2008/07/30

تفاحة الملك الحمراء


تفاحة الملك الحمراء

قصة للطفل

أحمد طوسون


كانت الغابة تنعم بالهدوء والأمان.
الحيوانات متصادقة ومتحابة.. الأشجار تنتصب بشموخ وتحمي بظلالها الحيوانات من أشعة الشمس الساخنة، والنهر يسير مع مياهه ليروي الأرض ويلهو ويلعب مع الحيوانات والطيور.
كل حيوان يعرف حقوقه وواجباته.. لا أحد يجور على حق آخر، بعد أن استطاع الملك الحكيم نشر العدل والسلام في غابة الحيوان.
وذات يوم داهم مرض عضال الأسد الحكيم وشعر الملك باقتراب نهايته..خامره شعور بالأسى وكبح دموعا أوشكت أن تطفر وقال: (ماذا سيكون حال الحيوانات من بعدي.. هل ستعاود التصارع والتقاتل فيما بينها ؟).
وظلت الأفكار والهواجس تطارد رأسه وتنهك جسده المريض.
فالحكم يحتاج إلى حكمة وبصيرة وعقل راجح ذكى.
** ** **
جلس الملك يفكر ويتدبر.. (لابد أن يختار وليا للعهد يحكم الغابة من بعده )
أتعب التفكير الملك.. دعا الملك وزيره الفيل ليستشيره في الأمر قال الفيل:
ـ ليس أصلح من ابنكم الأسد المنصور لولاية العهد
فكر الملك برهة في الوزير وقال:
ـ لكنه مازال شبلا صغيرا وتنقصه الخبرة والحكمة.
ـ لكنك يا مولاي علمته وأدبته وسقيته من خبرتك وحكمتك.
صمت الملك لحظة ثم قال:
ـ إذا كان يستحق ولاية العهد فعليه أن يثبت جدارته بها.
قال الفيل:
ـوكيف يتحقق ذلك يا مولاي؟!
قال الملك الحكيم:
ـ نعلن عن مسابقة لاختيار ولي العهد، يتقدم لها كل من يرغب من الحيوانات ومعهم ابننا الأسد المنصور.. ومن ينجح في اجتياز الاختبار يصبح الأحق بحكم غابة الحيوان من بعدي.
خرج الفيل إلى الغابة يدور في وديانها وبين حظائر وبيوت الحيوانات وهو ينادي ويعلن أن من يريد أن يصبح وليا للعهد.. عليه أن يتقدم إلى ساحة الغابة الخضراء، غدا مع صياح الديكة في الصباح ومن سيجتاز الاختبار بنجاح سيصبح خليفة لمولانا الملك الحكيم.
أرهفت الحيوانات سمعها لنداء الوزير.. الحيوانات المسالمة حزنت وقالت: (لابد أن ملكنا العادل الحكيم مريض ويريد أن يختار وليا للعهد قبل وفاته ).
أما الفريق الآخر من الحيوانات فكان يشغلهم الفوز بالسباق واجتياز الاختبار لينالوا شرف ولاية العهد.
** ** **
في تلك الليلة لم ينم الأسد الحكيم.. ألقي رأسه على حافة شرفة القصر.. نظر إلى غابة الحيوان..كانت واسعة إلى أبعد مما تستطيع عيناه أن ترى.. انبسطت أمامه مشرقة هادئة..يسمع غناء حفيف أشجارها.. وحين مرت أصابع الليل عليها.. غفت أشجارها بهدوء تحت ضوء القمر الفضي والسماء طرزتها النجوم الزاهية.
ظل ينظر إلى البعيد ويفكر في الاختبار الذي ستخوضه الحيوانات وكيف يكون كاشفا عن حكمه وذكاء من سيختاره وليا للعهد بما يضمن رعايته لشئون الحيوانات ضعيفها وقويها.. صغيرها وكبيرها ويضمن حرص من يختاره على إقامة العدل دون تفرقة أو محاباة بين حيوان وآخر.
وعندما صاح الديكة في الصباح وأصبحت أنوار الفجر تشبه خيوط الماء ،كان الملك الحكيم فوق كرسيه بساحة الغابة الخضراء.. على صدره تتلألأ نجوم الملك وإلى جواره يقف وزيره الفيل.
الحيوانات المتنافسة اجتمعت بالساحة الخضراء.. النمر والأسد المنصور ابن الملك الحكيم والذئب والثعلب والزرافة الجميلة.
حتى القط والفأر والحمار قرروا المشاركة في الاختبار.
بينما رقدت الأغنام والأبقار على بطونها وترقبت الغزلان وباقي الحيوانات ،وحطت الطيور على حواف الأغصان والأشجار في انتظار بداية الاختبار.
حيا الملك الحكيم رعيته، فحيوه وظلوا يدعون له بالشفاء وطول البقاء.
أعطى الملك الحكيم وزيرة الفيل القرطاس الذي يحوى شروط الاختبار.
رفع الفيل زلومته وحيا الملك وأخذ القرطاس وقرأه على المتنافسين:
(يبدأ السباق مع أول شعاعه للشمس وينتهي مع غروبها.. تنطلق الحيوانات من الساحة الخضراء وتقطع ما تشاء من أراضي على أن تعود إلى نقطة البداية بالساحة الخضراء قبل الغروب من نفس الطريق الذي سلكته.. والفائز هو من سيحصل على أكبر قطعة أرض قطعها ذهابا وإيابا.. وسيراقب السباق الصقور.. ومن يخالف الشروط يستبعد من السباق ).
ثم نادي الفيل على المتنافسين وأعطى لكل متسابق تفاحة لذيذة وقال:
ـ ومن الشروط أن يأكل تفاحته الحمراء اللذيذة أثناء السباق دون أن يراه أحد.
أمسك كل حيوان من المتنافسين بتفاحته الحمراء وانتظر في مكانه بالساحة الخضراء.
الكل ينتظر أول شعاعه شمس لينطلق السباق.
الثعلب المكار لم يستطيع أن يكبح مشاعر العداء القديم مع خصمه اللدود الذئب.
كذلك الحال بين القط والفأر.
اقترب الثعلب من الفأر وقال بخبث ودهاء متعمدا أن يسمعه باقي الحيوانات:
ـ السباق سهل ويسير.. ما علينا إلا أن نعود أدرجنا عندما تتضخم ظلال الأشياء.. لأن حينها ينتصف النهار.
لم ينخدع الفأر الصغير بحيلة الثعلب المكار، لأنه يعلم أن النهار ينتصف حين تصبح الظلال في نفس حجم الأشياء.. لكنه كان سعيدا حين رأي اهتمام الحيوانات ـ ومنهم غريمة القط ـ بكلام الثعلب المكار.. والفأر أقلهم سرعة وقوة.. فآمّن على كلام الثعلب وقال:
ـ اخفض صوتك ودع الأمر سرا بيننا حتى لا يسمعنا باقي المتنافسين.
وعندما ألقت الشمس أولي شعاعاتها على أرض الغابة انطلقت الحيوانات.
ركض النمر بكل قوته مغترا بسرعته وتقدم السباق، تلاحقه الزرافة الجميلة بخطواتها الواسعة، وخلفها الذئب، ثم الأسد المنصور والثعلب المكار، يتبعهم الحمار، ثم القط.. وفي نهاية المطاف الفأر الصغير.
الحيوانات التي تتابع السباق بالساحة الخضراء تساءلت فيما بينها كيف لم يتقدم الأسد المنصور السباق وهو في عنفوان قوته وشبابه؟.
ودق الخوف والقلق قلب الفيل الوزير، وظل يرنو إلى الملك الحكيم الذي لم تغادر ملامح وجهه السكينة والهدوء.
** ** **
انتصف النهار على الغابة وقد ارتدت ثيابها المزركشة وغمرها العشب الأخضر وازدانت بالورود والأزهار.
الملك الحكيم عاد إلى قصره لينال قسطا من الراحة ويعود قبل انتهاء السباق.
أما الفيل فبقي بالساحة يتابع الأخبار التي تحملها الصقور عن السباق وسط تشجيع الحيوانات والطيور.
الديكة تصيح والأبقار تخور والغزلان والضفادع تنقنق والعصافير تغرد.
كلٌّ يشجع بطريقته.
السناجب تتسلق الأشجار العالية والفراشات ترف والنحل يئز بين الأزهار.
أهازيج وغناء واحتفالات يتردد صداها بين سهول ووديان الغابة.
سخنت شعاعات الشمس واشتدت حرارتها وبلل العرق الحيوانات المتنافسة التي قطعت أراضي كبيرة وتوغلت في أعماق الغابة، ظلت تركض بكل ما تملك من قوة، يلمع شعرها ووبرها كأنه دهن بالزيت، تضرب الأرض بأنيابها ومخالبها وحوافرها، تتراكض وتقفز وتجرى بلا كلل أو ملل.
وحين يغلبها التعب، تقف على قوائمها لتستريح لحظات وتسير لخطوات ثم تعاود الركض من جديد.
النمر ظل يتقدم السباق.
وعندما وصل إلى الهضبة المرتفعة المليئة بأشجار الجوز والسنديان بات الركض صعبا، فالصعود يحتاج إلى جهد أكبر ، قفزاته أصبحت قصيرة وبطيئة.
كان بإمكان النمر أن يعود أدراجه إلى الساحة الخضراء، لكنه تحدى نفسه وقال:
- لابد أن أصل إلى الطرف الآخر من الغابة، فلا يستطيع أحد منافستي
أما الزرافة الجميلة فقد أنهكها التعب بعد أن مرت ساعات طويلة منذ بداية السباق ولم تعد قوائمها الطويلة قادرة على حمل جسدها.
استندت إلى جذع شجرة يفترش ظلها رقعة كبيرة من الأرض عند وادي النعام وانبطحت فوق المرج الأخضر لتستريح.
بينما الأسد المنصور ظل يركض ويقفز ملاحقا للنمر ويتبعه الذئب المكار، وحين وصل إلى الهضبة المرتفعة قرر أن يستريح قليلا ويعيد تنظيم أفكاره قبل أن يكمل السباق.
الحمار الطيب قرصه الجوع فأصبح همه أن يلتقط العشب الأخضر بين فكيه ويركض خلف الأشجار كأنه يطارد شبحا.
القط ظل يركض وينتظر أن تتضخم ظلال الأشياء ليبدأ طريق العودة.
بينما واصل الفأر جريه في أرض الغابة -رغم خطواته القصيرة - حتى وصل إلى بيت الفيل، فارتد إلى طريق العودة سريعا ليلحق بالساحة الخضراء قبل غروب شمس النهار.
** ** **
قبل الغروب، عاد الملك الحكيم وجلس فوق كرسيه العاجي الوثير بالساحة الخضراء.
أمسك كل حيوان بمنظار ووضعه فوق عينيه لتستشرف الحيوانات أول قادم إلى الساحة الخضراء.
على بعد آلاف الأمتار رأت المناظير أحد الحيوانات يتقافز مثل شبح.
ساد الصمت والترقب والوجوم الساحة.
كان النمر أول من رصدته المناظير، لكنه بدا مثل شيخ هرم يسير على عكازين من شدة التعب والإرهاق.
فهو لم يعمل حسابا لنهاية الطريق عند بدايته وأفرغ كل قوته منذ البداية.
وبعد فترة قصيرة قطع الصمت والترقب أحد الغزلان وصاح:
ـ لن يصدق أحد ما أرى!!
أسرعت الحيوانات ترفع المناظير إلى العيون.
ـ الفأر الصغير يقارب النمر وربما يتخطاه!
_ يا عجباه...!!!
تعجبت الحيوانات وهزت رؤوسها باستنكار:
ـ هل يمكن أن يفوز الفأر الصغير بالسباق ؟!!!
لم تمر لحظات وتعالت صيحات الحيوانات.
ظهر من بعيد الذئب والثعلب والأسد المنصور يتراكضون ويتبارون وتوارى الفأر الصغير بأحد الجحور حتى لا تدهسه الحوافر والأنياب.
أما الحيوانات الثلاث كانوا تقريبا متساوين.
لا..لا..الأسد المنصور ينطلق كالسهم ، لا يبدو عليه التعب، كأنه يبدأ الركض الآن.
عرفت الحيوانات إنه كان يدخر جهده لنهاية السباق.
تتسع المسافة بينه وبين الذئب والثعلب، يمرق ويمرق أسرع من البرق، تراءت أمامه الساحة الخضراء قريبة، فيزيد من سرعته ويقفز بنفسه حتى يصل إلى خط النهاية وسط تهليل وصياح الحيوانات والطيور.
لم تمر دقيقة أو دقيقتان ووصلا الذئب والثعلب معا إلى خط النهاية.
وبينما تلقي شعا عات الشمس وداعها الأخير على غابة الحيوان، اقترب الفأر من الساحة وهو يلهث من التعب لهاثا مسموعا حتى وصل إلى خط النهاية.
النمر سقط من شدة الإعياء على الأرض، حاول أن ينهض ثانية فلم تحمله أقدامه.
فالقوة وحدها طيش وتهور وكاد تسرعه يقوده إلى الهلاك.
أسرعت الحيوانات وحملته ليتلقى العلاج.
الصقور قالت إن الزرافة الجميلة أوصلها التعب إلى حافة الاختناق وانسحبت ولم تكمل السباق.
والقط وقع في خديعة الثعلب المكار ولم يعد حتى الآن..
الحمار لم يحفظ طريقه وظل يتخبط بين وديان وسهول الغابة بغير هدى مخالفا شروط السباق.
الفيل نظر إلى الملك الحكيم سعيدا وقال:
ـ ابنكم الأسد المنصور الجدير بولاية العهد يا مولاي.
تجهم الملك الحكيم في وجه الفيل وقال:
ـ بقي الاختبار الأهم يا وزير المملكة.
من استطاع أن يأكل تفاحته الحمراء دون أن يراه أحد؟
ألتفت الفيل إلى التفاحة الحمراء بيد الأسد المنصور ولوى زلومته وحدق بعينين دامعتين إلى الخلف، وغرقت الحيوانات والطيور في سهوم صامت.
الحيوانات التي نجحت في تخطي السباق عادت بدون تفاحتها الحمراء إلا الأسد المنصور والفأر الصغير!!
انقطع الهمس وخيم الصمت.
نادي الملك وسأل كل حيوان عن تفاحته الحمراء.
النمر أفاق من إعيائه وقال إنه أكل تفاحته بمغارة في الجبل البعيد ولم يره أحد.
الذئب اختبأ بين الأشجار والتهمها بعيدا عن العيون.
التفت الملك الحكيم إلى الفأر وأشار إلى التفاحة الحمراء وقال:
ـ وأنت أيها الفأر لماذا لم تأكل تفاحتك؟
أسرع الفأر ونفض تفاحته فتساقطت منها حصوات صغيرة وقال:
ـ لا ...لا يا مولاي.
كنت أقضم قضمة من تفاحتي وأضع مكانها حصاة دون أن اقترب من قشرتها
حتى ظن كل من رآني أنني لم ألتهم تفاحتي.
ضحكت الحيوانات مما قاله الفأر ثم عادت إلى صمتها حين ألتفت الملك الحكيم إلى الأسد المنصور وقال:
ـ ولِم لـمْ تأكل تفاحتك أيها الشبل المنصور؟!
وقف الأسد المنصور على قائميه الخلفيين رابط الجأش قوي العزيمة وقال:
ـ يا مولاي الملك
لقد طلبت منا أن نأكل التفاحة الحمراء دون أن يرانا أحد.
ولقد وجدت أماكن كثيرة بعيدا عن عيون المخلوقات..
لكنني لم أجد مكانا لا يراني فيه الخالق.
فلم يكن باستطاعتي أن ألتهم التفاحة والله سبحانه وتعالي يطلع على ويراقب
أفعالي أينما ذهبت.
ربت الملك الحكيم على شعر الأسد المنصور وقال:
ـ أحسنت يا صغيري
إن من يعلم أن الله يراه ويراقب أفعاله في كل صغيرة وكبيرة هو الأولى
بولاية العهد.
لإنه لن يخشى أحدا إلا الله ولن يظلم أحدا ولن يجور على أحد
وسيراعي الله في كل أفعاله وتصرفاته.
وأُعْلِّنَ في غابة الحيوان ولاية العهد للأسد المنصور.
حقا هذا الشبل من ذاك الأسد.

ليست هناك تعليقات: