الصفحات

2012/07/23

"من حياة المدير ..... "قصة قصيرة لعبد العزيز مشرف


من حياة المدير .....
عبد العزيز مشرف

          " يقولون إنك بعت المائة فدان الملك يا محمد أفندى "  قالها وهو يقف  خلف المتوضئين فى المسجد ينتظر دوره للوضوء ؛ فيضحك الجميع من كلامه ، ويرد محمد أفندى : " ويقولون إنك أنت من اشتراها " ، تتطاير الكلمات من أفواه الواقفين مع رذاذ  ماء الوضوء مشتبكة معهما فى حميمية  من سيقف أمام الله ليصلى بعد قليل ، وما إن ينصرفوا من  الصلاة   حتى يستأنف  " المدير "  كما كان  يلقب   حديثه موزعاً  كلماته التى تسمعها فلا تتمالك نفسك من الضحك ويبقى هو الوحيد الذى لا يضحك .

        قبل سن المعاش كان يشغل منصباً كبيراً بوزارة الشئون الاجتماعية ؛ لذلك لقبوه بالمدير ، لم يسبق له الزواج لملابسات تتعلق باعتقال قديم وآثار تعذيب ، والحياة – كما تعلمون – دائرة  سائرة  لا تتوقف لأحد ، يعيش وحيداً فى بيت ريفى كبير  نفس البيت الذى ولد فيه ، بيت عليه ملامح عز قديم شاحب  ، شاخت معالمه ، لكنه أصيل يحتضنه رغم ذهاب الجميع عنه ،  الإخوة هاجروا إلى البلاد الباردة ، والأخوات منهن من توفين ومن يعشن فى بيوتهن ، وحده بقى فى بيت أبيه وأمه ، بالليل تجمعه سهرة بأصحاب يشبهونه فى أشياء ، منهم الشيخ الضرير ذو العلم الشرعى والدراسة الأزهرية  الذى يجد فى صحبة  " المدير " ورفاقه سلوى ،  ومعهم شباب حدثاء الأسنان لم يدخلن  دنيا – بعد – يجدون فى الرفقة هذه خبرة الحياة المبعثرة ، ربما قرءوا مع الشيخ الكفيف كتاباً ، او استفتوه فى مسائل تعن لهم ، أو يدور الحديث عن الزواج وصبواته ومتعه وآهاته كما يكون الكلام بين رجال يتضاحكون ويتسامرون خاصة فى رمضان بعد التراويح وحتى السحور ، ينفضون من عند "  المدير " وكل منهم يجد لحديثه إذا ما أعاده على ذهنه وجاهة لا تخلو من فكاهة ، ورجاحة لا تخلو من صراحة ، فيهز كل منهم رأسه هزة المتعجب المتأمل من الرجل الذى أودع الله فيه مادة المرح  ،  فيضحك كل من يسمعه ويخالطه ، وهو وحده  الذى لا يعرف الضحك إليه سبيلاً .
        فى أيام الصيف كان للمدير عادة أو قل هواية : بعد صلاة العصر يركب دراجته " النصر"  الكبيرة التى لم يعد طرازها موجوداً  بالبلدة ، ويعلق بيدها دلواً ، ويتجه إلى المقابر فيروى الزرع أمام قبور أبيه وأمه وإخوته ويرش الأرض حولها ، ويجلس يقرأ الفواتح لهم جميعاً ، وقبل المغرب يعود كما ذهب ، فلا يمر بجماعة إلا استرعاهم  واستضحكهم من حيث لم يحتسب ، إما لذكرى سابقة معه ، أو لهيئته  التى تتحدى مألوفهم خصوصاً حين يلبس الجلباب " الدمور" المخطط أزرق فى أبيض الذى لم يعد أحد يراه إلا عليه .

        أمّا فى يوم العيد فللبلدة عادة كادت تنقرض : يذهبون للمقابر فى الصباح البكر ويعودون ليجلسوا للاجتماع والمعايدة بجوار مقام الشيخ " أبو سليمان " ويأكلوا منين ودقة بملح وكمون ، فى هذا اليوم  " المدير " هو بطل المشهد ، المتحدث الرسمى المعتمد لدى الأسماع ، فلا تلتفت إلا إليه ، ولا يصغى القوم إلا لكلماته  المازحة الماكرة التى تضحكهم على حالهم فى سخرية مرّة إذا ما تناولت شاناً عاماً أو مصلحة للقرية ، يضحكون لحديثه الطلق التلقائى حتى يكاد الواحد منهم  يسقط من  الضحك ، فإذا ما انصرفوا سمعتهم يقول بعضهم لبعض : " والله المدير معه حق فى كل ما قاله " فيكون الرد : " المهم – يا أخى  أنه يضحكنا دوماً ، وهو لا يضحك  أبداً ، كأنه بنا يضحك ، أو يضحك علينا " .

هناك تعليق واحد: