2009/10/29

قصة (لم أكن أعرف أن الطواويس تطير) لبهاء طاهر


لم أكن أعرف أن الطواويس تطير

بهاء طاهر


العشب الأخضر المروي يمتد حولي بساطاً ندياً يفرش الحديقة الشاسعة، تتوسطه حشائش طويلة متفرقة تجاوزتها عربة تشذيب العشب، ووحدها تلك الحشائش الطويلة تلمع أطرافها في الشمس رؤوس رماح مذهبة.. "فوددت تقبيل الرماح لأنها.. أهلاً بحضرة الماضي! أهلاً بأيام التلمذة والمعلقات وبالسيد عنترة! و أهلاً بحضرتي في الماضي وأنا أجلس في الحديقة التي نعمت بها سنين طويلة من عمري المنقضي. جميلة مثلما كانت دائماً (ربما أجمل؟) تحوطها الأشجار الباسقة المعتني بها وتتوسط عشبها الزاهي وتظلل ممراتها المرصوفة، أشجار من كل نوع، مجلوبة من كل قارات الأرض تتآخي في تشكيل منسجم مع أشجار البلد. لكن النخل لا وجود له. تزحف شمس حامية علي الدكة الخشبية التي أجلس عليها فأتحرك قليلاً في اتجاه جزئها الذي يحميه ظل شجرة كستناء تنفض أوراقاً بيضاء هشة كالقطن المندوف إيذاناً باقتراب الخريف. أركز بصري علي الأشجار كأني أحاول التعرف عليها. ما الذي تحتفظ به الذاكرة من هذه الحديقة ومن هذا المكان الذي ظللت أتجول فيه سنة وراء سنة؟ لا شيء تختزنه ذاكرة البصر. كأني لم أر هذه الأشجار من قبل. وما الذي أذكره من سنوات العمل الطويلة في تلك الهيئة الدولية المهيبة في هذا البلد الأوروبي؟ أقل القليل. كل شيء يتبخر. لكن أنتظر! أنا أتذكر مع ذلك هذه التي تتقدم نحوي مقبلة بخطي مسرعة من مبني الهيئة الأبيض. أذكر وجهها الجميل والغمازتين في خديها وأذكر ابتسامتها التي لا تغيب والتي تعدي بالابتسام، لكني لا أذكر مع ذلك اسمها. قالت وهي تجلس إلى جانبي علي الجزء المشمس من الدكة صباح الخير فرددت عليها بالمثل. في هذا البلد تستمر تحية الصباح حتى غروب الشمس. كانت تمسك بيدها علبة سجائر وقدّاحة، وبمجرد جلوسها أشعلت سيجارة وقالت كأنها تؤنبني: · لم نعد نراك منذ فترة. قلت ضاحكاً: تقصدين منذ سنين! خرجت إلى التقاعد من زمن طويل وعدت إلى بلدي. أنا مجرد زائر. ضحكت بدورها وقالت: حقا! مرّ كل هذا الوقت؟ لكن كأنما بالأمس فقط. ما أسرع ما يمر الزمن! سكتت لحظة واستغرقت في التدخين وهي تسحب دخان السيجارة بسرعة وشراهة ثم قالت: ومع ذلك فأنا أحسدك. أتمني أن تمر بسرعة أيضاً سنوات أشغالي الشاقة هنا لأتمتع مثلك بحريتي. · لا تحسديني ولا تتمني هذه الحرية فهي لا تساوي شيئاً. قالت وهي تلوح نحوي بسيجارتها المنتهية: لماذا؟ هل تعرف مثلاً أنهم أصدروا منذ أيام قراراً بمنع التدخين في كل الطوابق وفي جميع المكاتب حتى ولو كنت تجلس وحدك؟ أين حقوق الإنسان؟ وكيف إذن لا أتمني هذه الحرية؟... وأكملت وهي تنظر نحوي بابتسامة مواسية: ثم إن لكل عمر جماله! فضحكت من جديد قائلاً: أحفظ أنا أيضاً هذه العبارة! لكني فجأة تذكرت كل شيء وهي تطالعني بوجهها. كيف أمكن أن أنسي؟ كنا نعمل معا في الطابق نفسه من المبني، وكثيرا ما شربنا القهوة معاً في مقصف الهيئة بصحبة صديقها وزملاء آخرين، رجعت إلى أنفي رائحة البن الزكية وهي تهل علينا حين نقترب من المقصف في استراحة منتصف النهار. تتكون وسط لغط الزحام مجموعات تلقائية من موظفين وموظفات من جنسيات شتي يعملون في طوابق المبني التسعة. نجلس في العادة معاً، نفس الأشخاص علي الموائد نفسها تقريباً، نصف ساعة كل يوم من أيام العمل. نتبادل الحديث والنميمة عن الجالسين حولنا مثلما ينمّون هم بالتأكيد علينا. نصف ساعة ثم نفترق عائدين إلى العمل وننسي بعضنا البعض حتى اليوم التالي. استمرت هذه اللقاءات العابرة يوماً بعد يوم وسنة وراء سنة، لكني لا أذكر الآن اسمها. أذكر السيد عنترة و أنسي هذه التي عملت معها لسنين. وهل تظن أنها هي تذكر اسمك؟ غير أني قلت فجأة: · كيف حال نيكولا؟ كنت فرحاً بنفسي لأني تذكرت اسمه. لم أدرك خطئي إلاّ عندما غاضت بسمتها الدائمة للحظة قبل أن تقول بلهجة عابرة: · انفصلنا منذ مدة.. غمغمت: أنا أسف، لم أكن أعرف بالطبع. لكنها أكملت وقد رجعت إلى بسمتها التقليدية ولهجتها المازحة: السافل! أرأيت؟ بعد كل ما فعلته من أجله! لزمت الصمت. كنت أعرف مثل كثير من الموظفين أن نيكولا الأشقر الوسيم له زوجة وأولاد في بلده في الكتلة الشرقية، أيام كانت هناك كتلة شرقية، ولكن له أيضاً هنا هذه الانجليزية المرحة التي تعشقه. كانا ثنائياً مميزاً، معه هو بجسده الرياضي وشعره الأشقر المتداخل الخصل يشبه وسامة التماثيل الرومانية، وتطل من عينيه نظرة حالمة أسيانة كانت بالتأكيد من جملة أسلحته، فقد اجتذبت الكثيرات قبل أن يستقر علي هذه الجميلة الباسمة. بدت علاقتهما دائمة ومسلّماً بها علي أيامي. ظننت أنها ستنصرف عندما أنهت سيجارتها لكنها فتحت علبتها وأخرجت سيجارة جديدة أشعلتها وقالت وهي تقلب نظرها في السماء: · الشمس اليوم رائعة. · حامية. · أتظن؟ كان وجهها متضرجاً تلمع حبات دقيقة من العرق في جبينها لكنها بدت مستمتعة بالشمس وقالت دون أن تنظر نحوي: · معذرة لهذا السؤال.. ولكن أنت لك خبرة بالحياة أكثر مني.. قل لي هل كل الرجال.. كلهم هكذا؟ · "هكذا" كيف؟ لوحت بيدها و هي تكرر: هكذا!.. أنت تفهم. · لا. لا أفهم. أنت مثلاً كنت تعرفين منذ البداية أن نيكولا سيرجع يوماً إلى بلده وإلي أسرته. · بالطبع، ولكن لم أكن أعرف أنه سيجري يوماً ما وراء "جونلة أخري"! هكذا، بين ليلة و صبح، دون إنذار. ثم إنه قد انفصل عن زوجته ولعلمك فهو لن يرجع يوماً إلى بلده. · لن يرجع؟ · لا، لن يرجع. سألت نفسي أخطأ أو أصاب؟ ربما بعد الغياب الطويل في الغربة لا يعود للإنسان في الحقيقة أي بلد. قالت: لم تجب عن سؤالي. · وكيف تريدين مني أن أجيب عليه؟ ما أعرفه هو أن كل الرجال مثل كل النساء! ضحكت وهي تقول: تقصد أنهم كلهم سفلة؟ · أقصد كلهم بؤساء. استمرت في الضحك وهي تكرر: لا! لا! لا!.. قلت إن لك خبرة و لكن لم أقصد أن تسمعني مواعظ! · ومن قال إني أعرف أي مواعظ؟ أنت سألتني عن خبرتي وكل ما أردت قوله إنني في حياتي قد جرحتني نساء وأني أيضاً قد جرحت نساء وحين أتذكر كل هذه القصص القديمة لا أكاد أصدق أني كنت ضعيفاً إلى هذا الحد مرة وقاسياً إلى هذا الحد مرة أخري. لماذا؟ أقصد ما المعني؟ سكتّ فقالت وهي تقوم وتدعس سيجارتها في الأرض وتودعني بابتسامتها الجميلة: · ربما عندما أصل إلى التقاعد سأفكر مثلك أما الآن فأنا أفضل ما فهمته من كلامك أولاً عن سفالة الرجال والنساء. أما أنت فلا تحزن هكذا!! ربما يجب أن تجرب من جديد، لم يفت الوقت بعد لتستفيد من كل ما تعلمت من خبرتك.. جاوبت ابتسامتها وأنا أشير إلى شعري: بالطبع، لكل عمره جماله! وفي تلك اللحظة وهي تتأهب للانصراف مّر أمامنا سرب من الطواويس يجري علي العشب. كانت ترفرف بأجنحتها وتجرجر ذيولها فبدت أشبه بديوك رومية مذعورة تفر من مطاردة. مرقت أمامنا ثم اختفت وراء المبني. قالت وهي تتطلع في اتجاه الطواويس بخيبة أمل: والآن هذا أيضاً! ستتجمع هذه الوحوش تحت مكتبي وتبدأ في العواء. صراخها يدفعني إلى الجنون! · تعرفين الشرط. · لسوء حظي. ولكنها شاخت كثيراً فلماذا لا ترحل؟ · لا يمكن أن تكون دائماً هي نفس الطواويس. هذا بالتأكيد نسل جديد. قالت بإصرار: هي طواويس شائخة! قلت: ولكنك منذ قليل كنت تتحدثين عن جمال الأعمار. فابتسمت: أعمار البشر، لا الطواويس! يعرف كل العاملين هنا الشرط الذي وضعه الثري المحسن حين أهدي من أملاكه تلك الحديقة الجميلة للهيئة قبل عشرات السنين. كانت الهبة مشروطة بالحفاظ دائما علي الطواويس حية وحرة في الحديقة. لماذا كان مغرماً بالطواويس إلى هذا الحد؟ هي طيور جميلة بالفعل، تفتنني ألوانها. الرقبة الزرقاء اللامعة والصدر والأجنحة البنّية· البيضاء، والذيول الطويلة بألوانها الزرقاء والخضراء المرصعة بزهور من دوائر بيضاء ومذهبة_ألوان يستحيل علي أي رسام أن يجمع بينها بمثل هذا الانسجام الباهر الذي تأتلف به في ريش هذه الطيور الأرضية الداجنة_أعتدت أن أقف طويلاً بالقرب منها أتأمل هذه اللوحة الحية الباذخة الألوان وهي تبرق وتلمع وتتغير درجاتها في الضوء وفي الشمس، بينما تحرك الذكور في خيلاء رؤوسها المتوجة بريشاتها البيضاء الدقيقة وتستعرض ذيولها المرقشة وهي تجرجرها وراءها أو تقرر في لحظات أجهل أسبابها أن تفرد مروحة ذلك القوس البديع البهي وتبحر في شراعه. كان محقاً إذن ذلك الثري في عشقه لهذا المهرجان اليومي المتلألئ بألوانه التي تخطف البصر، ولكن هل كان محقاً أيضا في إصراره علي إطلاقها حرة في مكان للعمل؟ كان يمكن أن يطلب تخصيص ركن لها وينتهي الأمر. إذ لا شيء في الواقع يفوق جمالها غير قبح أصواتها. نعيق الغربان أرحم منه حين تتجمع مع بعضها البعض ويبدأ السرب في الصياح! هي صيحة واحدة، نغمة واحدة، عالية ومنكرة، تظل تتبادلها طائراً وراء الآخر في رتابة وإلحاح لا ينقطع. أذكر حين كان يتصادف أن تتجمع تحت مكتبي في لحظة عمل وتبدأ غناءها البشع، الذي لا أدري لماذا يبدأ ولا متي ينتهي، أني اعتدت أن أغلق النافذة وأضع يدي علي أذني، ولكن كان يستحيل أن أركز علي أي عمل إلى أن تقرر من تلقاء نفسها الكف عن الصراخ أو الانصراف إلى مكان آخر في الحديقة. ومع ذلك فلم أكن مستعداً في أي لحظة أن أضحي بمتعة النظر من أجل راحة الأذن، ولا أظن أن زميلتي المازحة دائماً تكرهها مثلما تدعي. لم تكن قد ابتعدت عني بضع خطوات إلاّ و جلجلت في المكان أجراس عربة مطافئ قبل أن نراها تتجه مسرعة عبر الممر الرئيسي في الحديقة نحو مدخل المبني الواقع في الناحية الأخري من مجلسي. قمت بصورة تلقائية وأسرعت فلحقت بزميلتي السابقة واتجهنا معاً وقلّة كانت تتجول في الحديقة نتبع عربة المطافئ. وقالت هي ونحن نكاد نجري بلهجة من التشفي الكاذب: · هل رأيت؟ ها هو حريق في المبني لا دخل فيه للتدخين! لكن حين وصلنا لم نجد أي حريق في المبني. كان الموظفون يطلون من نوافذ الطوابق التسعة يستطلعون مثلنا ما يحدث ويصوبون أبصارهم نحو عربة المطافئ الواقفة أمام المدخل تضئ أنوارها الحمراء المتقطعة. أما أنا فنسيت كل ما حولي وخفق قلبي وأنا أرجع مرةأخرى إلى ركن الحديقة الذي كنت أطل عليه من مكتبي. هضبة صغيرة معشوشبة تتوسطها شجرة أرز عملاقة تحيط بها شجرتا تنوب هرميتان أطول حتى من شجرة الأرز. صادقت هذه الأشجار وقضيت أوقاتا طويلة أتابع من نافذتي كل أحوالها. أتأمل خضرتها الزاهية التي لا تغيب حين تذبل أوراق الأشجار الأخري المحيطة بها وتسقط في الخريف، وأتابعها في الشتاء حين تحتضن الثلج وهو يرسم من أوراق أفرع شجرة الأرز العريضة المتوازية راحات بيضاء كما لو كانت تنبسط في ابتهال للسماء حين تحركها ريح الشتاء، وأري الثلج يتكور فوق فروع التنوب المخروطية زهوراً صغيرة قبل أن يتساقط بغزارة فيتكور أجراساً كبيرة فضية بطول قمع الشجرة المقلوب. وكنت أقول لنفسي لا عجب إذن أن يجعلوا هذه الشجرة رمزاً لعيد الميلاد مادامت الطبيعة تهديها كل هذه الأجراس البيضاء اللامعة بشارة للفرح. استغرقتني الذكري فنسيت حتى فضولي لما يفعله رجال المطافئ، لكن زميلتي جذبت ذراعي وقالت بلهفة وهي تشير إلى أعلي: · أنظر! تابعت إشارتها فرأيت لدهشتي طاووساً يجثم في هدوء فوق غصن كبير لشجرة الأرز ويتدلي ذيله الأزرق من الغصن الأخضر مشدوداً ومتماسكاً. قالت صاحبتي في ذهول: كيف وصل هذا الطائر العجوز إلى هناك؟ رددت وأنا بمثل حيرتها: وما يدريني؟ أنا لم أكن أعرف أصلاً أن الطواويس تطير. كان عدد من رجال المطافئ يقفون أسفل الشجرة ويستمعون إلى تعليمات من رئيس لهم يمسك في يده بوقاً مكبراً للصوت ومن شخص يرتدي زياً مدنياً خمنت أنه المشرف علي الحديقة أو علي رعاية الطواويس لأنه كان يرفع رأسه في قلق كل لحظة نحو الطائر الهارب. وأخيراً نقلوا من عربة المطافئ سلماً متحركاً باتجاه شجرة الأرز وأخذوا يتحكمون آلياً في ارتفاعه وعندما وصل إلى مستوي الغصن الذي يربض فوقه الطاووس كلف الرئيس واحداً من رجاله بصعود السلم بعد أن أعطاه هو والمشرف تعليمات أخيرة. صعد رجل المطافئ درجات السلم بحذر وهو يمسك بيده شبكة صيد إلى أن حاذي الطاووس، فصفق له الجمهور الواقف علي الأرض والمطل من النوافذ وهو يرمي شبكته علي الطائر. لكن في اللحظة ذاتها التي كان يرمي فيها الشبكة رأيت ذيل الطاووس المتشنج يرتفع ثم فرد جناحيه بصورة خاطفة وحلق طائراً نحو غصن أعلي من الشجرة نفسها. وقالت صاحبتي بصوت مرتفع: أرأيت؟ هو يطير بالفعل! وعند ذلك صفق للطاووس كثيرون علي الأرض وفي النوافذ مهللين "برافو!". استاء ضابط المطافئ الذي كان يتابع من علي الأرض عمل زميله فأمسك بالبوق وخاطب جمعنا بشيء من العصبية: · من فضلكم الهدوء! الضجة تزيد من عصبية الطائر وتعرضه لخطر السقوط ونحن حريصون مثلكم علي حياته. ضحك البعض من الجمهور المتحلق حول عربة المطافئ والذي كان يزداد في كل لحظة بمن ينضم إليه من الموظفين الذين خرجوا من مكاتبهم، وارتفعت أصوات البعض الآخر مؤنبة وهي تطالب بالهدوء، وقالت صاحبتي وقد عادت إلى لهجتها المازحة: · أنت مع المطافئ أو مع الطاووس؟ فرددت ضاحكاً: أنا بالطبع مع عجوز مثلي. اقترب مني شخص من الجمهور الوافد وصافحني وهو يقول: · أنت عدت؟ لماذا لم نرك؟ قلت بحذر: أهلاً نيكولا. كان وسيماً وجذاباً كعادته لكن خصلا بيضاء كانت تتخلل الآن شعره الأشقر. ثم ألتفت وقال لصاحبتي بلهجة عادية: أهلاً مارلين. أخيراً! مارلين! كان يجب أن أذكر الاسم منذ البدء! إسم لا ينسي عند جيلي، فكيف نسيته أنا؟ لم ترد مارلين علي تحيته إلا بإيماءة رأس وكررت سؤالها له بلهجة عابرة: · أنت مع الطاووس أو مع المطافئ؟ فرد نيكولا: مع الطاووس بالطبع. فقالت: مثل صاحبك. مثل كل الرجال! أنا مع المطافئ. هيا! انتصري يا مطافئ! كان رجال الإطفاء قد زادوا من ارتفاع السلم الآلي وكان الطاووس يقف الآن علي الغصن العالي مواجهاً السلم وهو يتنقل بعصبية. لكن المنظر تكرر بحذافيره. ما إن اقترب رجل المطافئ وهمّ بأن يرمي الشبكة حتى طار الطاووس نحو غصن أعلي لكن في الناحية الأخري من الشجرة، فارتفع التصفيق و الضحك. كان الجمهور كله الآن تقريباً مع الطاووس فزاد احتجاج ضابط المطافئ وهو يكرر المطالبة بالهدوء، لكنه كان مشغولاً أكثر من ذلك بتوجيه تابعيه لنقل السلم إلى الناحية الأخري من الشجرة المواجهة لشجرة التنوب وبالتشاور مع موظف الحديقة. ابتعد عني نيكولا بالتدريج ووقف بجوار مارلين التي سبقتنا بخطوات غير محسوسة. لم يتبادلا كلمة، لكني لاحظت أن مارلين رفعت رأسها قليلاً وشدت قامتها كأنها تتأهب لحركة دفاع عن النفس. أما نيكولا، فوقف ثابتاً مركزاً بصره علي الطائر البعيد. أخيرا قال لها شيئاً لم اسمعه، ومد يده يضعها علي كتفها فأزاحت يده برفق وابتعدت قليلاً. بعد ذلك تطورت الأمور بسرعة. أقبل عدد من رجال الأمن وتجولوا بين الموظفين المتحلقين حول عربة المطافئ وأخذوا يكررون عبارة "تعليمات المدير العام" فبدأت حركة تراجع نحو مدخل المبني ولاحظت أن الموظفين المطلين من النوافذ قد اختفوا في لحظة حاسمة. إذ حتى من قبل أن ينتهي نقل السلم نحو الناحية التي يقف فيها الطاووس، إذا به في قفزة تحليق جبارة يفرد جناحيه منطلقاً نحو شجرة التنوب وظل لحظة يتخبط وسط أغصانها وأوراقها الإبرية القصيرة التي لا توفر له استقراراً مثل الأوراق العريضة لشجرة الأرز، لكنه اهتدي أخيراً إلى كتلة أغصان متماسكة وقف عليها. كان يتأرجح فوقها قليلاً وهي تتحرك تحت ثقله لكنه حافظ علي استقراره وهو ينظر نحونا من مكمنه العالي قبل أن يطلق لأول مرة صيحة عالية منذرة. وفي تلك اللحظة مر إلى جواري نيكولا و مارلين ضمن العائدين إلى المبني. لم ينتبها إلى ولكني سمعت نيكولا يقول بإلحاح وهو يميل بجسده كله نحوها "ربما لو" وسمعتها هي تقول بلهجة حاسمة "لا! ليس ربما لو! ليس أي ربما!" قبل أن تبتعد عنه وتمضي مسرعة وكأنها تجري نحو مدخل المبني. ووقف هو ينظر في اتجاهها لحظة قبل أن يتجه إلى المدخل مطأطئاً رأسه. لم يبق في المكان غيري وقلائل هم مثلي بالتأكيد لا يعملون في المبني. كان رجال المطافئ يتشاورون مع مشرف الحديقة حول خطوتهم التالية. وكان المشرف يقول في قلق ربما مثلما صعد وحده سينزل وحده، وكان ضابط المطافئ يقول في إصرار لا يمكن أن نتركه هكذا، لابد أن نحاول. وفجأة وأنا اسمع هذا الحوار العادي طفا في داخلي حزن ثقيل مباغت وأنا أنظر إلى نيكولا الذي يمشي محني الرأس، وأنا أفكر في كل ما جري. في هذا الطاووس المغامر العاجز وفي نفسي وفي الآخرين في هذا المكان. في حيرة من عادوا إلى بلادهم وحيرة من بقوا في الغربة، في الزمن الذي جري ويستحيل أن يعود، في الحب المخذول وفي ضياع الحب، في القسوة التي نتعمدها والقسوة التي نمارسها دون قصد، في الشيخوخة وفي الوحدة، بالذات في الوحدة. غير أني عاينت أيضاً نهاية القصة. أنتصر رأي ضابط المطافئ وأعيد تحريك السلم نحو شجرة التنوب واختار الضابط واحداً آخر من رجاله صعد السلم بخفة وتوقف قليلاً قبل أن يصل إلى محاذاة الطاووس الذي ظل ساكناً. وغمغمت بإلحاح تحرك! قاوم! طر! لكن عندما وصل إليه الصائد ورمي شبكته لم يتحرك الطائر. كأنه كان ينتظر. كأنه كان يلقي بنفسه مختاراً في الشبكة. رأيت الصياد يهبط وهو يحمل الطائر الملفوف في صرة الشبكة البيضاء بيده اليسري ويعتمد بيده اليمني السلم وهو ينزل ببطء, ونظرت نحو الطاووس المأسور الذي كانت بعض ريشاته الملونة تبرز من ثقوب الشبكة وهو ينتفض وقلت لنفسي وأنا انصرف_يا طائري العجوز أشباهٌ عوادينا.

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

مساء الإبداع ،

أستاذ أحمد ..

مدونتك خضراء كبهاء لونها البراق ..

أتابعك بشغف مذ مدة ليست بقصيرة ..

كن بخير دائما

ليلى البلوشي

وإن أردت تشريف مدونتي بحضورك الجميل

أتنفس بهدوء :

www.lailal2222.blogspot.com

أحمد طوسون يقول...

المبدعة القاصة ليلى البلوشي
صاحبة صمت كالعبث
مرحبا بأريج حرفك هنا
دمت بخير وإبداع
ومبروك مدونتك الجميلة

محمود محمد حسن يقول...

القصة دي فعلا احلى قصص المجموعة ( الجميلة اصلاً )

تحياتي للإختيار الرائع ،