2011/08/14

عبدالجواد خفاجى يكتب عن: الداعر والثعبان

الداعر و الثعبان
عبدالجواد خفاجى
أحيانا يلعب المثقف دوراً قصدياً في إرساء دعائم النظام، عندما تكون عينه على مائدة السلطان، هذا النموذج من المثقفين موجود في كل العصور وحول كل السلاطين وهو نموذج مطلوب لكل حاكم، يضم المفتي والشاعر وشيخ المنظر والصحفي ، كما يضم من هم أرخص من ذلك من حملة المباخر والشنط ، وعمال التشهيلات الثقافية والمؤتمرات الشكلية، وسافحي المال العام والقوادين والمثفقين والطبالين، سيماهم في وجوههم من أثر الابتسام الكذوب، تعرفهم من مؤخراتهم المصرورة المفلطحة من كثرة الجلوس على المقاعد، وكثرة من حولهم من الداعرات، كما تعرفهم بتفاهتهم وضحالتهم الثقافية وابتعادهم عن كل ما هو حقيقي في الحياة .
ولعله نموذج رخيص ، لأن ثمنه معروف، إذ يكفيه ملعقة واحدة من ملاعق السلطان، وبعض الدفء والأمن في معيته، وغالباً ما يسبغ السلطان عليه لقب "النخبة"، رغم أن السلطان يعرف تماما أن هذا النموذج هو مجرد داعر ثقافي رخيص، وهو في النهاية ليس مثقفاً حقيقياً ، لأن الثقافة دور اجتماعي وموقف وقضية، وهو في النهاية ليس حراً ؛ لأنه لا يعبِّر بعيداً عن إرادة السلطان وزوجته السلطانة وابنه ولي العرش ، هو نموذج يدين بعقيدة الأب والابن والسيدة الفاضلة.. ولقد شهدت مصر في فترة مبارك أسوأ وأرخص نخبة ثقافية عرفها تاريخ مصر منذ المماليك ، فلم يشهد تاريخ مصر مثل هذا النموذج الذي كان كل همه تمييع الرأي وتسويغ أفاعيل النظام وأباطيله وفساده، وفوق ذلك ازدراء ثقافة الشعب والسخرية منها، والاستئثار بالمناصب الثقافية والسير في ركاب السلطة بعيداً عن مشكلات وهموم وقضايا الوطن والمواطن.
أما النموذج الثقافي الأرخص من النموذج السابق هو ما يمكن أن نسميه "المثقف الثعبان" ، ولعله وصف دقيق يتناسب مع هذا النموذج، إذ يتصف الثعبان بتغيير الجلد من موسم إلى آخر، غير أن دوره محدد بمجالات الشر، غير أنه لا يحفر ولا يبيت في العراء، غالبا ما يسكن الجحور الجاهزة، وغالباً ما يزحف خفية إلى هدفه ، نافساً سمومه بغير رحمة وبغير مبرر واضح غير منفعته هو، هو ليس مثقفاً في الحقيقة ـ وإن علت شهرته ـ هو في الحقيقة مرتزق ثقافي، يمكنه أن يمارس الدعاية لمن يدفع فوق الأرض من السلاطين في الداخل أو الخارج، هو متاجر بالقضايا، وهو صاحب دكان وصاحب بضاعة ويهمه الربح، ولكي يمارس دوره عليه أن يبدأ بالدعاية لنفسه ويصنع اسماً ولقبا ثقافياً يتقنع خلفهما.
إنه النموذج الأسوأ لأنه غير واضح الأهداف، يتخفي في ثوب المثقف الحقيقي ومهنة ومهمة ، وهو ليس كذلك. ولأنه متبدل، ونفعي، وخبيث وشرير بطبعه يتحاشاه السلطان ويستبعده، هو خادم من يدفع ، لهذا يلجأ إليهم أحيانا النظام الحاكم من باب أنهم جواسيس ليس إلا؛ ليلعبوا أدواراً محددة، مثل المعارض الشكلي أو المخبر السري .
الواقع الثقافي في مصر شهد عينات ثعبانية من المثقفين، عرفوا بتغيير المواقف حسب الأهواء، والنكوص غير المبرر عن مواقفهم السابقة، ليس لأنهم اكتشفوا نظرية أو منهجا جيدا يستوجب تغيير الرؤية، وليس لأنهم اكتشفوا زيف القضايا التي تعصبوا لها في السابق، بل لأنهم بلا مبدأ في الأساس ، وربما أن عدم رغبة السلطان في ضمهم إلى نخبته، يجعلهم أكثر حقداً على السلطان ونخبته ومجتمعه، وربما على البشرية كلها.
وربما لذلك نراهم يدينون بالولاء لسلاطين في الخارج ، يتلقون الفتات من زعيم إلى زعيم ، وكم شهد الواقع العربي هؤلاء اللئام وهم يتنقلون بين القذافي وصدام، ومع صدام ضد الكويت، ثم مع الكويت ضد صدام، هم مع الدكتاتور قبل أن يتنحي، ثم مع الثوار ضد الدكتاتور بعد أن يتنحي ... وهلمجره من أساليب رخيصة وتصرفات ثعبانية لا تنم عن مبدأ ولا شخصية، ولا موقف ، هم رجال اللاموقف، وجامعوا الفتات ، وهم أبواق صدئة رخيصة وشراشيح مؤسفة محسوبة على الشعب المصري وثقافته، هم أرخص من النموذج الأول الذي حدد مصيره منذ البداية بكل وضوح.
أتمنى بعد ثورة 25 يناير أن يشمل التطهير حياتنا الثقافية ، وأن يخلوا المشهد الثقافي من هذين النموذجين الرخيصين، ولا أظن أن ذلك ممكن ـ مهما كان التغيير ـ إلا بتكسير الملاعق وتحطيم موائد السلاطين ومحاصرتهم بسلطة الشعب التي يمكن أن تحول بين السلطان وبين توظيف النخبة التي لم ينتخبها أحد غيره, غير أن النموذج الثعباني يمكن أن نحاصره ونكشفه بالوعي ، وباحترام الشعب لدور المثقف الحقيقي صاحب المبدأ والدور وخادم القضايا الوطنية.

ليست هناك تعليقات: