا لذاته »[23]. والتّشريع- بطبيعة الحال- تأسيس على أنقاض الكائن؛ هذا العالم الوقائعي الّذي تحالف مع كلّ سلب حتّى توارى عنه كلّ إيجاب.
وهذا يعكس- ولو على المستوى النّظري- شجاعة النّبوّة الرّومنطيقيّة الّتي ارتأت- عوضا عن المجاملة والمهادنة- حربا ضروسا على مختلف مظاهر النّفاق والرّياء. واختارت دروبا بكرا يشقّها الشّاعر- النّبي لنفسه حتّى يدرك مراده، ويسوس الحقيقة مثلما تنبئه نفسه، ويحدّثه قلبه لا كما استتبّت في معتقد الجماهير.
كما أنّ للنّبوّة علاقة وطيدة بـالشّهادة من جهة أنّ الشّاعر الحديث بات في رتبة النّبيّ- الشّاهد   (prophète-témoinLe) الّذي يشهد على حالة الفوضى العارمة التي تخبّط فيها الإنسان، وعلى الفقر القيمي،الرّوحي الّذي خلّفه التّنازل عن الكينوني ورفت مدلول الإنساني. وتندرج الشّهادة (Témoignage) في وعي تاريخي، وإحساس بالمسؤوليّة به تميّزت الصّفوة من المثقّفين الّذين تمثّلوا أنفسهم أنبياء هذا العصر الجديد. ولكنّ الذّات الإنسانيّة هي ذات لغويّة، و"الأنا" الشّاعرة الرّومنطيقية تحقّق كينونتها وتؤصّل وجودها في دائرة الجميل الشّعري لا في مطلق التّجريد الفكري، إذ أنّ « الشّعر تأسيس بالكلام وفي الكلام»[24] و« بفضل اللّغة، يكون الإنسان شاهدًا على الوجود»[25]. فالشّهادة، إذن، نزوع إلى المصارحة والمكاشفة والمواجهة، وخروج من موقع الانفعاليّة والتقبّل إلى موقع العطاء والمبادرة، بما يعكس الحضور الحيّ في العالم، ويقدّم الكائن البشري مثقلًا بواجب الشّهادة على تجربته الأنطولوجيّة.
وإنّ تقليب النّظر في المنجز الشّعري الرّومنطيقي لن يخيّب انتظار المتلقّي في هذا الخصوص، إذ تكشف شواهد شعريّة ليست قليلة على كون الشّاعر-النّبيّ قد عاش أزمة وجوديّة في هذا العصر، ما جعل خطابه الشّعري سجلاّ يقيّد فيه الهنات والنّواقص والعيوب حتّى يرمى بالغفلة والتّلهّي عن قضايا عصره، يقول إيليا أبو ماضي:[26] (الطّويل)
تَتَلْمَذْتُ لِلإنْسَانِ فِي الدَّهْرِ حِقْبَـــةً       ҉فَلَقَّنَنِي غَيًّا، وَعَلَّمَنِي جَهْـــــــــلاَ
نَهَانِي عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، وَعِنْدَمَا       ҉        رَأَى غِرَّةً مِنِّي تَعَلَّمَ بِي القَتْــــلاَ!
وَذَمَّ إِلَيَّ الرِّقَّ ثُمَّ اِسْتَرَقَّنِـــــــــي        ҉        وَصَوَّرَ، ظُلْمًا فِيهِ، تَمْجِيدَهُ عَدْلاَ
وَكَانَ يُرِينِي الإِثْمَ فِي كُلِّ مَا أَرَى       ҉        وَكُلَّ نِظَامٍ غَيْرَ مَا سَنّ مُخْتَـــــلاَّ
فمثلما يشهد أنبياء الرّسالة الدّينيّة في حضرة الإله على شعوبهم، وعلى أنّهم أنجزوا المهمّة المعلّقة بعهدتهم، كذلك يشهد الشّاعر- النّبيّ- وهو صاحب رسالة إنسانيّة خالدة- في حضرة الأجيال اللاّحقة على كونه صوت حقّ عاشر الفساد والزّيف رغما عنه، محاولا الإصلاح. ومن ثمّ تصير النّبوّة في تعالقها بالشّهادة رديفة التّعرية وفضح إخلالات الواقع المأزوم. هذا الواقع الإنساني الّذي تمرأى- ظاهريّا- بشرى خلاص ورفاه وتقدّم، بينما لم يسفر إلّا عن الكوارث المتتالية والصّراعات الطّاحنة، رهانه النّجاعة والمنفعة والكسب على حساب المعنى والقيمة والجوهر. ولذا كثيرا ما يستحيل الملفوظ الشّعري سندا لخيبات الشّاعر- النّبي، وحاملا لانغلاق قوس الرّجاء، وغياب أفق الإنسانيّة:[27] (البسيط)
يَا رَبَّةَ الشِّعْرِ! إِنِّي بَائِسٌ، تَعِسٌ      ҉      عَدِمْتُ مَا أَرْتَجِي فِي العَالَمِ الدُّونِ
وعلى شاكلة أبي ماضي والشّابي قال علي محمود طه:[28] (الخفيف)
أَسَفِي لِلْحَيَاةِ أَصْلَى لَظَاهَا       ҉       وَأَرَاهَا وَرِيفَةَ العَذَابَــــاتِ
بَعُدَتْ عَنِّي الحَقِيقَةُ فِيــــهَا      ҉       وَأَضَلَّتْ مَسْعَايَ لِلْغَايَــاتِ
فالمعاني الّتي تدور عليها هذه الأبيات هي التّبرّم من دنيا النّاس، والتّذمّر من دونيّتها. ويحسب للشّاعر- النّبي أنّه « يشهد على انتمائه إلى الأرض»[29] متورّطا في عالم الكون والفساد، وفي نداء الضّمير الّذي يشهد على تاريخيّته، وتحمّله المسؤوليّة من تشهير بالموجود المسطّح، ودعوة إلى ما يجب أن يكون؛ إلى عالم جميل، عار من الأقنعة.
2.1.  صورة الآدميّ الشّقي:
في هذا الإطار سيقع إفراغ النّبوّة من الشّحنة المثاليّة تماشيا مع تحوّل المقام، إذ أنّ الانتقال نزولا من السّماء إلى الأرض سيوازيه تغيّر في هيئة الشّاعر- النّبي وصورته، وتبدّل في المعاني الشّعريّة وكيفيّات بنائها. بل سيقع بعث سرديّة السّقوط من جديد فنكون إزاء سقوط النبي prohète)duTombe(، فصلب النّبي)prophèteduCrucifixion(  وبالتّالي سبي أو نفي الكاتب الرّومنطيقي (Exilde l’auteurromantique).[30]بما يعني أنّ النّبوّة تجربة دراميّة منغرسة في هموم المجتمعات البشريّةّ، ناهضة بدور في ذلك وهذا هو العمق الإنساني للنّبوة بوصفه وجودا متقوّضا أو قابلا للتّقويض وعالما ساقطا في الانحطاط. ومن ثمّ تنكشف منزلة الإنسان المهتزّة والمسربلة بالنّقصان والمركوزة في تناقضات المعيش اليومي، ويمكن اعتبار «الشّاعر الحقيقي هو الكائن الّذي يلوح مختارا من الأعلى، من طينة فوق- طبيعيّة [...] و مقدّر له بالتّألق و العذاب هنا في الأدنى»[31] . وفي هذا المنحى، نعتقد أنّ سقوط الشّاعر- النّبي هو محاكاة خلاّقة لطراز السّقوط كما تبنّته الأساطير النّشكونيّة عندما أعلنت حركة الإنسان الهابطة عن هبوط في المنزلة، وحملت على الشّعور بالاجتثاث والاقتلاع أو الوجود المنبتّ، وكأنّ عنصر التّراب الّذي منه استوى الإنسان قد انقلب طاقة جاذبة إلى الأسفل، ومفتاحا للشّقاء. وبعبارة أخرى « الحركة المتّجهة إلى أسفل هي الحركة التّراجيديّة، فعجلة الحظّ تسقط من البراءة إلى الخطيئة ومن الخطيئة إلى الكارثة»[32] .
و لكن يمكن أن نتأوّل شقاوة الشّاعر- النّبيّ في السّياقات الكبرى- سياق الحداثة الغربيّة سليلة العقل الحديث الّذي انقلب على العالم القديم المسيحي، وسياق الواقع العربي الموصوف بالوقوع تحت نير الاستعمار والجهل والانحطاط وغياب الرّؤية- بوصفها سدّا لشغور روحي خلّفه انهيار الكون المسيحي الرّوحي، وقيادةً لمجتمعات عشّش فيها الجهل ولم تدر طريقها إلى الحرّية والخلاص. فشقاء الأنبياء- في جانب منه- نتيجة طبيعيّة للتّضحية من أجل الآخرين، لا سيّما أنّ النّبوة- أيّة نبوّة- دائما ما تعبّر عن أزمة معيّنةّ، وتكون تجربة على المحكّ، فـ« في العتمة يولد "المنقذ" الّذي يتميّز عنّا ببصيرة ثاقبة، تكشف الطّريق إلى المستقبل، وتهدي التّائهين إلى الأمام، وإلى الأعلى»[33] .
والشّاعر الحريّ بالإقناع هو المنشبك بهموم شعبه، والمنهمّ بقضايا عصره الحارقة، لأنّه- قبل كلّ شيء- كائن تاريخيّ، مورّط في الاجتماع البشري، وفي الشّروط الموضوعيّة لذلك الاجتماع، وحينئذ ستفهم كلّ حركة هروبيّة صادرة عنه على أنّها ضرب من الانفصام في الشّخصية الّذي يعمّق الهوّة بين المثقّف (الشّاعر) ودائرته الثّقافية. ولقد اعتبر هيدغير أنّ الانهمام (soucile) له خصيصة التّكليف الذّاتي[34]، بمعنى أنّ الشّاعر المنهمّ بطبقات المشاكل المجتمعيّة قد كان كذلك عملا بما يحتّم الضّمير والواجب، ولم يكن بضاعة في سوق العرض والطّلب. وهذا يقودنا إلى الحديث عن أعمال أدبيّة تحاكي الواقع، بل عن منجزات شعريّة قد ضحّت بجماليّتها لصالح الالتزام بقضايا اجتماعيّة وسياسيّة بأن يقع إنتاج القصيدة المتعدّية الّتي تحوّل المراجع الواقعيّة إلى مراجع شعريّة. ولنا في "الخمائل" أمثلة تدعّم هذا الرّأي منها قول الشاعر:[35](الكامل)
وَاهْجَرْ أَحَادِيثَ السِّيَاسَةِ وَالأُلَى    ҉       يَتَعَلَّقُونَ بِحَبْــــــلِ كُلِّ سِيَـــــــاسِ
إِنِّي نَبَذْتُ ثِمَارَهَا مُذْ ذُقْتُـــــــهاَ҉      وَوَجَدْتُ طَعْمَ الغَدْرِ فِي أَضْرَاسِي
وَغَسَلْتُ مِنْهَا رَاحَتِي فَغَسَلْتُـــهَا       ҉        مِنْ سَاِئرِ الأَوْضَارِ وَالأَدْنَـــــاسِ
إذ يتورّط الشّاعر في الحدث السّياسيّ، وتصير السّياسة معنى شعريّا من معاني القصيدة المتعدّدة، فتتّجة العلامة الشّعرية إلى البيان والشّفافيّة وتصبح حاملا لوظيفة إبلاغيّة لا إيحائيّة. ناهيك أنّ هذه الأبيات الّتي اقتطعنا فيها نبرة توجيهيّة وظيفتها تعليميّة محضة، ما يجعل شحنة الانفعال والعاطفة تتراجع نتيجة تواتر الأفعال والإحالات بما هي غوص في تفاصيل المعاش؛ فنجد أنفسنا أمام قصيدةتتقدّم فيها المنفعة على المتعة والإخبار على الإنشاء، ومن ثمّ التّعدية على اللّزوم.
ومن الأمثلة الأخرى الدّالّة على انهمام الشّاعر بتناقضات المجتمع قوله:[36] (المتقارب)
كُلُوا وَاشْرَبُوا أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ      ҉      وَإِنْ مَلَأَ السِّكَكَ الجَائِعُــونْ
وَلَا تَلْبَسُوا الخِزَّ إِلَّا جَدِيدًا       ҉وَإِنْ لَبِسَ الخِرَقَ البَائِسُــونْ
وَحُوطُوا قُصُورَكُمْ بِالرِّجَالِ      ҉      وَحُوطُوا رِجَالَكُمْ بِالحُصُونْ
هذا الشّاهد- وقد اصطفيناه من قصيدة تنتظمها فكرة التّناقض الصّارخ في المجتمع- دليل على الطّابع الاجتماعي للنّبوّة، وهو حال كلّ الأنبياء الّذين انتصروا للمساكين والمحرومين، وعنوانهم الأبرز المسيح. وقد لاحظنا حضورا متخفّيا لـ« مثل الغنيّ الغبيّ»[37] في قصيدة "كلوا واشربوا" الّتي اهتدينا من خلالها إلى صلة النّبوّة بتحقيق مبدإ العدالة، يضيق المقام عن تفصيل القول فيه. فالتّجربة الرّومنطيقيّة إذن لم تنصرف كلّيا إلى المثاليّة، وبالرّغم من غلبة الانفجار الغنائي والانثيال العاطفي عليها فلا يمكن اعتبارها تجربة مرضيّة أو بكائيّة على الإطلاق، فهي، فعلا، كثيرا ما تعالت على سيرورة التّاريخ ونظرت إلى الواقع نظرة مثاليّة، ولكن يحدث أن تخترق التّاريخ وتتلوّن بأشياء الواقع، و« بذلك تتجذّر الكتابة الرّومنطيقيّة في مرجعها الحيّ، فتستجيب الذّات الكاتبة إلى المأساة الاجتماعيّة»[38]. وهذا ما أدّى فنّيا- كما رأينا- إلى تحوّل من دالّ شعري بالكاد تتحقّق فيه الدّرجة صفر من الإحالة إلى آخر منهك بالمرجعيّة الحيّة. فتضمر- تباعا- الطّاقة التّخييليّة في القصيدة، بتقلّص مساحة الكثافة الجماليّة، كما ترتكس نغميّة القصيدة إلى حدّ كبير، ويقترب الخطاب الشّعري من الخطاب النّفعي خصائص ووظائف ولو نسبيّا.
وفي هذا السّياق- طبعا- كفّ إنتاج صفات الكمال المتناسبة مع ملكة توق الشّاعر الرّومنطيقي إلى تحقيق الاكتمال. بل بدلا من الإنسان الكامل سوف نتصدّى لآخر ناقص، وعوضا عن النّبوّة الخالصة سوف يقع تمثيل النّبوّة الهجينة الملطّخة بسموم العالم البشري الماثل في الفساد من أصله، وهذا الأمر سيعبّر عنه معجم الشّقاء بصفة خاصّة، وتحتضنه رؤية قاتمة سوداويّة بصورة أعمّ، نظرا إلى قصر نفس الشّاعر الرّومنطيقي، وعدم قدرته على خوض الصّراع إلى منتهاه، والذّهاب بإرادة التّغيير إلى الإنجاز والممارسة.
ولذا، في حين يفترض أن ينتشل الشّاعر رفاقه من الشّقاء، سرعان ما تفتضح هشاشته، ويتبدّى صاحب وعي شقي؛ يقول علي محمود طه:[39]( المديد)
لاَ تَفْزَعِي يَا أرْضُ: لَا تَفْرَقِي
مِنْ شَبَحٍ تَحْتَ الدُّجَى عَابـــِرِ
مَـــــــــا هُوَ إِلَّا آدَمِـــيٌّ شَقِي
سَمُّوهُ بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّاعِـــــرِ
يبدو أنّ حساسيّة الشّاعر المفرطة، و ركوبه حركة قصَويّة، متّجهة و مجنّحة، هي السّبب الّذي يجعله نبيّا حظوظ الإخفاق منه أوفر من النّجاح في أوّل منازلة للواقع. فهو في الأصل من سكنى المدن الفاضلة والأبراج العاجيّة الّتي تتناقض مع الموجود كلّ التّناقض. هذا الإخفاق سيقع تمثيله بصورة الطّائر مهيض الجناح:[40] ( الكمال)
جَنَّحْتَنِي كَيْمَا أَطِيرَ فَلَمْ أَطِرْ       ҉       هَيْهَاتَ إِنَّكَ قَدْ طَوَيْتَ جَنَاحِي
فالشّاعر- النّبيّ أضحى حاملا لإعاقة أبديّة، هي محمل الطّين والتّراب، فورة الرّغبوي فيه، واستنزاف الرّوحاني. ومن ثمّة،عُلّق الأمل، وأُجّل الرّجاء، وتعمّق الانفصال عن الوحدة الأولى، وانطفأت شمعة النّبيّ ليدخل هو ذاته السّديم وانعدام المعنى. ولكن يمكن لانعدام المعنى أن يحفّز على قول الشّعر بحثا عنه، وجعل القارئ يرتق ما تفتّق، وينظم ما انفرط من المعاني المضمرة أو الممحوّة الّتي مثلها مثل نبوّة شاءت التّأسيس للمثال فأسّست للمستحيل قولا وإنجازا.
   3.1. الشّاعر والهويّات السّالبة:
إنّ النّظريّة الرّومنطيقيّة- في العمق- ثورة تؤسّس للقطيعة والانقطاع فيما هي تتأسّس. فهي تمرّد على «إمبرياليّة العقل والدّولة، وكليانيّةالكوجيتو والنّظام»[41]، وثورة على« إمبرياليّة فلسفة الحسّ المشترك»[42]. هذا بالاضافة إلى كونها تجاوزت براديغم الذّات المفكّرة العاقلة الّتي حسمت كينونتها في الكوجيتو الدّيكارتي لتنطلق من كوجيتو فارغ ( videCogitoun ) دشّنته الفلسفة الكانطيّة[43]. بما يعني أنّه ثمّة نوافذ جديدة نستطيع من خلالها أن نلقي نظرة على العالم وأشيائه، ونعبر من الكائن إلى الممكن، ألا وهي الخيال الخلّاق والحلم والرّؤيا. هذا الإلماع يجسّر لنا الحديث عن هويّة الشّاعر الرّومنطيقي، ناهيك أنّه ملاك مقدّس يبحث في خضمّ من العواطف والانفعالات والرّؤى عن إمكانيّة مالا يمكن. وهو ليس رائيا فحسب، بل نبيّ وقع اصطفاؤه، والاصطفاء مثقل بمعاني الاجتثاث ((Arrachement والخروج عن الأصل والتّحوّل في المسار والتّكليف[44] من أجل تبليغ رسالة إلى جماهير بشريّة لها خبرة ثقافيّة معادلة للـ"أنا الأعلى" الرّدعي.
وإذ يقع انتداب الشّاعر- النّبي رسولا إلى الأرض فلغاية بسط مشروع جديد وحمل الآخرين على الاقتناع به والاعتقاد فيه. وفي هذه الحال من تمايز المناظير وتغاير الرّؤى سيكون الصّدع والشّرخ. وهو ما كان ليتجشّم صعوبة المهمّة الرّسولية لو لم تجتمع فيه مجموعة من القدرات والملكات الخارقة عزّت على طالبها، يمكن اعتبارها العناصر التّكوينيّة لهويّته.
إذ أنّه عبقريّة لا يستوعبها زمان ولا يحوطها فضاء، أصوله ضاربة في زمن سحيق هو زمن البدايات، تتغذّى من غيث هتون حبلت به غيمة الآتي البعيد. فالعبقريّ تكسّرت عنده المواقيت والتّخوم  فانحلّ الآني في ماء الأزلي وتهشّم الظّرفي في غير المظروف. وحضوره في العالم علامة حضور المقدّس من أجل تشييع المدنّس ومبارحته. لأنّه "كليم" ينفذ إلى العالم بالكلمة فتشفّ القيمة ويلمع المعنى وتكون الحقيقة. فهو- كائنا بين الجماهير التّائهة- ليس علامة ما هو موجود الآن وهنا، بل "معادل موضوعي" لقيم مثلى تحجّبت، ومعان روحيّة سامية ارتفعت عن العالم المنظور. ومزيّته أنّه ينفخ في رماد الكون روح النّداء؛ نداء يمزّق السّكينة الخادعة، ويقضّ مضاجع القاعدين عن طلب الحقيقة المطلقة.
وبما أنّه حالم بالتّغيير، بما يجب أن يكون وتبيئة المستحيل، متمرّد على ما هو موجود، فسيلوح- في نظر الآخرين- "الأنا الكريه" ويسلخ من هيكل الجماعة خارجًا، بل خارج ذاته أصلًا في منفى أزلي، فيفقد توازنه ويبتلعه الاغتراب. ومأتى اغتراب الشّاعر- النّبي اختلافه عن الإنسان العادي ماهية ومعرفة ووظيفة.
فهو الكشّاف والمخترع والخلاّق والرّائد في صلة بالمجهول، يقول أدونيس:« تقاس عظمة المبدع اليوم، بمدى قدرته على معايشة أو احتضان المجهول- ذلك اللاّنهائي في الإنسان والكون، وفي مدى تأصّله في الكشف الّذي يقود إلى مزيد من الكشف»[45] بينما الإنسان العادي يأبى التّغيير ويخشاه إلّا أن يكون بمقدار، ولا يحتمل عناء طرح السّؤال، بل يدين بدين الجماعة، مدمنا التهام الجاهز والمعلوم تحقيقا لطمأنينة ملغّمة.
ويتوق الشّاعر إلى عالم نقيّ، متطهّر من أصنام الأسلاف، عالم فطري شفّاف هاجرته ثخونة العادة والتّقليد، يطفق الإنسان في خلقه خلقًا مستمرًّا لا حدّ له. وينضاف إلى ما سجّلنا، أنّ مصادر المعرفة متناقضة، إذ يخضع الإنسان العادي لضغوط الوعي اليومي السّاذج، ولمقرّرات الثّقافة من تجربة وتلقين وتعليم ويكتفي بالعقل ومسالكه الضّيقة مرشدا إلى المعرفة، بينما يعوّل الشّاعر النّبي على بيداغوجيا ذاتيّة كيانيّة كشفيّة الأساس فيها عين القلب والأذن الباطنة والحلم والرّؤيا والخيال، والانشقاق عن سلطان العقل وركوب معراج النّفس الّذي يطوى سماوات الحقيقة سماءً سماءً. فنكون إذّاك في حضرة نمطين من المعرفة مفترقين: معرفة أولى مجرهيّة مشتّتة تشوبها شوائب النّقص والزّلل. ومعرفة شعريّة نسيبة للحقيقة في خلوصها ووحدتها الشّاملة ونفاستها التقت فيها المتباعدات، وائتلفت المتنافرات، وتوحّدت المتفرّقات في وحدة أوليّة نهائيّة لا يلامسها لبس ولا يرقى إليها شكّ.
هذا التّعارض الّذي تبينّا مستوياته سيستحيل مواجهة بين مشروعيْن ضديديْن: مشروع متمأسس يدافع عن مكانته ومشروع في طور الولادة والتّبلور يبحث له عن موطإ قدم. ومن هذا الصّراع سينشأ اِستلاب النّبوّة وتتناسل معاني الغربة والتّهميش والإقصاء. إذ ألحّت الأقاويل الشّعريّة في السّياق الرّومنطيقي على أنّ واقع الشّاعر- النّبي- في مقارعة الأنساق المكرّسة- هو الوهن والانكسار، فلكلّ نسق حرّاسه الّذين يئدون أيّة ولادة شاذّة عن القاعدة. ومن ثمّة، سيتبدّى الشّاعر نبيّا بلا أتباع و صوتا شريدا لا صدى له في دائرة الغوغاء.
بل هو نبيّ أعزل، مطارد، بلا مأوى، وصاحب نبوّة مستلبة، منسحبة إلى العراء بلا اسم ولا عنوان. والمحنة هي مآل الشّاعر الرّومنطيقي وشعره، إذ تتواتر معاني الخيبة والهزيمة إنباء بانكسار مسار التّنزيل، وإيذانا بصمت النّشيد وانفجار النّشيج. وسيكون الخطاب الشّعري- حينئذ- حاضنة كبرى لهشاشة التّجربة النّبويّة استنادا إلى معاجم لغويّة تدور على معاني النّفي والسّبي والتّهميش والإقصاء والغربة. ونعتقد أنّ الاغتراب أو الاستلاب- بوصفه تعبيرة عن رحلة في الزّمن وغربة نفسيّة وجوديّة وإحساسا بالإقامة الزّائفة- هو النّواة الدّلاليّة الّتي منها تتوالد بقيّة المعاني المحفّزة على تخريج الشّاعر نبيّا جريحا حاملا لهويّات جوفاء )videsIdentités). ذلك أنّ الاغتراب- كما تبيّن الممارسة الشّعرية- صنو للعبقريّة الّتي احتفت بها الجماليّة الرّومنطيقيّة، خاصّة أنّ الشّاعر العبقريّ إنسان سابق عصره، قادم من المستقبل، مهموم بما يجب أن يكون، مشرّع لذاته، وصاحب مشروع مضادّ للذّاكرة ومنسجم مع المخيّلة. وسيمثّل اللّقاء بين العبقريّ وشعبه حدثا صادما، لأنّ الشّعب أدمن الرّكون للمعلوم والجاهز معلنا رفضة صيحة صوت الحقّ الدّاعية إلى تحرير الإنسان من نفسه ومن الغير، وهذا ما سيولّد في ذات النّبي شعورا بالحيف والغبن، فلا فائدة من كلمته في محيط عمّر فيه الجهل واستكبر، ليستحيل ضربا من الكآبة المبهمة الّتي لا تفسير لها، يقول الشّابي:[46] (المنسرح)
أَنَا كَئِيبْ،
أَنَا غَرِيبْ،
كآبتي خَالَفَتْ نَظَائِرَهَا،
غَرِيبَةٌ فِي عَوَالِمِ الحَزَنِ
إذ تقدّم الشّاعر- من خلال هذا الشّاهد- صوتا شعريّا منكسرا، ولسان حال نبوّة سوداويّة لا تصنع وعدا، ولا تقترح أملا. فالصّفات المشبّهة "كئيب" و"غريب" باتت إخبارا عن حقيقة الذّات المحبطة، ثمّ يقع الانتقال من الكشف عن حقيقة الذّات الكئيبة إلى استبطان حقيقة الكآبة الغريبة، بضرب من التّداعي، ينبّهنا إلى تميّز الشّاعر الرّومنطيقي منزلة وبنية شعوريّة.
والأرجح أنّ الكآبة الغربية هي بنت "الضّمير الحقيقي" المفارق لما يسمّيه هيدغير "الضّمير العامّ"، ذلك أنّ« هذا الضّرب من الضّمير [ الضّمير العامّ] يعكس، ببساطةٍ المعايير المقبولة، بصفة عامّة، للصّواب أو الخطأ، أمّا الضّمير الحقيقي، أو الضّمير بالمستوى الأعمق فهو يعمل، على وجه الدّقّة، لتخليصنا من صوت الـ«همthey» »[47].ويبدو أنّ الشّاعر- النّبي هو الضّمير الّذي حاول تخليص الإنسان فتورّط في التّهميش والنّسيان وبدا في حاجة إلى من ينتشله من هوّته، ولقد جاء على لسان جبران:« وإذا منعتني الأيّام وغلّت يدي اللّيالي طلبت الموت، فالموت أخلق بنبيّ منبوذ في أمّته وشاعر غريب بين أهله »[48]، فزيادة على كون الموت قد بات في المنظور الدّيني ممرّا إلى حياة أرقى وأنقى، ثمّ تبنّته الرّومنطيقيّة رمزا للخلاص من المجاعة الرّوحية وجدب الكيان في عالم البشر، « إنّما هو شعور الوعي الشّقيّ بأنّ اللّه نفسه قد مات»[49]ما يعني أنّ الوجود الإنساني متّجه نحو العدم والفوضى وذلك هو جوهر الموت، أمّا الموت الفيزيائي فهو سبيل لتسريح الرّوح من بوتقة الجسد ورجعة إلى الوحدة البدئيّة ونعيم الخلود. ولذا تحوّل الشّعر من الاشتغال على جدول الطّهارة والنّقاء والبراءة إلى الاشتغال على جدول الخسوف والعتمة والسّقوط لبلورة ملامح الكائن الهجين الّذي طوي طوره السّماوي، وتعبّر الأبيات الشّعريّة التّالية صريحًا على هذا المعنى:[50] (الكامل)
شُـــرِّدْتُ عَــــــنْ وَطَنِي السَّمَــــاوِي الَّذِي       ҉مَاكَان يَوْمًا وَاجِــــــمًا، مَغْمُـــــومَا
شُــــــــرِّدْتُ عَنْ وَطَنِي الجَمِيلِ...أَنَا الشَّقِيُّ،     ҉       فَعِشْتُ مَشْطُــــورَ الفُــــــؤَادِ، يَتِيمَا
فِـــــي غُــرْبَــةٍ، رُوحِيَّــــــةٍ، مَلْعُــــــونَـــــةٍ     ҉       أَشْوَاقُهَا تَـــــــــقْضِي عِطَاشًا، هِيمَا
ففي هذه الأبيات الشّعريّة تحضر خلسة أسطورة السّقوط، لتتذوّت وتصبح موضوعة شعريّة تحكى قصّة سقوط الشّاعر- النّبي في الأركان المظلمة من الكون الإنساني. ويبدو أنّ للاغتراب آصرة تشدّه إلى الرّؤية الفلسفيّة- الجماليّة الجديدة المناكفة للذّوق الرّسمي الّذي تحالف مع التّقليد ومارس حصارا على الممارسة المبدعة فأخرس صوتها وخنق عبارتها لأنّها حادت عن السّمت:[51] (الكامل)
فإذا سّكَتُّ تَضَجَّرُوا، وَإِذا نَطَقْـ    ҉    تُ تَذَمَّرُوا مِن فِكْرَتِي وَشُعُوري
ومن الجليّ أنّ من بين العلل العميقة المسهمة في التّضييق على رؤى الشّاعر وإحراج إقامته في العالم علّة موصولة بطبيعة العلاقة بين الشّاعر وشعبه القائمة رأسًا على سوء الفهم، وهاهنا ينفتح أفق تأويليّ آخر يمكن أن ندرس فيه ظاهرة الاغتراب، ونحن إنّما نعني بذلك الغربة اللّسانيّة تحديدًا، فـ« وفقًا لما قاله لاكان، يدخل الفرد في شبكة من العمليّات الرّمزية، نظام التّداول الّذي يقوم بتمثيله لدوالّ أخرى، وهذا النّظام يفشل كلّية، فتنشأ فجوة بين الذّات وعمليّة التّمثيل الرّمزي للعالم، هنا تصبح الذّات نفسها فراغا، مفتقرة إلى المعنى، وتتشكّل هويّة الذّات من خلال ذلك الافتقار إلى المعرفة، الافتقار إلى المعنى، النّقص في التّمثيل، سوء الفهم الجيّد، العجز عن تعرّف نفسها في الصّورة العقليّة الخاصّة بالإنسانيّة»[52]، وفي سياق مبحثنا يكون الافتقار إلى المعنى رشحًا عن تمزّق الشّاعر- النّبي بين إقامته على القمم والذّرى حائكًا من خيوط الخيال والرّؤيا وطنه المنشود، وبين وقوعه تحت ضغط النّظام الرّمزي الجمعي، ممّا يستدعي اشتغالًا دؤوبًا على خلق اللّغة وتثوير طاقاتها المكبوتة لغاية إشراك المتلقّي في معايشة الحقيقة العميقة، لا سيّما أنّ ما تطفح به النّبوّة من معان نوعيّة لا يمكن أن تنقال في أشكال نمطيّة، بل لا بدّ من أذن باطنة تحسن الإصغاء وعين قلبيّة تنفذ إلى ما وراء الكثافة، ولكن هل من مجيب لدعوة الدّاعي؟!، لذا أقرّ جبران قائلا:« لم تفهم أمّي لغتي وكذلك المرضع لم تفقه ما قلته لأنّني خاطبتهما بلغة العالم الّذي أتيت منه »[53] ويردف في موضع آخر:« أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي »[54]. فالشّاعر الرّومنطيقي شأنه شأن المسيح الّذي اُبتلي بقادة عميان هم أتباع الكتبة والفرّيسيين القدامى[55]. ولعلّ نبوّة إشعياء القائلة:« سمعا تسمعون ولا تفهمون، ونظرا تنظرون ولا تبصرون »[56] أفضل الدّلائل على كون النّبوّة تحتاج لفهمها دربة روحيّة عالية دونها الجارحة والحسّ المشترك.
وصفوة القول لقد تحدّدت النّبوّة الرّومنطيقيّة- في هذا السّياق- بصفتها نبوّة سالبة، غير فاعلة، ومرهقة، عجزت عن المواجهة والصّمود. بل إنّ سقوط الذّات الشّاعرة في النّسيان والتّهميش، سيعمل عمل المحفّر على مبارحة الواقع المعيش والهروب بحثا عن هويّات ضائعة تجسّد مركزيّة النّبيّ في الكون وعل حدّ قول جورج غيسدورف)Gusdorf(Georges:« البحث عن المركز يفرض نفسه كمهمّة أنطولوجيّة، تسلك طريق الوعي المكتسب بغياب المركز».[57] و من المعلوم أنّ فكرة المركز فكرة قديمة قدم الإنسان، مستمرّة في الحضور على الدّوام إذ أنّ « التّاريخ، في نظر شيلينغ، "ملحمة منظومة في ذهن الله، و مكوّنة من مرحلتين: سقوط الإنسانية عن مركزها وتغرّبها عن الله، وعودتها إلى ذلك المركز»[58]، والرّاجح أنّ الإنسان في العالم الحديث قد خبر تلاشي المركز أكثر من سواه، إذ أصبحنا- مع ماركس(Marx) وفرويد(Freud) ونيتشه (Nietzsche)- على يقين بأنّ حقيقة "الأنا" ليست موجودة في "الأنا"، بل موجودة في البنية التّحتية للاقتصاد، في اللّاوعي، وفي علاقة القوّة بالقوّة إثباثا للحياة[59] . ومن ثمّ أصيبت الإنسانية الحديثة بجروح نرجسيّة انحرفت بها عن مركزيّتها بدءا من اكتشاف كوبرنيك (Copernic) لا مركزيّة الأرض، واعتبار ماركس أنّ الذّات الإنسانيّة ليست مركز التّاريخ، واكتشاف قارّة اللاّوعي مع فرويد الّتي خلخلت مركزيّة الوعي وشكّكت في فاعليّة الجوهر المفكّر.[60] وبمستطاعنا تقصّي صلة النّبوّة الشّعريّة بمقولة المركز في مناح مختلفة منها:
* إنشاء العالم بالكلمة:
       تحملنا الكلمة إلى النّظر في الأنطولوجيا البدئيّة، فبالكلمة كان التّأسيس والتّكوين وتخطّي السّديم، « أمر الله:« ليكن نور ». فصار نور، ورأى الله النّور فاستحسنه وفصل بينه وبين الظّلام »[61]، وليس الشّاعر- النّبي إلّا خالقا على غير مثال، ينشىء ابتداء لا ستئنافا، لأنّه عبقريّة تحاكي العبقريّة الإلهيّة؛ وفي هذه النّظرة ما فيها من طيّ المسافة الّتي تفصل المطلق المقدّس عن المحدود النّاقص، ويبدو أنّها آخذة- عن وعي أو دون وعي- بمبادئ الفلسفة الجديدة الّتي دشّنها فويرباخ، والّتي تمحورت حول ألوهيّة الإنسان، وجعلت صفات الإنسان في كماله منتزعة من صفات الإله، وهذا ما عناه فويرباح لمّا قال:« الإنسان إله الإنسان»[62]. كما ألحّ ميرسياإلياد على أنّ أيّ فعل أو سلوك إنساني لا يردّ إلى نمط نموذجي يكون « عديم المعنى» sens)de(Dénué[63]، إذ يتيح تكرار النّموذج الأصلي أو محاكاته إبطالا ضمنيّا للزّمن الدّنيوي وإلغاء للدّيمومة والتّاريخ، فالإنسان الّذي « يعيد إنتاج الفعل النّموذجي، يجد نفسه مدرجا في الطّور الأسطوري أين تمّ انكشاف هذا الفعل النّموذجي»[64]. ولقد أبانت النّصوص الشّعريّة الرّومنطيقيّة عن رغبة الذّات الشّاعرة في القفز على المنزلة الإنسانيّة المجرّدة من المعنى بأن تحاكي الفعل التّأسيسي الّذي أتاه الإله في زمن الخلق الأوّل، فيقول الشّابي منتشيا، جذلا بملكاته الخاصّة:[65] (الكامل)
وَأَسِــــيرُ فِي دُنْيَا المَشَاعِـــــرِ حَالِمًا      ҉غَرِدًا- وَتِلْكَ سَعَادَةُ الشُّعَـــرَاءِ
أُصْغِي لِمُوسِيقَى الحَيَاةِ، ووَحْيِهَـــــا      ҉      وَأُذِيبُ رُوحَ الكَوْنِ فِي إِنْشَائِي
وَأُصـــــِيخُ لِلصَّوْتِ الإِلَهِـــــي الَّذِي      ҉       يُحْيِي بِقَلْبِي مَيِّتَ الأَصْــــــدَاءِ
فالشّاعر- النّبيّ إذ ينشىء الشّعر فإنّما ينشىء الكون على نحو أفضل من إنشائه الأوّل، فيقع اقتلاع الوجود من الهوّة، ويتسامى الشّاعر وشعره على إعدام المعنى في واقع الإنسان الحديث. ولمّا كانت اللّغة ملكة الإنسان الأقدر على قول الغياب - والشّعر نظام ثان من بناء الأشكال اللّغويّة- فإنّ شاعرا مثل أبي ماضي سوف لن يجد مساحة يتنفّس فيها هواء نقيّا إلّا مساحة الخلق الشّعري حيث يتوطّن فعل الخلق وينحسر أفق البور واليباب، يقول: [66] (الوافر)
إِذَا أَنَا لَمْ أَجِدْ حَقْلًا مَرِيعًا       ҉     خَلَقْتُ الحَقْلَ فِي رُوحِي وَذِهْنِي
فَكَادَتْ تَمْلَأُ الأَثْمَارُ كَفِّي       ҉      وَيَعْبَقُ بِالشّذَا الفَوَّاحِ رِدْنِـــــــي
فبالخيال المجنّح والرّؤيا النّافذة ينأى الملفوظ الشّعري عن فعل التّمثيل أو المحاكاة، بل يخلق لغته الخاصّة وأفقه الخاصّ فيما يعيد بعث الأشياء من تحت ركام العادة. فالشّعر« لا يعبّر عن الأشياء   أو الواقع، وإنّما يحرّك جزءًا غفلًا من الكون، أو يوقظ قوى خفيّة، ويشير إلى ما ليس معروفا. فليس الشّعر تعبيرا، إنّه تأسيس»[67]. والشّاعر المعنّى بالتّأسيس إنّما هو الوارث الكلمة عن الإله المؤسّس، وهو المنسلخ من القمقم والسّجن، المنقول من الهامش إلى المركز، خارج دائرة المدنّس، وخارج الزّمن الميقاتي، خالقا زمنه الخاصّ، ومتأصّلا في الوحدة الأولى حيث الطّهارة والكمال.
* مخاطبة العالم بالكلمة:
تتأصّل مخاطبة العالم بالكلمة في قاع ديني مسيحي جماعه أنّ المسيح هو كلمة  الله ، فلقد ورد في إنجيل يوحنّا « في البدء كان الكلمة، والكلمة كان مع الله . وكان الكلمة هو الله. هو كان في البدء مع الله»[68]. الكلمة تجسيد للرّوح المطلق في هيكل بشريّ قصد التّضحية ومحو الخطيئة وتحقيق الخلاص، وهي إلى ذلك قهر للصّمت الّذي اكتنف العالم قبل أن تكون الكلمة الفصل[69]. ولقد رأى الشّاعر الرّومنطيقي في ذاته المسيح الّذي بإمكانه أن يرتفع عن تجويف العالم المادّي، عالم الاستهلاك سليل العقل الرياضي. فـ« الشّاعر هو الّذي يرعى الكلمة فهو وراثها عن المسيح وعن الأنبياء يمتلكها ويواجه بها الجماعة في عقمها، تلك الجماعة الّتي شُدّ لسانها كالكتيبة الخرساء تحتاج إلى مبدع ناطق، إلى كلمة ممتلئة مثقلة بالرّؤى و بالمعنى»[70].
 قال جبران خليل جبران:« جئت لأقول كلمة وسأقولها وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد»[71]، فالشّاعر-النّبي يحمل وعدا وبشرى، وقد استطاع انتشال كيانه من زحام الثّرثرة ليلتحق بزمرة الأنبياء الكبار، بل ليلتحم بهويّته الأصيلة الّتي ضيّعها أوان إقامته بين العميان. وهو لذلك لسان حقّ، يجاهر بقول الحقيقة ولو جرّ عليه فعله هذا السّبي والنّفي.
 وفي سياق آخر أعلن جبران:« فكّر الله فكان فكره الأوّل ملاكا. وتكلّم الله، فكانت كلمته الأولى إنسانا»[72]؛ بما يفيد أنّ الإنسان- في صميمه- آت من رحم الكلمة، وعليه أن يكون وفيّا لجوهره. وما الابتعاد عن الأصل والجذر إلّا تيهان في شعاب الوجود. ومن الجليّ أنّ في صلة القرابة بين الشّعر والنّبوّة، بين الشّاعر والنّبيّ عودةً إلى المنبر المبدئي حيث للكلمة سلطان، وللشّاعر صولجان، بهما ترتسم مسارب الحياة، وتنفلق مجاري المعنى، الّتي جفّت في المجتمعات الصّناعية الحديثة بفعل الاستخفاف بوزن الكلمة حتّى أضحت بلا جدوى. وبعامّة، قد مكّنت الكلمة الشّعرية المكتنزة الشّاعر الرّومنطيقي من أن يشبع بعضا من اختلاجاته، فيستأنف مقارعة منازله السّالبة؛ صائغًا مركزيّته، ناحتًا كيانه في مبعدة عن كلّ الإيديولوجيّات الأرضيّة المتهافتة.
* إقامة علاقات تخاطبية مع الطبيعة:
لقد تجلّى البعد السّلبي للنّبوّة الرّومنطيقيّة- في منحى من مناحيه- في مهاجرة الشّاعر- النّبي المدينة الحديثة الّتي باتت- حسب اعتقاده- معتقل كلّ صنوف الشرّ، فهي الضّيق والجلبة والتّفسّخ والزّيف. بل هي مؤشّر على موت الإله وتحجّب المقدّس. ولذا فقد أزمع الشّاعر الرّحيل، راغبا عن الكون البشري المقيت، على شاكلة أبي القاسم الشّابّي حينما قرّر في قصيدته الموسومة بـ"النّبي المجهول":[73] ( الخفيف)
إِنّنِي ذَاهِبٌ إِلَى الغَابِ، يَا شَعْـ      ҉       بِي لِأَقْضِي الحَيَاةَ، وَحْدِي، بِيَأسِ
إِنَّنِي ذَاهِبٌ إِلَى الغَابِ، عَلِّي҉         فِي صَمِيمِ الغَابَاتِ أَدْفُنُ بُؤْسِي
ومن أجل ذلك اشتغلت ذاكرة الشّاعر-النّبي اشتغالا يؤجّل ضروب الفضاءات المدنّسة، ويرجئ هذا الميعاد الإنساني الخادع فيما يضع الشّاعر على بساط سحريّ يعبر به إلى  كينونته الأصيلة حيث الجنّة أو الفردوس، فتتحقّق وحدة الوجود في أفق البراءة والخلوص والكمال، وبديهي أنّ الحضور القويّ للغاب ولعناصر الطّبيعة في النّصوص الشّعريّة الرّومنطيقيّة خلفه رؤية فلسفيّة طوباويّة افترضت عوالم مثلى ومدائن فضلى انسحب منها الإنسان قسرا لمّا زاغ بصره وشرهت شهوته وانحرف عن مسار الحقيقة،« فالغاب مركز حميم كالبيت، أو الكهف أو المعبد، ومشهد الغاب منغلقا، هو من مكوّنات المكان المقدّس،] بل[ إنّ كلّ مكان مقدّس مبدؤه غاب مقدّس، والمكان المقدّس انفتاح على الكون، وتجاوز للكون الأصغر الّذي يمثّله المسكن أو يمثّله النّموذج الأصلي المتّصل بالحضن الأمومي»[74]. ولهذا لا يمكن أن نتأوّل الرّحيل إلى الغاب بصفته فعلا سالبا الغاية منه التّملّص من المسؤوليّة والواجب والإقامة في الأبراج العاجية فحسب، وإنّما ينبغي أن نتأوّل منزلة الشّاعر- النّبي المتحوّلة والمتبدّلة والمتلوّنة بأحوال الذّات وبالسّياق الّذي انخرطت فيه. إذ أنّ استدعاء الغاب في جوهره تجربة أنطولوجيّة يقع فيها العثور على مركز الكون حيث تتعمّد الذّات الشّاعرة وتتطهّر وتترقّى في المعرفة الرّوحية الأسراريّة وتحتمي بالجذع البدئي الّذي ترجع إليه كلّ الفروع في حركة دوريّة شبيهة بحركة الأفلاك المنجذبة إلى مركز أوحد إن هي حادت عن مساره انطفأت جذوتها وابتلعها الفراغ. وليس من الغرابة إذن أن يلهج أبو ماضي- مثل غيره من شعراء الرّومنطيقيّة- بالفردوس الضّائع: أي بالمركز الضّائع، صائغا قصيدة بعنوان"الغابة المفقودة" يقول في مفتتحها:[75] ( السريع)
يَا لَهْفَةَ النَّــــفْسِ عَلَى غَابَةٍ        ҉         كُنْتُ وَ هِنْدًا نَلْتَقِي فِيهَــا
أَنَا كَمَا شَاءَ الهَوَى وَالصِّبَا         ҉        وَهْيَ كَمَا شَاءَتْ أَمَانِيهَــا
تَكَادُ مِنْ لُطْفِ مَعَانِــيــــــهَا         ҉         يَشْـــرِبُهَا خَاطِرُ رَائِيهَا
آمَــنْــــــــتُ بِاللَهِ وَآيَاتِــــــهِ       ҉          أَلَــــيْــسَ أَنَّ اللَهَ بَارِيهَــا
ولا يخفى على دقيق الملاحظة أنّ مركزيّة الغاب- على الأقلّ من خلال هذه القصيدة- تتشكّل انطلاقا من القيمة الموقعيّة للمعجم (عنوان القصيدة ونهاية صدر البيت الشّعري الأوّل)، ومن بناء المعاني وحركة اتّجاه المعنى، إذ حملت المفردات المنتشرة قرائن نصّية تجعل القارئ منجذبا رغما عنه إلى الغاب في كلّ حين ( فيها، معاينها، رائيها، باريها). وبما أنّ البدايات والنّهايات موسومة، فقد مثّلت نهاية القصيدة عودا على بدء، بما يحقّق الانسجام النصّي ووحدة الرّؤية. فالشّاعر مُعنّى بفكرة المركز منطلقا ومنتهى. ثمّ إنّ الكون الشّعري- بناء على القصيدة المذكورة- بات محاكيا لكون فردوسي سحيق، تأسّس على التّغريد والنّشيد، على الرّقص والتّصفيق، على التّآلف التّام والتّناغم الكلّي محقّقا الوحدة الأوّلية في موسيقى كونيّة تتراسل فيها المتباعدات وتذاب المتناقضات، يقول الشّاعر[76] : (السريع)
نُبَاغِتُ الأَزْهَارَ عِنْدَ الضُّحَى       ҉مُتَّكِئَاتٍ فِي نَـــــوَاحِيهَا
أَلْوَى عَلَى الزِّنْبَقِ نِسْرِينُـــهَا҉       وَالْتَفَّ عَارِيهَا بِكَاسِيهَـا
وَاخْتَلَجَتْ فِي الشَّمْسِ أَلْوَانُهَا      ҉        كَأَنَّهَا تَذْكُرُ مَاضِيـــــهَا
تَآلَـــــفَتْ فَالمَاءُ مِنْ حَوْلِـــهَا      ҉        يَرْقُصُ، وَالطَّيْرُ تُغَنِّيهَـا
فمفردات الاتّكاء (متّكئات) والالتواء (ألوى) والالتفاف (التفّ)  والاختلاج (اختلجت) والتّآلف (تآلفت) تعكس اعتناء الشّاعر بالجدول المعجي الّذي فيه يقع التّبئير على معنى المشاركة والتّفاعل بين الموجودات تأسيسا للوحدة العضويّة الّتي لها مرجعيّة فلسفيّة موصولة بوحدة الوجود ثمّ جماليّة شعريّة يستجليها القارئ استنادا إلى النّصوص. وقد ذهب ميرسياإلياد إلى أنّ الرّقص يحاكي باستمرار حركة نمطيّة أصليّة أو يحتفي بذكرى لحظة أسطوريّة. وفي كلمة، إنّه تكرار، وتباعا، فهو إعادة ترهين (ré-actualisation) لتلك العهود الغابرة[77] . ومن ثمّ تطلّ شخصيّة النّبيّ، وتتمتّن صلة النّبوّة بالشّعر، وصلة النّبوّة الشّعرية بالمركز توقا إلى معانقة الأبدي والانفلات من قبضة النّقص والعوز، والاندراج في دائرة اللّامتناهي واللّامحدود، حيث السّرّ والمثال وماهية الكائن الأصيلة، ومقامه الرّفيع. وتتجلّى مركزيّة الشّاعر- النّبّي في النّصوص كذلك من خلال جعل "الأنا" الشّاعرة حاضنة كبرى منها تتفرّع المعاني وتتكاثر وإليها مرجعها. إذ أنّ الشّاعر الّذي تهاوى عن مركزه في واقع النّاس سوف يخلقه من جديد ويندغم به في الملفوظ الشّعري، يقول إيليا أبو ماضي:[78] (مجزوء الرمل)
أَنَا نَهْرٌ لَم أُتَمِّمْ بَعْدُ فِي الأَرْضِ انْسِيَابِي
أَنَا رَوْضٌ لَمْ أَذِعْ كُلَّ عَبِيرِي وَ مَلَابِي
أَنَا نَجْمٌ لَمْ يُمَزِّقْ بَعْدُ جِلْبَابَ الضَّبَابِ
فتتعاضد وتتساند مرّة أخرى القيمة الموقعيّة المعطاة لضمير المتكلّم المفرد "أنا" مع عمليّة التّكرار عموديّا من أجل الاضطلاع بوظيفة تنبيهيّة تلفت المتلقّي إلى منزلة الذّات الشّاعرة وبالتّالي منزلة الإنسان على وجه الإطلاق الّتي باتت نقطة ارتكاز، يعادل انبثاقها في اللّغة انبثاق الموجودات من غفلتها وحضورها في العالم. فتتجذّر الذّات الشّاعرة في تربة خصبة حتّى أنّها الجذر الّذي منه تحدّرت عناصر الكون واستقامت، وامتصّت من نبعه إكسير الخلود، لأنّ الشّاعر-النّبيّ هو كوثر الآلهة، الّذي يضفي على الحياة المعنى، فلا ظمأ ولا جوع أو عتمة.
ومن المعلوم أيضا أنّ واقع التّشرذم والتّشظّي الّذي كرّسته الأنساق الحديثة بدعوى العلميّة والعقلانيّة والتّجريد الذّهني كان محفّزا للشّاعر- النّبيّ على ضرورة تأسيس رؤيا ضديدة العمدة فيها التّضامّ والتّضامن بين موجودات العالم على نحو يذكّر بالمبدإ الأوّلي الّذي وفقه حيكت "خيمة" الإنساني والإلهي وهي الجنّة. وبفقدانها  كان الانفصال والشّقاء وتدشّنت الكينونة المعوّقة المتّجهة نحو البوار والفناء، ولذا كثيرا ما استوى صميم الوجود نوعا من الجوع الدّفين الباعث على حبّ الامتلاء، وفي صيغة نداء يستحضر الغياب، جاء على لسان الشّابي:[79] ( الخفيف)
يَا صَمِيمَ الحَيَـــــاةِ إِنِّي وَحِيدٌ        ҉        مُدْلَجٌ تَاِئهٌ فَأَيْنَ شُرُوقِــــكْ؟
يَا صَمِيـــمَ الحَيَاةِ إِنِّي فُــــؤَادٌ        ҉       ضَائِعٌ ظَامِئٌ فَأَيْنَ رَحِيقِـكْ؟
يَا صَمِيمَ الحَيَاةِ ! قَدْ وَجَمَ النَّا         ҉      يُ وَغَامَ الفَضَا فَأَيْنَ بُرُوقِكْ؟
لقد عكس النّداء- وهو نداء للبعيد- مقدار المسافة الّتي تفصل الشّاعر عن هويته الأصيلة، ورغم ذلك مازال لسان "نداء الوجود" الّذي لا يهدأ له بال حتّى تأزف ساعة الخلاص من العقم الجاثم على الصّدور في هذه النّسخة المشوّهة من العالم. وما يهمّنا هو كون "صميم الحياة" قد أدرج الشّاعر- النّبي في البحث عن عمقه الأنطولوجي، والاسترسال في المكاشفة وتعرية الهموم الباطنة الّتي كانت حصاد الابتعاد عن ملكوت القداسة، وثمرة الافتتان بعالم مشبوه ومتّهم، فيه استشرت الخطايا وكسدت كلّ القيم والمعاني الرّوحية. وفضل الشّاعر أنّه لا يزال معلّق الهمّة بمركزه، تائقا إلى الكلّيات، مصغيا إلى هواتف الألوهيّة، قارئا تجلّياتها في الحضور المرمّز، والملغز المبثوث في سفر الطّبيعة، والمنقوش في محيا الطّفولة، ذلك البياض النّاصع الّذي لم يتدنّس بعد، وقد لخّص جبران كلّ هذا في قوله:« النّاسك الحقّ هو ذلك الّذي يهجر عالم الذّرّات ويتمتّع بعالم الكلّيات غير المتجزّئة»[80].
ولئن تعطّل فعل التّواصل مع العقل الإنساني المحدود فللشّاعر القدرة على الالتحام بـ"العقل العامّ" أو "النّفس الجامعة" وربط جسور تواصل بديلة تقيهالتّشيّؤ والانبتات وتشقّ له الدّروب نحو ما هو فطري والمشاركة في الاحتفال بلحظة الميلاد في مهرجان كوني  هو ضمانة الحيويّة والعضويّة حدّ التّماهي والانصهار بعناصر الخلق الأولى الّتي منها تكون باكورة العالم الحقيقي.
     * التّطلّع إلى إسماع صوت الباطن:
يرجع فقدان المركزيّة، والازورار عن المركز، إلى ابتسار الوجود الإنساني واختزال الإنسان في بعد واحد يتيم هو البعد العقلي. ولقد مثّلت الرّومنطيقيّة ثورة على كلّ أشكال التّنميط والنّمذجة لأنّها لا تستوفي الحقيقة الإنسانيّة بل تطمس عدّة جوانب منها هي من الأهمّية بمكان. ولذا أعادت الرّومنطيقيّة- في المستوى الفلسفي والجمالي- الاعتبار للذّات، من مدخل أنّ الإنسان ليس فقط عقلا وإنّما هو إلى ذلك عواطف وأحاسيس وطاقات كثيرة تتغيّا التّسريح. ولقد انتهى باشلار إلى أنّ  « الشّعر هو الفينومينولوجيا الأصيلة. فالفينومينولوجيا الفلسفيّة إذ تعبّر عن هذه القيم ذاتها فهي تقوم بذلك بلغة مفهوميّة. بينما يتيح لنا الشّعر، من خلال استخدام لغة إشجائيّة، لا بتعقّل هذا العالم بل برؤيته وعيشه، وإذا صحّ القول برؤيتهحيًّا »[81]. ثمّ إنّ الشّاعر- النّبي- وهو صاحب الوحي والإلهام والرّؤيا- سيتمثّل العالم من خلال وعي ذاتيّ، قوامه إسقاط الذّات على موجودات العالم، وجعل مصفاتها المسبار والرّائز، وهذا الأمر يكون بـ« تحرير إلهام الأنا العميق، وسبي الأنا النّفعي والاجتماعي، الأنا السّطحي على حدّ عبارة برغسون »[82]، بما يعني أنّ الخيال الخلّاق ليس قاطرة من المعلومات والمعطيات الآتية من الخارج، وإنّما له منشأ باطنيّ منوط بالوجدان والانفعال واللّاعقل ليستقيم فضاء تتكسّر فيه الحدود بين العيني واللّامرئي، وشرفة تفتح على المطلق الميتافيزيقي لأنّه« ليس فراغا هندسيا، بل هو فضاء حضور، وامتداد للخلق الإلهي»[83] .
والمستفاد أنّ التّجربة الشّعريّة الرّومنطيقيّة قد تعلّقت بالمركز وبحثت عن منزلتها عبر تفجير الأحاسيس والعواطف في القصيدة، فالمتلقّي لا يتمثّل العالم في حياديّته؛ بصفته واقعة موضوعيّة، بل في امتزاجه بأنفاس الشّاعر، وفي تلوّنه بألوان الذّات المتلفّظة وأحوالها. فكلّ الحقائق والمعارف والموضوعات- بالنّسبة إلى الشّاعر الرّومنطيقي- لا يمكن ذكرها في مبعدة عن حديث النّفس وخلجات الكون الحميمي؛ و« هذه العلاقة المتمازجة والمتفاعلة بين الذّات والكون، بين المركز والمحيط، هي ما يسم الفرديّة الرّومانسيّة بالكونيّة واللّانهائية»[84].
ويكفي في هذا المضمار أن نستحضر المفهوم الّذي اقترحته الرّؤية الرّومنطيقيّة بخصوص الشّعر-ألا وهو شعر النّفس والتّعبيرة الصّادقة عن عماقتها- حتّى نعي القاع الأنطولوجي الّتي نهضت عليه أركان شعريّة النّبوّة، وحتّى تصحّ نبوءة الشّاعر حينما خاطب الشّعر[85]: ( الخفيف)
أَنْتَ يَا شِعْرُ، فِلْذَةٌ مِنْ فُؤَادِي     ҉      تَتَغَنّى، وَقِطْعَةٌ مِنْ وُجُودِي
ومحصّلة القول، إنّ الشّاعر- النّبيّ صاحب الهويّات الجوفاء، والمنزلة المحبطة في خضمّ القطعان الآدميّة الّتي أنكرت نبوءته، وصادرت صوته، كان له طريقه المخصوص إلى مركزه وتحقيق مركزيّتهّ والخلاص من أرض التّيه، عبر شقّ مسالك خاصّة قد وقفنا عندها مليّا.
وهذا لا يعدم بعض المداخل الأخرى الّتي يمكن أن يكشف البحث فيها عن صلة النّبوّة بالمركز، منها على وجه الخصوص الرّموز المكانيّة مثل الجبال والسّماوات والهيكل، ولقد سكتنا عنها اختصارا، واعتقادا منّا أنّ البحث في هذا المستوى قد استوفى غايته.

2.     صورة الشّاعر ملفوظا:Le poèteénoncé
في هذا الصّدد سنرصد صورة الشّاعر لا كما تشكّلت في مرآة الشّاعر ذاته بل مثلما ارتسمت في مرآة الآخرين. فالذّات يمكن أن تتشكّل- كما ذهب لاكان وآخرون- من خلال المعنى، ومن خلال الاستراتيجيّات اللّغوية والتّمثيليّة[86]. والإشكاليّة المطروحة في هذا السّياق هي أنّ الآخر بات وجهة نظر لها دور في تحديد هويّة "الأنا"؛ الأمر الّذي لا يستوعبه مفهوم اللّاوعي الفرويدي بصفته منطقة كلّ مكبوت أو مقموع، لأنّ خطابات الآخرين أو لغة الغيريّة أضحت- وهي تشتغل بين الحين والآخر في لاوعي المتكلّم- جزءا من بنية الذّات يعتاص على المحو، ولعلّ هذا ما قصده لاكان عندما ذهب إلى أنّ «اللّاوعي هو خطاب الآخر »[87].
والحريّ باهتمامنا هو التّحوّل في مستوى الفاعل التلفّظي الّذي رشح عنه تبدّل في مستوى العمليّة الجدوليّة، ونعني بذلك الاختيار المعجمي، وبالتّبعيّة تبدّل في الدّلالات والمعاني. وربّما وقع- في بعض الأحيان- الإبقاء على نفس الدّوال الّتي شغّلها الشّاعر مع العمل على استنزاف شحنة الإيجاب منها وإخصابها بدلالات سالبة تقدّم هويّة يسكنها السّلب؛ يقول جبران خليل جبران: « أسير في شوارع المدينة فيتبعني الفتيان صارخين: هو ذا الأعمىفلنعطه عكّازة يتوكّأ عليها. (...) ثمّ ألتقي سربا من الصّبايا فيتشبّثن بأذيالي قائلات: هو أطرش كالصّخر فلنملأ أذنيه بأنغام الصّبابة والغزل.(...) ثمّ ألتقي جماعة من الكهول فيقفون حولي قائلين: هو أخرس كالقبر فتعالوا نقوّم اعوجاج لسانه. (...) ثمّ ألتقي رهطا من الشّيوخ فيومئون نحوي بأصابع مرتعشة قائلين: هو مجنون أضاع صوابه في مسارح الجنّ والغيلان»[88].
ولقد ارتأينا إيراد هذا الشّاهد على طوله لأنّ فيه تنسج هويّة الشّاعر الرّومنطقي السّالبة من خلال انتقاء سجلّات لغويّة تخدم القصد وتؤدّي الغاية، فصفات "الأعمى" و"الأطرش" و"الأخرس" و"المجنون" قد وقع إخراجها من سياقها الجمالي، وتحريفها عن الدّلالة الّتي ألبسها إيّاها الرّومنطيقيّون لتصبح لغة السّلطة بالمعنى الشّامل، فتعمل على احتواء الآخر أو تشويهه وإخراجه في صورة الكائن الهجين أو النّبت الفاسد.
وهذا حال كلّ نبيّ عظيم يتقدّم لسان حال الألوهيّة وترجمانا لخطابها، عارضا عن لغة الابتذال والإسفاف الّتي تتخبّط فيها الحشود، حيث تتكاتف كلّ قوى الشّرّ من أجل كبح جماحه، وتعطيل صوته، والتّهوين من شأن دعوته، فيرتطم النّداء بآذان صمّاء، وتسحب من النّبوّة الكفاءة والإفادة، لأنّ الشّاعر-النّبيّ- وفق التّقييم الجمعي- شاذّ، عديم الصّواب، ومسكين مختلّ المدارك.
وقد نقل أبو القاسم الشّابي ملامح هذه الهويّة السّالبة وكأنّه ينظم ما نثره جبران قائلا:[89] (الخفيف)
قَدْ أَضَاعَ الرَّشَادَ فِي مَلْعَبِ الجِـــ          ҉           نِّ فَيَا بُؤْسَــــــهُ، أُصِيبَ بِمَـــــسِّ
طَالَمَا خَاطَبَ العَوَاصِفَ فِي اللَّـيْـ         ҉           لِ وَنَاجَى الأَمْوَاتَ فِي غَيْرِ رَمْسِ
طَالَمَا رَافَقَ الظَّلَامَ إِلَى الغَــــــــا҉          بِ وَنَادَى الأَرْوَاحَ مِنْ كُلِّ جِنْـــسِ
طَالَمَا حَدَّثَ الشَّيَاطِينَ فِي الــــوَا          ҉          دِي، وَغَنَّى مَعَ الـــــــرِّيَاحِ بِجَرْسِ
إِنَّهُ سَاحِرٌ، تُعَلِّمُهُ السِّــــــــــــحْـ           ҉          رَ الشَّيَاطِينُ، كُلَّ مَطْـــلَعِ شَمْــــسِ
فَأَبْعِدُوا الكَافِرَ الخَبِيثَعَنِ الهَيْـ           ҉         كَلِ إِنَّ الخَبِـــيثَ مَنْبَـــــعُ رِجْــــــسِ
أَطْرِدُوهُ، وَلَا تُصِيخُوا إِلَيْــــــــهِ          ҉           فَهْوَ رُوحٌ شِرِّيرَةٌ، ذَاتُ نَحْــــــــسِ

فالذّات الشّاعرة في مرآة الآخرين هي "الأنا" الممقوت بعبارة باسكال[90]،إن لم تكن الجحيم عينه حسب العبارة الشّهيرة لسارتر. ومن خلال الأبيات الشّعريّة الّتي أثبتنا نلاحظ أنّ الضّمير الجمعي المزيّف يتّهم الضمير الحقيقي ممثّلا في ذات النّبي ويحاكمه محاكمة معياريّة أخلاقيّة. وكأنّ ثقافة السّلطة تمارس إكراهاتها على المثقّف العضوي المبدع، أو بالأحرى الذّاكرة الجماعيّة تسلّط حرّاسها على المخيّلة الفرديّة الخلّاقة، و"الأنا الأعلى" يراقب ما يأتيه الشّاعر-النّبيّ من اختراقات ثمّ يردعها.
والجدير بالملاحظة أنّ قلب الحقائق في ذهن المتلقّي عن طريق تغيير فهم الأشياء وتأويلها بالقول، هو الّذي أسهم في إنتاج هذه الهويّة الضّديدة لهويّة النّبيّ المثاليّة. هذا بالإضافة إلى أنّ هذه الهويّة السّالبة قد كانت نتاج استراتيجيّة معيّنة في بناء الخطاب الشّعري الأساس فيها مناكفة الضّمني والعودة إلى حرفيّة الدّال، وإلى المعنى الموضوع: إذ أنّ عبارات "الكافر" و"المجنون"و"السّاحر" و"الأطرش" و"الأعمى" وهلمّ جرّا قد استثمرها الملفوظ الشّعري الرّومنطيقي وأدخلها في اللّعبة الجماليّة وألبسها طبقات متراكبة من المعنى، ولكن عندما استغلّها الخطاب النّثري النّفعي فإنّه أفرغها من شحنة الإيجابيّة والجماليّة وجعلها تتشرّب من مخزون الثّقافة الأخلاقي المعياري. وهذا يضعنا أمام نتيجة على درجة من الأهمّية عالية مفادها أنّ السّلب نتاج للتّسطيح والشّكلية والابتذال في كيفيّة صياغة الأقاويل، بينما صورة الشّاعر-النّبيّ المثاليّة تمثّل ثمرة الكثافة الجماليّة الّتي وسمت الجميل الإبداعي، وربيبة البنى الجوفيّة في القصائد، وتعدّد المعاني لا نمذجتها.
وبناء على ما تقدّم ستطلّ في تضاعيف النّصوص الشّعرية النّبوّة المنكسرة. وبدلا من صوغ معاني الجذل والانتشاء، وصناعة الوعد والأمل، سيتورّط الشّاعر في إنتاج خطاب مفعم بالألم الذي لحقه من الآخرين، مترع بالأوجاع والكروب.  ولكن مزيّة هذه التّجربة؛ تجربة الألم أنّها توسّع الأفق التّأويلي للنّبوّة، وتوطّنها في منظور إنساني شامل به نعبر من الجزئي إلى الكلّي، ونزيح السّتار عن منزلة الإنسان الوجوديّة، ونفهم على نحو أفضل الحقيقة الإنسانيّة في نطاق نظرة ثاقبة، نافذة، فيها تندكّ الحواجز بين السّياقات من أجل استكناه الجوانب العميقة في الذّات الإنسانيّة. ولعلّ صرخة نيتشه:« أنتم لا تريدون أن تفهموا أنّ رجال النّبوّة هم كائنات تتألّم كثيرا»[91] دليل على كون رجال المستقبل الّذين يحملون على عاتقهم أقدار شعوبهم كثيرا ما تقع محاربتهم لما هم عليه من خصال الفرادة والتّميز والإقامة على شجرة المستقبل غير عابئين بأنماط الوجود المبذول.
ويؤدّي بنا الإقرار بأنّ الرّومنطيقيّة تفترض الألم والمتألّمين[92] إلى النّظر في درجة العنف الّتي يكشف عنها خطاب الآخرين، فهو بمثابة "أدب عنيف" violente)littérature(Une نستشفّ منه
"المنزل اللّعين"maudite) maison(Une[93] الحاضن للشّاعر المنبوذ، الرّجيم. هذا الذي أرست به رحلة الشّقاء مقول قول لاحول له سوى العجب والاحتجاج والإدانة، وفي الغالب تعترضنا صورة الصّوت الشّعري الّذي أصابه وجع النّاس، هذه القوّة المحبطة، المركسة والمربكة التي تتحرّك ميكانيكيّا- إن صحّ القول- على أساس قانون العطالة الفيزيائي. وفي هذا المضمار شكا أبو القاسم الشّابي بمرارة فعل الآخرين فيه قائلا:[94] (الكامل)
                                  آهِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ بَلَوْتُهُمْ      ҉     فَقَلَوْتُهُمُ فِي وِحْشَتِي وَحُبُورِي
وقد فتحت هذه التّجربة عيني القارئ/ المتلقّي على التقاط صورة الذّات موقّعة في الخطاب، إذ أنّ التّأوّه والآهات في العمق عمل فيزيولوجي- نفسي وليس من التّمثيل الرّمزي في شيء. بما يعكس انكسار الصّوت وضيق التّنفّس، والوقوف للاستراحة بعد إجهاد واسترسال في الكلام. أمّا المعنى الرّاشح عن هذا البيت فهو استحالة فعل التّواصل بين الشّاعر وشعبه، واتّساع المساحة بين وجهات النّظر حدّ الانقطاع. فالشّاعر- النّبيّ الّذي كان يعتدّ بالكتابة الشّعرية طقسا من طقوس العبور يجسّر هتك المحظور، وولوج المحجّب، قد استفاق على انطماس ما حبّر، وضياع ما لفظ في الفراغ المدقع؛ هذا الأمر ليس محمولا على العجب، خاصّة إذا علمنا أنّ الشّاعر الرّومنطيقي الّذي حقّق مركزيّته بالكلمة قد بات في المحيط بعد أن صودرت منه واُفتكّ منه المعنى، فاللّغة سلطة بامتياز، والمتكلّم هو الأقوى والأعنف، وكأنّنا نقرأ في علاقة الذّات بالآخرين جدليّة السيّد والعبد[95] . وبعبارة أخرى لقد صيّر تبادل المواقع "الأنا" موضوعا يكتب بأيادي أخرى (على سبيل المجاز)، وهويّة مصاغة في مختبر الجماعة الثّقافية الّتي تبتغي السّيادة وتغييب الفردي في إقليم الجماعة أو إزاحته إلى المنفى إن بدت منه بوادر مقاومة.
ولم يكن أبو ماضي بمعزل عن هذه المحنة الّتي تتقاطع فيها كلّ تجارب الأنبياء، ولذا فقد عبّر عن هذه الوضعيّة التّراجيدية مستفهما ومجادلا:[96] ( الخفيف)
أَتَقُولُونَ : إِنَّهُ مَجْنُــــونُ!
أَتَقُولُونَ : إِنَّهُ مَفْتُـــــونُ!
أَتَقُولُونَ : شَاعِرٌ مِسْكِيــنُ!
كَمْ مَلِيكٍ، كَمْ قَائِدٍ، كَمْ وَزِيرٍ    ҉     وَدَّ لَوْ كَانَ شَاعِرًا مِسْكِينَا
حيث أفاد حضور الاستفهام الإنكاري معاني الاحتجاج والإدانة والغضب. زيادة على أنّ التّكرار في هذا السّياق علامة من علامات التّفجّع؛ نتيجة الأذى الّذي مسّه من مسعى الآخرين الدّؤوب إلى القولبة وقتل المختلف، وتحميله ما لا يحتمل من الصّفات والنّعوت الشّنيعة.
ومن ثمّ سينخرط الشّاعر الرّومنطيقي في تلفيظ أوجاعه، وتسجيل عذاباته، وتسليط الضّوء على صوته اليتيم على هدي جبران القائل بوحا واعترافا:« وها أنذا أتكلّم الآن فتستثقل أذناي صوتي، وأنشد فلا يصغي أحد من جيراني لإنشادي، وأطوف في الشّوارع فلا يعبأ بي أحد»[97]. إذن، فالصّوت الفريد الّذي لا نظير له، أو الصّوت الشّريد الّذي لا صدى له، ما هو إلّا دويّ النّبوّة في الهاوية، وسقوط الملاك بعدما « هوت به الأقدار عن أفقه »[98] وتجمّد الشّاعر- النّبيّ في مقام أرضيّ حيث جور المجتمعات وتعسّف الأنظمة وطمر كلّ خلق وإبداع.
وقد أبانت لنا صورة الشّاعر ملفوظا، متشكّلًا في لغة الآخرين، عن تجربة ألم ومكابدة انسربت إلى الخطاب ذاته الّذي تمرأى باهتا- عامّة- فيه أبقت العلامات الشّعريّة على الدّلالات التّواضعيّة، ممّا أنتج معانيَ قريبة المأخذ، وملفوظًا شعريًّا سمته الشّفافية والتّصريح. والأدلّة          أو الشّواهد الشّعريّة الّتي أثبتنا تؤكّد حكمنا، حتّى نخال الألم البارد في غير حاجة للصّور[99]، أو أنّ ضربا من العيّ امتلك لسان المبدع فحدّ من وهجه وأخمد لهيب وحيه.
وبمستطاعنا أن نخرج في إطار هذا المبحث بجملة من الاستنتاجات:
     ضرورة الوعي بالصّورة المختلفة للشّاعر- النّبيّ، فهو في مرآة نفسه- حيث الأنويّة المتضخّمة والنّرجسيّة وعشق الذّات- كائن مقدّس وملاك طاهر، وتلك هي تجلّيات الذّات المتخيّلة [100] . ولكنّه في الواقع التّاريخي آدميّ شقيّ، ومن ذلك الصّراع بين "الأنا" الواقعيّة و"الأنا" المثاليّة ينشأ الاغتراب وتطفو صورة الذّات المستلبة. ومن ثمّ كانت الإشكاليّة المرتبطة بدور الذّات في الإبداع، وإشكاليّة حضور الذّات في الخطاب الإبداعي أو اختفائها إلى أن أعلن رولان بارط« موت المؤلّف» و«قيامة القارئ»[101].
هذه الصّور المتعدّدة تمثّل قوام الأنا الرّومنطيقي المشكلي[102]، وهي متفاوتة الحضور في الأثر الأدبي الواحد، وفي المدوّنة الرّومنطيقيّة بإجمال، إذ يغلب على بعض الدّواوين حضور صورة الآدميّ الشّقيّ والنّبيّ الغريب ومثال ذلك "أغاني الحياة" لأبي القاسم الشّابّي، بينما تضمر عند سواه.
 ضرورة التنبّه إلى كون هذه الصّور متحقّقةً في الخطاب الشّعري يجليها الاشتغال الجدولي الّذي على أساسه انبنت المعاني، وتكشف عنها القراءة الجدوليّة الّتي ينهض بها القارئ وهو يتقصّى السجلّات اللّغوية والاستعارات الّتي حشدها المبدع. ثمّ إنّ صورة الشّاعر من شأنها أن تؤثّر في بنية القصيدة، فالعلامات الشّعريّة الّتي من خلالها تنسج صورة النّبيّ هي الأدخل في المقام الجمالي والألصق بالمتعة الفنّية والمنتجة للقصيدة اللّازمة، بينما يرشح عن صورة الآدميّ الشّقيّ ابتعاد عن مفهوم الشّعر المصفىّ، ومحاكاة الشّعري للواقعي فإنتاج القصيدة المتعدّية.
لقد انتهينا كذلك إلى التّفريق بين الشّاعر المتلفّظ والشّاعر الملفوظ، فهو إذ ينبثق في الدّالّ الشّعري السّامي يلوح متفرّدا في خصاله، ساميا في مقامه بينما حين ينقال في لغة "النثر"- لغة التّواصل النّفعي- الّتي تستثمر العلامة المتواضع عليها يختلّ توازنه. إذن الخطاب هو الّذي يرفع من منزلة الكائن حدّ معانقة المطلق عند تحالفه مع الخيال المبدع والحلم والرّؤيا، وهو الّذي يخفّضها إلى الحضيض عندما تنتجه الذّاكرة ويتبنّاه النّظام.
       وفي صلة تلك الصّور بالوظيفة التّداوليّة والمقروئيّة، فقد انشدّت إلى بنية فوقيّة متعالية، نتيجة الإغراق في الطوباويّة والمثاليّة، وهي لذلك لم تتبنّاها المجموعة الثّقافية. زد على ذلك أنّ النّزعة الاستلابيّةالهروبيّة الّتي طبعت التّجربة الرّومنطيقيّة لا تعكس حقيقة الإنسان الّذي يعيش الصّراعات  والتّناقضات في وجوده اليومي مثل حتميّة تاريخيّة لا مناص منها. ونحن لا نقيّم الملفوظ الشّعري بناء على المعيش اليومي، لأنّ الشّعر قدرة على الحلم، بل من جهة أنّ الشّاعر كائن ثقافي واجتماعي يعالج قضايا عصره فنّيا وجماليّا، وليس كائنا فضائيّا ساكنا الأبراج، مترفّعا على التّشابكات الموضوعيّة.




التّلخيص:
يسعى هذا المقال إلى محاصرة صور الشّاعر الرّومنطيقيّ المتلوّنة حسب منازله المختلفة، استنادا إلى السّندات النّظرية والمنجزات الشّعرية، وتعويلا على العلامات الشّعرية وقد بلورت بعضا من أيقونة النّبيّ الفسيفسائيّة. وبذلك نبتعد عن التّعميم بقدر ما ننأى بأنفسنا عن التّنميط، ناهيكم أنّ اللّحظة الرّومنطيقيّة تعدّ في اعتقادنا لحظة فاصلة، أسّست لكونيّة الشّعر العربي ومهّدت لانعطافات أخرى فارقة لعلّ أعنفها قصيدة النّثر. ولذا من الأولى بناء قاع نظريّ متين يجاري النّصوص الإبداعيّة الرّومنطيقيّة، والاشتغال على مفهمة الخطاب حتّى نتجاوز السّرد المجانيّ، ومن أهمّ المفاهيم الحاضرة بقوّة في الملفوظ الجماليّ الرّومنطيقيّ نذكر مفهوم الشّاعر.الكلمات المفاتيح:
الكلمات المفاتيح:
-        الشّاعر الرّومنطيقيّ.
-        الشّاعر النّبيّ.
-        الآدميّ الشّقيّ.
-        النبيّ الشّاهد.
-        الشّاعر متلفّظا.
-        الشّاعر ملفوظا.
-        الشّاعر الرّسول.
-        الشّاعر صاحب الهويّات الجوفاء.




[1]- الهادي العيّادي، خصائص الكتابة عند جبران خليل جبران، تونس، دار سحر للنّشر، 2007، ص. 60.
[2]-Roman Jakobson,Essais de linguistique générale, T.1, Paris, Seuil,1973, p. 220.
[3]- إيليا أبو ماضي، الدّيوان:2، تذكار الماضي، ج.2، ص. 304.
[4]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 158.
[5]- ميخائيل نعيمة، المجموعة الكاملة، ج.3، الغربال، ص. 401.
[6]- مرجع نفسه، صفحة نفسها.
[7]- مرجع نفسه، ص. 403.
[8]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.5، البدائع والطّرائف، ص. 72.
[9]- راجع: - جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.5، البدائع والطّرائف، ص. 72.
             - الهادي العيّادي، خصائص الكتابة عند جبران خليل جبران، ص. 61.                                                                 
[10]-Paul van Tieghem, Le romantisme dans la littérature européenne,p. 357.
[11]- Voir: Paul Bénichou, Le temps des prophètes, p. 61.
[12]- Op.Cit., p. 15.
[13]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.4، دمعة وابتسامة، ص. 84.
[14]-Voir: Paul Bénichou, Op.Cit., p. 293.
[15]- Voir: Martin Heidegger, Chemins qui ne mènent nulle part, tr.WolfgangBrokmeier, éd.Gallimard 1962, pp. 326-327.
[16]- علي محمود طه، الملّاح التّائه، ص. 11.
[17]-Paul Van Tieghem, Op.Cit, p. 361.
[18]- علي محمود طه، الملّاح التّائه، ص. 110.
[19]- إيليا أبو ماضي، مقدّمة الدّيوان الثّاني، ص. 248.
[20]- Paul Bénichou, Le temps des prophètes, p. 364.
[21]- Georges Gurdorf, L’hommeromantique, p. 23.
[22]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.10، رمل وزبد، ص. 44.
[23]-Paul Van Tieghem, Le romantisme dans la littérature européenne, p. 358.
[24]-Martin Heidegger, Approche de Hölderlin, p. 52.
[25]-Martin Heidegger,Les hymnes de Hölderlin, tr. F. Fédier et J. Hervier, Paris, Gallimard, 1988, p.67.
[26]- إيليا أبو ماضي، الدّيوان:4، الخمائل، ص ص. 726-727.
[27]- أبو القاسم الشابي، أغاني الحياة، ص. 85.
[28]- علي محمود طه، الملاّح التّائه، ص. 119.
[29]-Martin Heidegger, Approche de Hölderlin,p. 45.
[30]- Nicolas Koberich, Merlin:L’enchanteur romantique, Paris, l’Harmattan, 2008, p. 413.
[31]- Paul Bénichou, Le temps des prophètes, p. 62.
[32]- نورثروب فراي، نظريّة الأساطير في النّقد الأدبي، ت. حنّا عبّود، حمّص، دار المعارف، ط.1، 1987، ص. 61.
[33]فاسيليكاندنسكيني، الرّوحانيّة في الفنّ، ص. 32.
[34]-Voir: Martin Heidegger, Chemins qui ne mènent nulle part, p.358.
[35] إيليا أبو ماضي، الدّيوان:4، الخمائل، ص ص. 721-722.
[36]- مصدر سابق، ص. 757.
[37]- الكتاب المقدّس، إنجيل لوقا: الأصحاح 12، الآية 13 وما يليها.
[38]- الهادي العيّادي، الكتاب المقدّس في المنجز الشّعري العربي الحديث، ص. 134.
[39]- علي محمود طه، الملّاح التّائه، ص. 87.
[40]- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الجداول، ص. 614.
[41]-Ph.Lacoue-Labarthe et J.L.Nancy, L’absolu littéraire : Théorie de la littérature du romantisme Allemand, p. 26.
[42]- Georges Gusdorf, Op.Cit., p. 329.
[43]-Ph.Lacoue-Labarthe et J.L.Nancy, Ibid., p. 43.
[44]-Voir, A.Neher, L’essence du prophétisme, p. 33,164,169,171,281 et 281.
[45]- أدونيس، سياسة الشّعر، بيروت، دار الآداب، ط.2، 1996، ص. 77.
[46]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 37.
[47]- جون ماكوري، الوجوديّة، ص ص. 233-234.
[48]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.4، دمعة وابتسامة، ص. 113.
[49]- هيغل، فينومينولوجيا الرّوح، ت. ناجي العونلّي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط.1، 2006، ص. 750.
[50]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 101.
[51]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 101.
[52]- شاكر عبد الحميد، الغرابة: المفهوم وتجلّياته في الأدب، الكويت، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، سلسلة "عالم المعرفة"، عدد384، يناير، 2012، ص. 127.
[53]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.8، المجنون، ص. 28.
[54]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.6، العواصف، ص. 130.
[55]- اُنظر: الكتاب المقدّس، إنجيل متّى، الأصحاح 23.
[56]- الكتاب المقدّس، إنجيل متّى: الأصحاح 13، الآية 14.
[57]- نقلا عن: محمّد بنّيس، الشّعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، ج.2، الرّومانسية العربيّة، دار توبقال للنّشر، ط.1، 1990، ص ص. 20-21.
[58]- أديب صعب، المقدّمة في فلسفة الدّين، ص. 79.
[59]-Ency. Universalis, Corpus15, article : Moi, p. 588.
[60]- Ibid., p. 594.
[61]- الكتاب المقدّس، سفر التّكوين: الأصحاح 3، الآية 3-4.
[62]- اُنظر: أديب صعب، المقدّمة في فلسفة الدّين، ص. 81.
[63]-Mercia Eliade, Le mythe de l’éternel retour, éd. Gallimard, 1969, p. 48.
[64]-Ibid., p. 50.
[65]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 214.
[66]- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الخمائل، ص. 701.
[67]- أدونيس، سياسة الشّعر، ص ص. 79-80.
[68]- الكتاب المقدّس، إنجبل يوحنّا: الأصحاح 1، الآيات 1-3.
[69]- للتوسّع، اُنظر: الهادي العيّادي، الميثاق الغنائي في الشّعر العربي الحديث، ص. 191.
[70]- المرجع السّابق، ص. 198.
[71]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.4، دمعة وابتسامة، ص. 119.
[72]- المرجع نفسه، مج.10، رمل وزبد، ص. 10.
[73] أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص.، 125.
[74]-G.Durand, Les structures anthropologiques de l’imaginaire,Paris,Bordas,1982,p., 281.
  نقلا عن: محمد قوبعة، المرجع المذكور، ص.، 437.
[75]- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشعرية الكاملة، الخمائل، ص. 782.
[76]- المصدر نفسه، ص. 782.
[77]-Mercia Eliade,Le mythe de l’éterenel retour,p. 42.
[78]- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الجداول، ص. 631.
[79]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 141.
[80]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.10، رمل وزبد، ص. 46.
[81]-Jean Cohen, Le haut langage, p. 175.
[82]-Georges Gusdorf, L’hommeromantique, p. 388.
[83]- Georges Gusdorf, Op.Cit., p. 346.
[84]- محّمد بنّيس، الرّومانسيّة العربيّة، ص. 21.
[85]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 107.
[86]- للتوسّع اُنظر: شاكر عبد الحميد، الغرابة: المفهوم وتجلّياته في الأدب، ص ص. 117-118.
[87]- Ency. Universalis, Corpus15, article: Moi, p.593.
[88]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.6، العواصف، ص. 129.
[89]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 126.
[90]- Ency. universalis, corpus15, article : Moi, p. 588.
[91]- نيتشه: العلم الجذل، ت.سعاد حرب، بيروت - لبنان، دار المنتخب العربي للدّراسات والنّشر والتّوزيع، ط.1، 2001، ص. 174.
[92]- مرجع سابق، ص. 231.
[93]- لقد استعرنا عبارتي "unelittératureviolente" و"unemaisonmaudite" من جورج باتاي، اُنظر:Georges Bataille,Lalittérature et le mal, éd.Gallimard, 1957, p. 31.
[94]- أبو القاسم الشّابي، أغاني الحياة، ص. 92.
[95]- Maurice Blanchot, Le livre à venir, p. 48.
[96]- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الجداول، ص. 603.
[97]- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.8، المجنون، ص. 38.
[98]- علي محمود طه، الملّاح التّائه، ص. 160.
[99]-Maurice Blanchot, Op.Cit., p.52.
[100]- ترتبط الذّات المتخيّلة بمرحلة المرآة، راجع: شاكر عبد الحميد، الغرابة: المفهوم وتحلّياته في الأدب، فصل:(لاكان والذّات المتخيّلة)، ص ص. 118-119.
[101]- للتوسّع اُنظر: رولان بارط، درس السّيمولوجيا، ت.عبد السّلام بنعبد العالي، دار توبقال للنّشر، ط.2، 1986، فصل (موت المؤلف)، ص ص. 81-87.
[102]- استعرنا عبارة "الأنا المشكلي" من: فؤاد القرقوري، أهمّ مظاهر الرّومنطيقيّة في الأدب العربي الحديث وأهمّ المؤثّرات الأجنبيّة فيها، تونس، الدّار العربيّة للكتاب، 1988، ص. 122.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق