2011/08/31

فصلان من رواية هشام بن الشاوي الجديدة : "قليلولة أحد خريفي "

قليلولة أحد خريفي
هشام بن الشاوي
الفصل  الثاني
بعد الظهيرة، تغري الشمس الخريفية  بالاسترخاء اللذيذ، والسكون يخيم على حي النجد. الأحد يوم الكسل المقدس.. تتمدد فوق  الرمل، تحس بدفئها يتسرب إلى مسامك، والقطة الوديعة  تتمسح بساقك، كأنما تشاطرك  افتقاد أنيسكما العجوز. ترنو إلى كوخ عبد الله بآجره الرمادي، تستغرب تصميمه على  البقاء في "البرّاكّة" وسقف الطابق الثاني  قد قارب البناؤون على الانتهاء منه، بينما بقية العسس  اختاروا إحدى الغرف الدافئة بالورش، تفسر الأمر على أنه يفضل السكن في "البرّاكّات"، التي التهمت عمره.. تحدق في تجاويف  سدت بمزق أكياس الإسمنت وأوراق الجرائد اتقاء لشر برد ديسمبر. تتأمل السقف القصديري، الذي رميت فوقه أشياء كثيرة، أغلبها لا يصلح لأي شيء، بيد أن عبد الله يحب "القُـش" مثل الجرذ، كما يقولون عنه، ويقضي سحابة نهاراته في البحث عن سقط المتاع  في الجوار.

 حين  يطلب منهم في فترات استراحتهم مساعدته في ترتيب الكوخ، يعيدون رمي تلك الأشياء التي لا تصلح لأي شيء،  متعجبين  من وجودها بعد أن تخلى عنها أصحابها، لكنهم  لا يندهشون عند اختفاء بعض تلك التحف صبيحة  يوم إثنين، فيوقنون أنه أخذها معه إلى البادية، ويتساءلون  فيما بينهم : "من يقبل أن يقله معه، وهو مثقل بكل هذا "القش"، فمن يراه من بعيد يظنه معتوها؟"، ويشفقون على شيخوخته  التي لم يرحمها أبناءه، ملقين عليهم اللوم. يتألمون أكثر لأنه لم يفلح في أن يتعلم المهنة ويصير بناءً ماهرًا مثلهم أو فلاحًا، وأقرانه صاروا ملاك أراض، لأنهم يعرفون أن من في مثل سنه تلفظه أوراش البناء، بلا رحمة... ويشيرون إلى صلة النسب، التي تربطه  بالمقاول، الذي شغله مكتفيًا بحراسة الورش، لأنه لن يتحمل الأعمال الشاقة..  ومن قبل، كان يعمل مياومًا  - نهارًا- في الورش، ويتحمل  - ليلًا- مسؤولية كل شيء فيه.

اعتدت منذ أعوام أن تسمع كل من يعرفونه ينادونه بـ "ولد عمي"، وأغلب الظن أن التسمية مستوحاة  من أغنية شعبية لمطربة دكالية شهيرة، وكثيرًا ما تناديه مثلهم.. بدل "عبد الله خالي"، كما كنت تفعل في طفولتك،  على رغم كونه خال أمك. شيء ما مبهم كان  يشدك إلى "ولد عمي".

 تعلو شفتيك ابتسامة مغتصبة، حين تستحضره، وهو يحكي لك كيف أن خاله المقاول الراحل ضبطه يغني في الدرج، وهو جالس محتضنًا الكيس، الذي كان  يحمل فيه  الرمل إلى الطابق العلوي  "جُوجْ بْحالي يْسيزيوْ  خالي". لم يغضب الخال من غناء ابن أخته فرحًا بأن إثنين مثله سيجعلانه مفلسًا.
كثيرون يتغاضون عن أخطائه الصغرى.  ومن يعاشره - عن قرب-  قد يتقزز من وسادته، التي بلا لون من كثرة الأوساخ، والأردية  المهلهلة التي  ترك فيها أصدقاؤه  الفئران والجرذان ثقوبًا تخلد  ذكرياتهم معه، وبعد تناوله ما تبقى من عشائه البائت يرمي أوانيه جانبًا ببقاياها الدسمة، برتقالية اللون، مكتفيًا بصب قليل من الماء فيها، ولن يغسلها إلا ليلًا  حين يحتاج إليها...

أفراد عائلتك، كانوا يستغربون لارتباطك به في حين لا أحد يحبه تقريبًا، بينما تعامل باقي العائلة بفظاظة، منغمسًا في عزلتك الفاخرة. تحتمي بالصمت حتى لا تفضح نفاقهم، وتظاهرهم بمحبته في حضرته. تخمن أن انعزاله في أكواخ  الأوراش أفسد علاقته بكل من حوله، حتى أبناءه. ففقد احترام الجميع.. الجميع يرونه مخبولًا ومعتوهًا لا يطاق، بسبب مزاجيته...

 بيد أن ما يثيرك أكثر قدرته العجيبة على جعل حيوانين على الرغم من العداوة الفطرية بينهما يتآلفان. حين تزوره  - في غير أيام الآحاد للسؤال عنه-  تجده يسير نحو الخم الصغير المجاور لكوخه، والدجاجات الثلاث والديك اليتيم يتبعونه، وهو يحمل إناءً به بعض الحبوب التي جلبها من القرية، فتتبع الكلبة - التي تكون حرة طليقة، ويربطها مساءً حتى لا تبتعد عن المكان أو يغويها أحد الكلاب- والقطة الموكب الصغير، وكأن تلك المخلوقات تغار من بعضها، وكل واحد منها يود أن يستحوذ على حب  "ولد عمي".

تراه بنفس قامته المديدة ويديه المعروقتين بأصابعهما الرفيعة، المتغضنة كوجهه. وجه لفحته الشمس، يكسوه زغب  أبيض مهمل، لا تصادق الموسى خديه  إلا عندما يقرر السفر إلى القرية، فتسري الهمسات والغمزات بين البنائين، في ظهيرة ذلك السبت، ويدركون بأنه قرر أن يشن غارة على قلاع   "التيبارية"، ولا يتضايق إن  نطقوا باسم زوجته...

أحيانًا، يقرر السفر دون استشارة المقاول، فيغضب عندما يفاجئه بقراره السفر هذا الأسبوع، مشيرًا  إلى وجود سلع جديدة قد تتعرض للسرقة  في غيابه.. فيصمت عبد الله، على مضض، شاخصًا ببصره ناحية  قطيع غنم بعيد، يرعى بالقرب من السكة الحديدية.

 هل يحتاج المرء أن يستشير أحدًا عند حلق ذقنه؟
سيبدو الأمر مضحكًا، وهو يتوجه  ناحية سيارة المقاول في صباح يوم سبت ليبلغه بقراره السفر فجأة، لأنه  يعرف أنه في مثل هذه الأوقات يكون متضايقًا، ويعتقد أن ذلك  بسبب الأموال التي سيصرفها مساءً، كأجر للعمال، وسيغضب أكثر إن طلب منه البحث عمّن يبيت الليلة بــ"البراكة"، ولا أحد يحب قضاء ليلة السبت الواعدة  بالمباهج  في كوخ منعزل.

أبلغك أحد البنائين، وهو غارق في الضحك، حين اعترض قريبه على ذهابه، بحجة أنه كان هناك الأسبوع الماضي، وتساءل : "ماذا  ستفعل هناك؟!". انسحب  عبد الله صامتًا، وسمعوه يكسر الأواني، وهو يغمغم : "هو ينام في حضنها كل ليلة، وأنا يسألني : لماذا سأذهب وماذا سأفعل؟".

رنوا إلى  المرأة  السمراء الدميمة، الساكنة بأحد الدواوير المجاورة، وهي تمر بمحاذاتهم بقطيعها، راكبة أتانها، يسبقها ابنها، وهو يهش بعصاه على الغنم، واقترب كلبها من كلبته، كما اعتاد أن يتحرش بها - بالكلبة- كل مساء، فحدق "ولد عمي" في  ركوبها  الجانبي للأتان، الذي يبرز عجيزتها بشكل فاحش. لم يتحمل  تلك الاهتزازات، فجن جنونه وطرد العمال، رمى الكلب بحجر، وركل الكلبة التي تعلقت  بساقه. فانكمشت داخل برميل قديم صدئ، لم يعد صالحًا للاستعمال، وجّه  عبد الله إحدى فتحتيه ناحية الجدار، قريبًا من باب الكوخ، حتى لا يقترب  أحد منه في غيابه.

 منظر القطة والكلبة المسترخيتين تحت أشعة الشمس في عناق مدهش، جعلك تصاب  بعدوى الرغبة في النوم، تمامًا مثلما تشاهد على  شاشة التلفزيون  شخصًا يتثاءب فتجد نفسك لاشعوريًا تتثاءب. (هل تجعلك عزيزي القارئ كلمة "تثاءب" تتثاءب مثلي الآن؟ أرجوك، لا تنم قبل أن تكتمل الحكاية). 

تسمع أنين الباب، وهو يفتح، والكلبة تنبح ذلك النباح الأشبه بالتوسل المتوجع، كما تفعل الكلاب  عند رؤية صاحبها الغائب معبرة عن أشواقها الجريحة بكل جوارحها، تنتفض من غفوتك الكسلى. تتمطط...

كان مجرد حلم..
 لا شك أنه تسلل خفية إلى القرية، لم يعتد أن يتغيب حتى هذا الوقت عن الكوخ، حين يخرج للتسوق أو التنزه، ولا أحد بالجوار يمكنك أن تسأله عنه. أزف المغيب، وبدأت الدجاجات تحوم حول باب الكوخ مطالبة بنصيبها  المسائي من العلف، ومثلها فعلت الكلبة والقطة.. مهرجان صغير من التوسل اندلع بالقرب منك.
 إنه مهرجان الجوع، ولا أثر لعبدالله. ما العمل؟ من يتحمل حب كل هذه المخلوقات غيرك، يا بريطل؟

تلمح رجلًا مجلببًا، أعرج بلحية شمطاء، وسحنة كئيبة، تحاول أن تتذكر أين رأيته من قبل، يصدرُ صوتٌ كريهٌ عن بومة بالجوار. تلمحها فوق العمود الكهربائي. تستغرب وجود هذا العجوز السبعيني في مثل هذا الخلاء: "أمازال حيا حتى الآن؟".  لقد سبق أن رأيته في طفولتك، وكنت تتشاءم من رؤيته، لأنه صديق وفيّ لعزرائيل.. حيثما شم رائحة الموت، يمم وجهه شطر ذلك المأتم، تخمن أنها  تلك الشراهة المعهودة عند الفقهاء، وحبهم الخرافي لأطباق الكسكس. تبصق على الأرض، وتسارع برشق الطائر ذي الرأس المدور بكل قوتك، كأنما ترمي طائر الخرائب، وربيب المقابر..  بحجر واحد.
 
الفصل  الرابع
وجدتني وحيدًا في الشارع الخالي، أتسلى بتأمل انعكاس ظلي على الإسفلت. تلوح سيارة أجرة من بعيد. أركض في اتجاهها : " ككل إثنين، يغادر الكهول الثلاثة قراهم تحت جنح الظلام، يلتقون عند محطة "الطاكسيات" بأحد أولاد فرج. يستيقظون مبكرًا، حتى يباشرون عملهم في الورش على الساعة السابعة صباحًا".  أشير للسائق بيدي، أفتح الباب، أركب دون استشارته، ألقي التحية مشيرًا إلى وجهتي: "محطة القطار". أرنو إلى ساعة هاتفي الجوال. قريبًا من المحطة، شردت نظراتي، وحي النجد  يلوح غارقًا في سباته اللذيذ، والعمارات التي انتصبت على ضفتي الشارع حجبت البيوت من الجهتين، أحدق في ساعتي : "أين وصلوا الآن؟ أي جنون هذا.. إنها مجرد قصة. تبًّا لك، يا نور الدين. أنت تلاعبني.. حسنًا، سنرى من سيضحك في الآخر. أتمنى أن تكون ليلتك الأولى في "البيجي" رائعة، وحتى لا نربك القراء، فلا داعي لسبق الأحداث.

تذكر جيدًا، يا صديقي عنوان الرواية: "قيلولة أحد خريفي". نحن ما زلنا في يوم الإثنين، وهذا اليوم  صار في خبر كان بالنسبة لك، حين خلدت للنوم، وطلبت مني استلام دفة الحكي. البناؤون في طريقهم إلى الورش. تريد أن تعرف سبب القبض عليك. يبدو أنني تورطت في حبك، وهذا سيجعلني رحيمًا...". تتوقف سيارة الأجرة أمام مبنى المحطة، أواصل مشاهدة شريط سينمائي لا يراه أحد سواي، وأنا أتوجه نحو شباك التذاكر: "يتوقفون أمام "البراكة" الموصدة..  يلوح على وجوههم القلق لغياب  "ولد عمي". في مثل هذا الوقت ألفوا أن يكون مستيقظًا يحتسي الشاي ويدخن سيجارته الرخيصة "كازا سبور"  casa sport بتلذذ"، سألني  الموظف عن وجهتي، وأنا غارق في شرودي البهيج :

casa port-  (محطة الدار البيضاء- الميناء).

"يتوجهون إلى الداخل لتغيير ملابسهم.. يلفت انتباههم أن الخدم (المتعلمين)، الذين يسكنون بضواحي المدينة لم يحضروا بعد، لم يتأخروا من قبل، فقد اعتادوا قطع الكيلومترات الستة بدراجاتهم الهوائية المتهالكة كل يوم، وحتى "المعلم التيباري" لم يحضر أيضًا. يقترح أحدهم أن يعملوا لوحدهم، فهم لا يحتاجون إلى خدم، مادامت أشغال النجارة المسلحة لم تنته بعد. يقترح "الفرجي"- أكبرهم سنًّا- أن يعمل رفيقاه فوق السقالة، ويبقى هو تحت ليمدهما بما يحتاجان من ألواح خشبية. يخبرهما أنه سيذهب لتجهيز الشاي، يمزق  صمت الصباح الندي بسعاله، وعند باب الكوخ تتعلق الكلبة بساقيه".

 أسترخي في إحدى المقصورات، بعض المسافرات يتقنفذن فوق مقاعدهن، أتذكر غابريال غارسيا ماركيز و"الجميلات النائمات". أقاوم ضحكة تكاد تنفلت مني، وأنا أقول لنفسي بصوت مسموع : "صباح الخير سي نور الدين". هذه الجملة لم تكن تحية بريئة، وإنما تشف من قريب "ولد عمي"، الذي يحاول التمرد عليّ. تصرفه الأرعن قد يجعل كل الشخصيات تتمرد على الأقدار الروائية المصنوعة لها سلفًا.

"في المطبخ، تمدد أحد البناءين قرب تجويف إسمنتي مكعب، يشبه حوضًا صغيرًا تلتقي عنده قناتي الصرف الصحي، مد يده في القناة الأمامية متوغلًا أكثر في امتدادها، وحركها في عدة اتجاهات، وبحث في القناة الأخرى. ذهل الرجلان لعدم عثورهما على مطارقهم، ونادى أحدهم على الفرجي  بصوت عال: "وا الفرجي، فين(1) البلوطات(2)؟ واش حولتيهم من بلاصتهم(3)؟ باش غادي نخدمو (4)؟". استغربوا أن تسرق المطارق فقط، وكل شيء مرمي هنا، ولا  أحد سواهم يعرف أنهم  يخبئونها هناك ليلة السبت، لأنهم يعلمون أن عبد الله لا يلازم "البراكة" ليلة السبت ونهار الأحد.. عاتب أحدهم رفيقيه مشيرًا إلى أنهم لو وضعوها في "البراكة" لما تركت الكلبة أحدًا يدخل. رد الثاني بأن اللص يعرف بأن "البلوطات" غالية الثمن، وخفيفة الوزن أيضًا ولم يسرق أي شيء آخر.. لو كان اللص عاديًا لسرق الحديد أو أكياس الإسمنت أو حتى الأعواد والنقالات وباقي المتاع.. قد يسرق كل شيء، مادام لا أحد يوجد هنا. لكن هذا لص خبير بأوراش البناء.

 جلسوا عند بوابة الورش كما المعزين، وبعد لحظات، لاحت الشمس تتسلل من خدرها الشرقي تلقي تحية الصباح على الكائنات في استحياء، وبالجوار، كان "بالوما"، حارس الورش المجاور يتمطى بجسده الضخم، ويتثاءب بصوت  مقزز..".

أتثاءب، أرنو إلى أشعة الشمس تنعكس على ملامح امرأة تجلس على بعد خطوات بالصف المعاكس. ألفيتني أقارن  بين جمالها وبين تلك العانس البنورية، التي ذبل فيها كل شيء. كانت تلح في طلب رقم هاتفي المحمول، بحجة أن تتصل بي. التقينا لقاء غرباء وافترقنا.. فلم تصر أن نلتقي مرة أخرى، مع أن كل شيء حدث بسرعة ويسر؟.. خيل إلي أن  ركاب الحافلة - يومئذ- كانوا ينظرون إلي نظرات غير بريئة. ملامحها تشبه تقاسيم نسوة  بدويات أراهن في الأسواق الأسبوعية.. بأجسادهن النحيلة، التي شاخت قبل الأوان، تبدو أكبر من سنها.. عيناها وقحتان جدًا، تسيلان شهوة، وفاكهة صدرها تنتصب في شموخ فاجر.

 قالت : أعجبتني وأريد أن أتزوجك. قلت لها إنني عاطل عن العمل. ردت بلهجة واثقة: اجلس في البيت وأنا أعمل.. لذت بالصمت، وبعد تفكير، للتخلص منها بطريقة لبقة هتفت: أخشى أن يرانا أحد..

من يتزوج امرأة وهبته جسدها في سرعة قياسية؟ بيد أن ما جعلني أضيق ذرعًا بها حديثها  المتحسر عن صديقتها وصاحبها النذل الذي تخلى عنها، ووعيدها بأنها  لو كانت مكانها لفعلت كذا وكذا... لذت بالصمت. قلت لنفسي : هو كان  يعاملها كبغي.. مثلك تمامًا.

أتأمل المرأة التي تتحاشى نظراتي. بنظرة سريعة متلصصة على ساقها وكتفها أدركت بأنها ليست من ذلك النوع اللحيم المثير، بيد أن وجهها كان فتانًا.. جمالها  مشوب بذلك الحزن النبيل.. الآسر. كانت تنشغل بتقليب أوراق قبالتها، وهي تحتمي بالمقعدين الأماميين، فلا أرى منها سوى طرفي جلبابها وسروالها وحذائها. أتساءل :  لم حرمتني الحياة من حقي  في السعادة؟ نظراتي لا تفارقها، وكلما تململت في جلستها رأيت عينها فقط، من بين المقعدين، حيث تعمدت أن تجلس بينهما حتى لا أرى وجهها كاملًا، ولتتفادى وقاحتي.

بنوع من الوله العذري أحدق فيها.
أحس باختلاجة في صدري..

 انتشل القلم من جيب داخلي.. أدون كلمات، بسرعة، على تذكرة القطار، أختلس نظرة إليها... تلتقي عيوننا. هل تتصورين أنني سأكتب رقم هاتفي مثلا؟ أختلس نظرة وأنشغل بالكتابة. أضع القصاصة في جيبي، أرنو إليها مجددًا.. أمسك هاتفي الجوال، أنقر  على زر الرسائل، أختار : "رسالة جديدة". بحروف لاتينية أشرع في تدوين الأفكار، التي ألهمتني إياها فاتنتي الجميلة، وأخزنها على الهاتف. لو كنت   بطلًا في رواية أو فيلم سينمائي لخلعت قميصي وشرعت في الكتابة عليه، لأسرق إعجابي جميلتي، ولكن الحياة ليست رواية جميلة  نقضي في صحبتها لحظات، ثم ننساها بسرعة، مثلما اعتدنا نسيان كل شيء. لا مكان للجنون الشهي في الحياة، يا نور الدين.
 حين سألتني البنورية عن عملي لم أقل لها إنني كاتب، كان ردي حاسمًا وقاسيًا: "عاطل عن العمل"، فكيف أخلع قميصي لأكتب عليه؟.

انتهيت من التقاط كل حمائم الإلهام المحلقة، والجميلة مصرة على أن تتفادى نظراتي المتعبدة، وفاض قلبي بالحزن حين رأيت خاتمًا في إصبعها.. لا أستطيع أن أميز إن كانت مخطوبة أو متزوجة، كل ما أعرف أنني وجدتني  على أهبة البكاء، وغادرت المقعد حين اقترب القطار من المحطة. أتنهد، وفي خيالي أستعيد تفاصيل آخر مشهد كتبته : "يسأل "بالوما" "الفرجي" الذي تبدى مكلومًا: "لمَ لمْ تعملوا اليوم؟ فغمغم الكهل، وهو ينفث دخان سيجارته  الرخيصة في حنق : لم يحضر أحد اليوم". 

 ألقي نظرة أخيرة على جميلة المقصورة. أتعذب بإصرارها على تجاهلي.. حتى نظرة عابرة لا تجود علي بها، وأردد في سري :"صبّ "بالوما" بقايا عشائه في صحن الكلبة، راح يربت على رأسها في حنو بالغ، وهي تلعق المرق بفرح، وهتف : "لقد رأيت ذلك الفتى الغريب، الذي يزور عبد الله أمس... هنا".

الآن، يمكنني أن أتسكع في شوارع البيضاء، في هذا الصباح الدافئ، يا نور الدين. إني أرى أشعة الشمس تتسلل من كوى السرداب، و تصافح وجوهكم.  ينادي شرطي على من سيتم ترحيلهم إلى المحكمة الابتدائية للمثول أمام وكيل الملك، فيقفون في صف أمام البوابة الثقيلة، وزوار منتصف الليل، أولئك السكارى، الذين اصطادتهم الدوريات الليلية من أمام الحانات وعلى قارعة الطريق.. يخرجون من الزنزانة المجاورة، وينضمون إليكم، وأحد رجال الشرطة يناول نزلاء سطل ماء وقطعة قماش لتنظيف الدهليز... أرى على ملامحك الاستنكار، يا عزيزي نور.
سأمنحك فرصة  السرد بضمير المتكلم صبيحة يوم الأربعاء، أيها الكئيب... الآن يجب أن أعود إلى حادثة سرقة فيللا سيدي بوزيد.. سردنا يحتاج إلى بعض الطرائف. هل تذكر "التيباري" و"بعية"؟ من دون شك، أنت تعرف أنهما من أبطال روايتي البكر "كائنات من غبار"، وأنني جعلت "التيباري" حجر زاوية قصتي "خيط من الدخان"، ومع ذلك لن أغير اسميهما.. سأحس بالوحشة لو فعلتها. ستقول لي لبنى: لقد عدت إلى تمجيد ذاتك في الرواية مرة أخرى؛ بسببها ألغيت فصلين كاملين، وربما لن يعجبها إقحامي للعانس البنورية!

رن هاتفي الجوال، ساورني القلق، لا أحد يتصل بي من الأصدقاء في مثل هذا التوقيت. الرقم غريب : ترى من يكون؟..  وبلا مقدمات، جاءني صوت أحد الأقارب متحشرجًا، مختنقًا بالدموع.. تضاعف قلقي، لم يترك لي فرصة السؤال، ورماني بقذيفة:  "ولد عمي مات".

---------------------------
: أين هي؟
: نوع ممتاز من المطارق يستخدمها البناؤون في النجارة المسلحة.
: هل حولتها من مكانها؟
: بماذا سنعمل؟

هبة فاروق تفوز بجائزة "دبي الثقافية للإبداع" عن مسرحيتها “رسل الموت”

هبة فاروق تفوز بجائزة "دبي الثقافية للإبداع" عن مسرحيتها“رسل الموت”
حصدت المصرية هبة فاروق محمد سلامه (مصر) المركز الأول بجائزة "دبي الثقافية للإبداع "عن نصها المسرحي “رسل الموت”.
تعتمد المسرحية عل تقنية كسر الايهام, حيث يتصل الماضى والحاضر عند نقطة زمنية واحدة لتختم المسرحية عن نقطة الذروة فى النهاية فيتقابل الماضى والحاضر ويطرح السؤال من هو المخطئ؟
وأبطال المسرحية هم ثلاث رموز حسن الصباح ونظام الملك وعمر الخيام لكل واحد منهم رؤية للحياة وللعالم, وإن يكن الثلاث شخصيات حقيقة تاريخة لكن المسرحية لا تعتمد على التاريخ ولا ترتكز على احداثه إلا بشكل عابر, فيَسلم عمر الخيام من السلطة ومكائدها, وينغمس الصباح فيها وعند النقطة الفارقة يستخدم الدين والدهاء للوصول إلى مبتغاه الخفى وهو الوصول للسلطة وإرهاب الغير, فنرى كيف يُكَون الصباح جيش من الانتحاريين الذين يصيرون بسحر كلامه -وليس بالمخدرات كما تذكر بعض كتب التاريخ- طوع امره فى تنفيذ ما يريد خياله الجامح, كذلك ترصد المسرحية صراع الخيام الفلسفى بين ذاته وبين العالم الذى يراه مختلفًا كل الاختلاف عن مايراه الآخرون, وكذلك صراع نظام الملك للمحافظة على كرسى الحكم والتضحيات التى يقدمها لذلك.
هبة فاروق كاتبة مصرية سبق ونشرت بعض القصص القصيرة جدا فى الدوريات الثقافية ولها مجموعة قصصية للأطفال قيد النشر بعنوان (الملك والعصفور)، كما حصلت على جائزة ملتقى الإبداع دورة القصة القصيرة جدا

2011/08/29

عيد سعيد.. كل عام وأنتم بخير


"الضيفُ الكريمُ" قصيدة لمصطفى حمزة


الضيفُ الكريمُ
مصطفى حمزة
رمضانُ ، يا طيْــفاً لَطيـفاً حلّ ضَيْـفاً وارْتَحَــلْ
مَلأ الجِفــانَ وجاءنــا ، مِنْ كُلّ خيرٍ قدْ حَمَـــلْ
الضيفُ يُؤتى بالقِرى،ومُضــيفُهُ مِنـهُ أكـــــــلْ
سَــكبتْ يداه رحمــة الرحمنِ أوّلَ ما وصَـــــلْ
ودعا إليها أنفُســــاً ترنـو إلى خيْـــر العَمَــــلْ
فإذا القلــوبُ رئيفــةٌ، ووديعــةٌ مثــلَ الحَمَـــلْ
وإذا الأنامُ بألفةٍ ، كالسّــمْنِ خالطــهُ العَسَــــلْ
وأذاقَ مغفــرةً تُــروّي كـــــلّ يأسٍ بالأمـــــــلْ
لمْ يبقَ بعدَ مذاقهــا،في أيّ قلبٍ مِنْ وَجَـــــــلْ
واستبشَـروا أنّ الذنـوبَ جميعَهَـا ربّي كَفـَــــلْ
وقُبَيْلَ أنْ يمضي أبى - بعدَ العَطا - إلا النّفَـــلْ
أهداهُمُ عَتْقاً من النيــرانِ فـي اليـومِ الجَلَـــــلْ
****
يا أيّها الشهرُ الفضيلُ،وأنتَ أكرمُ مَنْ نـــزلْ :
إنّا بشــوقٍ أنْ تعــودَ ، فلا تُطِلْ ذاكَ الأجَـــــلْ
----------

abbad1999@hotmail.com

رواية للعراقية رشا فاضل تفوز بجائزة «دبي الثقافية للإبداع»

رواية للعراقية رشا فاضل تفوز بجائزة «دبي الثقافية للإبداع»
  
 
 نالت الكاتبة العراقية رشا فاضل المركز  الرابع في مجال الرواية بجائزة “دبي الثقافية للإبداع” في دورتها السابعة 2010/2011 التي  أعلنت نتائجها مجلة “دبي الثقافية” أمس الأول وذلك عن روايتها  "على شفا جسد" التي تتحدث من خلالها عن العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003
وقد عبرت رشا فاضل عن سعادتها بالفوز  وقالت "كان عندي شعور بأن روايتي ستحقق حضورا بشكل ما لأن ظروف كتابتها تتحدث عن مرحلة مهمة وصعبة مر بها العراق والعراقيون لذا فإن الكتابة كانت تخرج من فوهة جرح مفتوح والذي يخرج بصدق لابد أن يحقق حضورا ولايمكن طبعا اعتبار الرواية تسجيل وقائع وأحداث فقط بل يجب الأخذ بنظر الاعتبار الاشتغال الحرفي على تقنيات الرواية"
وشكرت لجنة التحكيم التي تضم أسماء لها وزنها في المشهد الأدبي العربي   : أحمد عبد المعطي حجازي من مصر، يوسف أبو لوز من فلسطين، نبيل سليمان من سوريا، الدكتور صالح هويدي من العراق، الدكتور حاتم الصكر من العراق، عزت عمر من سوريا، عبد الفتاح صبري من مصر، الدكتور عمر عبد العزيز من اليمن، اسماعيل عبدالله من الإمارات، ونواف الجناحي من الإمارات
سبق لرشا التي أصدرت عدة مجاميع قصصية أن فازت بجوائز عديدة في مجال الكتابة المسرحية ،

رواية "أعشقني" للأردنية سناء الشعلان تفوز بجائزة دبي للإبداع

رواية "أعشقني" للأردنية سناء الشعلان تفوز بجائزة دبي للإبداع في حقل الرواية للعام 2010/2011

    أعلنت جائزة دبي الثقافية للإبداع للعام 2010/2011 في دورتها السابعة أسماء الفائزين بجوائزها لهذا العام في حقول القصة القصيرة والرواية والفنون التشكيلية والحوار مع الغرب والتأليف المسرحي والأفلام التسجيلية، فضلا عن شخصية العام الثقافية الإماراتية.وقد حصلت الأديبة الأردنية د.سناء الشعلان على الجائزة  الثانية في حقل الرواية عن روايتها المخطوطة" أعشقني". وتأتي هذه الجائزة لتكون الجائزة 48 التي تحصل عليها سناء الشعلان في حقول الإبداع والبحث العلمي من جهات عالمية وعربية ومحلية مرموقة.
    وسيتم في القريب استلام الشعلان وسائر الفائزين في كلّ الحقول جوائزهم في حفل رسمي تقديمه الجائزة في مدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة إلى جانب إشهار الرواية منشورة عبر أعداد الجائزة التي دأبت على نشر الأعمال الفائزة منذ سبع سنين لكي يرى العمل الفائز الضّوء،ويُقدّم للملتقي في كلّ مكان.
  ويُذكر أنّ لجان التحكيم تشكّلت من الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي من مصر، ويوسف أبو لوز من فلسطين، ونبيل سليمان من سوريا، ود. صالح هويدي من العراق، ود. حاتم الصكر من العراق، وعزت عمر من سوريا، وعبد الفتاح صبري من مصر، ود. عمر عبد العزيز من اليمن، وإسماعيل عبد الله ونواف الجناحي من الإمارات.
وتقول الأديبة سناء الشعلان عن الرواية الفائزة" أعشقني" :" هذه الرواية هي امتداد لروايات الخيال العلمي عبر توليفة سردّية روائية،وباختصار أستطيع أن ألخّص فكرة الرواية في كلمة بطلتها في البداية حيث تقول:" وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق،أنا لستُ ضدّ أبعاد الطّول والعرض والارتفاع والزّمان،ولستُ معنية بتفكيك نظرية إينشتاين العملاقة التي يدركها ،ويفهمها  جيداً حتى أكثر الطلبة تواضعاً في الذّكاء والاجتهاد في أيّ مدرسة من مدارس هذا الكوكب الصّغير،ولكنّني أعلم علم اليقين والمؤمنين والعالمين والعارفين والدارين  وورثة المتصوّفة والعشّاق المنقرضين منذ آلاف السّنين أنّ الحبّ هو البُعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا،وحده الحبّ هو الكفيل بإحياء هذا الموات،وبعث الجمال في هذا الخراب الإلكتروني البشع،وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض قلب،وفلسفة انعتاق لحظة،أنا كافرة بكلّ الأبعاد خلا هذا البعد الخامس الجميل".
وعن سبب اختيار الشعلان للكتابة في جنس الأدب الروائي القائم على الخيال العلمي تقول:" الخيالُ العلميُّ يفتح شرفة ثلاثيّة الأبعاد على مستقبل التّقدّم المعرفي،وممكن الإنسان المحتمل الحدوث في محدّدات زمانيّة ومكانيّة ومعرفيّة قادمة ضمن سيرورة التقدّم العامودي والأفقي في مدارج الحضارة،وشكل الرّوايةّ التّقليديّ في ضوء سلطات معرفيّة جديدة تَعِد بأن تقدّم معطيات حداثيّة للشّكل الحكائيّ السّردي بما يتناسب مع أيدولوجيات الطّرح المختلف،ومعطيات العوالم المقترحة،والإمكانيّات المشروطة،بما يتناسب مع فرضيات كاتب الخيال العلمي ،ومع نظرياته،ورؤاه المستقبليّة.
      ومن هذه الشّرفة الثلاثيّة العريضة التي يقدّمها هذا الأدب،نستطيع القول إنّ الخيال العلمي تجربة رياديّة خاصة في كتابة المستقبل بالارتكاز على دراسة علميّة دقيقة لمعطيات الواقع المعرفيّ،وأفق نمائه وامتداده في ضوء إمكانياته واحتمالاته وحاجاته،وبخلاف ذلك تصبح تجربة كتابة الخيال العلمي هي مجرّد شطحات فانتازيّة مغرقة في الشّطط،لا تساعد في أن تقوم بدورها التنويريّ والتحريضيّ في تقديم صيغ معرفيّة جديدة في ضوء منتاجات معرفيّة حاليّة حقيقيّة الوجود،والتّماهي في تشكيل صورة الوجود الإنسانيّ على كوكب الأرض.
    إذن أدب الخيال العلميّ أدب يتحقّق وجوده،وتتمّ نبوءته عندما يستكمل أدواته وشروطه كاملة لندرجه بحق في خانته التجنسيّة بعيداً عن تقديم تجارب إبداعيّة تشظّى منظمومته التخيليّة العلميّة،وتنسف شكله الإبداعي الدّرامي المتحصّن خلف محدّدات صارمة بما يخصّ خطوطه العريضة،بحجّة الوصول إلى منتج إبداعيّ متفلّت من كلّ ضابط،مفتوح على مخيال منفرط،يجعل من الدّهشة والخروج عن الممكن وفق الشّروط الطّبيعيّة لعالمنا معايير لنجاحه،وللإقبال الجماهيّري عليه،ضارباً بعرض الحائط اضطلاع الحقيقة والممكن بجوهر وجود هذا الأدب".

فصل من رواية "سِيْرَةُ الزَوَالِ" الفائزة بجائزة الشارقة للابداع العربي لهاني القط

 "سِيْرَةُ الزَوَالِ"  
هاني القط

صالـح
(مُحَالٌ: مَا مَضَى لاَ يَعُود)

فور رؤيتي للمركب البعيد؛ نَزَعتْ يدي غصن شجرة، لوحت به مستغيثًا... بدا المركب ثابتا في سيره, ثم انحرف بالقرب من الجسر الواهن الذي وقفت عليه محاذرًا, مدوا لي فلق جذع نخلٍ؛ وضعت قدمي عليه والتفت مودعًا المكان الذي لم أر غيره  فـي حياتي. رجلٌ نحيل مد يده فتلقفتها وصعدت. حركت رأسى في خجل محييًا؛ فأفسح رجلان لجسدي مكانًا بينهم, فَغِبْتُ أَنْعى حَالِي: كيف أمسيت يتيم الأم والأب؟!
غرقا بالفيضان بعد أن بنينا جميعًا حاجزًا من أحجار وطين وخشب وعشب؛ خوفًا من فيضان النيل الحولي، بعد مشقة أنهينا عملنا، انسللت من أبي إلى أعلى شجرة الجميز؛ أنفخ من شجني في الناى, وأُقَلِبُ عيني  فـي سماء الله أَرقُبُ نجوم الليل, كنت متعبًا فأخذني النوم. صحوت من لسعةِ شمسٍ؛ لأرى الماء  وقد غمر نصف جذع الجميزة. أطاح سيل الفيضان الغزير بالحاجز الذي لم يجد نفعًا، ضرب الماء جدران الدار وتدفق مغرقًا ما فيها، رأيت الموت على كل شيء وقد أنشب مخالب الفناء على صفحات النهر، كل شيء ميت يطفو فوق الماء: الدجاج، الديك المؤذن، الخراف، الكبش الأقرن الكبير، القطط الوليدة، الأرنبة البيضاء وأولادها، الكلب الأسود العجوز، الحمار الماكر الذي طالما طرحني أرضًا كلما حاولت ركوبه، أذهلتني سَكِينَةُ الموت عن نفسي... تدليت عن الجميزة فغمرني الماء حتى فخذيَّ، نزعت قميصي وتلفعته، ناديت أمي وأبي ما جاءني غير ضرب الماء والصدى، فرع شجرة ضخم سقط على واجهة الدار فهدمها، حاولت إزاحته فما استطعت، بأطراف أغصانه اشتبكت جثة أمي طافية، ذهب عنها لون وجهها الخمري و بسمتها البشوش، بيد أن قسمات الحنو التي أشبعتني ظلت كما هي، فرع الشجرة الساقط على جسدها أدماها فامتص جلبابها دمها حتى آخر خيط فيه، نحيت الفرع عنها، هذه قدمها، هذه يدها، خلصتها بكتفي ويدي وحملتها صاعدًا الربوة الناجية، أرحتها على الأرض وجلست قرب رأسها، أخذت كفها الدقيقة  بكفي المسود, وانحنيت على صدرها أتوسل إليها أن تنهض من أجلي لكنها ظلت صامتة؛ فغِبْتُ أَنْعى حَالِي.
الرجل الذي أصعدني إلى المركب لا يقر بمكان، يهرول من مقدمته إلى مؤخرته، يتأمل أعلى الشراع ويكر راجعًا للحبال المقيدة بالمؤخرة على القرص الكبير، يرخي حبلاً أو يشده بحنكة ودراية. على غير توقع لمع برق واختفت الشمس وراء غيم داهم، خفت من المطر، أمس أغرقني مطر جنوني وأنا أحفر قبر أمي، ذابت عذوبة قطرات المطر  فـي مِلْحِ دمع عيني, ولم أعرف أأمسح دمعي أم قطرات المطر؟
جسد أمي يرتاح بطوله على الأرض، برفق سللتُ من رقبتها عقدها الذي ورثته عن جدتي، كانت مرتدية جلبابين، مرتجفًا نزعتهما وجففتهما ثم كفنتها بأحدهما، ولم أستطع ترك الآخر فضممته إلى حضني، وبيدي وضعتها  فـي لحدها الصغير الذى حفرته بكل ما طالته يداى، قبلت جبينها وسترت وجهها بمنديل عرسها الذى طالما أرتنى إياه, وأهلت الثرى, وبحد حجر صلد نحت وجهًا يشبهها  فـي جذع الجميزة الذي لم يصله الماء، ولأني لم أتعلم الكتابة ولا أعرف حرفًا؛ خربشت تحت الوجه خطوطًا متداخلة أملاها عليَّ حزني  ـ لا أحد غيري سيفهم معناها ـ بعدها اتجهت إلى صندوق طعامنا، سحبته من بين فروع الأشجار، أخذت ما تبقى فيه: بضعة أرغفة خبز لينة، وقطع جبن، وبعضًا من أعشاب كنا نتداوى بها, وغِبْتُ أَنْعى حَالِي
خالفت السماء ظني ــ سامح الله ظني ــ وأشرقت الدنيا مجدَّدًا دون مطر؛ فمددت جسدي المتكور كقبضة يد، واستندت إلى جدار المركب وأرحت جسدي، صاح ولدٌ مليحٌ واقفٌ جوار الحبال المكتفة بالقرص الحديدي الهائل؛ فهرول الرجل وجعل يشد الحبل بكل جهده منحنيًا لجانب المركب، صاح الصبي:
   ـ كفى يا أبي
أبي! كلمة لن أنطقهاأبدًا، إذ من أنادي بها؟!
 بحثت عنه   فـي كل مكان،  فـي كل شبر على الجزيرة... دون جدوى، كل الأماكن غارقة.
   ـ أأخذ الماء جثته إلى نهاية النهر ؟! هذا ظن بعيد...، ربما...، ماذا عليَّ الآن أن أصنع ؟! وكيف؟! 
بعد أن انتهينا من السد،ألقى فرع شجرة أخضر فأخذه الماء، ابتسم ونظر إلى عيني وقال لي: كل شيء يذهب مع ماء النهر يا "صالح" حتى نهايته.
ربما قال ذلك ليعلمني مكان جثته، أأذهب إلى هناك، وألتقط جثته وأعود بها لأدفنها جوار أمي ثم يكون ما يكون؟
عبر أمامي رجلٌ أبيض طويلٌ أزرق العينين، شممت رائحة حلوة إثر خطاه، اتجه إلى حافة المركب الخالية وجلس، شمر أكمام جلبابه وانحنى، اغترف بكفه ماء وألقاه ثانية  فـي النهر، فعل ذلك مرات دون أن يعبأ بأحد، ربما هو صاحب المركب و ريسه، جلبابه الصوف نظيف يدل على ذلك، أَسودُ كجلباب أمي الذي صررت فيه كل ما أملك من الدنيا داخله الآن، أمسى كالحًا من دمها الذي جف عليه...
 نشرته على جذع الجميزة حتى جف، وقمت لألملم كل ما ينفع حولي، قبلت العقد ووضعته ثم جمعت أطراف الجلباب بقوة وربطتها. أشعلت نارًا بعد جهد وشخصت للنار التى خبت جذوتها سريعًا وأمست رمادًا.
انتفض الرجل الأبيض ناهضًا، هز رأسه ليفيق من شروده, فيمَ كنت تفكر يا ريس؟ أفـي حياتك الماضية؟ أم فيمَ تبقي لك ؟ لا تفكر  فـي شيء؛ فالأمر كله حلم ــ إن قصر العمر أو طال... حلم ــ أردت بالأمس أن أفيق منه مثلك. تمنيت أن أموت وأنا  فـي نومي كي ألحق بهم، لكني استيقظت بلسع الشمس, لآخر مرة رأيت المكان الذي عشت فيه ما مضي من عمري، أغمضت عيني واستعدت أيامي الفَرِحَة التي مرت، عدت إلى حالي ورفعت الصرة على  كتفي ومشيت إلى الجسر، انحنيت برأسي ومددت كفـي للماء، حدقت فلم أرَ سوى صورة مهومة دون معالم تتراقص على صفحته، غرفت بعض الماء من النهر إلى فمي, ونهضت واقفًا بحملي على  كتفي أنتظر حتى أخذتموني معكم.
لما ابتعد المركب وغاب عن نظري آخر غصن لشجرة الجميز؛ فرت دمعة من عيني، استدرت محاولاً الانشغال بأسراب الطير التي تسابق مقدمة المركب صانعةً أشكالا  فـي هبوطها وصعودها، رأيت طائرًا يهبط وحده يلتقط بمنقاره سمكة من الماء ثم يصعد بها ويتحد معها ثانية!! أتراها سعيدة، لأنها تضرب بأجنحتها محلقةً  فـي السماء، أم لأنها مجتمعة؟.
 بصيص ضوء النهار يذبل  فـي الأفق، ووحشة السفر ترتسم على وجوه المسافرين، أهي رحلة غيابهم عن الأحبة أم رحلة العودة إليهم ؟ أنا الآن دونهم جميعًا؟ فكلهم سيعودن إلى الأرض والأقارب، أما أنا فلا أعرف حتى اسم المكان الذي سكنته!  تمامًا كجهلي بذلك المكان الذي أذهب إليه، نهاية النهر! ترى أبعيد هذا أم قريب ؟ وهل سأجد هناك ما أريد؟
الرجل النحيل يشد حبل الشراع إلى صدره مرات ويتركه، فيميل المركب وينتفخ شراعه هواءً، استدرت مرتجفًا على سؤال الرجل المتربع بجواري، وجهه شاحب وشاربه ولحيته البيضاء يحتلان معظم وجهه، ابتسم لي ورفع إصبعه وأشار للصبي الصاعد فوق خشبة الشراع:
ـ ألم تركب مركبًا من قبل ؟
ـ نعم.
ـ إلى أين أنت ذاهب ؟
ـ نهاية النهر.
هز الرجل رأسه:  طوال عمري أسافر من بلد إلى بلد لأبيع التمر ولم أذهب إلى هناك من قبل، ما اسمك ؟
ـ "صالح"
انتبهت على يد رجل تزحف ببطء إلى الصرة، سحبتها محتضنًا وأنا أتفقد عقد أمي. تُرى أين نهاية النهر ؟ وكيف يكون؟
                                                                ***
ما الذي يشدني إلى وجه ذلك الشيخ العجوز الجالس أمامي، هل رأيته من قبل، لن أرجع بذاكرتي ليقيني أنني لم أر أي وجهٍ  فـي حياتي سوى وجهى أبى وأمي، من تكون يا هذا ؟ وهل رأيتك من قبل ؟ أود أن أسأله لكن الخوف يخرسني، متلفتًا  فـي اتجاه آخر حاولت تناسيه، بعينيه حدق  فِـيَّ سريعًا، فتفجرت  فـي نفسي شهوة سؤاله؛ من يكون؟ لكن السؤال قبع  فـي صدري، ينزل الولد من على صاري الشراع بقربى، صلب عوده, لكنه نحيف كأبيه الذي أشار إلى أول رجل يجلس  فـي ناحيتي، فمشى الصبي إلى الرجل، سأله عن شيء، ثم انتظر وأخذ منه مالاً، اقترب من بائع التمر، سأله:
ـ أين ستنزل؟
ـ جليـوب.
ـ عشرة فضة.
أدخل بائع التمر يمناه فى صدر جلبابه وأخرج منديلاً قديمًا معقود الأطراف. فتحه ببطء وعد الأجرة, واحدة واحدة واضعًا إياها  فـي حجره، ربط المنديل ودسه بصدره ولَمَّ الفِضَّةَ  فـي يده  وعدها مرة أخرى، وضعها الصبي  فـي منديله، تحرك خطوة نحوي, أحسست برعشة  فـي أوصالي، لكني هيأت نفسي واستحضرت كلماتي. 
ـ أين ستنزل؟
نطقت بعد جهد:
ـ نهاية النهر.
 رفع الصبي رأسه متفرِّسًا وقال:
 ـ  ثلاثون.
فتحت الصرة، أخرجت منها العقد وقلت للصبي: أريد بيعه, اتجه به ناحية الرجل الأبيض:  ريس "إبراهيم" أتشترى هذا ؟
تناوله الريس، قَلَّبه بين يديه كمن يزنه، وقال: 
 ـ أحضر صاحبه.
أشار الصبي إليَّ؛ فنهضت، رفع الريس "إبراهيم" وجهه تجاهي وابتسم وسألني:
- ملك من هذا العقد ؟
- ملك أمي، اشتره ثم خذ من ثمنه أجرة الرحلة, وأعطني الباقي؟
قلب الريس العقد بين يديه ثم رفعه ناحية الضوء:
ـ  لا أعرف كم يساوى؛ فأنا لا أتاجر  فـي الذهب، غدًا  فـي الصباح عندما يقف المركب، سآخذك "لنسيم" الصائغ يثمنه ويشتريه منك, ما اسمك ؟
ـ "صالح"
ـ إلى أين  ؟
ـ نهاية النهر.
حدق فيّ, ثم قرب يده وأعطاني العقد، وقبل أن أستدير راجعًا لمكاني, سألني :
ـ  ألك أحد هناك يا "صالح" ؟
استدرت عائدًا كأني لم أسمع سؤاله، اصطنعت الانشغال بوضع العقد  فـي الصرة, وجلست مكاني. رأيت العجوز الحزين ينظر إليَّ، سألني بائع التمر الجالس جواري:
ـ ألم تجع لنأكل معًا ؟ أريد أن نأكل معا، ألم تجع ؟
هززت رأسي موافقًا, وأخرجت من الصرة الخبز وقطعة من الجبن القديم، وأخرج هو باذنجانه سمراء قسمها نصفين غير متساويين أعطاني الصغرى، ثم أخرج خمس تمرات أخذ منهما ثلاثة وألقى إليَّ تمرتين، أعطيته رغيفًا فأخذ يقطع منه لقما كبيرة يغمسها  فـي الجبن, ويبلعها بسرعة وكلما نظرت إليه ليتأنى, قال:
ـ خبزك لذيذ
أحسست سريعًا بالشبع، لكنى انتظرت حتى انتهى،أقفلت الصرة ونهضت ممسكًا بها واتجهت إلى القلة الموضوعة  فـي ركن المركب، شربت ثم وضعتها مكانها ورجعت. نظرت حولي فرأيت الليل يفرد أستاره على الأرض, كانت القرى ساكنة. فردت جسمي واضعًا الصرة تحت رأسي قابضًا بيميني عليها. الشمس قرصها يختفـي رويدا، جذبه الماء حتى ابتلعه، ثم أخرج مكانه القمر، كنت أفتح عيني كل حين لأرى ضياءه  فـي الأفق، حتى غلبنى النوم. حلمت أني أبحر بمركب وسط بحرٍ بلا ضفاف، معي طفلان صغيران، دفعت الريح مركبي وأطاحت بي فابتعدت حتى غِبْتُ عن نظري.



الريس إبراهيم
(لِهُمُودِ الرِّيحِ وَقْتٌ
 لِهُبُوبِها وقَتٌ
ولِلْعِشقِ كلّه)

إيه، عطشان يا نهر.
.................................
وأنا في طريقي للوقوف بالمركب قبالة المرسى؛ أشارت لي نساءٌ على كل لون: بيض وسمر، سمان ونحاف. نادين علىَّ لآخذهن جميعًا, فأنزلت زبائني غصبًا وأخليت المركب. فجأة وبعد وقت من ركوبهن وقفن جميعًا، تعرين ليرقصن لي فهنئ الفؤاد، ثم ....،
إيه أيها الحلم، لماذا انتهيت؟
 استيقظت وصعدت من جب المركب إلى سطحه، نفس الوجوه الشاحبة المستكينة، متلاصقين جوار بعضهم، واضعين صررهم البالية تحت أفخاذهم، بعضهم نائم وهو مكموش  فـي نفسه من التعب, وبعضهم شارد ينظر للوراء، وحين تمل العيون وتتعب الرءوس، يصوبون نظرهم  فـي خلسة إلى وجوه بعضهم، يمصمصون الشفاه مذكرين أنفسهم أنهم ليسوا الحزانى وحدهم، ثم يحاولون إيجاد شبه بين وجه من يحدقون فيه، وبين وجه عزيز تركوه؛ رغبة في الأنس.
إيه ولا امرأة واحدة أغازلها، ولا رفيق كأس يزيل كآبة الصمت والوحشة هذه. فكل ما تطل عليه عيني  فـي تلك الرحلة محزن كئيب, إيه عطشان! اصبر يا ابراهيم فبعد قليل سترتوي.
علمني النهر أن أعشق الحياة وأن أقطف بيديي لذاتها, فهؤلاء المخدوعون يذهبون لإفناء عمرهم  فـي أرض غريبة ليحصلوا على المال وبعد سنين طويلة من الشقاء والتعب يرجعون إلى أماكنهم ليشتروا أرضًا أو بيتًا ربما يسكنونه! وأين حياتهم إذًا؟
رحمك الله يا أبي كان كل قولك حكمة، فمنك ومن النهر تعلمت:  "لكي تحبك الحياة يا إبراهيم لا بد أن تحبها, ولكي تحبها لا بد ألا تهزمك أحزانها". كلما فاض الحزن في قلبي لرؤيتي وجوه هؤلاء المتعبين، رفعت رأسي وتخيلت  فـي السماء امرأة لم تخلق بعد، جلدها أبيض ناعم وعيناها عسليتان، نهداها رمانتان, وجهها أملح من جنية البحر, تأخذني لبحر لذة بلا ضفاف, إيه! عطشان ولا ماء في النهر! فحتى النساء اللواتي يغسلن الثياب على الجسر رافعات جلابيبهن وهن ينحنين، لم تظهر منهن واحدة على طول المرسى.
إيه، أول مرة حدقت  فـي امرأة كانت ترتدى يشمكًا، خفضت عيني متحرجًا، لماذا تحدق تلك المرأة فِيّ؟! أكثَرَتْ من الحديث معي وأنا أجمع أجرة الراكبين، افترستني بعينيها وأنا أكلمها, ارتعشتُ وهي تصف لي بيتها  فـي ثبات: ألا تحب اللحم ؟ أحـ...ــبـ...ـه.
  سرت وراءها وعند باب بيتها حاولت الرجوع، لكن جسمي صرخ، دفعت الباب الموارب ودخلت، أكلت لحمها، لكني ظللت جائعًا بعد رجوعي ولم أشبع من اللحم حتى الآن, وأنا خارج من بيتها نظرت إلى عيني وكأنها تقول : "ذابت براءتك واشتهيت الحياة",قبل أن أهجرها لأخرى، كانت قد علمتني ماذا تقول العيون؛ نعم فلعيونهن لغة لا يفهمها سوى المخمورين باللذة، جامعت زوجتي بغير رغبة عندما رجعت، فبكت بعد أن انتهيت، سألتها بضيق صدر: ماذا بكِ؟ ردت واجمة: عرفت غيري؟ وبدلاً من أن أطلب السماح صفعتها بقوة, ثم مسحت دمعها وقبلت قدمها حالفًا لها أنني لم أفعل، كنت أعلم أني غير قادر على البعد عنهن؛ فعوضتها باستجابتي لأي طلب تطلبه حتى ماتت تاركة لي ست البنات "فاطمة" عصفورتي زرقاء العين، آخذ رأسها إلى حجري، وأحكي لها عن ملك البحار المظلمة من له ألف ولد وألف ألف امرأة، من أنزل المطر عندما لوح بعصاه وجعل الطيور تكلم الشجر؛ فتضحك وتطلب مني أن أحكي عن الملائكة الذين يرفرفون  فـي السماء، أحكي حتى يأتي النوم إلى عينيها فأقوم.
إيه "فاطمة"، غاضبة منى لإتمامي زواجها دون رضاها، أعلمتها قبل رحيلي بموعد زفافها فاغتمت، كيف أرفض يا ست البنات وقد خطبك عمك لابنه يوم ولدتِ؟!  تعرف أن الرفض فوق طاقتي، فكيف أنقض عهدي مع أخي؟ وكيف لا أطيع كلام كبيرنا الذي لا يجادله أحدٌ  فـي أمر؟
 إيه يا "إبراهيم"، إياك أن تكون خائفًا على المركب الذي يمتلك ابن أخيك نصفه، لا، لا "عيسى" طيب القلب ويحبها سيفعل لها كل شيء ليرضيها.
 شيئان فـي حياتي الآن لا أستطيع الاستغناء عنهما: حضن النساء الدافئ، والإبحار  فـي النهر. ترى ماذا سيحدث إن عرف ابن أخي ما أفعله ؟ لو أحبها فسيغفر لعمه ويكون سترى وغطائي، أما لو كرهها، فسينغص عليها عيشتها بحكاياتي. لابد من تدبر الحال والحذر منه كي لا يعرف, صحيح أريد أن أعشق من أريد كما أريد، لكن وأنا مطمئن على ابنتي، فلتهنأ الآن يا "إبراهيم"، وأجل التفكير  فـي أحوالك، نعم، ولم لا أهنأ؟ فعندي المال والصحة, كل  يوم تزداد رغبتي فـي الحياة ـ آهٍ, لو ينساني الفقر والمرض !
من قال إن كل النساء سواء؟! النساء كالفاكهة لكلِّ مذاق وطريقة  فـي الأكل، والنفس تشتهي ثم تزهد، لكنها تعاود الاشتهاء،حاولت كثيرًا أن أكون مثل الناس، وأكتفي بواحدة، لكن جوعي يقهرني، ربما كانت طينتي غير طينة الناس التي خلقوا منها.
"عيسى" لَمَّ الشراع وأخذ  فـي النزول من على الصاري. أُصَبِحْ على من أراه مستيقظًا فيردون صباحي بوهن. أنظر إلى المرسى محددًا المسافة, وأذهب إلى الدفة, أديرها جهة اليسار فيجنح المركب ببطء حتى يلاصق حد المرسى، يضع "سليم" فلق جذع النخل ويعبر سريعًا ليدق الوتد الحديدى فـي عمق الأرض، يأخذ من يدي طرف الحبل ليعصبه حول الوتد. يعبر النازلون واحدًا تلو الآخر، يضعون بقجهم على الأرض، ثم يرفعونها ثانية فوق أكتافهم سائرين، أشير "لعيسى" فيتجه إلى ذلك الولد"صالح" ليُعِد نفسه، أرفع مرة أخرى غطاء الجب وأنزل، أرتدى جلبابي الجديد والشال الأبيض, أملس بقطرة من زجاجة العطر على رقبتي وصدر جلبابي, أرتدي بُلْغَتي وأدس قنينة الخمر  فـي سيالة جلبابي. على سطح المركب يحمل الولد"صالح" بقجته ويقترب مني، فأقول:
 ـ سنذهب الآن لشراء لوازم للمركب، تعالى معنا لبيع العقد, وعد مع "سليم".
انقبض وجه الولد ـ كأنى قلت: اذهب معهم ليذبحوك ـ خفض رأسه بيأس ثم رفعها موافقًا، خَطَوتُ على جذع النخل عابرًا إلى المرسى, استدرت فرأيته يقف مضطربًا  فـي منتصفه، لا هو راغب  فـي القفز ولا هو راغب  فـي الرجوع، دنوت منه وآخذت بيده:
 ـ ما بك لِمَ تخف وأنت تركب ؟
تلون وجهه بالخجل ولم يرد. شُغِلتُ عنه برؤية الحقول التي كستها الخضرة، رفلت نسمة رطبة بطرف جلبابي همست: إيه, نسيمك حلو أيها الصباح:
 عند نهاية الطريق موقف عربات خشبية، قفزت على سطح إحداها وجلست إلى جوار المكاري الذي هز لجام حماره، ثم ضربه بالعصا على مؤخرته فسار, نظرت إلى المكاري وقلت: 
ـ نفس علامات العربة المسروقة, مصنوعة من الخشب وبأربع عجلات, ويجرها حمار أبيض ذو ذيل.
تلوَّن وجه المكاري فضرب حماره بغلظة ونظر لوجهي وقال مدافعًا عن نفسه:
ـ ربما تشابهت مع العربة المسروقة. 
مبتسمًا أَخبطُ على ظهره فيعلم أني أمازحه:
 ـ إلي أين ؟
 ـ دكان "نسيم" الصائغ.
يهز المكاري رقبته ويرخي لجام حماره ويشده فتسرع العربة. ألاحظ تحديق "صالح"  فـي العربة فأسأله:
 ـ ألم تركب عربة من قبل ؟ 
 ـ نعم
 ـ من أي بلد أنت ؟
 ـ أنا من جزيرة.
 ـ  و ما اسم جزيرتك؟
ينظر إليَّ بحيرة:
 ـ لا أعرف لها اسما.
أنظر إليه فأرى صفاء عينيه فأصمت، الخضرة تختفـي لتظهر البيوت الطينية القصيرة بأبوابها الخشبية المفتوحة للشمس لتضيء مداخلها. بعد مسافة أري بيتًا مهدمًا فأتذكر قول أبي: "إن أنفاس أصحاب البيوت تحميها من الموت" وعندما يلاحظ دهشتي يحدق فِـيَّ  قائلاً: "كل شيء على الأرض يحيا ويموت يا إبراهيم". بعد مسافة تتلاصق البيوت، تصنع شارعًا طويلاً، البيوت كوجوه الناس مختلفة رغم تشابه هياكلها، عينا "صالح" ما تزالان معلقتين بعجلات العربة الدائرة، يحس بتحديقي فيرفع رأسه خجلاً. يتسع الشارع وترتفع هامة البيوت ذات الطابقين، ها نحن أمام محل "نسيم" الصائغ، أعطى المكاري أجرته وأتقدمهم إلى داخل المحل، ينتفض "نسيم" من على كرسيه. يعانقني ثم هامسًا فـي أذني يقول: "كيف حال نسائك" أضحك وبصوت هامس أقول: "لا أحتاج إليهن, فرأس الثعبان لم تعد ... " يرد: " يموت الزمار ....", أقاطعه وأنا أنظر إلى صالح: "يخصني، ويريد أن تشتري منه عقد أمه" يحل "صالح" جلبابه المعقود مخرجًا العقد، يعطيه لي, فأعطيه لنسيم الذي ينظر فيه مرتين:
 ـ ليس ذهبًا يا "إبراهيم"، إنه نحاس مطلي!
 ـ ليس ذهبًا؟!
 ـ ولا يساوي شيئًا.
ألح عليه راجيا أن يتأكد ثانية، فيهز رأسه علامة التأكد دون أن ينظر فيه. أنظر "لصالح" وبصوت خافت أعيد ما قاله لي "نسيم"، فيخطف العقد من يدي, ويهرول مسرعًا دون أن يسمع بقية كلامي. يزعق عليه "سليم" فلا يرد. فآمره أن يبحث عنه عند العودة وإن وجده, يأخذه للمركب ليعمل عليها؛ فإنه يتيم الأبوين، فيقول نسيم: "طيب القلب رغم فجرك يا إبراهيم" " ويضحك ويطلب من عامله أن يعد لنا قهوتنا والنارجيلة. ندخن حتى يحين ميعادي فأودعه، أركب أنا و"سليم" عربة إلى السوق. نشتري حبلاً وشايًا وقدحين وفخًا للصيد غير الذي تلف، وقبل أن يعود "سليم" بما اشتريناه إلى المركب أذكره بالبحث عن "صالح" ثم أتركه، أدلف من شارع إلى شارع حتى أصل، أطرق الباب فتفتحه لي، أدخل بسرعة وأغلقه بسرعة, أستنشق رائحة عطرها وأنظر لوجهها، فتبتسم:
 ـ أيعجبك ؟
 ـ ماذا ؟
 ـ عطري؟
 ـ ليس وحده
تأخذ بيدي فأدلف معها عابرًا وسط الدار إلى حيث حجرتها، يدها دافئة كجسدها الرجراج. تغلق الباب فأصرخ:
 ـ عطشان.
تهم بالخروج، أمسك كفها وأجذبها بقوة:
ـ لكِ.