2011/08/31

فصلان من رواية هشام بن الشاوي الجديدة : "قليلولة أحد خريفي "

قليلولة أحد خريفي
هشام بن الشاوي
الفصل  الثاني
بعد الظهيرة، تغري الشمس الخريفية  بالاسترخاء اللذيذ، والسكون يخيم على حي النجد. الأحد يوم الكسل المقدس.. تتمدد فوق  الرمل، تحس بدفئها يتسرب إلى مسامك، والقطة الوديعة  تتمسح بساقك، كأنما تشاطرك  افتقاد أنيسكما العجوز. ترنو إلى كوخ عبد الله بآجره الرمادي، تستغرب تصميمه على  البقاء في "البرّاكّة" وسقف الطابق الثاني  قد قارب البناؤون على الانتهاء منه، بينما بقية العسس  اختاروا إحدى الغرف الدافئة بالورش، تفسر الأمر على أنه يفضل السكن في "البرّاكّات"، التي التهمت عمره.. تحدق في تجاويف  سدت بمزق أكياس الإسمنت وأوراق الجرائد اتقاء لشر برد ديسمبر. تتأمل السقف القصديري، الذي رميت فوقه أشياء كثيرة، أغلبها لا يصلح لأي شيء، بيد أن عبد الله يحب "القُـش" مثل الجرذ، كما يقولون عنه، ويقضي سحابة نهاراته في البحث عن سقط المتاع  في الجوار.

 حين  يطلب منهم في فترات استراحتهم مساعدته في ترتيب الكوخ، يعيدون رمي تلك الأشياء التي لا تصلح لأي شيء،  متعجبين  من وجودها بعد أن تخلى عنها أصحابها، لكنهم  لا يندهشون عند اختفاء بعض تلك التحف صبيحة  يوم إثنين، فيوقنون أنه أخذها معه إلى البادية، ويتساءلون  فيما بينهم : "من يقبل أن يقله معه، وهو مثقل بكل هذا "القش"، فمن يراه من بعيد يظنه معتوها؟"، ويشفقون على شيخوخته  التي لم يرحمها أبناءه، ملقين عليهم اللوم. يتألمون أكثر لأنه لم يفلح في أن يتعلم المهنة ويصير بناءً ماهرًا مثلهم أو فلاحًا، وأقرانه صاروا ملاك أراض، لأنهم يعرفون أن من في مثل سنه تلفظه أوراش البناء، بلا رحمة... ويشيرون إلى صلة النسب، التي تربطه  بالمقاول، الذي شغله مكتفيًا بحراسة الورش، لأنه لن يتحمل الأعمال الشاقة..  ومن قبل، كان يعمل مياومًا  - نهارًا- في الورش، ويتحمل  - ليلًا- مسؤولية كل شيء فيه.

اعتدت منذ أعوام أن تسمع كل من يعرفونه ينادونه بـ "ولد عمي"، وأغلب الظن أن التسمية مستوحاة  من أغنية شعبية لمطربة دكالية شهيرة، وكثيرًا ما تناديه مثلهم.. بدل "عبد الله خالي"، كما كنت تفعل في طفولتك،  على رغم كونه خال أمك. شيء ما مبهم كان  يشدك إلى "ولد عمي".

 تعلو شفتيك ابتسامة مغتصبة، حين تستحضره، وهو يحكي لك كيف أن خاله المقاول الراحل ضبطه يغني في الدرج، وهو جالس محتضنًا الكيس، الذي كان  يحمل فيه  الرمل إلى الطابق العلوي  "جُوجْ بْحالي يْسيزيوْ  خالي". لم يغضب الخال من غناء ابن أخته فرحًا بأن إثنين مثله سيجعلانه مفلسًا.
كثيرون يتغاضون عن أخطائه الصغرى.  ومن يعاشره - عن قرب-  قد يتقزز من وسادته، التي بلا لون من كثرة الأوساخ، والأردية  المهلهلة التي  ترك فيها أصدقاؤه  الفئران والجرذان ثقوبًا تخلد  ذكرياتهم معه، وبعد تناوله ما تبقى من عشائه البائت يرمي أوانيه جانبًا ببقاياها الدسمة، برتقالية اللون، مكتفيًا بصب قليل من الماء فيها، ولن يغسلها إلا ليلًا  حين يحتاج إليها...

أفراد عائلتك، كانوا يستغربون لارتباطك به في حين لا أحد يحبه تقريبًا، بينما تعامل باقي العائلة بفظاظة، منغمسًا في عزلتك الفاخرة. تحتمي بالصمت حتى لا تفضح نفاقهم، وتظاهرهم بمحبته في حضرته. تخمن أن انعزاله في أكواخ  الأوراش أفسد علاقته بكل من حوله، حتى أبناءه. ففقد احترام الجميع.. الجميع يرونه مخبولًا ومعتوهًا لا يطاق، بسبب مزاجيته...

 بيد أن ما يثيرك أكثر قدرته العجيبة على جعل حيوانين على الرغم من العداوة الفطرية بينهما يتآلفان. حين تزوره  - في غير أيام الآحاد للسؤال عنه-  تجده يسير نحو الخم الصغير المجاور لكوخه، والدجاجات الثلاث والديك اليتيم يتبعونه، وهو يحمل إناءً به بعض الحبوب التي جلبها من القرية، فتتبع الكلبة - التي تكون حرة طليقة، ويربطها مساءً حتى لا تبتعد عن المكان أو يغويها أحد الكلاب- والقطة الموكب الصغير، وكأن تلك المخلوقات تغار من بعضها، وكل واحد منها يود أن يستحوذ على حب  "ولد عمي".

تراه بنفس قامته المديدة ويديه المعروقتين بأصابعهما الرفيعة، المتغضنة كوجهه. وجه لفحته الشمس، يكسوه زغب  أبيض مهمل، لا تصادق الموسى خديه  إلا عندما يقرر السفر إلى القرية، فتسري الهمسات والغمزات بين البنائين، في ظهيرة ذلك السبت، ويدركون بأنه قرر أن يشن غارة على قلاع   "التيبارية"، ولا يتضايق إن  نطقوا باسم زوجته...

أحيانًا، يقرر السفر دون استشارة المقاول، فيغضب عندما يفاجئه بقراره السفر هذا الأسبوع، مشيرًا  إلى وجود سلع جديدة قد تتعرض للسرقة  في غيابه.. فيصمت عبد الله، على مضض، شاخصًا ببصره ناحية  قطيع غنم بعيد، يرعى بالقرب من السكة الحديدية.

 هل يحتاج المرء أن يستشير أحدًا عند حلق ذقنه؟
سيبدو الأمر مضحكًا، وهو يتوجه  ناحية سيارة المقاول في صباح يوم سبت ليبلغه بقراره السفر فجأة، لأنه  يعرف أنه في مثل هذه الأوقات يكون متضايقًا، ويعتقد أن ذلك  بسبب الأموال التي سيصرفها مساءً، كأجر للعمال، وسيغضب أكثر إن طلب منه البحث عمّن يبيت الليلة بــ"البراكة"، ولا أحد يحب قضاء ليلة السبت الواعدة  بالمباهج  في كوخ منعزل.

أبلغك أحد البنائين، وهو غارق في الضحك، حين اعترض قريبه على ذهابه، بحجة أنه كان هناك الأسبوع الماضي، وتساءل : "ماذا  ستفعل هناك؟!". انسحب  عبد الله صامتًا، وسمعوه يكسر الأواني، وهو يغمغم : "هو ينام في حضنها كل ليلة، وأنا يسألني : لماذا سأذهب وماذا سأفعل؟".

رنوا إلى  المرأة  السمراء الدميمة، الساكنة بأحد الدواوير المجاورة، وهي تمر بمحاذاتهم بقطيعها، راكبة أتانها، يسبقها ابنها، وهو يهش بعصاه على الغنم، واقترب كلبها من كلبته، كما اعتاد أن يتحرش بها - بالكلبة- كل مساء، فحدق "ولد عمي" في  ركوبها  الجانبي للأتان، الذي يبرز عجيزتها بشكل فاحش. لم يتحمل  تلك الاهتزازات، فجن جنونه وطرد العمال، رمى الكلب بحجر، وركل الكلبة التي تعلقت  بساقه. فانكمشت داخل برميل قديم صدئ، لم يعد صالحًا للاستعمال، وجّه  عبد الله إحدى فتحتيه ناحية الجدار، قريبًا من باب الكوخ، حتى لا يقترب  أحد منه في غيابه.

 منظر القطة والكلبة المسترخيتين تحت أشعة الشمس في عناق مدهش، جعلك تصاب  بعدوى الرغبة في النوم، تمامًا مثلما تشاهد على  شاشة التلفزيون  شخصًا يتثاءب فتجد نفسك لاشعوريًا تتثاءب. (هل تجعلك عزيزي القارئ كلمة "تثاءب" تتثاءب مثلي الآن؟ أرجوك، لا تنم قبل أن تكتمل الحكاية). 

تسمع أنين الباب، وهو يفتح، والكلبة تنبح ذلك النباح الأشبه بالتوسل المتوجع، كما تفعل الكلاب  عند رؤية صاحبها الغائب معبرة عن أشواقها الجريحة بكل جوارحها، تنتفض من غفوتك الكسلى. تتمطط...

كان مجرد حلم..
 لا شك أنه تسلل خفية إلى القرية، لم يعتد أن يتغيب حتى هذا الوقت عن الكوخ، حين يخرج للتسوق أو التنزه، ولا أحد بالجوار يمكنك أن تسأله عنه. أزف المغيب، وبدأت الدجاجات تحوم حول باب الكوخ مطالبة بنصيبها  المسائي من العلف، ومثلها فعلت الكلبة والقطة.. مهرجان صغير من التوسل اندلع بالقرب منك.
 إنه مهرجان الجوع، ولا أثر لعبدالله. ما العمل؟ من يتحمل حب كل هذه المخلوقات غيرك، يا بريطل؟

تلمح رجلًا مجلببًا، أعرج بلحية شمطاء، وسحنة كئيبة، تحاول أن تتذكر أين رأيته من قبل، يصدرُ صوتٌ كريهٌ عن بومة بالجوار. تلمحها فوق العمود الكهربائي. تستغرب وجود هذا العجوز السبعيني في مثل هذا الخلاء: "أمازال حيا حتى الآن؟".  لقد سبق أن رأيته في طفولتك، وكنت تتشاءم من رؤيته، لأنه صديق وفيّ لعزرائيل.. حيثما شم رائحة الموت، يمم وجهه شطر ذلك المأتم، تخمن أنها  تلك الشراهة المعهودة عند الفقهاء، وحبهم الخرافي لأطباق الكسكس. تبصق على الأرض، وتسارع برشق الطائر ذي الرأس المدور بكل قوتك، كأنما ترمي طائر الخرائب، وربيب المقابر..  بحجر واحد.
 
الفصل  الرابع
وجدتني وحيدًا في الشارع الخالي، أتسلى بتأمل انعكاس ظلي على الإسفلت. تلوح سيارة أجرة من بعيد. أركض في اتجاهها : " ككل إثنين، يغادر الكهول الثلاثة قراهم تحت جنح الظلام، يلتقون عند محطة "الطاكسيات" بأحد أولاد فرج. يستيقظون مبكرًا، حتى يباشرون عملهم في الورش على الساعة السابعة صباحًا".  أشير للسائق بيدي، أفتح الباب، أركب دون استشارته، ألقي التحية مشيرًا إلى وجهتي: "محطة القطار". أرنو إلى ساعة هاتفي الجوال. قريبًا من المحطة، شردت نظراتي، وحي النجد  يلوح غارقًا في سباته اللذيذ، والعمارات التي انتصبت على ضفتي الشارع حجبت البيوت من الجهتين، أحدق في ساعتي : "أين وصلوا الآن؟ أي جنون هذا.. إنها مجرد قصة. تبًّا لك، يا نور الدين. أنت تلاعبني.. حسنًا، سنرى من سيضحك في الآخر. أتمنى أن تكون ليلتك الأولى في "البيجي" رائعة، وحتى لا نربك القراء، فلا داعي لسبق الأحداث.

تذكر جيدًا، يا صديقي عنوان الرواية: "قيلولة أحد خريفي". نحن ما زلنا في يوم الإثنين، وهذا اليوم  صار في خبر كان بالنسبة لك، حين خلدت للنوم، وطلبت مني استلام دفة الحكي. البناؤون في طريقهم إلى الورش. تريد أن تعرف سبب القبض عليك. يبدو أنني تورطت في حبك، وهذا سيجعلني رحيمًا...". تتوقف سيارة الأجرة أمام مبنى المحطة، أواصل مشاهدة شريط سينمائي لا يراه أحد سواي، وأنا أتوجه نحو شباك التذاكر: "يتوقفون أمام "البراكة" الموصدة..  يلوح على وجوههم القلق لغياب  "ولد عمي". في مثل هذا الوقت ألفوا أن يكون مستيقظًا يحتسي الشاي ويدخن سيجارته الرخيصة "كازا سبور"  casa sport بتلذذ"، سألني  الموظف عن وجهتي، وأنا غارق في شرودي البهيج :

casa port-  (محطة الدار البيضاء- الميناء).

"يتوجهون إلى الداخل لتغيير ملابسهم.. يلفت انتباههم أن الخدم (المتعلمين)، الذين يسكنون بضواحي المدينة لم يحضروا بعد، لم يتأخروا من قبل، فقد اعتادوا قطع الكيلومترات الستة بدراجاتهم الهوائية المتهالكة كل يوم، وحتى "المعلم التيباري" لم يحضر أيضًا. يقترح أحدهم أن يعملوا لوحدهم، فهم لا يحتاجون إلى خدم، مادامت أشغال النجارة المسلحة لم تنته بعد. يقترح "الفرجي"- أكبرهم سنًّا- أن يعمل رفيقاه فوق السقالة، ويبقى هو تحت ليمدهما بما يحتاجان من ألواح خشبية. يخبرهما أنه سيذهب لتجهيز الشاي، يمزق  صمت الصباح الندي بسعاله، وعند باب الكوخ تتعلق الكلبة بساقيه".

 أسترخي في إحدى المقصورات، بعض المسافرات يتقنفذن فوق مقاعدهن، أتذكر غابريال غارسيا ماركيز و"الجميلات النائمات". أقاوم ضحكة تكاد تنفلت مني، وأنا أقول لنفسي بصوت مسموع : "صباح الخير سي نور الدين". هذه الجملة لم تكن تحية بريئة، وإنما تشف من قريب "ولد عمي"، الذي يحاول التمرد عليّ. تصرفه الأرعن قد يجعل كل الشخصيات تتمرد على الأقدار الروائية المصنوعة لها سلفًا.

"في المطبخ، تمدد أحد البناءين قرب تجويف إسمنتي مكعب، يشبه حوضًا صغيرًا تلتقي عنده قناتي الصرف الصحي، مد يده في القناة الأمامية متوغلًا أكثر في امتدادها، وحركها في عدة اتجاهات، وبحث في القناة الأخرى. ذهل الرجلان لعدم عثورهما على مطارقهم، ونادى أحدهم على الفرجي  بصوت عال: "وا الفرجي، فين(1) البلوطات(2)؟ واش حولتيهم من بلاصتهم(3)؟ باش غادي نخدمو (4)؟". استغربوا أن تسرق المطارق فقط، وكل شيء مرمي هنا، ولا  أحد سواهم يعرف أنهم  يخبئونها هناك ليلة السبت، لأنهم يعلمون أن عبد الله لا يلازم "البراكة" ليلة السبت ونهار الأحد.. عاتب أحدهم رفيقيه مشيرًا إلى أنهم لو وضعوها في "البراكة" لما تركت الكلبة أحدًا يدخل. رد الثاني بأن اللص يعرف بأن "البلوطات" غالية الثمن، وخفيفة الوزن أيضًا ولم يسرق أي شيء آخر.. لو كان اللص عاديًا لسرق الحديد أو أكياس الإسمنت أو حتى الأعواد والنقالات وباقي المتاع.. قد يسرق كل شيء، مادام لا أحد يوجد هنا. لكن هذا لص خبير بأوراش البناء.

 جلسوا عند بوابة الورش كما المعزين، وبعد لحظات، لاحت الشمس تتسلل من خدرها الشرقي تلقي تحية الصباح على الكائنات في استحياء، وبالجوار، كان "بالوما"، حارس الورش المجاور يتمطى بجسده الضخم، ويتثاءب بصوت  مقزز..".

أتثاءب، أرنو إلى أشعة الشمس تنعكس على ملامح امرأة تجلس على بعد خطوات بالصف المعاكس. ألفيتني أقارن  بين جمالها وبين تلك العانس البنورية، التي ذبل فيها كل شيء. كانت تلح في طلب رقم هاتفي المحمول، بحجة أن تتصل بي. التقينا لقاء غرباء وافترقنا.. فلم تصر أن نلتقي مرة أخرى، مع أن كل شيء حدث بسرعة ويسر؟.. خيل إلي أن  ركاب الحافلة - يومئذ- كانوا ينظرون إلي نظرات غير بريئة. ملامحها تشبه تقاسيم نسوة  بدويات أراهن في الأسواق الأسبوعية.. بأجسادهن النحيلة، التي شاخت قبل الأوان، تبدو أكبر من سنها.. عيناها وقحتان جدًا، تسيلان شهوة، وفاكهة صدرها تنتصب في شموخ فاجر.

 قالت : أعجبتني وأريد أن أتزوجك. قلت لها إنني عاطل عن العمل. ردت بلهجة واثقة: اجلس في البيت وأنا أعمل.. لذت بالصمت، وبعد تفكير، للتخلص منها بطريقة لبقة هتفت: أخشى أن يرانا أحد..

من يتزوج امرأة وهبته جسدها في سرعة قياسية؟ بيد أن ما جعلني أضيق ذرعًا بها حديثها  المتحسر عن صديقتها وصاحبها النذل الذي تخلى عنها، ووعيدها بأنها  لو كانت مكانها لفعلت كذا وكذا... لذت بالصمت. قلت لنفسي : هو كان  يعاملها كبغي.. مثلك تمامًا.

أتأمل المرأة التي تتحاشى نظراتي. بنظرة سريعة متلصصة على ساقها وكتفها أدركت بأنها ليست من ذلك النوع اللحيم المثير، بيد أن وجهها كان فتانًا.. جمالها  مشوب بذلك الحزن النبيل.. الآسر. كانت تنشغل بتقليب أوراق قبالتها، وهي تحتمي بالمقعدين الأماميين، فلا أرى منها سوى طرفي جلبابها وسروالها وحذائها. أتساءل :  لم حرمتني الحياة من حقي  في السعادة؟ نظراتي لا تفارقها، وكلما تململت في جلستها رأيت عينها فقط، من بين المقعدين، حيث تعمدت أن تجلس بينهما حتى لا أرى وجهها كاملًا، ولتتفادى وقاحتي.

بنوع من الوله العذري أحدق فيها.
أحس باختلاجة في صدري..

 انتشل القلم من جيب داخلي.. أدون كلمات، بسرعة، على تذكرة القطار، أختلس نظرة إليها... تلتقي عيوننا. هل تتصورين أنني سأكتب رقم هاتفي مثلا؟ أختلس نظرة وأنشغل بالكتابة. أضع القصاصة في جيبي، أرنو إليها مجددًا.. أمسك هاتفي الجوال، أنقر  على زر الرسائل، أختار : "رسالة جديدة". بحروف لاتينية أشرع في تدوين الأفكار، التي ألهمتني إياها فاتنتي الجميلة، وأخزنها على الهاتف. لو كنت   بطلًا في رواية أو فيلم سينمائي لخلعت قميصي وشرعت في الكتابة عليه، لأسرق إعجابي جميلتي، ولكن الحياة ليست رواية جميلة  نقضي في صحبتها لحظات، ثم ننساها بسرعة، مثلما اعتدنا نسيان كل شيء. لا مكان للجنون الشهي في الحياة، يا نور الدين.
 حين سألتني البنورية عن عملي لم أقل لها إنني كاتب، كان ردي حاسمًا وقاسيًا: "عاطل عن العمل"، فكيف أخلع قميصي لأكتب عليه؟.

انتهيت من التقاط كل حمائم الإلهام المحلقة، والجميلة مصرة على أن تتفادى نظراتي المتعبدة، وفاض قلبي بالحزن حين رأيت خاتمًا في إصبعها.. لا أستطيع أن أميز إن كانت مخطوبة أو متزوجة، كل ما أعرف أنني وجدتني  على أهبة البكاء، وغادرت المقعد حين اقترب القطار من المحطة. أتنهد، وفي خيالي أستعيد تفاصيل آخر مشهد كتبته : "يسأل "بالوما" "الفرجي" الذي تبدى مكلومًا: "لمَ لمْ تعملوا اليوم؟ فغمغم الكهل، وهو ينفث دخان سيجارته  الرخيصة في حنق : لم يحضر أحد اليوم". 

 ألقي نظرة أخيرة على جميلة المقصورة. أتعذب بإصرارها على تجاهلي.. حتى نظرة عابرة لا تجود علي بها، وأردد في سري :"صبّ "بالوما" بقايا عشائه في صحن الكلبة، راح يربت على رأسها في حنو بالغ، وهي تلعق المرق بفرح، وهتف : "لقد رأيت ذلك الفتى الغريب، الذي يزور عبد الله أمس... هنا".

الآن، يمكنني أن أتسكع في شوارع البيضاء، في هذا الصباح الدافئ، يا نور الدين. إني أرى أشعة الشمس تتسلل من كوى السرداب، و تصافح وجوهكم.  ينادي شرطي على من سيتم ترحيلهم إلى المحكمة الابتدائية للمثول أمام وكيل الملك، فيقفون في صف أمام البوابة الثقيلة، وزوار منتصف الليل، أولئك السكارى، الذين اصطادتهم الدوريات الليلية من أمام الحانات وعلى قارعة الطريق.. يخرجون من الزنزانة المجاورة، وينضمون إليكم، وأحد رجال الشرطة يناول نزلاء سطل ماء وقطعة قماش لتنظيف الدهليز... أرى على ملامحك الاستنكار، يا عزيزي نور.
سأمنحك فرصة  السرد بضمير المتكلم صبيحة يوم الأربعاء، أيها الكئيب... الآن يجب أن أعود إلى حادثة سرقة فيللا سيدي بوزيد.. سردنا يحتاج إلى بعض الطرائف. هل تذكر "التيباري" و"بعية"؟ من دون شك، أنت تعرف أنهما من أبطال روايتي البكر "كائنات من غبار"، وأنني جعلت "التيباري" حجر زاوية قصتي "خيط من الدخان"، ومع ذلك لن أغير اسميهما.. سأحس بالوحشة لو فعلتها. ستقول لي لبنى: لقد عدت إلى تمجيد ذاتك في الرواية مرة أخرى؛ بسببها ألغيت فصلين كاملين، وربما لن يعجبها إقحامي للعانس البنورية!

رن هاتفي الجوال، ساورني القلق، لا أحد يتصل بي من الأصدقاء في مثل هذا التوقيت. الرقم غريب : ترى من يكون؟..  وبلا مقدمات، جاءني صوت أحد الأقارب متحشرجًا، مختنقًا بالدموع.. تضاعف قلقي، لم يترك لي فرصة السؤال، ورماني بقذيفة:  "ولد عمي مات".

---------------------------
: أين هي؟
: نوع ممتاز من المطارق يستخدمها البناؤون في النجارة المسلحة.
: هل حولتها من مكانها؟
: بماذا سنعمل؟

ليست هناك تعليقات: