2017/02/28

"العصر الذهبى للديليڤرى : حكايات قبل النوم للكبار" للكاتب أحمد عبد الرحيم، عن روافد للنشر

"العصر الذهبى للديليڤرى : حكايات قبل النوم للكبار" للكاتب أحمد عبد الرحيم، عن روافد للنشر


صدرت مؤخراً المجموعة القصصية "العصر الذهبى للديليڤرى : حكايات قبل النوم للكبار" للمؤلف أحمد عبد الرحيم، عن دار روافد للنشر والتوزيع، والتى تحوى عدداً من القصص القصيرة مثل : "العاشق الخارق"، و"0001"، و"لماذا لا تنمو الأشجار فى السماء ؟". هذه هى ثالث مجموعة قصصية للمؤلف بعد "المشهد المحذوف" الصادرة عن دار كيان، و"يا ولاد المجنونة" الصادرة عن دار الأدهم. فضلاً عن 4 كتب للأطفال هى "زقزقة"، و"ورقة السلوفان"، و"سحابتى"، و"الأبطال". حقق المؤلف عدداً من الجوائز والتكريمات كسيناريست وكاتب للقصة القصيرة وأدب الطفل.

يوسف الشارونى إنسانًا بقلم: يعقوب الشارونى



يوسف الشارونى إنسانًا
بقلم: يعقوب الشارونى

أبدأُ بصورةٍ انطبعَتْ فى ذاكرتى لا تمحوها الأيامُ ، حدثت فى منتصفِ الأربعينياتِ من القرن الماضى :
* اقتربَ موعدُ السفرِ ، وتَهيَّأ الأخُ الأكبرُ للخروجِ بصحبةِ الصديقَيْنِ أحمد بهاءِ الدينِ وفتحى غانم ليكونا فى وداعِهِ ، وهو مسافرٌ إلى السودانِ حيث سيعملُ مدرسًا فى الخرطومِ .
          لكن المفأجاةَ كانَتْ فى انتظارِ الصديقَيْنِ ، فقد ارتفعَتْ حرارةُ الأخِ الأكبرِ مع آلامٍ شديدةٍ فى المعدةِ .
          وبدلاً من الذهابِ إلى محطةِ القطارِ المُتَّجهِ إلى أسوانَ ( وبعدها الباخرةِ المتجهةِ إلى السودانِ ) ، ذهبَ الأصدقاءُ الثلاثةُ إلى الطبيبِ .
          لم يجدِ الطبيبُ سببًا مُحدَّدًا للمرضِ .
          بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ ، عندما فاتَ موعدُ القطارِ ، اختفَتْ كلُّ أعراضِ المرضِ .
          قالَ الطبيبُ ضاحكًا : " إنكَ نفسيًّا لم تستطعْ الابتعادَ عن كتبِكِ وأصدقائِكَ بالقاهرةِ ! "
          قالَ الصديقانِ : " بل قُلْ هى حساسيةُ الأديبِ الفنانِ ، فهو " عريسٌ " جديدٌ ، رأى أن يسبقَ عروسَهُ ، لكنْ يبدو أنه لا يرغبُ فى السفرِ إلا وهى معَهُ !! "
          - هذه حادثةٌ لا أنساها ، عاشَها فى بداية حياتِه العملية أخى الأكبرُ يوسفُ الشارونى ، الذى ملأ حياتى منذُ كنتُ فى المدرسةِ الابتدائيةِ ، بكتبِ الأدبِ والنقدِ والفلسفةِ وعلمِ النفسِ ، وبأحاديثِهِ مع أصدقائِهِ الذين تألَّقوا معه جميعًا فى سماءِ الأدبِ والفكرِ والفنِّ ، ومن بينهم الأساتذةُ أحمدُ بهاءُ الدين وفتحى غانم وأنيس منصور وعبد الرحمن الشرقاوى ود . مصطفى سويف وبدر الديب .
*          *          *
إنها صورةٌ تكشفُ ، على نحوٍ مكثفٍ ، عن جوانبَ مختلفةٍ تُفصِحُ عن شخصيةِ أخى الكاتبِ الكبيرِ وأولِ أساتذتى ، يوسف الشارونى .
ذلك أننى عندما كنتُ فى الرابعةِ الابتدائيةِ ، كانَ أخى الأكبرُ يوسفُ فى            السنةِ الأولى بقسمِ الفلسفةِ وعلمِ النفسِ فى كليةِ الآدابِ بجامعةِ فؤاد الأول ( القاهرة  الآن ) .
وهكذا امتلأ البيتُ حولى ، منذ بلغتُ العاشرةَ من عمرى ، بالمسرحياتِ والرواياتِ التى كانت قد صدرَتْ فى ذلك الوقتِ ( 1941 - 1945 ) لتوفيق الحكيم ، الذى تعلمنا منه جميعًا فنَّ الحوارِ وأسرارَه ، وبكتبِ علمِ النفسِ للدكتور يوسف مراد ، وكتبِ الفلسفةِ للدكتورِ عثمان أمين حتى إننى كنتُ واحدًا من ثلاثةٍ نجحوا وحدَهم على مستوى مصرَ ، فى مسابقةِ الفلسفةِ التى كانت تقيمُها وزارةُ التربيةِ والتعليمِ لطلابِ السنةِ النهائيةِ من التعليمِ الثانوىِّ .
وأذكر ، عندما أحضرَ لى أخى يوسف رواياتِ نجيب محفوظ الأولى ، وأنا فى بداية المرحلة الثانوية ، (وكان عمرى 11 سنة) ، أنه قالَ كأنما يتنبأ : " إنه أعظمُ كاتبِ روايةٍ باللغةِ العربيةِ ، وقد يحصلُ يومًا على جائزةِ نوبل " ..  ولعله قالَ هذه العبارةَ ليثيرَ حماسى لكاتبٍ لم أكن قد قرأت له من قبلُ ، لكننى كنتُ أتذكرُها دائمًا كلما انتهيتُ من قراءةِ إحدى رواياتِ كاتبِنا الكبيرِ . وعندما حصلَ أستاذُنا نجيب محفوظ على الجائزةِ عامَ 1988 ، استعدتُ بقوةٍ كلماتِ أخى يوسف الشارونى ، الذى أدركَ بحسِّه الفنىِّ المُرهَفِ أننا أمامَ روائىٍّ مصرىٍّ يستطيعُ أن يضارعَ أكبرَ أدباءِ العالمِ .
وكان أخى يوسف هو الذى اصطحبَنى إلى أولِ لقاءٍ لى مع كاتبِنا الكبيرِ نجيب محفوظ ، عندما كان يعقدُ ندوتَه الأسبوعيةَ بكازينو أوبرا فى وسطِ القاهرةِ .
* أصدقاءُ يوسف الشارونى :
          كذلك امتلأ بيتُنا بعددٍ كبيرٍ من أصدقاءِ أخى يوسف ، مما أتاحَ لى الاستماعَ ، فى تلك السنِّ المبكرةِ ، إلى كثيرٍ من المناقشاتِ والآراءِ ، وقراءةَ عددٍ كبيرٍ من المخطوطاتِ لأعمالٍ أدبيةٍ وفى مجالِ الدراساتِ النفسيةِ ، مما صقلَ موهبتى  الأدبيةَ ، وأثارَ اهتمامى المبكرَ بقضايا وحقائق نفسية وتربوية وآراءٍ متعددةٍ ما كان يمكنُ أن يتعرفَ عليها من كانوا فى مثلِ سنِّى فى ذلك الوقتِ ، وأفادَنى هذا كثيرًا وأنا أكتبُ بعدئذٍ للأطفالِ والشبابِ الصغيرِ ، كذلك وأنا أختار كتبى لمكتبتى الخاصة .
- ومن بينِ ما أذكرُه ، أنه فى حوالَىْ عام 1951 ، عندما كنتُ طالبًا فى                 السنةِ النهائيةِ بكليةِ الحقوقِ بجامعةِ القاهرةِ ، أعطانى أخى يوسف رسالةً وصلَتْ إليه من باريسَ .. كانَ الشاعرُ الكبيرُ الأستاذُ عبدُ الرحمنِ الشرقاوى فى بعثةٍ إلى باريسَ لمدةِ           عامٍ ، وأرسلَ من هناك إلى أخى يوسف مخطوطَ قصيدتِه الرائعةِ " من أبٍ مصرىٍّ إلى الرئيسِ ترومان " - وكعادةِ أخى أشركَنى معه فى الاستمتاعِ بالقصيدةِ وتذوقِها ، لكى يرسلَ بعدئذٍ انطباعَه عنها إلى صديقِه ، الذى أصبحَ من أعلامِ الشعرِ والروايةِ فى مصرَ والعالمِ العربىِّ .
وهكذا كان أخى الأكبر يساهمُ فى تنميةِ تذوقى للشعرِ وغيرِه من الفنونِ ، ومن أهمها القصة ، كما ساهمَ فى تنميةِ جوانبَ أخرى متعددةٍ من حياتى وحياةِ إخوتى ، بل وحياة عدد كبير من شباب المبدعين .
* يوسفُ والثقافةُ الموسيقيةُ :
وكانت الثقافةُ الموسيقيةُ من بينِ الخبراتِ المبكرةِ التى أتاحَها يوسف الشارونى لى ولإخوتى فى ذلك الزمنِ المبكرِ من حياتِنا .
          لقد لاحظَ عددٌ كبيرٌ من النقادِ ، أنه توجدُ فى كثيرٍ من قصصِ الشارونى " ألحانٌ متقابلةٌ " ، أو نغمةٌ أساسيةٌ أو رئيسيةٌ ، تعقبُها وتحيطُ بها تداعياتٌ تنتقلُ بالقصةِ من الخاصِّ إلى العامِّ ، أو من العالمِ الخارجىِّ إلى العالمِ الداخلىِّ ، أو العكسُ ، ثم لا تلبثُ النغمةُ الرئيسيةُ أن تعودَ أكثرَ قوةً ووضوحًا ، وهو ما اعتدْتُ أن أسمِّيَه " تنويعاتٍ ومقابلاتٍ على اللحنِ الأساسىِّ " .  
          والحقيقةُ أن ملاحظاتِ هؤلاء النقادِ حولَ المقارنةِ بين قصصِ يوسف الشارونى والأعمالِ الموسيقيةِ صادقةٌ جدًّا ، وإن كانوا لا يعرفونَ أن مصدرَها هو ثقافتُه الموسيقيةُ المبكرةُ ، التى تذوقْناها معه ، نحن إخوتُه ، انطلاقًا من غرفتِه فى بيتِنا الذى نشأنا فيه  معًا .
          - وبهذه المناسبةِ أذكرُ أن والدَنا ، عندما قررَ الإقامةَ بالقاهرةِ ، وتَركَ الريفَ             و " شارونة " بصعيدِ مصرَ ، اصطحبَ معه بعضَ قيمِ الريفِ ، ومنها الحرصُ على كثرةِ  الأبناءِ ، فكنا تسعةً ، يوسفُ ثالثُهم وأنا سادسُهم .
كذلك حرَصَ والدُنا على بناءِ بيتٍ متسعٍ وسطَ قطعةِ أرضٍ كبيرةِ المساحةِ ،               بها كرمُ عنبٍ ونخيلٌ وأشجارُ سنط ، وحديقةٌ نزرعُها ونلعبُ فيها ، لأن الرجلَ فى الريفِ تلازمُه الرغبةُ فى امتلاكِ مساحةٍ من الأرضِ الزراعيةٍ . وعندما ينتقل إلى المدينةِ ، يكون البديلُ عن الأرضِ أن يمتلكَ بيتًا متسعًا ، أتاحَ أن يستقلَّ كلُّ واحدٍ من الأبناءِ بغرفةٍ مخصصةٍ له .
          وفى غرفةِ يوسف ، شاهدْتُ مكتبتَه تتكونُ خطوةً بعدَ خطوةٍ ، أو كتابًا بعدَ    كتابٍ ، فكانَ أولُ شىءٍ حاولتُ أن أتمثلَ به أن أنشئَ لنفسى مكتبةً ، بل حاولَ كلُّ واحدٍ من إخوتى أن تكونَ له مكتبتُه الخاصةُ فى غرفتِه منذ سنواتِه المبكرةِ ، إلى أن أصبحَتِ المكتبةُ تملأ معظمَ غرفِ بيوتِنا حاليًّا ، وكانَ هذا من أهمِّ نتائجِ القدوةِ التى قدمها لنا الأخُ الأكبرُ ، بعد الوالدِ الذى كان يمتلكُ أيضًا مكتبةً خاصةً ، ونراه دائمًا مشغولاً بالقراءةِ أو الكتابةِ .
* يوسفُ " وجمعيةُ الجرامافون " :
          - وعندما كان أخى يوسفُ طالبًا فى كليةِ الآدابِ ، كانت هناك جمعيةٌ اسمُها          " جمعيةُ الجرامافون " لتنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ . كانت تجتمعُ فى بيوتِ الأعضاءِ بصفةٍ دوريةٍ . والحقيقةُ أننى لم أكن قد استمعتُ إلى الموسيقى الكلاسيكيةِ بقصدٍ ، قبل أن أستمعَ من أخى عن تلك الجمعيةِ عندما كان عمرى 11 أو 12 عامًا .
          وذاتَ يومٍ أعلنَ لنا أخى يوسفُ أنه جاءَ الدورُ على بيتِنا ، وأن أعضاءَ الجمعيةِ سيجتمعون فى غرفتِه للاستماعِ إلى الموسيقى المسجلةِ على أسطواناتٍ . وأحضرَ أخى الأسطواناتِ وجهازَ تشغيلِها ( الجرامافون أو البيك آب ) ، واستمعنا إليها مرارًا قبلَ وبعدَ مجىءِ زملاءِ يوسف ( فى الجامعةِ ) ، ومن بينها السيمفونيةُ الخامسةُ لبيتهوفن ، وشهر زاد لريمسكى كورساكوف . وقد حفظْنا أنا وأخى صبحى ( الدكتورُ صبحى الشارونى الناقدُ التشكيلىُّ ) مقطوعاتٍ كثيرةً مما سمعْنا ، وأخذنا نرددُها فى البيتِ ومع الأصدقاءِ .
          وبدأ يوسفُ يكشفُ لنا أسرارَ القصائدِ السيمفونية ، وكيف أنها تدورُ حول لحنٍ أساسىٍّ يترددُ خلالها ، لكنه يُفسحُ الطريقَ لغيرِه من النغماتِ ، ويكونُ التناسقُ أو التناغمُ أو الهارمونى هو الذى يحققُ الوحدةَ والتماسكَ بين أجزاءِ العملِ الموسيقىِّ ويعطى له أثرَه الكلىَّ . وقد دفعَنى هذا إلى الحرصِ بعدئذٍ على الاستماعِ إلى البرنامجِ الموسيقىِّ بالإذاعةِ ، وقراءةِ الدراساتِ التى تساعدُ على تنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ .
          هذه الثقافةُ الموسيقيةُ انعكسَت بوضوحٍ على البناءِ المتناسقِ الذى نجدُه فى عددٍ كبيرٍ من قصصِ يوسف الشارونى ، رغمَ اختلافِ النغماتِ ما بين العالمِ النفسىِّ للبطلِ والعالمِ الخارجىِّ ، أو ما وصفَه أستاذُنا يحيى حقى بأنها قصصٌ " ذاتُ بعدَيْنِ " ، وهو ما جعلَ عددًا من النقادِ ، كما ذكرتُ ، يشبهون قصصَ يوسف الشارونى بالأعمالِ  الموسيقيةِ ، وهم لا يعرفون أن يوسف الشارونى قد تأثر كثيرًا فى هذا بثقافتِه الموسيقيةِ ، التى بدأت فى الجامعةِ ، ونقلَها بوعىٍ لمن حولَه ، والتى طالما حدثتُ نفسى أنها هى التى أوحت إليه بهذا الشكلِ الجديدِ الحديثِ لقصصِه .
* التناغمُ والتمردُ فى قصصِ يوسف الشارونى :
          - واللافتُ للنظرِ أنه مع هذا التناغمِ الذى يقومُ عليه عددٌ كبيرٌ من قصصِ يوسف الشارونى ، فإن هذا هو الشكلُ الذى اختاره ليعبرَ من خلالِه فى معظم قصصِه عن           " التمردِ " .
          إن شخصيةَ يوسف الشارونى ، على الرغمِ مما كانَ يبدو عليه شخصيًّا من هدوءٍ ، حافلةٌ بالتمردِ . لقد تمردَ يوسفُ أصلاً على الشكلِ الواقعىِّ للقصةِ ، كما تمردَ على الشكلِ الرومانسىِّ ، وبدأ كتاباتِه القصصيةَ الأولى بالقصةِ الحداثيةِ ، وبأكثرِ الأساليبِ معاصرةً فى القصةِ القصيرةِ ، حتى أطلقَ عددٌ من أهمِّ النقادِ على كتاباتِه أنها " قصصٌ تجريبيةٌ أو تعبيريةٌ " .
          - أما من ناحيةِ الموضوعِ ، فإن روحَ التمردِ هذه تسفرُ عن نفسِها بوضوحٍ فى شخصياتِ وموضوعاتِ قصصِه ، خاصةً فى مجموعتِه القصصيةِ الأولى " العشاقُ الخمسةُ " ، ويظهرُ التمردُ هنا كنوعٍ من الاحتجاجِ على ما يحيطُ الإنسانَ من ضغوطٍ وأوضاعٍ وتحدياتٍ .. إنه تمردٌ على الواقعِ الذى تعيشُه الشخصياتُ ، وتسعى إلى تغييرِه .
- ولعلَّ أوضحَ مثالٍ على ذلك قصتُه " مصرعُ عباس الحلو " . إنها قصةُ إنسانٍ يريدُ أن يتحررَ من واقعٍ يرفضُه . إنسانٍ يعيشُ حياةً رتيبةً خاملةً ليس لها هدفٌ ، ثم يتحولُ نتيجةَ الحبِّ والطموحِ إلى إنسانٍ متمردٍ ، يرتكبُ الفعلَ الإيجابىَّ عندما يحاولُ القضاءَ على مَن حاولَت ، ومَن حاولوا معها ، إحباطَ مشروعِه للتحررِ .. عندئذٍ يشعرُ أنه حصلَ على قمةِ تحررِه ، وساهمَ فى تحررِ العالمِ كلِّه .
          - ومن خلالِ هذا التناغمِ بين العالمِ النفسىِّ الداخلىِّ والعالمِ المرفوضِ    الخارجىِّ ، ومن خلالِ هذا التمردِ والاحتجاجِ والرفضِ الذى تعبرُ عنه الشخصياتُ ، فى بناءٍ فنىٍّ متكاملٍ ، نجدُ أنفسَنا أمام أعمالٍ فنيةٍ توحى بمواقفَ إيجابيةٍ تعطى الأملَ فى التغييرِ وتحثُّ عليه . إنها احتجاجُ على الواقعِ ، قد يفقدُ فيه البطلُ الحبَّ أو الحياةَ أو العقلَ ، لكنَّ قصصَ يوسف الشارونى ، من خلالِ ذلك كلِّه ، وبما يختارُ الكاتبُ من ألفاظٍ وعباراتٍ وصياغةٍ ، تؤكدُ  دائمًا ، ومن خلال الفنِّ ، أنه فى قدرةِ الإنسانِ أن يغيرَ دائمًا هذا الواقعَ إلى الأفضلِ .
                                          *          *          *
          لقد وجدتُ دائمًا ، أنه بالرغمِ من البناءِ الفنىِّ المحكمِ لمعظمِ قصصِ يوسف الشارونى ، فإنه يوجَدُ خلفَ كلِّ قصةٍ شىءٌ يريدُ أن يقولَه . وأوضحُ هذه الأشياءِ ، أنه فى قدرةِ الإنسانِ أن يغيرَ الأوضاع التى تقيدُه وتكبلُه والتى لا يرضَى عنها .
          - نؤكدُ هذا بمثالٍ آخرَ من قصةِ " رسالةٌ إلى امرأةٍ " ، فى مجموعتِه القصصيةِ           الثانيةِ . إننا نرَى فيها بوضوحٍ صورةً أخرى من صور الدعوةِ إلى التمردِ ، فهى من أوائلِ القصصِ فى اللغةِ العربيةِ التى عبرت عن حاجةِ المرأةِ إلى التمردِ والتحررِ ، وضرورةِ هذا التمردِ .
          إن قصةَ " رسالةٌ إلى امرأةِ " ، تتوجهُ مباشرةً إلى المرأةِ ، لكى تغيرَ من واقعِها الذى تستسلمُ فيه إلى المصيرِ الذى يفرضُه الغيرُ عليها .. مصيرٍ يرسمُه أفرادُ الأسرةِ ولا تملكُ أمامَه شيئًا . لقد استسلمت بطلةُ القصةِ ، لكن القصةَ نفسَها تؤكدُ أن فى استطاعةِ المرأةِ أن تقاومَ وأن تنتصرَ .
          - كذلك قصةُ " الحذاء " التى نشرَها يوسف عام 1951 ، وتدور حولَ رجلٍ يستخدمُ حذاءً قديمًا ، تصيبُه الشقوقُ ويتمزقُ مرةً بعد أخرى ، فيذهبُ إلى الإسكافىِّ لإصلاحِه .. وبعدَ أن تكررَ الأمرُ عدةَ مراتٍ ، صارحَه الإسكافىُّ : " ما فيش فايدة ..                 لازم جزمة جديدة " .. ومن الواضحِ أن القصةَ تقول إنه أحيانًا لا ينفعُ الترميمُ ، وإنه لابد من التغييرِ الشاملِ .
* جذورُ التمردِ والدعوة إلى التغيير فى حياةِ يوسف الشارونى :
ومع ذلك فإن عددًا من النقادِ ، أو من تناولوا قصصَ الشارونى بالتعليقِ ، قد ركزوا معظمَ ملاحظاتِهم على أن " الشارونى قادَ وأثرَى الجانبَ التعبيرىَّ فى القصةِ "                           ( اقرأ شعبان يوسف - كتاب رسالة إلى امرأة - ص 172 ) .
          وأفاضوا فى الحديثِ عن الابتكارِ فى المعالجةِ ، وقوةِ التأملِ ، وسردِ المشاعرِ والأحاسيسِ التى تدورُ فى نفسِ الإنسانِ ( د . ريمون فرنسيس ) .
          بل يقولُ الناقد شعبان يوسف : " إن القصةَ عند يوسف الشارونى ليست منطويةً على هدفٍ معينٍ سياسيًّا أو إصلاحيًّا " .
          لذلك أجدُ من المهم الكشفَ عن جذورِ " التمردِ " فى حياةِ يوسف الشارونى وقصصِه . وعما يوجدُ خلفَ كلِّ قصةٍ من شىءٍ يريدُ أن يقولَه ، وعلى وجهٍ خاصٍّ قدرةُ الإنسانِ على أن يغيرَ الأوضاعَ التى                       لا يرضَى عنها .
          ففى عامِ 1942 ، عندما كنت فى العاشرةِ من عمرى ، فى السنةِ الرابعةِ            الابتدائيةِ (وكانت نهاية المرحلة الابتدائية) ، كان أخى يوسف قد أتمَّ السنةَ الأولى من دراستِه بقسمِ الفلسفةِ وعلمِ النفسِ بكليةِ الآدابِ بجامعةِ القاهرةِ .
          وعند بدايةِ العطلةِ الصيفيةِ ، اتفقَ مع عددٍ من زملائه أن يذهبوا إلى مدينةِ التلِّ الكبيرِ ، لتجربةِ العملِ فى المتاجرِ التى كانت تبيعُ كلَّ شىءٍ للجنودِ الأجانب الذين كانوا يتمركزون ، خلال الحرب العالمية ، فى المدنِ الممتدةِ على طولِ قناةِ السويسِ والقريبةِ منها .
          سافرَ فى الصباحِ.. وعندَ منتصفِ الليلِ ، فوجئنا ، فى بيتِنا ، بطرقاتٍ عنيفةٍ على بابِ البيتِ .. فزعنا من نومِنا منزعجينَ ، وما إنْ فتحنا البابَ ، حتى اندفعَ إلى الداخلِ مجموعةٌ من الرجالِ ، بعضُهم يرتدى البدلةَ وبعضهم الملابسَ البلديةَ ، ومعهم عددٌ من جنودِ الشرطةِ .. انتشروا بغيرِ استئذانٍ ، فى كلِّ أنحاءِ البيتِ .. وفجأة سألَ أحدُهم - اتضح فيما بعد أنه من ضباطِ القسمِ السياسىِّ - أين المدعُوُّ يوسف ؟
          وهكذا اكتشفنا ، والدى ووالدتى ونحن إخوتُه وأخواتُه الصغارُ ، أن كلَّ هذا العددِ الذى اقتحمَ بيتَنا ، إنما يبحثُ عن أخى الذى لم يكن قد بلغ بعدُ السابعةَ عشرةَ من عمرِه ، والذى ذهبَ وحده فى أولِ مغامرةٍ له ليجربَ عالمَ العملِ أو الوظيفةَ .
          لكن .. لماذا ؟
          لم يحاولْ أحدٌ أن يجيبَ عن تساؤلاتِنا .
          أخبرَه والدى أن يوسف سافرَ فى الصباحِ إلى التلِّ الكبيرِ ليشتغلَ . طلبوا            عنوانَه ، لكننا كنا فى انتظارِ أن يرسل إلينا عنوانَه عندما يستقرُّ هناك . سألوا عن المكانِ المخصصِ فى البيتِ لنومِه ، والمكتبِ الذى يراجعُ فوقه موادَّ دراستِه ، فأرشدَهم والدى إلى غرفتِه المخصصةِ له فى الدورِ الأرضىِّ من منزلِنا .
          اندسستُ أراقبُهم يـُقَلِّبون فى كلِّ شىءٍ ، وعلى وجهٍ خاصٍّ الكتبُ التى جمعَها أخى فى الدولابِ الذى خصصَه ليكونَ " مكتبتَه " .
          لكن ما أثارَ دهشتى ، أنهم اتجهوا إلى " سلةِ المهملاتِ " ، فأفرغوها فوقَ                                  مكتبِه ، وراحوا يقلبون فى كلِّ قطعةِ ورقٍ ممزقةٍ فى السلةِ ، يقرءونها باهتمامٍ ، ثم حفظوها معهم باهتمامٍ !!
          سألت نفسى : " هل يمكنُ أن يكونَ فى مثل هذا الورق المُهْمَلِ ، سببٌ لكلِّ هذا الغزوِ المفاجئِ لبيتِنا ؟! "
          وعندما تجمعوا لينسحبوا ، تصورت أن الغزوَ انتهى ، لكنهم تركوا وراءهم رجلَ شرطةٍ جلس على مقعدٍ أمامَ مدخلِ بيتِنا ، للقبضِ على يوسف إذا حدثَ وعادَ إلى  البيتِ !
          وبعدَ أيامٍ ، اختفَى رجلُ الشرطةِ ، ففهمنا أن شيئًا قد حدثَ !
          وانطلق أبى إلى أحدِ المحامين ، فعرف أنه تم القبضُ على يوسف ، وإحضارُه إلى القاهرةِ من التلِّ الكبيرِ ، ثم أودعوه مركزَ الشرطةِ إلى أن تُتِمَّ النيابةُ تحقيقاتِها معه .
          تحقيقاتٌ حول ماذا ؟ .. لم نصل إلى أحدٍ ليجيبَ عن سؤالِنا .
          أخيرًا عرفنا أنه صدر قرارٌ بحبسِه تحتَ التحقيقِ فى سجنِ مصرَ بجوارِ قلعةِ القاهرةِ ، بعد أن تم اتهامُه " بالانضمامِ إلى جماعةٍ تهدفُ لقلبِ نظامِ الحكمِ " - وذلك بعد أن اكتشفوا أنه حضر ندوةً أو محاضرةً قيلت فيها أشياءُ وصفوها بأنها " خطيرةٌ " .
          وقضى يوسفُ تسعةَ أشهرٍ فى " قرميدان " تحتَ التحقيقِ . وسأل والدى المحامى : " ما هى العقوباتُ المتوقعةُ لمثلِ هذه التهمةِ ؟ " .. وعاد والدى إلى البيتِ مهمومًا ، فقد قال له المحامى " العقوبةُ قد تصلُ إلى الإعدامِ أو الأشغالِ الشاقةِ           المؤبدةِ ! "
          سألت نفسى : " هل تطاردُ السلطاتُ أخى بسببِ قصاصاتٍ ممزقةٍ وجدوها فى سلةِ المهملاتِ بغرفتِه ؟ "
          وبعد هذه الشهورِ الطويلةِ ، أصدر قاضى التحقيقِ قرارَه بأنه لا وجه لإقامةِ الدعوى الجنائيةِ ضد أخى وبقيةِ زملائِه ، فليست هناك أيةُ جماعةٍ ، ولا اتفاقٌ جنائىٌّ ، ولا محاولةٌ لقلبِ النظامِ ، لكنهم طلبةٌ دفعهم حبُّ الاستطلاعِ إلى الذهابِ للاستماعِ إلى محاضرةٍ عن " العدلِ الاجتماعىِّ " .
          وعندما عاد أخى فى منتصفِ العامِ الدراسىِّ التالى إلى الجامعةِ ، اكتشفَ أن شهورَ السجنِ جعلت منه " بطلاً " ، ينظر إليه الزملاءُ والزميلاتُ كرائدٍ فى العملِ               السياسىِّ .
          لقد ظنت أجهزةُ الأمن أنها لقنته مع زملائه درسًا عقابًا له لشغفِه بأن يعرفَ ، وأن يتعرفَ على معنى " العدلِ الاجتماعىِّ " .
          لكننى اكتشفتُ أن ما تعلَّمَه أخى يوسف كان شيئًا مختلفًا تمامًا عما قصدَتْ إليه أجهزةُ الأمنِ !!
*          *          *
          فبعد أربعة أعوام ، فى عامِ 1946 ، قام إسماعيل صدقى رئيسُ الوزراءِ ، بحملةٍ ضدَّ الصحفيينَ والمفكرين والكتابِ ، وذلك عندما تحركَتِ المنظماتُ الشعبيةُ تعقدُ المؤتمراتِ وترتبُ المظاهراتِ احتجاجًا على فكرةِ تكوينِ " لجنةِ الدفاعِ المشتركِ " بين مصرَ وبريطانيا . وأصدرت اللجنةُ الوطنيةُ للعمالِ والطلبةِ بيانًا حددوا فيه يومَ 11 يوليو 1946 ( ذكرى ضربِ الإنجليزِ للإسكندريةِ عامِ 1882 ) يومًا للحدادِ العامِّ وبدءِ الجهادِ الوطنىِّ .
          وهنا أسفرَ صدقى عن وجهِه الحقيقىِّ ، وقامَ فى اليومِ السابقِ على الإضرابِ ، باعتقالِ حوالَىْ مائتين من الكتابِ والصحفيين وزعماءِ اللجنة الوطنية ونقاباتِ العمالِ والطلبةِ ، وأغلقَ كثيرًا من دور النشرِ والجمعياتِ مثلِ اتحادِ خريجى الجامعةِ ، ومؤتمرِ نقاباتِ عمالِ القطرِ المصرىِّ ورابطةِ بعثاتِ الجامعةِ والمعاهدِ ، كما أغلقَ نهائيًّا عددًا من الصحفِ والمجلاتِ من بينِها الوفدُ المصرىُّ ، وصادرَ لعدةِ أيامٍ جرائدَ المصرىِّ والكتلةِ ومصرَ الفتاةِ ، ومنعَ الاحتفالَ بيومِ 11 يوليو .
          وأَطْلَقَ على هذه الحملةِ ( قضيةَ المبادئِ الهدامةِ ) ، وألصقَ بالمعتقلين تهمةَ الشيوعيةِ ، وكان منهم سلامة موسى والدكتور محمد مندور ومحمد زكى عبد القادر وغيرُهم.
          وكانت هذه الحملةُ نقطةَ تحولٍ فى أسلوبِ السلطةِ التنفيذيةِ ، إذ جعلت تلك التهمةَ سيفًا مسلطًا على رقابِ كلِّ الوطنيين الذين يقفون موقفَ المعارضةِ لربطِ مصرَ بعجلةِ الاستعمارِ .
          وأصدرَ صدقى بيانًا نشرته الصحفُ على صفحتين كاملتين ، تبريرًا لفعلتِه ، وتضمَّنَ البيانُ مقتطفاتٍ طويلةً مما نشرته الصحفُ والمجلاتُ التى أغلقَها أو صادرَها .
          وفوجئنا نحن ، إخوةُ يوسف ، بأن البيانَ تضمَّنَ أكثَر من عشرةِ مقتطفاتٍ من مقالاتٍ نشرَها يوسف فى عددٍ كبيرٍ من المجلاتِ التى تمَّ إغلاقُها ، بعضُها كانَ موقعًا باسمِه ، وعددٌ كبيرٌ منها بأسماءٍ مستعارةٍ .
          وهكذا اكتشفنا أن شهورَ السجنِ كانت مدرسةً ، قرأ فيها يوسف الكثيرَ ، وسمعَ الكثيرَ ، وشاهدَ أحوالَ المسجونين ، تأمَّلَ وفَكَّرَ فى الكثيرِ ، فواصلَ على مدى أربعِ سنواتٍ تأكيدَ حقِّ المواطنِ فى العدالةِ الاجتماعيةِ ، مستخدمًا الكلمةَ والفكرةَ والقصةَ .
          وتوقعنا أن تقتحمَ بيتَنا حملةٌ مشابهةٌ لحملةِ سنةِ 1942 ، لكنْ يبدو أن أحدًا لم يتوصلْ إلى صاحبِ الاسمِ الحقيقىِّ للأسماءِ المستعارةِ للكتاباتِ التى كانت من بينِ ما استندَتْ إليه أجهزةُ صدقى فى المصادرةِ والإغلاقِ .
*          *          *
          هل أستطيعُ أن أقولَ أيضًا ، إن أحدَ أهمِّ الآثار التى تركَها يوسف الشارونى فى إخوتِه ، أن الناقدةَ الإيطاليةَ الدكتورة ماريا ألبانو ، أستاذَ الأدبِ العربىِّ فى جامعةِ نابولى ، والمتخصصةَ فى دراساتِ أدبِ الأطفالِ فى العالمِ العربىِّ ، كتبت عن يعقوب الشارونى تقولُ : " والفضلُ الكبيرُ للشارونى فى إدخالِ الروايةِ الاجتماعيةِ فى أدبِ الأطفالِ فى العالمِ العربىِّ " . ( يراجع كتابُ : القصةُ المصريةُ الحديثةُ للأطفالِ - تأليف د . ماريا ألبانو - الصادرُ عن الهيئةِ المصريةِ العامةِ للكتابِ - صفحة 27 ) .
* يوسفُ ويعقوبُ الشارونىُّ وسلطنةُ عمان :
وهناك مرحلةٌ مهمةٌ فى حياتى ، ربطتنى بسلطنةِ عمانَ فى مجالِ أدبِ الأطفالِ ، فقمتُ بزيارتِها أكثرَ من مرةٍ تلبيةً لدعوةٍ كريمةٍ من وزارةِ الإعلامِ . وكانَ لأخى يوسف دورٌ مهمٌّ فى تلك المرحلةِ .
ففى عامِ 1990 ، طلبت وزارةُ الإعلامِ بسلطنةِ عمان من أخى يوسف ، الذى كانَ يعملُ عندئذٍ فى عُمان ، أن يقترحَ علىَّ أن أكتبَ عددًا من الكتبِ للأطفالِ والناشئةِ ، حولَ سلطنةِ عمان .
 وبالتنسيقِ معَ وزارةِ الإعلامِ ، اقترحتُ ستةَ عناوينَ ، أصبحَتْ بعدئذٍ سبعةً ، يقدمُ أولُها إلى الأطفالِ إنجازاتِ صاحبِ الجلالةِ السلطانِ قابوس بنِ سعيد المعظمِ ، على أن يكونَ اسمُ الكتابِ " بابا قابوس " - والثانى عن سعيد الكبيرِ ، والثالثُ عن أسدِ البحارِ أحمد بن ماجد ، ورابعُها عن إعادةِ توطينِ المَها فى أرضِ عُمان ، ثم عن شجرةِ البخورِ ، والأفلاجِ ، والنخيلِ فى  عُمان . واقترحتُ لهذه السلسلةِ اسمَ " حكاياتٌ من عمان " .
وقمتُ بزيارةِ عمان ، لأتعايشَ بصدقٍ مع البشرِ والطبيعةِ والإنجازاتِ قبلَ أن أكتبَ .
وكان أخى يوسف هو دليلى الأولَ أثناءَ زياراتى .
وكم أفادَنى بتوفيرِ المراجعِ التى قَدَّمَت لى كثيرًا من المعلوماتِ حولَ هذه المجموعةِ من الموضوعاتِ . كما أمدَّنى بكتبٍ ومجلاتٍ تساعدُ الرسامين على أن تكونَ كلُّ صفحةٍ من هذه الكتبِ حافلةً بالرسومِ ، التى تتعاونُ مع النصِّ فى إبرازِ الأثرِ الكلىِّ لكلِّ كتابٍ من هذه السلسلةِ ، التى اخترتُ لها شكلاً يشبهُ السردَ القصصىَّ ، عن طريقِ اختيار شخصيةٍ عُمانيةٍ أحكى القصةَ على لسانِها ..                   
فقصتى عن المها ، مثلاً ، أطلقتُ عليها اسمَ " سلمى فى أرضِ عمان " .. وسلمى هذه هى أولُ " مهاة " وُلِدَت على أرضِ عمان ، بعد قرارِ استعادةِ المها العربيةِ إليها ، الذى أصدرَه عام 1975 صاحبُ الجلالةِ السلطانُ قابوس المعظمُ .. كما جعلتُ أحدَ أشجارِ البخورِ تتحدثُ عن ماضى وحاضرِ الاهتمامِ بأشجارِ اللبانِ ، التى اعتبرَها القدماءُ شجرةً مقدسةً .
وكان لتلك المعاونةِ الصادقةِ من أخى الأكبرِ ، الأثرُ الكبيرُ فى نجاحِ هذه السلسلةِ ، الرائدةِ بين كتبى التى تتحدثُ عن وطنٍ غالٍ عزيزٍ من أوطانِ بلادِنا العربيةِ .
* جذورُ القلقِ فى شخصياتِ قصصِ يوسف الشارونى :
وإذا كنا نجدُ جانبًا من شخصياتِ يوسف الشارونى يسيطرُ عليه القلقُ ، الذى قد يتحولُ إلى تمردٍ أو طموحٍ ودعوةٍ إلى التغييرِ ، فإن مشاعرَ القلقِ هذه قد تكونُ لها جذورٌ فى طفولةِ يوسف  الشارونى ...
فعندما كان يوسفُ طفلاً عمرُه ثلاثُ سنواتٍ ، حدثت فى الأسرةِ مأساةٌ ظلَّ الأبُ والأمُّ يتذكرانِها على مدى حياتِهما . فقد كان ليوسف أخٌ يكبرُه بسبعِ سنواتٍ اسمُه                             " شكرى " ، مع ثلاثِ أخوات يسبقنَ يوسفَ فى العمرِ وأختٍ أصغرَ منه عمرُها عامٌ .
وقد تُوفِّيَتْ أولى البناتِ وعمرُها خمسُ سنواتٍ قبلَ أن يولدَ يوسفُ ، واستطاعَتِ الأسرةُ عبورَ أحزانِ ذلك الفَقْدِ . لكن الأحزانَ تجددت عندما فقدت الأسرةُ فجأةً الابنَ الأكبرَ " شكرى " وقد وصلَ عُمرُه إلى عشرِ سنواتٍ ، بينما عُمرُ يوسفَ ثلاثُ سنواتٍ ، فأصبحَ يوسف هو الصبىَّ الوحيدَ بين ثلاثِ بناتٍ ، تكبرُه اثنتانِ وتصغرُه واحدةٌ . وكان من الطبيعىِّ أن يشتعلَ قلبُ الأمِّ والأبِ قلقًا على حياةِ يوسفَ بعد أن أصبحَ الذَّكَرَ الوحيدَ بين أخواتِه البناتِ ، بجوارِ الحزنِ الكبيرِ لرحيلِ الابنِ البكرِ . ولا شك أن هذا القلقَ على حياةِ طفلٍ صغيرٍ فى تلك السنِّ المبكرةِ ، قد تسرب على نحوٍ لا شعورىٍّ من الوالدين إلى هذا الطفلِ الصغيرِ ، فأصبح هو نفسُه يعانى شيئًا من قلقٍ لازمَه طَوالَ حياتِه ، ولعله انعكسَ على عددٍ من شخصياتِ قصصِه .
هل أستطيعُ أن أقول إن هذه الوقائعَ المبكرةَ ، هى أحد المفاتيحِ لشخصيةِ يوسفَ الشارونىِّ ، وبالتالى أحدُ المصادرِ التى قامت عليها بعضُ ملامحِ شخصياتِه فى قصصِه ، وعلى وجه خاص قصص " دفاع منتصف الليل " و " لمحات من حياة موجود  عبد الموجود " ؟
هذا أمرٌ أضعُه أمامَ النقادِ والدارسين ليقولوا فيه كلمتَهم ، بعد أن قالَ الدكتورُ نعيم عطيه فى كتابِه " يوسفُ الشارونىُّ وعالمُه القصصىُّ " : كانَ يوسفُ الشارونىُّ من أوائلِ الكُـتَّابِ المصريين الذين أرسَوْا قواعدَ القصةِ التعبيريةِ ، إذ جنحَ فى قصصِه إلى التعبيرِ عن موجةِ القلقِ التى تسودُ القرنَ العشرينَ " . 
ونشيرُ هنا إلى نموذجٍ واضحٍ لهذه الشخصياتِ " القَلِقَةِ " فى قصصِ يوسفَ الشارونىِّ ، هى شخصيةُ " عباس الحلو " ، التى انتزعَها يوسفُ من بينِ شخصياتِ نجيب محفوظ ، ثم نسجَ حولَ " مصرعِ عباس الحلو " فى " حانةِ النصرِ " بالقاهرةِ ، قصةً جديدةً تفيضُ بالقلقِ والطموحِ والتمردِ .
* يوسف الشارونى وحياتُه اليوميةُ :
وعن أسلوبِ يوسفَ الشارونىِّ فى حياتِه اليوميةِ ، يقولُ كاتبَنا الكبيرَ يحيى حقى :
يوسفُ الشارونىُّ لا يهدرُ وقتَه فى الترددِ للدردشةِ واغتيالِ العمرِ على المنتدياتِ والمقاهي ، بل التزمَ منهجًا صارمًا لا يقوَى عليه إلا من تمرَّسَ بالجدِّ والعزمِ ، وآمنَ برسالةٍ يتعشقُها ويتعبدُها . فهو إذا آبَ من عملِه إلى منزلِه الأقصى بحلوانَ ، فرغَ سريعًا من مؤاكلةِ أسرتِه وقيلولةٍ قصيرةٍ ، ليجلسَ إلى مكتبـِه حتى منتصفِ الليلِ ، يومًا بعدَ يومٍ ، يربى موهبتَه التى لا تُنكرُ له ، بالعكوفِ على روائعِ الفكرِ .. لا قراءةَ طالبِ متعةٍ ذهنيةٍ وثقافيةٍ عامةٍ فحسبُ ، بل قراءةَ الدارسِ الذى يهمُّه قبلَ كلِّ شىءٍ أن ينبشَ أسرارَ صنعتِها ، فهو يتتلمذُ على كبارِ المؤلفين أنفسِهم ، ولا يقتصرُ على رطانةِ الكتبِ النظريةِ فى فنِّ القصةِ ، حتى أصبح خبيرًا بهذا الفنِّ ، وحتى أصبحت قصصُه تنضحُ بأسرارِ هذه الصنعةِ . وأشهدُ أنه عرفَ كيف يَسْلمُ من خطرٍ يترصدُ بأمثالِه حين ينساقونَ لا إلى الاهتداءِ بهذه الأسرارِ بل إلى تقليدِها ، وما أدقَّ الفرقَ بين الاهتداءِ والتقليدِ .
*          *          *
خلاصةُ ما أستطيعُ قولَه عن أخى الأكبرِ وأستاذى الأولِ يوسفَ الشارونىِّ ، إن الأدبَ العظيمَ هو القادرُ ، بقوةِ الفنِّ وحدَه - وليس بالهتافاتِ - أن يغيرَ ، وأن يحملَ الناسَ على أن يفكروا على نحوٍ    مختلفٍ ، لكى يتغيروا ، وأن يصبحوا قادرين على التغييرِ .