2011/08/12

"ألوان غامقة" قصة قصيرة لمحمد سلطان

ألوان غامقة*
محمد سلطان
أليس من الغريب أن تطرأ على وجوههم علامات التهكم والانزعاج ؟
 فجأة وجدوها ترتدي ثوبها الأسود و تزين ملامحها,  لكن بألوان غاية في القتامة والدكنة.
 الكل يقـف مشرئبا؛ فقرارها لن يكون في مصلحة البعض لدرجة أن أحدهم مال على الآخر في استياء:
ـ تفتكر إنها هتـ.. ؟
لكن أحد المجاورين له ألكمه فأسمعني طقطقة أسنانه:
ـ فال الله ولا فالك.
حقا.. فهي منذ لحظات كانت كفتاة لم تتعد الخامسة عشرة,  غاية في الهدوء والصفاء.. تشارك الكل أحوالهم المتقلبة..  بسيطـة جداً مع عبده الفران والأسطى محروس الحـلاق.. مضيئة في عيني الشيـخ قدري الكفيف شيخ كتاب القرية,  أينما وجد أمامه صينية الفتة المعمرة باللحم والزبيب,  ومتى ساقته قدماه ناحية سرادق أو شـادر لمناسبات الولائم والذبائح,  حيث لا يفوته عزاء أو تهنئة متشبثا بحجة "الواجب".
أمـا أنا؛ فكثيرا ما أجلس أتأملهـا في صمت؛ وأتهجى في ملامحهـا ملامح قريتنا الغبية.. لقد انطفأت الوجنات المضيئة وتحولت إلى وجوم وكدر,  لا أبصر فيها سوى الشقوق المنحوتة في كفى والدي,  والشقاء المرسوم على جبهته منذ خمسين عاما.
قرارها أصاب القرية بشلل نصفى في أطرافها البحرية,  أجلس أهلها البؤساء على المداخل والمخارج يسألون العفو والرضا,  وجعلني أتقهقر بذهني تجاه جدي المسن.. راقداً على ركبتيه النحيلتين في انكماش من شدة البرد القارص,  بجوار كومة النار المتوهجة يداعبني :
ـ أصبحنا في آذار و سيقع الجدار.
ولأنني لا أجيد ارتداء الكلاسيك من الثياب,  أو حتى إحكام ما يسمونه "رابطة العنق" تلك المدلاة من الرقبـة,  كنت أخشى أن أخلع جلبابي أو أنسى مهارتي الفذة في إحكـام "الكوفية الوبر" حول عنقي.. ولأن ما بيني وبين كأس "الفودكا" مقدار عمر يحـاكى عمر قريتنـا الشقية.. لم أقلع مرة عن إدماني لكوب الشـاي "التقيل ".. أتأبط حذائي و أجول بحثا عن الشيخ الكفيف ــ مهون عزائي الوحيد في القرية ـ وما أكاد أجده حتى تنفرج أساريري المظلمة:
ـ الولد ابن قنديل الكلب قنديل الجزار أعطاني رطليـن عضم وقال لي اعمل شوربة تسند رجليك ويدوب وصلت الدار وقلت لأم شعبان اعملي لي شوية شوربة محبشة إلا ولقيت رطلين العضم في ظهري وشقايقى خشبة خشبة.. أتارى ابن الملعونة مشيلنى طريحة خشب.
وما ينتهي الكفيف من أقصوصته حتى أرتكز على الأرض غير مقاوماً الضحك.
ثم ألمحهم.. يرقبونها.. هم مزيج من الفؤوس والشباك,  بعضهم يحمل المناجل المسنونة,  والآخرون يستندون إلى قوارب قد نفذ منها ضوء الشمس.. أطراف القرية البحرية تلاطمها أمواج البحيرة في شبة مضمار يحف به سياج من غيطان القمح والفول ـ الباهت خضارها ـ فالترع والقنوات صارت يابسة,  وأضحت عامرة بالقوارض,  ولو بقيت على هذا التوالد لاستعمرت القرية.
 يا لحسرة الريس سليم حينما يجد أن ما يصارعه على البقاء "فأر" من فئران البراري.. ترى بأي نظرات سيشيعه ولده "الهايف"؟! و بأي لونِ ستنقلب سحنته المغمورة بتوجع التعساء؟!!
"ولم كل هذا الاهتمام بهم؟"
"عند ك حق".
هم أيضا يستحقون ما أصابهم من هم وغم,  ولا عزاء لهم إلا في هذا التجمع الذي يطرحونه بعد كل وجبة للتهامز والتنابز بخلق الله,  فثق أنهم لن يتركوا أهداب الحديث عنك إلا عندما يرتطم جسدي النحيل بأحداقهم,  ونصبح من العشرة المبشرين بالفتنة.
الآن.. أظنها فرغت من التجمل بالعبوس والتحلي بالسواد,  واختفت شمسها.. تدلت منها الأشعة كأهداب مكتحلة..
 لحظات وعلا صراخها الرعدي في غضب وجهامة, وبدأت ترسل أمطارها.  
ـ خلاص مطرت يا رجالة !
فانطلق بعضهم حاملين فؤوسهم ينظفون فتحات المياه والشقوق الموجودة بالأرض كأطباء يتمنون للجرح أن يندمل ، أما الآخرون فانتحوا بشباكهم منزوعي الظل كل إلى بيته بتبلد واستياء.
لقد فرجت السماء باكية عليهم,  وخلت الساحة تماما من البشر.. غير أنى ألمح الشيخ الكفيف متحفظا على ابن قنديل الجزار..علقه من ساقيه على أحد القوارب,  وتالِ عليه ما يتيسر له من آيات الذكر الحكيم,  ويمطره هو أيضاً وابلاً من الضربات القاسية بواحدةٍ من سعف النخيل.. ...

*من المجموعة القصصية "ألوان غامقة" وتحمل نفس العنوان، فازت في مسابقة الشاعر عماد علي قطري

ليست هناك تعليقات: