الصفحات

2015/12/10

عندما يصبح الراوي قناصًا – (قراءة في رواية القناص لزهران القاسمي) بقلم: هاني القط



 عندما يصبح الراوي قناصًا – (قراءة في رواية القناص لزهران القاسمي)

هاني القط 

بمشهد بانورامي لحياة الجبل، تبدأ رواية زهران القاسمي «القناص»، تلك الرواية الحاصلة على جائزة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء عام 2015 عن جدارة واستحقاق، لم يتخل الراوي العليم في تلك الرواية عن جمالات اللغة وهو يقف خلف كاميرته ساردًا يفتش عن أدق التفاصيل لتلتقط عيناه صورًا لمشهد حي ونابض، تيسُ الوعل يقف مغمضًا عينيه عند مدخل كهف كبير فوق قمة الجبل، عواء الريح تضرب في السفوح، وطائر أبو صريد ينتقل من غصن الشوع إلى شجرة لقم كبيرة ثم ينتقل إلى أخرى ليقف مغردًا كأنه يمدح في الفضاء انتقاله الفوضوي الذي لا يهدأ، فيرد عليه طائر بعيد من نفس فصيلته، ليظلا يغردان حتى يجمعهما الصوت فوق شجرة عبسق عملاقة تطل بشموخ على الوادي السحيق المشربة صفحة سمائه بلمعة الأصيل.

لو أطلقنا على تلك الرواية صفة لقلنا أنها رواية مكان بامتياز، أتاح فضاء المكان فيها بمختلف تنوعاته فرصة للتأمل بعيدًا عن صخب المدن المستنسخة الشبه.

المكان كثيرًا ما يكون جبلا وأحيانًا ما يكون قرية ذات بيوت قديمة وسكك نحيفة تكفي بالكاد لمرور شخص واحد، ترفعها عن الوادي تلال محاطة بمزارع نخيل وليمون، تلك البيوت ذات الطراز السبعيني التي هُدمت وبنيت بسرعة ودون تخطيط، وقد استبدل أصحابها الطين بالأسمنت لتبدو للعيون أنها على الطراز الجديد.

بعيدًا وعلى صخرة ملساء جلس البطل صالح بن شيخان متكئًا على الجدار في حوش بيته متأملاً قمم الجبال البعيدة، ليتجلى لنا أنه عين الراوي العليم الذي وصف لنا المشهد البانورامي السالف، وصالح بن شيخان خمسيني نحيل ذو بشرة داكنة جراء القيظ، لحيته البيضاء تعطي وجهه الدائري وسامة غامضة، لا تخلو يديه من منظار يقربه لعينيه كل حين وهو يضبط مجال الرؤية على تيس الوعل مغنمه.

لا وقت أفضل من شهر سبتمبر لرؤية الوعول راكضة في المنحدرات، إنه وقت التناسل، تنجذب الذكور من مخابئها تجاه قاع الوادي حيث رائحة الأنثى العابقة في الأرجاء.

تلك الرواية تعبر بجلاء عن بيئة الجبال العمانية بأجوائها العامرة بالوحدة والصخب، وتضاريسها القاسية والرحيمة في آن، فتعلمنا أن في الجبل دروبا تعيدك إلى الوراء ودروبا أخرى تخرجك إلى أماكن بعيدة لم تكن تنوي الذهاب إليها، لذلك على

المرء أن يعرف كل درب وإلى أين يذهب وينتهي! لقد ذهبت بنا تلك الرواية إلى حتمية التأويل، والغوص في قرار المعنى الظاهر، فليس المراد من الحكاية هو صيد الوعل، فالمعنى المختبئ أبعد من ذلك، إنه البحث عن الحلم الذي يبقي للحياة لذة، فتصبح المغامرة للوصول هي اللذة الحقيقية للوجود، التي ما إن تتحقق حتى يسقط الحلم ويرتطم الحالم بصخرة الواقع المكرر، وكأن الرواية تخبرنا أن الطريق المضني صوب الحلم هو اللذة الحقيقية وعلى الحالم ألا يستعجل ففور تحقق الحلم تزول المتعة ويسقط الحالم في شباك الضجر، إلا إذا أنبت بداخله حلمًا جديدًا وأخذ في البحث عنه.

القناص هو نموذج يمكن أن يراه الكثيرون في القرى المطلة على الجبال الشاهقة، لذا فوصف تلك الرواية بأنها رواية عمانية بامتياز لا يجافي الحقيقة ولا نقصد هنا الجبال فقط، بل نقصد الشخصيات والمكان والأجواء التي يتحرك فيها فضاء السرد، والقناص في تلك الرواية شخص محمل على طول رحلته بذاكرة السنين الفائتة، إنه وحيد إلا من قهوته وذاكرة تصعد معه الجبال فيمسك بخيوطها كما يتشبث الهواة بحبال التسلق.

عدة الصيد المملوكة لصالح بن شيخان حقيبة ممتلئة بكل الأشياء المهمة – دلة قهوة رفيقة القناص أينما يذهب، علب كبريت، تمر، بهارات، أرز وسمك مملح، لحم مجفف، ملح، شاي، حذاء مخصص لطلوع الجبال، مصباح يدوي، بطارات، سكين، قميص وإزار، ناموسية وقربة ماء ومنظار وقبل كل شيء بندقية وحزام طلقات – لقد استأنس البطل بعض أشيائه فحولها إلى كائن حي يفهم الصياد، يتضح ذلك من بوح صالح بن شيخان وهو يتحدث عن بندقيته من نوع السكتوت، والتي اشتراها منذ عقدين ويرفض أن يبيعها لأحد، يقول صالح بن شيخان: إنها تفهمني، هي ليست جمادًا، أشعر بروحها تسري وبحميميتها تشع مثل هالة القمر في يوم غائم أو مغبر. ولكي تقتنص تلك البندقية هدفها لابد أن يكون هناك رضا تام بينها وبين صاحبها، ففي الأحيان التي تحيد عن التصويب تكون في غضبة سببها لها صاحبها من تصرف لم يرضها!

يبوح صالح بن شيخان عن العلاقة التي يقيمها مع الأشياء، وبالأخص بندقيته وسكينه اللذين أتاه بهما الحاج فريش بناءً على طلبه، ولكي تكتمل أنسنة الأشياء لا بد من تسميتها، فكما أن الأجداد لم يتركوا مكانًا في الجبل إلا وسموه، فقد سمى صالح بن شيخان كل ما أنسنه، فالبندقية تدعى عز! والسكين قاطعة! ومحزم الرصاص شدّادا، وحقيبة الظهر بنت الريح، يتحدث إليهم كما يتحدث مع أصدقائه، يفشي لهم بأسراره ويرمي بين أيديهم همومه، وكثيرًا ما يدير حديثًا عصبيًا مع منظاره عين الصقر عندما تفلت منه الفريسة في زجاجة الرؤية.

حين يكون القناص وحده في الجبل فهو سيد الموقف، والقناص لن يسمى قناصًا إلا إذا اصطاد وعلاً، فمهما كانت قدرة اختباء الوعل، فلابد من صيده وإن كان يحرسه الجن كما يتصور الأجداد، لذا وجب على القناص أن يتحلى بالصبر، لكنه صبرٌ آخر أشد وطأة، فالقناص بعد أن يصلي في الظلمة بخشوع وهدوء؛ ينظر إلى السماء ليقرأ مواقع النجوم، والقناص لابد وأن يكون يقظًا مستعدًا، فالمفاجآت تأتي وتذهب، مفاجآت تجعله على حافة الحياة، ومفاجآت يتذكرها إن أرخى عينيه على جفونها من طرافتها، هكذا هي الحياة بين هذه الجبال، الإنسان فيها عرضة لكل شيء، فحال تذهب إلى الجبال، لابد لك من قراءة ما يدور في المكان، فالظلال تقول لك شيئًا وزعيق الريح على السفوح يخبرك بالحكاية، وفي الليل تعوي الثعالب متنبئة بما سيصير غدًا، وما إن تسمع صوت البوم فعليك أن تلقم بندقيتك رصاصة وتصوب ناحية الصوت حتى يسكت ذلك النعيب.

يا لها من رواية عابقة بحياة غير مألوفة لمن يسكنون بعيدًا عن حياة الجبال الشاقة الممتعة، لكن يا للأسف فالمدنية كما نسميها، تخطف منا تفاصيل حيواتنا المختلفة المذاق، صانعة لنا حيوات متشابهة خالية من لذائذ قنص الأحلام، فما ان تحل المدنية حتى تضيع الدروب، تنتهي وتتآكل، تجرفها السيول والسنون، فتموت سير من كانوا يسلكونها، ورغم ذلك فعلى أغصان السدرة نحت بعضهم ذكريات لأزمنة وبشر مروا من تلك الطرق، أخذوا قيلولتهم تحتها وشربوا ثم اختفوا، هكذا ينتهي الحلم وينتهي الحالم القناص وحيدًا إلا من ذاكرة حية عصية على النسيان، فهنيئًا لك أيها القناص بالذكرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق