2016/06/19

من وحى ألف ليلة .. قصة بقلم: وليد الأشوح



من وحى ألف ليلة


(معروف الإسكافى)

-1-



نستعيذ بسلطان الدنيا والدين ومحكم القرآن والتنزيل, كنز عالم العزلة, وخزينة قصر الثروة, ونصلى ونسلم أفضل السلاة والتسليم على النبى المختار الأمين. أما بعد هذا ما قد وصلنا فى الأثر من أخبار عن حكاية (معروف الإسكافى) والمغنى الوسيم (حسن الساهر).



-2-



تمطى (معروف الإسكافى) فى حانوته القديم. فرد ظهره المقوس من طول الإنحناء وقام من جلسته بين المراكيب المرصوصة والنعال المنثورة. يفتح (معروف) الحانوت كل صباح فيجلس على كرسيه المجدول من القش, تحوطه عبق الجلود القديمة ورائحة السيور المتآكلة. يرتق شسوع النعال ويصلح كعوب المراكيب وسيور الصنادل والقباقيب. يحمل مطرقته الصغيرة بين أنامله فيدق بها على المركوب القديم فيخرج المهترىء من تحت يديه جديدا أو أحسن مما كان. بعد أن ينتهى من العمل يغلق الدكان ويسير فى الطرقات عند الأصيل يستمتع بأنفاس الربيع الأثير وشذرات عطر زهوره المنبثقة. ينادى على الأصدقاء فى الطرقات ويرسل إليهم تحية عابرة يملىء صداها القناعة و الرضا بالحال. يتطلع إلى قرص الشمس المتهادى نحو المغيب فيشكر الرحمان على النعمة ويتذكر أيام الشقاء والدوران فى الأسواق.



مر على مجلس السمر كعادته فى المساء. إقتعد شلتة فوق أرض الحانة بجواررفاقه البسطاء (عزيز السقاء), (صالح الحمال) وبجوارهما جلس القزم (سنفور) مهرج الأعيان والحكام. فى الحانة يتربع السادة والأغنياء الأرائك الوثيرة وتحت أقدامهم يجلس البسطاء على شلت وحصير. تشارك الأصدقاء الشرب والسمر. لم يكن فى المجلس ذكر سوى المغنى الوسيم (حسن الساهر) القادم من الكوفة. ملأت أخباره المجالس وكثرت الأقوال عن حلاوة صوته وعذوبة ألحانه وقوة أشعاره. فتن به الجميع الرجال قبل النساء والفقراء قبل السلاطين. سار أسمه نارا على علم فى عالم الغناء, فاقت شهرته شهرة (معبد) و (إسحاق الموصلًى). غدا من يحضر له حفلا وكأنما أنفتح له باب الحظ والسعد. تهامس الجميع فى المجلس فمال (سنفور) على أذن (معروف الإسكافى) وهو يتكىء على مسند دمشقى الغطاء,قائلا:

-سمعت بأن الوالى(عبد الله العيدروس) إستدعاه إلى قصره ليسمع صوته العذب ويثمل ويطرب من عذوبة الألحان بعد أن أدرك بخروجه من طوق (سمرهند) الحسناء. ضمه الوالى لبقيه موالى القصر وأعطاه الإمتياز.

نظر إليه (معروف) قائلا:

-لا حديث فى الحى إلا عن صاحبك هذا. وكأنه سحر الجميع بعذوبة صوته.

إنضم (عزيز السقاء) مضيفا إلى الحديث:

-كنت أطوفبالقربة فى أحد الليالى على بيوت الأعيان, أملأ الجرار والأزيار والقنانى, فسمعت نغما يتهادى من فوق الأسوار وصوتا يصدح منداخل أحدى البيوت, من فرط حلاوته ظننت أننى على أبواب الجنان. كان المغنى الوسيميحيى حفلا للزواج ويترامى صوته إلى أذنى يحمله هدوء الليل ونسماته. إقتعدت الطريق أمام سور البيت الكبير بعد أن أنهيت ملىء المياة ولم أحرك ساكنا من موقعى إلا بعد أن أنتهى من الغناء.

هز (سنفور المهرج) رأسه مؤكدا على كلام صاحبه رافعا قدح الخمر:

-صوته كالخمر تسلب العقول والألباب.

رد (عزيز السقاء):

-بل هى مزامير داوود.

هز (معروف الإسكافى) رأسه فى إقتناع قائلا:

-كل ميسر لما خلق له.

إستمرت همسات المتسامرين وضحكات السكارى المعربدين حتى الهزيع الأخير من الليل. إنطفأت حرارة الحديث وزحفت على العقول غشاوة الخمر وبرودة الليل. قام (صالح الحمال) من على الشلتة قاصدا إلى داره, وتبعه (معروف الإسكافى) يتمايل كلاهما فى الطرقات من فرط الخمر والإنبساط. تفرق مجلس السمر وألقى الليل عباءة السكون على الحانة والطرقات.





-3-



أغلق (معروف الإسكافى) حانوته بعد أن إقترب الأصيل كعادته. كان قد إشتهى سمكا فى الغداء فأحضر معه صنارته المصنوعة من الغاب وعقد العزم على قصد ضفة النهر القريبة من أطراف الغابة الشمالية فيصطاد من سمكها ويشويه هناك. سار على مدارج الطرقات, يغنى, يحمل الصنارة على كتفه, تخرج من بين شفتيه الصفارات يحاول أن يشكل بها لحنا من الألحان العذبة التى ترامت إلى أذنه فى الحانات.

تنشق الهواء المنعش وأمتلأ به صدره, أسرعت خطواته نحو أطراف الحى. وصل إلى ضفاف النهر فسار بمحاذاته يتهادى الماء الداكن فى الأعلى يسحبه تيار كامن فى الأسفل نحو الشلالات. وصل إلى الجسر الحجرى المقوس المستقرة قاعدتيه على ضفتى النهر. يوصل الجسر بين أطراف العمران وأطراف الغابة الشمالية الكثيفة الأشجار, تستخدمه السابلة و العربات للإنتقال من ضفة إلى أخرى. إستقر رأيه على أن يقف تحت سقف الجسر يدرك بأن الأسماك ترتكن إلى الظلال فى تلك الفترة من النهار فوقف على حجر بارز ليمنع قدماه من البلل وأطلق شص صنارته فى الماء. حملت المياة الطافية وسارت بها إلى عرض النهر تبحث عن سمكة من سمكاته المختبئات. إقتعد الحجر البارز وجلس يتهادى إليه الضوء المتناقص والهواء المنعش. تناهى إلى سمعه وقع أقدام الحطابين القادمين من أغوار الغابة الشمالية يحملون فوق أعناقهم حزم الحطب والأخشاب لبيعها فى سوق الحى والطرقات. تمر الأقدام والعربات من فوقه فيدوى صداها تحت الجسر متضخما معكوسا على الحوائط والجدران. مع خفوت ضوء السماء خفت حركة السابلة فوق الجسر وأختفت وتلاشت أصوات العربات. لم يبق حوله من ضوضاء سوى نقيق صفادع النهر وحفيف أشجار الغابة تعبث بها الرياح. هبطت الطافيه تحت سطح النهر الجار معلنة نشوب سمكة فى الخطاف. جذب الخيط مسرعا فتراءت له بلطية بيضاء بحجم كفيه تسبح مرغمة فى إتجاهه. شكر الله على الرزق ووضع الصنارة فى مكانها على الحجر تحت الجسر بينما أخذ سمكته وإنتقل إلى شاطىء النهر فأشعل نارا يشوى عليها السمكة.

 أكل وشبع وهبط إلى ماء النهر فأغترف من مائه وشرب حتى أرتوى. تلاشى ضوء الشمس فى الأفق وإنقصف شعاعها, أدرك بقرب حلول الظلام فأطفا نار الشواء المشتعلة وتوجه إلى الجسر ليحضر صنارته من تحت القوس الملتحم بالظلال, فيغادر المكان ويقفل عائدا إلى مجلس السمر الذى حان موعده. بينما هو منكفأ ممسكا بالصنارة ترامى إلى سمعه صوت عربة خشبية تتهادى على سطح الجسر فوق رأسه, ظنه حطاب تأخر فى العودة لداره. سنابك الحصان الذى يجر العربة تدق الأحجار من فوقه فتهبط إليه كهزيم الرعد. حمحم الحصان وصهل عدة مرات فأدرك (معروف) أن الحصان مفزوع, يؤكد ظنه وقع سنابكه الغير منتظمة على أحجار الجسر الصلبة. توقفت العربة فى منتصف الجسر تحت رأسه مباشرة. طرقت أذنه المرهفة زمجرات غريبة وحشرجات لا تنتمى لحنجرة آدمية. قبل أن يمد رأسه ليخرجها من مكمنها تحت قوس الجسر, أُلقى بحمل ثقيل من الأعلى فهبط على صفحة الماء فماجت أمواجه وعكر صفو الهدوء والظلام. جفل (معروف) وإنسحب إلى ظلام ما تحت الجسر. طفى الحمل المسجى على صفحة الماء وتهادى لا تبين تفاصيله من بين دفقات أشعة النجوم الذى أعتلت صفحة السماء. حرك تيار الماء المنطوى تحت السطح الحمل الثقيل وسحبه بإتجاة قوس الجسر.تشابك غطاء الحمل الطافى مع نتؤات الحجر البارز الواقف فوقه (معروف). شعر بالقشعريرة تملأ جسده وبرغم الخوف و الإرتياب مد يده ليزيح الغطاء عن الحمل الطافى فوق الماء. كاد يصرخ من الفزع لولا أنه أسرع بوضع كفى يديه على فمه فكتم الصرخة الشنعاء. تراءى له فى الظلام وجها وسيما مخموش الجلد وجسدا مأكول الأطراف مهدل لحم الكتف منهوش الرقبة وكأن وحشا من الوحوش قد أنبش مخالبه فيه وحدد أسنانه عليه. إرتفع بقدمه الهابطة فى الماء وأرتقى أعلى نقطة على الحجر البارز مبتعدا عن الجثمان الشائة لا يستطيع إبعاد عينيه من لقاء العينين الشاخصتين ولا عن الملابس الحريرية التى تشى بعز صاحبها وغناه. تحرك الجسد الطافى بعد أن أنفك أسره أمام الحجر البارز وإستكمل الطفو على سطح المياة السوداء مخترقا الجانب الآخر من القوس قاصدا عرض النهر مندفعا نحو الشلالات. صدرت زمجرة مرعبة من الأعلى بعد خروج الجسد من الناحية الأخرى للقوس وكأن ما أصدرها أدرك بأن الجسد فى طريقه للإختفاء بين فوران مياة الشلالات. تحركت الأقدام الثقيلة فوق الجسر, إستقر صاحبها على العربة الخشبية فأصدر الحصان حمحمة خوف وإعتراض وجفل قبل أن يلجمه صاحبه بزمجرة أخرى رهيبة جمدت الدماء فى عروق (معروف). دارت عجلات العربة فوق أحجار الجسر وشرعت تسير منتظمة الإيقاع قاصدة إلى جوف الغابة الشمالية من حيث أتت. تلاشت طقطقات سنابك الحصان وحمحماته المفزوعة والزمجرة الغريبة وأختفت فى الظلام بينما وقف (معروف الإسكافى) على صخرته الناتئة تتسرب المياة الداكنة تحت أقدامه والقشعريرة بين جوانحه. جريمة نكراء حدثت أمامه ولم يحسب لرؤياها حساب. بدا له أن من ألقى الجثة من حالق كان قد تركها فى الغابة تنهشها الوحوش قبل أن يلقى بها فى مياة النهر فيجرفها التيار نحو الشلالات. جريمة مكتملة الأركان مفزعة الدلالة. أطل برأسه أخيرا من تحت قوس الجسر الحجرى, تلفت حوله ينظر فى كل إتجاة يطمئن من خلو الطريق. خرج فى الظلام متسربلا بالحذر والتوجس سار على ضفة النهر مبتعدا عن الجسر تتملكه حمى الفرار. لما أبتعد عن الجسر بمسافة كافية أطلق لقدميه العنان وهرع إلى كبير الشرطة فى الحى (على الزعفران) ليخبره بما رآه. إنطلق كبير الشرطة وجنوده إلى النهر بحثوا عن الجثمان بين جذور الأشجار المستقرة على الضفاف ربما علقت الجثة بينها كما علقت فى طرف الحجر الناتىء تحت الجسر المقوس. إستمرت الدوريات تجوب الضفاف إلى الصباح ولما أنطفأ أمل العثور على الجثمان عادت الشرطة إلى الحى وما هى سوى ساعات حتى تناسى الجميع الأمر وتلاشت الأخبار وتقلصت الشائعات.







-4-



 إنتشرت بعدها فى الحى بأيام حكاية أغرب وهى إختفاء المغنى الوسيم (حسن الساهر). إنبثقت الشائعات من ألسن الناس وطفق الأمر حديث مجالس السمر والمنادمات. جلس (معروف الإسكافى) بين الرفاق يستمع مثلهم إلى الهمسات الدائرة يهدف إلى إستبيان الأمر. لم يكن ليحكى للرفاق عن الوجة الوسيم المخموش الذى طالعه تحت الجسر فى الظلام وعن مدى الشبة بينه وبين ما يحكى الناس من أوصاف المغنى المفقود ووجه الوسيمه وملابسه الحريرية. فلو باح بما أعتقده وقتها وهو جالس بينهم بأن الجثمان الذى رآه لابد وأن يكون جثمان (حسن الساهر) لظنوه معتوها. لبث وسط الحشود يرمى بأذنه فى طريق كل حوار يدور وما أن شرع (عزيز السقاء) فى الحديث حتى أمال جذعه ينصت فى وجل:

-الوالى (العيدروس) غاضب أشد الغضب من كبير الشرطة فلم يجد (على الزعفران) أثرا للمغنى المختفى إلى الآن.

رد (صالح الحمال) قائلا:

-وكيف تعثر الشرطة على من أختفى كعمود دخان فى الهواء.

إمتزج صوت (سنفور) القزم فى مجرى الحديث مضيفا:

-سمعت أن (على الزعفران) إستجوب أخت القاضى (أحمد بن داوود), الحسناء الثرية (سمرهند), لما كان بينها وبين المغنى من هيام معروف وعشق مستور, ثم موجدة وحقد بعد أن خانها (حسن) مع الغجرية (فلة) العرافة, مما أدى لشكوى القاضى كبير الشرطة للوالى.

أجاب (صالح الحمال) فى تأفف:

-ولم يغضب القاضى وقد كشف المستور و أدرك جميع من بالحى بما دار فى بيت أخته وما بينها وبين المغنى الشاب. ربما هى بالفعل من قتلته وأخفته إنتقاما منه وثأرا لعشقها المحرم.

أردف (سنفور) قائلا بصوت كالصفير:

-حتى مضارب الغجر فى الغابة الشمالية أغار عليها كبير الشرطة ولم تسلم (فلة الغجرية) وأهلها من السؤال والإستجواب.

طرأت على وجه (معروف) غشاوة من يقظة مفاجئة, فسأل (سنفور) مستفسرا:

-أيسكن فى الغابة الشمالية غجر؟

إلتفت إليه (سنفور) ونظر إلى الرفاق قائلا فى مرح:

-صاحبنا ينام على أذنيه ولا يعرف الأخبار. أتعرف الجسر المقوس المقام فوق النهر, لو سرت عليه وأتخذت الممر قاصدا إلى الغابة فستقودك قدماك إلى مضارب الغجر وخيمهم المقامة بين الأشجار. وهناك ستقع عيناك على أجمل غجرية. رائعة الوجه ممشوقة القد والقوام ذات عيون ساجية تقتل ألف فارس وخيال. يقال أن المغنى(حسن الساهر) وقع فى غرامها مما أدى لغضب سيدته الأولى (سمرهند) فطردته من قصرها وأضمرت الإنتقام.

أردف (عزيز السقاء):

-يقال أنه هو و(فلة) بالفعل صارا عاشقين ينهلا من آبار الحب أعذب المياة. لهذا ذهب (على الزعفران) لأطراف الغابة للسؤال والإستجواب.

هز (معروف) رأسه المضطرم بالأفكار. أدرك بإلهام من الباطن بأن الغجر لابد وأن لهم يد فى الموضوع ولاحت فى ذاكرته العربة التى يجرها الحصان وصاحب الزمجرات المرعبة وقد إتجه بالعربة إلى داخل الغابة بعد أن ألقى بالجثة فى النهر. أخفى إرتجافة زحفت على أطرافه بعد أن تذكر الحادثة المخيفة وجلس بين الرفاق تكتنفه الأفكار والخواطر الشاردة. عقد العزم فى سره على أن يزور مضارب الغجر فى الغابة الشمالية ويراقبهم من بعيد ربما إستطاع أن يزيح الشكوك التى أنتابته بخصوصهم عن كاهله. ويتأكد بأنهم لا علاقة لهم بما حدث للمغنى الوسيم (حسن الساهر).





-5-



عند الأصيل أغلق حانوته وأمتطى ظهر حمارته يتدلى مركوبه الأصفر من الجانبين محل الركابين. تحرك قاصدا إلى ضفة النهر وما أن وصل أمام الجسر المقوس حتى إقشعر بدنه وأرتعدت أوصاله أثر الذكرى. عبر فوق الجسر ودلف إلى أطراف الغابة الشمالية الكثيفة الأشجار. أخذ بتعليمات (سنفور) المهرج عن كيفية الوصول إلى مضارب الغجر وظل طوال الطريق يناوش سيقان الشجر ويتفادى الأغصان المدلاة والجذور الممتدة التى تقطع طريقه. طرق أنفه رائحة شواء وارتفع فى الأفق بين هامات الأشجار السامقة عمود من دخان أبيض. أدرك بأنه أقترب فهبط من على ظهر ركوبته وساقها من خلفه قاصدا إلى مرتفع يطل على الخيم المنصوبة فى بقعة خلاء بين الأشجار. تراءى له المخيم على ضوء الشمس الغاربة. الغجر جالسين متحلقين حفرة من النار يطهون الطعام على ألسنة اللهب وترتفع عقيرة بعضهم بالكلام فتصل الأصداء إلى مسامعه بالأعلى غير واضحة التفاصيل.ظل مختبأ خلف الأجمات يلتقط الكلام الهائم والأحاديث البعيدة العابرة. لم يأت ذكر المغنى الوسيم على أى لسان. رأى من موقعه غجرية حسناء ممشوقة القد والقوام تتحرك بين الخيام لتلقى بسحرها بين الرجال. توقفت لتتحدث مع أحد الشبان مفتولى العضلات بينها وبينه تشابه فى الملامح والحركات. أدرك بفطنته بأنها هى (فلة) الغجرية العرافة التى خلبت لب المغنى المفقود.

هبطت الشمس فى السماء وهو لا يبارح موقعه الخفاء, تلاشت الضوضاء وخفت الصياح فى المضارب وهدأت الأحوال. تحرك الأشباح السائرة أمام النار بسرعة وكأنها تخاف إنقضاض الظلام. تباطىء بعضهم فى الدخول إلى الخيم المنصوبة وعلى الضوء الشحيح للنار المشتعلة شاهد تحولا مخيفا تراءى له على سحنات الغجر المنفضين وأجسادهم. فرك عينيه ليزيل غشاوة الحد الفاصل بين الضوء والظلام. أحد بصره بإتجاه أطياف الغجر. كتم صرخة كادت تشق صدره وتكشف موقعه. شاهد التحول العجيب الذى يحدث أمام ناظريه وأقشعر البدن وذابت الأحشاء؛ تحولت الوجوة فصارت مسوخا مخيفة, طالت الأطراف فغدت كأطراف السباع, أنبشت المخالب فى لحاء الأشجار القريبة, وتصاعد العواء يحمله الهواء, إمتد شعر الوجة والجسم فصار فراءا غزيرا مسود الألوان, تحولت الكلمات إلى حشرجات مخيفة والصوت زمجرات رهيبةورتعت الوحوش بالمكان.

لاحت فى ذاكرته الزمجرة المتكررة التى ترامت لأذنه تحت قوس الجسر فى اليوم المشؤم. خفض عينيه فى رعب بعيدا عن منظر التحولات ولهج لسانه بالتمائم والقرآن. حتى (فلة) صاحبة الوجه الحسن والقوام الممشوق, شق جسدها نصفين وخرج من جوانبها غولا مخيفا طويل المخالب حاد الأنياب. توارت الأجساد المخيفة والوجوة المشوهة وراء أستار الخيام. وسكن المخيم فى صمت بعد طول حراك. إنكمش ( معروف ) فى مكانه مذهول البال, يورده عقله مناهل سامة وآبار غور. إرتعد وإرتعش, كاد يلقى بما فى بطنه من طعام. بعد وهلة هدأت سريرته وإستجمع شجاعته, تجلد بالبأس وبحس الفضول والمغامرة, لم يكن (السندباد) وهو جاره القديم أشجع منه طرا بأى حال من الأحوال. قرر الهبوط إلى مضارب الغجر والتنقل بين خيم الوحوش النائمة ليتيقن بأن ما رآه لم يكن ضربا من ضروب الخيال أو خدعة من خدع الظلال والظلام. أودع عمامته أرض مخبأه وهبط من مكمنه حافى القدمين حاسر الرأس يتنقل فى حيطة وحذر وتخف تام. أقترب من طرف المخيم من الخلف, طالعته القدور المنصوبة فوق الكوانين وسمع نشيش ماءها المغلى. فكر بأن يلقى نظرة بجوف القدور فلم يطاوعه قلبه أو قدماه, خاف بعد أن تذكر حكايات (السندباد) عن الغيلان والوحوش والقدور المملؤة بلحوم الأطفال والرجال. تقدم حذرا من ركن أحد الخيام ثم إلتف حول القوائم حتى وقف أمام مدخلها. لاحت منه نظرة للداخل فلم ير سوى ظلالا وأطيافا غير واضحة المعالم. تحرك فى سواد الداخل وأقترب من الفراش. تمطت قدم سوداء أمامه لتسد الطريق, معروقة مغطاة بالفرو الأسود تنتهى بمخالب معقوفة رهيبة. كتم صرخته بكفيه وغطت قلبه غشاوة ثقيلة من الرعب, تمايل جسده للأمام كاد يسقط مغشيا عليه. أمسك بطرف العمود القائم على باب الخيمة ليمنع نفسه من السقوط. ركل الحصباء بقدمه بدون قصد. صدرت حشرجة مخيفة من تلافيف الظلام, تجمدت الدماء فى عروقه, وتخيل أحد الوحوش النائمة يستيقظ من سباته فينقض عليه ويحدد أسنانه فى رقبته. إستعد للموت والفناء وأغمض عينيه خشية اللقاء, لم يحرك ساكنا وإنتظر القضاء. لحظات مرت كالدهر ولم يحدث شىء فتح عينيه فى وجل فوجد الأجساد الممسوخة كما هى على الفراش تتقلب على أجنابها يصدر عنها حشرجات النومونخير الأحلام. دار على عقبيه فى صمت تملأ أسماعه ضربات قلبه المفزوع, خرج من الخيمة يلهج لسانه بشكر القدر والحظ اللذان أنجاه, أسرع يغادر المخيم وصعد إلى مخبأة مرتعد الأوصال. عرف بسر المخيم الرهيب, وأدرك بلا شك أن الغجر من ساكنيه يتحولون بسحر أسود عظيم إلى غيلان مخيفة بعد حلول الليل وإختفاء الشمس, أما فى النهار فتعود الهيئة إلى هيئة الآدميين ويصير الغول إنسانا وبشرا كما كان. تأكدت ظنونه بأن من قتل المغنى الوسيم وألقى به منفوق الجسر هى أحد تلك الوحوش النائمة وإن لم يعرف تحديدا أيهم. وضع العمامة على رأسه والمركوب فى قدميه تقدم حيث أخفى حماره فأمتطى ظهره وأبتعد عن المكان الملعون يتمتم بالرقى ويستعيذ من الشيطان والسحر الأسود والغيلان.



-6-



قبع فى بيته بعد مغامرته المجنونة لعدة ليال. لا يخرج لغرض ولا يفتح حانوته للطالبين. أمتلكه الفزع فسور حول عقله الأسوار, إكتنفته حمى عجيبة أقعدته مريضا فى الدار. زاره الرفاق وتمنوا له السلامة والإبلال. لما هدأت السريرة إنخفضت الحرارة وتماثل للشفاء. خرج من الدار يتمشى فى ضوء النهار وعند الأصيل عاد إلى داره يسابق الضوء المنسحب, زحف الياس إلى قلبه فى الليل والظلام إلا أنه لم يستسلم لتكديره. تبادر إلى ذهنه فكرة مغادرة الحى والهجرة إلى حى آخر بلا رجعة إلا أنه ما لبث أن أدرك بأن الغجر قوم رُحل لا يستقرون بمكان, فلو ترك الحى وإنتقل إلى آخر فما يدريه لعل الحظ التعس يدفعهم فيهبوا فى أثره وينقلوا مضاربهم ومخيمهم قريبا من مكان إستقراره الجديد.

حاول الخروج من أطواق الحيرة التى كبلت تفكيره, فعاد إلى مجلس السمر ينادم الرفاق. جلس بينهم مهموما بما يحمله صدره المثقل بالأسرار. لم يستطع البوح بما إكتشف ورأى, فلو أخبرهم بأن المغنى الوسيم (حسن الساهر) إلتهمته أسرة من الغيلان ثم ألقوا بجثته فى النهر ليجرفها تيارهنحو الشلالات؛ لأودعوه (مورستان) المدينة وجعلوه رهين محبسه والشبهات. توالت حوادث الإختفاء فى الحى فأختفى (جميل الحداد) و (منجى البزَاز) وغيرهم من البسطاء, إنتشر العسس والمخبرين بين الدور والحانات. إشتعل قلبه بالفزع و تلظى فى نار القلق والحيرة وباتت لياليه مسهدة مرهقة لا تطاق, ضعفت أعصابه ولم يعد يقوى على العمل. ذهب إلى (زغلول العطار) فأشترى منه الوصفات المشفيات , إبتلع أقراص الدواء وسائل التغذية والإستشفاء. ظلت حاله تسوء حتى إنتفض فى ليلة من الليالى يصرخ فى فراشه كطفل صغير بعد أن دهمته الكوابيس المفزعة أثناء نومه الخفيف. ظل منتصبا فى فراشه حتى تنفس الصباح وما أن أنسل الضوء من خصاص نوافذ الدار حتى تسربت إلى عقله أفكار أعادت إلى قلبه ماء الحياة. عقد العزم على المقاومة وعدم الإستسلام للمخاوف التى طالما أرهقته وسلبت منه روحه الأسيرة. جلس خارج الدار على المصطبة الطينية يغتسل من الخوف والأدران ويستحم فى ضوء الشمس ونور السماء, يفكر فى خطة للقضاء على الغيلان المستقرة فى الغابة لايدر بهم دار. دلف إلى الدار بعد طول تفكير, أزاح غطاء زير قديم يغطيه التراب مد يده داخل جوفه وأخرج صرة من المال هى كل ما أدخره فى الحياة. وضع عمامته وأمتطى حماره قاصدا عطفة العطارين, سار بجدية نحو حانوت (منصور الزيات) سأله عن زيوتالحوت والقناديل وأبتاع منه خمس من الدنان الكبيرة, طلب منه توصيلها إلى داره وأنقده نقوده كاملة, و(منصور) واقف فى حانوته يتملكه الفضول والذهول من الطلبية العجيبة.



-7-



سار به الحمار على ضفة النهر الجار حتى وصل للجسر المقوس. أعتلى الجسر وقطع ممرات الغابة الشمالية حتى وصل إلى مضارب الغجر. شملت الحركة المكان وما أن إقترب بركوبته حتى إشرأبت الرؤوس وإلتفتت إليه الأعناق. تهادى إلى وسط المخيم بثقة العارف ووقف بجوار حفرة النار. إستجمع الشجاعة فى سره وتذكر المهمة الخطيرة التى جاء لتنفيذها وزفر زفرة حارة يتخلص بها من بقايا الخوف والرهبة وهبط من على ظهر الحمار. إقترب منه الشاب القوى الذى رأى (فلة) تتحدث معه طويلا فى زيارته الأخيرة للمكان.

سأله الشاب مستفسرا عن غرضه من الزيارة:

-كيف يمكننى مساعدتك يا صاح؟

نظر إلية (معروف الإسكافى) بمظهر لا ينبأ بمخبر وقال:

-أنا صديق للمغنى (حسن الساهر) تربينا سويا منذ الصغر ولما وصلنى خبر إختفاءه ذهبت إلى الشرطة أستعلم منهم عن الأمر فلم يجيبوننى بما يريح صدرى المهموم. عقد العزم وأخذت أمر البحث عنه على عاتقى. أخبرنى أحد الشهود الموثوقين بأن آخر من رآه هى (فلة), فجئت أسألها عن الخبر ربما أفادتنى إجابتها وكان حديثها مفتاح النجاة.

تجهم وجة الشاب وإنقبضت تقاسيمه ثم لم يلبث أن عادت للوجة إبتسامة صفراء. رنا الشاب إلى (معروف) فى مكر ملحوظ وقال:

-أنا (حسان) المسؤل عن المخيم. و(فلة) ذهبت إلى سوق الحى لتحضر بعض الأغراض وستأتى عند غروب الشمس . يمكنك إنتظارها بيننا حتى تجىء من المشوار.

إمتلكت (معروف) إرتجافة خفيفة عند ذكر غروب الشمس, حاول إخفاءها. تظاهر بالتماسك ورد قائلا:

-لا يمكننى ذلك للأسف. لدى من الأعمال ما يمنعنى من الإنتظار. قد أجىء مرة أخرى للسؤال أو تستطيع أن توصلها الرسالة فتمر على دارى فى أى وقت تشاء. الدار معروفة للصغير والكبير فلتسأل عن دار (معروف الإسكافى) وسيدلها ألف دليل.

لم يترك للشاب فرصة لإقناعه بالإنتظار, أمتطى ظهر حماره فى عجالة وعاد من حيث أتى تاركا الشاب ينظر إليه بنظرة شزراء إنعكست من عيون مملؤة بالحقد والشقاء.

حقق الغرض من زيارته وألقم الشص بالطعم وتركه مدلى فى مخيم الغجر يصطاد. كان يدرك جيدا بأن الشك سيملىء قلوبهم المتحجرة والريبة ستحرق صدورهم السوداء ولن يلبثوا أن يتركوا الغابة فى المساء للسعى وراءه وإسكات فضوله. إتجه إلى داره مباشرة بعد اللقاء , جهز الأشياء وأعد العدة للمساء. جلس على مصطبة فى ردهة الدار المغلق ينتظر الظلام يدرك جيدا بأن الليل سيجن وسينسدل مع أستاره وتلافيفه وحوشا مخيفة وغيلان.



-8-



فى الهزيع الأخير من الليل, شعر بحركة مريبة خارج أبواب الدار. سمع خشخشة أقدام ومخالب تنبش عتبة الباب ثم تنتقل الحركة إلى الناحية الخلفية للدار لتعبث فى الحوائط والجدران. ترامى إلى أذنه زمجرات خافتة وحشرجات غريبة. أدرك بأن الغيلان جاءت للإنقضاض عليه فى الظلام. قام منتصبا من على المصطبة الطينية التى إقتعدها طوال الليل. صعد درجات السلم الخشبى المفضى إلى سطح الدار من فتحة بالسقف. ركل السلم بعد أن أرتقى السطح فوقع السلم وإستقر على الأرض المظلمة. زحف على سطح الدار منبطحا كثعبان, إقترب من حافة السور وطالع ما يحدث أسفل منه فى حذر شديد. تراءت له أشباح سوداء مخيفة الصور والتهاويل تتحرك مسرعة من جانب لآخر من الدار إلتمعت منها الأنياب البيضاء والمخالب الرهيبة السوداء وتقوست ظهورها وجذوعها تشتم الأرض حولها كالذئاب ثم ترتفع الهامات الطويلة فتكاد تصل إلى حافة السور المنبطح خلفه. تجمعت الوحوش بعد تفرق أمام الباب, زمجر أكبرها حجما ورأى على ضوء النجوم سحنته المخيفة فأدرك التشابه بينها وبين وجه (حسان) الشاب مفتول العضلات. تشمم الوحش باب الدار ثم إندفع بجسده الملفوف بالعضلات والمخالب والأنياب فشطر الباب الخشبى نصفين. دلفت الغيلان من وراءه واحدا وراء الآخر.

حانت اللحظة الحاسمة التى إنتظرها (معروف). هبط من فوق سطح الدار أضاء قنديلا صغيرا كان يحمله وأشعل فى فتيله النار. تقدم أمام الباب المكسور فطالعته أطياف الغيلان تبحث عنه بالداخل. ألقى بالقنديل فوق عتبة الباب. إنكسر زجاجه وإندلق زيته وإشتبكت معه النيران. لم تلبث النار أن تفرعت وأمتدت وأمسكت بزيوت الحوت الملقاة على الأرضية والمشبعة بها الجدران. تسابقت خيوط النار لتصنع حلقة طوقت الوحوش ثم وصلت ألسنه اللهب إلى دنان الزيت الموجودة فى الأركان فإنفجرت بدوى مكتوم وصارت الدار كتلة من اللهب  المحموم والشرار. رأى من خلال ألسنة اللهب فى موقعه بعيدا عن باب الدار, الأشكال الشوهاء الضخمة تتراجع فى حلقة مغلقة. بعضها تقافز على قائمتيه الخلفيتين يحاول الوصول إلى فتحة السقف. لحظات وإقتربت منهم النيران وأمسكت ألسنتها بالفراء الأسود والجلود. عوت الغيلان وصدرت منها صرخات مهولة فأجفل (معروف) وتقهقر للخلف خطوات. تحرك بعد أن إنفك أسره من مشاهدة ما يراه, دلف إلى الحظيرة فأخرج منها الحمار الذى حمل على ظهره بقجة كبيرة تحوى بداخلها الملابس والأغراض. سار فى الطريق مسرعا يترامى لمسامعه العويل والعواء. لاحت منه إلتفاتة إلى الخلف حيث الدار فرآها تحولت لشمس صغيرة شقت أسدال الظلام, لاينفك يقطع سكون الليل صوت طقطقات النار و صرخات الغيلان المحترقة داخل الدار. رنا أمامه ونخس جانب الحمار بقدميه فأسرع فى السرى قاصدا إلى أطراف العمران.

عقد (معروف الإسكافى) العزم مسبقا على مغادرة الحى بعد أن يقضى على الغجر المسحورين, وينتقم لكل من ساقه الحظ الأغبر فى طريقهم الأليم. ترك الحى بما وبمن فيه وفى الصباح سيجدوا داره قد تلاشت مع الدخان تحمل بين رمادها سر مقتل المغنى الوسيم وسيىء الحظ الآخرين.



المغنَى(حسن الساهر)

-1-



تتوالى الأيام على الحى برتابة مقبضة. يسير ساكنيه على أديمه منكسى الرؤوس من ظلم الوالى (عبدالله العيدروس) وكبير الشرطة (على الزعفران) والقاضى (أحمد بن داوود). تتهدل الأجساد وتنقصف الهمم فى خدمة ذوى المال والجاة والسلطان ولايبقى للفقراء سوى بضع ساعات من اليل يقضوها فى مجالس السمر والحانات. لم تكن تلك المجالس للترويح عن الهموم ولا تحريك ذل النفوس وإنما كانت فى أغلبها لتزجية الوقت وقتل الفراغ. دخل المغنى الوسيم من باب الحانة فرنت إليه الأبصار لوسامته الظاهرة. تقدم حتى جلس أمام النظارة وأخرج الربابة من تحت غطاء قماشى, شرع يعبث بأوتارها ويضبط نغماتها ولما أنتهى, أنشد بصوت كالكروان أغنية حزينة الكلمات فإلتفتت إليه الأعناق فى إفتتان. عذوبة الصوت الصادح تفوقت على ملاحة الوجة الوسيم, طفق يغنى والناس منبهرين بالصوت العذب الرخيم. تمايل الجميع فى أريحية وإنبساط وللوهلة الأولى منذ دهر طويل نسى الفقراء والأغنياء على السواء البرزخ الفاصل بينهم وتلاقى الكل مرددين على المغنى أشعاره وأهازيجه وأغانيه. إمتزج خمار السكر بهزيج الأغانى والألحان ووسامة المغنى وصوته المليح, وطفق المجلس ينهل منها جميعها بلا منغص أو مكدر. أنهى فقرته فزعقت الحناجر تطلب المزيد. إنفرجت أسارير (حسن الساهر) ورفع ربابته مرة أخرى فأزاد وأطال من تراتيله الساحرة وأغانية العذبة. سكر المجلس بالغناء والصوت الصادح والجمال.



-2-



صار أسمه نارا على علم, عرفه الصغير والكبير, الغنى والفقير. زاع سيطه وشهرته فطلبه الأغنياء والسادة للعزف والغناء فى البيوت ومجالس السمر. أحيى حفلات الحى التى لا تنتهى, حتى كبير الشرطة (على الزعفران) أحضره لإحياء حفل زفافه الميمون على زوجته الثانية (زينب الجمال) . إتسعت دنياه بعد ضيق وشظف, صار صوته العذب حديث المجالس والحانات. إمتلأ جيبه بالدراهم والدنانير و إرتدى الحرير يمشى فى شوارع الحى يضع عمامة دمشقية على رأسه وعباءة خرسانية على جسده ويرتدى مركوب بغدادى أصفر اللون غليظ النعل.

تذكر كيف كان يستقر جسمه من قبل فى أسمال بالية وخرق ممزقة لا تقى بردا ولا تدفع حرا, لاحت فى خياله ذكرى معلمه وشيخه (سعد الدين العطار) وكيف كانا يتنقلان فى حوارى وأسواق الكوفة لإلتقاط الرزق الشحيح حيثما إتفق بالعزف على الربابة أو العود. بعد أن مات الشيخ (سعد الدين) هجر مدينته وجاء إلى الحى ليجرب حظه ويشحذ فنه. تلقاه الناس بالتجهم فى البداية وسرعان ما تحول التجهم إلى إعجاب خاصة من نساء الحى وقيانه. جذبتهم وسامته التى كانت تضوى من خلف غلالة الفقر والضعف والتراب. كان يسير حاملا ربابة شيخه (سعد الدين) فى السوق عندما إستوقفته إحدى السيدات. رنت إليه من خلف خمار منسدل على وجه خمرى اللون حسن الملامح. أدرك بفطنته وإلهام الباطن أنها سيدة حسناء ثرية فى منتصف العمر. تسلقت عيناها جسده الزابل ثم توقفت النظرات تتمشى على أديم الوجة المليح تستشفه من خلال طبقات القذارة و التراب والطين. تحركت فى قلب السيدة الحسناء شهوة كانت تظن أنها إنطفأت منذ زمن طويل. فهم هو الآخر سر النظرات النهمة ولم يمانع طلب العينين. سألته بصوت لامس شغاف قلبه المحروم:

-أتسترزق من صوتك؟

أجاب فى سرعة وتلهف:

-نعم.

أشارت برأسها للربابة التى يحملها, تختبره:

-أسمعنى شعرا حسنا.

تحركت أوتار الربابة تحت أناملة كالزبد على النار, صدح الصوت الرخيم وسط السوق فتوقف القريب والبعيد وإلتفتت إليه الأبصار مستحسنة العزف والغناء. أشارت إليه بالتوقف وظهر الشغف والإرتباك فى العيون الساجية المكحولة. طفت إبتسامة على الوجة رآها من خلف الخمار, إنتظرت حتى تفرقت جموع الناظرين وعادت الأعناق  إلى مستقرها الأول مبتعدة عنها وعن المغنى الوسيم.

قالت له:

-لى مجلس سمر يحضره الأعيان والأغنياء. صوتك عذب وعزفك جميل قد تثرى مجلسى فتعال معى.

أشارت إليه فتبعها مبتهج الصدر مسرور الوجة. سار كتفا إلى كتف مع خادمها الأسود غليظ الشفتين متجهم القسمات, عبد بلاشك من عبيد السيدة الحسناء. سار خلفها مسافة قريبة ثم عرجت على بيت مهيب أشبه بقصر الوالى الذى رآه مرة من بعيد, بل يكاد يضاهه فى المهابة والسعة. أدخلوه مباشرة إلى حمام مغربى فنفضوا عن جسده الأسمال القذرة وتولته الخادمات بالتنظيف فكُشطت عن جسده طبقات من العرق والطين. أعطوه ثيابا تليق بالمقام الجديد وأدخلوه على مخدع السيدة الحسناء. إستوت على الفراش حاسرة الوجة لا يغطها خمار, جسدها مدمج ملتف فى قميص حريرى شفاف يكشف من تفاصيل الجسد اللدن وتعريجاته المثيرة أكثر مما يستر. أشارت إلى اريكة ذات مساند أمام الفراش فجلس عليها مطيعا. طلبت منه الغناء فتحركت أنامله على الربابة وأمتلأ جو الجناح بالدفء والهيام وصدح صوته فملأ أسماع السيدة الحسناء شهوة وإنسجام. ما هى سوى أغنية واحدة غناها حتى وجد نفسه فى أحضانها يعزف ألحانا شبقة شهوانية لم يكن يدرك بوجودها من قبل بين حناياه.



صار العشيق والمغنى تلاحمت الوظيفتان ولم يجد فاصلا يفصل بين مهام الأولى وتبعات الثانية. ترامى إلى سمعه بعد ذلك همسات الخادمات, عرف منهن بأنه يعيش فى كنف أخت القاضى (أحمد بن داوود), أدرك إسمها بعد طول جهل , (سمرهند), أرملة شهبندر التجار ترملت منذ أن توفى ولم تنجب له أطفال. زاق الشهد فى مخدعها ورفل فى ملابس حريرية لم يجد لنعومة ملمسها مثيل. إمتلأ وجهه بالدماء وإنتفخ جسده الذابل فضوى سحره وإنفجرت وسامته لتضىء أركان القصر الكبير. بعد طول إقتران شبعت منه ولم تعد تختص أغانيه لنفسها كما كانت. تركته ينشر فنه فى مجالس السادة بعد أن قدمته إلى مجلس سمرها أخيرا والذى يحضره ثلة من الأعيان وكبار الحى. صار جوهرة المجلس البراقة وتاج الفرحة والإنبساط. تعامى الجميع عن وظيفته الأخرى كعشيق لأخت القاضى وإنكتمت الأخبار والأقاويل فى النفوس والصدور. لم يشى ايا منهم بالأمر لأولى الأمر أملا فى حضور المجلس الخاص والإستزادة من الصوت الرخيم والوجة المليح والخمر المنسكب بلا إنقطاع.



-3-



رآها لأول مرة تجلس تحت أقدام سيدتهوعشيقته. دخل على (سمرهند) مخدعها بلا إستئذان كما تعود فوجدها تستقر على أريكة وثيرة مترعة بالحشايا والمساند. تجلس على السجادة الفارسية أسفل منها غجرية حسناء حاسرة الوجة واليدين, تمسك بكف السيدة الثرية وتحدج بها فى حدة. إستقرت عيناه على وجة الغجرية وإنتفض قلبه وارتفع وجيبه, مست شغاف القلب بلونها الخمرى الرائق وعيناها الساجيتان وفمها المشدود. لم ير لجمالها مثيل, تفوقت على سيدته (سمرهند) فصارت فى عينيه هى السيدة وإنطوى وجة (سمرهند) خلف غشاوة النسيان, هبطت أخت القاضى إلى منزلة أدنى وأرتفعت الغجرية لتتربع على عرش الفؤاد. أدرك منذ اللحظة الأولى بأن الغجرية الجميلة تستقرأ الطالع للعشيقة الثرية فترنو بلحاظها إلى كف اليد المخضب بالحناء تقلب فيه النظر ثم تنظر إلى السيدة المستكينة بالأعلى فتطلعها على أخبار الغيب وهمسات السماء. إلتفتت إليه مرة وهى تنتصب للقيام بعد أن إنتهت, فاشعلت فى صدره نيران الوجد والإشتياق. خرجت من جناح (سمرهند) فتحجج بحجة واهية وإنطلق على أثر الغجرية يتعقبها فى الردهات وإنتقل معها إلى الطرقات حيث تسير يسير هو ورائها. توغلت فى السوق ووقفت أمام الحوانيت تستطلع السلع والاسعار. إستغل الفرصة وإقترب منها من الخلف. تسلقت عيناها وجة الوسيم وهبطت منه إلى ملابسه الحريرية. همس لها فى هيام:

-وما الطريق إلى الوصال؟

تحركت فى غنوج تسير بتؤدة تشجعه على الإستمرار. سأل مجددا ينطق قلبه بما يشعر به:

-ألا تستقرأين الطالع لمعذب إهتصره الإفتتان؟

ندت إبتسامة عن الفم المشدود زكت نيران الحريق المشتعل وأجابته فى دلال وإستهزاء:

-أتترك الحرير وترتدى الصوف؟!

أدرك بأنها تعرف بأنه عشيق السيدة الثرية إلا أن الغواية كانت شديدة فنفض عن نفسه التهكم الواضح والإستهزاء وإنطلق بجانبها يقص عليها حكايته وأنه فى الأصل مسكين مثلها يسترزق حيثما إستقر الرزق. تحركا سويا فى مدارج الطرقات يسيران بجوار بعضهما البعض وقد جذبهما الحديث برباط وشد على الرباط تلاقى الروحين والإعجاب المتبادل والنظرات. لم يتركها إلا بعد أن ضربت له موعدا فى الغد على أن يتلاقا عند أطراف السوق الكبير. عاد إلى قصر عشيقته الثرية وقد خبت فى قلبه نار العشق القديم وإشتعل به نارا جديدا وعشق جديد.



كثرت القاءات بينه وبين الغجرية الحسناء. هربوا بعيدا عن العيون المتطفلة فى أطراف الاسواق. إستكرى عشة من الخوص من صاحبها المجذوب وإستقر فيها مع عشيقته الجديدة (فلة) الغجرية الجميلة. نال من الحب والعشق ما أفتقده فى حضن (سمرهند). طلب من (فلة) لقاءها فى الليل فتمنعت ورفضت. تسائل فى نفسه عن السبب بعد تكرار الطلب وتكرار الرفض. ظن أن السبب الذى لا يجعلها تراه إلا فى ضوء النهار هو خوفها من الأهل وقد أدرك منها أنهم يسكنون قريبا من سوق الحى عند أطراف الغابة الشمالية فى مضارب وخيام منصوبة بين الأشجار. ترك لها القرار ولم يمانع اللقاء فى عز النهار طالما ينهل من آبار العشق وأنهار الوصال.



وشى به الوشاة والحاقدون وترامت أنباء عشقه الجديد إلى مسامع (سمرهند). إستشاطت غضبا وساءتها خيانته لها مع غجرية فقيرة. طردته من قصرها شر طردة وألقت بربابة شيخه فى الطريق فإنقصفت أوتارها وتكسرت أخشابها. سار حزينا فى الشوارع والأزقة المحيطة بالقصر يدفعه الحنين للعودة إلى النعيم الذى طرد منه, فيقف على أبواب جنان (سمرهند) ويطلب العفو والسماح. لاحت فى خياله ذكرى (فلة) ووجهها الخمرى الجميل, فقدحت شرارة التحدى فى قلبه, تنشق عبير الحرية من عبودية (سمرهند) لأول مرة وأكتسبت خطواته المبتعدة عن قصرها إصرار جديد. إنطلق يعزف فى الأسواق كما بدأ أول مرة إرتكن إلى الحانات البعيدة خوفا من إنتقام سيدته صاحبة السطوة والنفوذ ولما أطمئن للحالإنتقل إلى الحانات الشهيرة القريبة من الحى. وما أن وصلت الأخبار للوالى (العيدروس) بأن حصار (سمرهند)- الذى يحسب لها ألف حساب- قد إنفك وتخلت عن إختصاصها وتفردها بمقدرات المغنى الوسيم. دعاه الوالى إلى قصره وأفرد له جناح, رفع قدرهعن مغنًى القصر من موالى الفرس والروم. إستخلصه لنفسه فصار لا يغنى سوى له أو لمجلسه الخاص كما كان يفعل إبن عائشة. صارت له فرقة عظيمة من الموسيقيين عماد آلاتها العيدان والطنابير والمعازف والمزامير, تعزف له أعذب الألحان يمازجها بصوته الرائع الرخيم.

وجد فى نفس الوالى من قوة الدالة ما يدفع بها عن نفسه طلب الطالبين وإنتقام الحاقدين وثأر (سمرهند) العشيقة الجريحة لوفكرت فى الإنتقام. عاد إلى الجنة ولكن من طريق آخر. إستقر له الأمان مجددا فى قصر الوالى وإنفتح الطريق. عاد إلى لقاء (فلة) وإنتقل الغرام والعشق من عشة المجذوب إلى جناحه الخاص فى القصر. تأتى إليه الغجرية الجميلة فى ضوء النهار تجنبا لإثارة الشبهات, متخفية فى ثياب خادمة من خادمات القصر, ولا تخرج من الجناح إلا قبيل الأصيل. أصرت (فلة) على سرية الأمر بينهما متعللة بالأهل والعائلة. أخبرته بأن للغجر شرف تهرق من أجله الدماء كبقية الناس وأن الحذر واجب ومطلوب. شعر بأن هناك سرا آخر تخفيه وما إختفائها ليلا إلا لغز محير يتطلب الكشف. عقد العزم على أن يتبعها فى أحد الأيام بعد أن تترك جناحه فيذهب فى اثرها إلى مضارب الغجر. أعد العدة فى يوم اللقاء. تركها تخرج من أبواب القصر الخلفية, تخفى فى عباءة بسيطة من الكتان  وإنطلق فى الطريق خلفها متتبعا الخطوات.









-4-



أسرعت فى خطواتها القصيرة, فمد هو خطوته الطويلة ليلحق بها. سارت قاصدة إلى النهر الكبير. أعتلت جسره المقوس تتجه نحو مدخل الغابة الشمالية وهو من بعيد يقتفى الأثر ويختبأ بين ظلال الأصيل المتنامية. تسلل من خلفها محتميا بجذوع الأشجار وسيقانها. ترامى إلى سمعه تغريد البلابل وزقزقة العصافير ونوح الحمام, إستقرت الطيور فى أعشاشها على الأغصان بعد أن عادت من غدوها وصدحت الغابة بأنفاس الشمس الغاربة وهزيج ألحان الطيور وصياح فراخها. إنقصف غصن جاف تحت قدميه فأصدر فرقعة. توقفت (فلة) فى الممر المفضى إلى مضارب الغجر وإلتفتت إلى الخلف متوجسة. هبط يختبىء بين جذور شجرة سنديان عملاقة وكتم أنفاسه ملتصقا بلحائها. ما لبثت الغجرية أن هزت منكبيها فى لامبالاة وأنطلقت تقطع الممر مجددا تحث فى سيرها. الشمس تسابق الخطوات المسرعة تقصد إلى مستقرها الأخير, تلقى على الأغصان و أوراق الأشجار صبغة صفراء حزينة تودع بها الغابة على أمل لقاء قريب. إتسعت حلقة الأشجار وفى بقعة خالية إستقرت مضارب الغجر وخيمهم. هبطت (فلة) فى الممر وتحرك هو من خلفها فى حذر, إختبأ وراء صخرة يتابعها بنظراته.

إستقبلها عند أطراف المخيم شاب مفتول العضلات, حسن الوجة. لاحظ (حسن) مدى التشابة فيما بينهما فى تفاصيل الوجة وتقاسيمه. أنزوى بها الشاب بعيدا عن الأعين وأطبق على خصرها وقبلها من فمها قبلة طويلة. ذهل المغنى الوسيم من وراء مكمنه وإشتعلت نار الغيرة فى قلبه.,إربد وجهه وإنتفخت أوداجة. لاحت له (فلة) فى مخيلته تذيقه ألوان العشق فى مهجعه وما أن تعود وتتركه غافلا فى جناحه  حتى يستقبلها عشيق من بنى جلدتها فى المساء. فارت حمم النار فى صدره وإنقبض قلبه وأدرك سر الإختفاء الغامض فى الليالى السابقة. جلس فى مخبئه  خلف الصخرة يغلى صدره كمرجل. يسترق النظرات إلى المخيم التى إختفت (فلة) وعشيقها الآخر بين خيامه. قرب إنطفاء نور الشمس من صفحة السماء بينما إشتعلت نار الموجدة والحقد الأسود فى قلبه المكلوم. قرر الهبوط من مخبئه متسلل إلى أرض المخيم الذى شمله هدوء عجيب, يبحث عن (فلة) وسط الخيام ينبأها بأنه رآها مع عشيقها ويطلب منها تفسيرا للخداع وإلا سيهدم معبد الخيانة على رأسها ورأسه معا. تسلل قاصدا ممرا ضيقا فى الخلف يفضى إلى ما خلف الخيام. إسترق النظرات والخطى حتى تراءى له على الضوء الخافت المتبقى فى السماء طرف ثوبها وأقدامها الحافية وخلخالها البراق. أرهف السمع لما يدور بالداخل فلم يسمع سوى صوتها المبحوح تتغنى بالألحان. تقدم إلى باب الخيمة يتلفت حوله فى جذع ودلف من الفتحة ليفاجأها بظهوره. ذهلت من المفاجأة وتجهم الوجة الجميل عقد لسانها الخوف فجأة وإنطبعت سحنتها بتقاسيم الشقاء. هدرت بصوت غليظ لم يسمعه يخرج من جوفها من قبل:

-لم جئت هنا؟!!

قامت من جلستها منتصبة فى سرعة وقبل ان يرد عليها برد أو يتهمها بإتهام. دفعته فى صدره بكفيها فى عنف وصرخت قائلة:

-أهرب قبل فوات الآوان!

ظن أنها تتحدث عن أهلها والعشيق مفتول العضلات. وقف صامتا كحجر ينظر إليها من عيون غطتها غشاوة من الغضب والغيرة والفتور.

صرخت مجددا بلهفة وترقرقت دموعها فى مآقيها:

-الشمس أختفت من السماء فلتنج بحياتك يا منحوس!

مع آخر كلماتها توارى قرص الشمس يغوص فى الافق الأحمر, وإنقصف آخر شعاع من ضوءه الراحل. جن الظلام وإستقرت الظلال فى مضارب الغجر. على ضوء المشاعل المسترسل شاهد التحول العجيب. غلطت الأطراف وطالت الأصابع وإنعكست إتجاة البراجم تحمل فى أطرافها المخالب, تهدل الوجة الخمرى وأسود لونه برزت الأنياب الرهيبة البيضاء من الفم المشدود, وكسى الفراء الأسود الوجة والرقبة والجسم. صرخ من الفزع وتقهقر للوراء فوقع على عجيزته ينطق وجهه بالشقاء. تخيل أنه واقع فى ضلالات كابوس مخيف ولن.يلبث أن ينقضى وينزاح, إلا أن التحول إستمر أمام ناظريه. أدرك اخيرا السر وراء الإختفاء الغامض فى الليل, لم تكن (فلة) سوى غولة من الغولات ينفك السحر عنها فى الليل وتعود إلى طبيعتها الأولى. عشق غولة وبادلته العشق, فما أشقاه!

 إنهارت أعصابه وهزلت حركاته. برق بارق فى سماء العقل يحثه على الهروب. إنتفض من مكانه وهرع من فتحة الخيمة إلى الخارج. إصطدم فى لهوجته بقدر من القدور المنصوبة على الكوانين, فإنكفأ القدر وماج ماؤه المغلى على الأرض يحمل على سطحه اللحم المطبوخ المهترىء. شاهد فى فزعه كف ليد آدمية تطفو فوق المياة المنسكبة المغلية. صرخ صرخة عظيمة خرج على أسرها غولا ضخما يسد بهيكله المشوة إحدى مداخل الخيام. قام من على الأرض وإنطلق يعدو مفزوعا قاصدا حلقة الاشجار القريبة. هبط الغول الضخم على قوائمه الأمامية وتقافز مهرولا من خلفه كالوحوش. إنسل (حسن) بين اشجار الغابة يجرى فى الظلام. إصطدمت قدماه بالجذور والسيقان وأنبشت الأغصان أشواكها فى وجهه الوسيم فأدمته. علت ضربات قلبه حتى ملئت أسماعه لكنها لم تغطى على وقع الأقدام الثقيلة التى تعدو فى أثره. تكسرت فروع الأشجار وإهتزت الأرض من خلفه. أدرك بأن مطارده الرهيب على وشك اللحاق به. ترامى إلى أذنه زفرات وزمجرات وحشرجات وما هى سوى لحظات حتى إنقض عليه الغول الضخم وأنبش مخالبه فى ظهره وما أن سقط على أرض الغابة حتى حددت الأنياب فى رقبته. تلاشى ضوء النجوم من عينيه, إنطبق الظلام والصمت ولم يبق سوى أصوات خمش وتقطيع وإزدراد.



**

فى اليوم التالى خرج أحد الأطياف من مضارب الغجر بعد الأصيل, يحمل جثة المغنى الوسيم على عربة خشبية يجرها حصان هزيل. ألقى بالجثة فى النهر الجار من فوق الجسر المقوس ليجرفها النهر نحو الشلالات ويختفى (حسن الساهر) من الحى إلى الأبد فلا يجد له الوالى وشرطته أثرا بعد عين وأذن.



-تمت-