2014/08/13

حين صُفع القايد قصة بقلم : عبد القادر صيد

 حين صُفع القايد
 بقلم : عبد القادر صيد
    ـ رب يستر في هذه الليلة..
كل القرية تبتهل بهذه العبارة ، أما  العربي  الشريف صاحب الشأن  فهو يتمتم:
 ـ ما يليقلكم غير سي لخضر..
   أنفة ورثها العربي من قريته ، فمن أنفتها كادت ألا ترضى بموقعها على قمة الجبل ، ربما سكن أجدادهم ظهور السحب القريبة من قممهم ، ثم تنازلوا  بقبول  هذا المكان ،لذلك منذ أن وعى أهلها  بوجودهم و هم لا يتفقون مع جيرانهم  في أي شيء ، كلامهم دائما قليل، و فعلهم قليل، لكن مواقفهم المتأففة من كل شيء تحسب بعدد أنفاسهم..عصرت القرية نفسها فأخرجت للدنيا عائلة الشريف و هو لقبهم منذ أن انتشرت ذريتهم في هذه القرية ،لا أحد من  هذه العائلة يموت بدون قتل ، مع اشتهارهم بترحيبهم بكل زائر إلا أنهم يرفضون طيف الموت إن لم يحمل معه حديدا ،و ترفض جثثهم العبور إلى الضفة الأخرى ما لم تكن موسومة  بعلامة لرصاصة أو أي آلة حادة، لم يبق من هذه العائلة اليوم إلا بيتان ،بيت العربي ،  و بيت سي لخضر..
ـ ما يليقلكم غير سي لخضر
 هكذا كان يتمتم  العربي  مزهوا بأخيه و هو في طريقه إلى منزل القايد..  لقد أصبحت هذه العبارة مقولة مشهورة في القرية ،تُردد بمناسبة و بدون مناسبة .
    لكن الليلة بالذات القرية  كلها متوجسة مما سيحدث ، كلهم  قد أغلق عليه بابه إلا العربي وحده في الطريق المظلم .. يتقدم الآن بخطى متسارعة  إلى منزل القايد،  كأنه على موعد غرامي..ها  هو يصل إلى باب المنزل ..يدقه دقات قوية كأن رب البيت أو كأن صاحب المنزل مدين له ، يفتح له طفل صغير تظهر عليه آثار النعمة،  عندما يراه يرجع مهرولا نحو أبيه الجالس على بساط  من جلد الخروف:
ـ إنه العربي يا أبي ..
ـ  دعه يدخل، لنرى ما ذا أحضر معه !
ما زال  العربي يتمتم..
ـ ما يليقلكم غير سي لخضر..
   من عجائب الزمن أن يكون أخوه سي لخضر هذا  الذي يلهج باسمه مبحوثا عنه من قبل فرنسا و من قبل  المجاهدين ، مطلوب من فرنسا بسبب قتله جنديين فرنسيين، و مطلوب كذلك من المجاهدين لنفس السبب، ذلك أن  سي لخضر  في بداية العمل المسلح كوّن مع مجموعة من أهل قرية خلية من المجاهدين ، و نفذت أول عملياتها  بقتل جندي فرنسي ، قام  على إثرها الضابط الفرنسي  باعتقال من يشك في أمرهم ،و سلّط عليهم شتى أنواع التعذيب إلى أن مات أحدهم ، ثم أطلق سراح المتبقين و هم منهوكون  بين الحياة و الموت ، بعدها قتل  المجاهدون جنديا و هو يغتسل مع رفاقه في بركة خارج القرية ، فردّ الضابط  بقتل ثلاثة من خيرة شبان القرية، و توعّد المجاهدين إن هم استهدفوا جنوده و هم يغتسلون بالانتقام من أهل القرية أشد انتقام ، فاتفق المجاهدون على اجتناب البركة ،        و وصل الخبر إلى الضابط  ، ففهم الأمر على أنه شبه اتفاق دون التقاء ..هو تفاق عرفي بدون موثق . لكنه لم  تكد تمر أيام حتى كسر سي لخضر هذا الاتفاق، و باغت جنودا فرنسيين يتحممون في البركة بوابل من الرصاص ،و أسقط منهم اثنين ، أدركوا بسرعة  من المصدر الوحيد للرصاص أنه بمفرده ، فلاحقوه ، و لكنه أفلت منهم، و أنجز الضابط  وعيده  بقتل  ثلاثة من الشبان في سوق القرية أمام الملأ و بدم بارد ، و بهذا أصبح سي لخضر مطلوبا من الطرفين.أما عن جريمة الضابط  فأنها لم تكن لتمر دون انتقام، فما هو إلا يوم واحد حتى استهدفه المجاهدون و هو يجوب القرية بسيارة (جيب) ، فسقط الجنديان اللذان معه ، و أصيب ذراعه الأيمن ، لكنه  تمكن من قيادة  السيارة بيده  اليسرى ،  إلى أن وصل الجامع ، فدخله آمنا.
     و فيما بعد وقع سي لخضر في يد المجاهدين ،  و كادوا أن يقتلوه لولا أن أحد حكمائهم  قال :
 ـ أتقتلون رجلا نال من دماء الفرنسيين ؟! لا تنسوا  إخواني  دم أخيه الشهيد قبل سنة  في المدينة ،  حينما قتل شرطيا فرنسيا ، وحاصرته القوات الفرنسية في  الوكالة ،رفض حينها الاحتماء بالمدنيين ،فخرج  واستشهد أمام الباب مباشرة.. لا تنسوا  أيضا  أسلافه  الذين كانوا كلهم ما بين وطنيّ و شهيد ، إذا كنا نقتل بعضنا  بهذه الصورة فاعتبروني  من الآن مستقيلا من هذا الجهاد ، و ابدأوا بقتلي أنا أولا ..اسمحوا لي أن أقول لكم بكل ثقة : من كان دمه أصفى من دم هذا المجاهد فليقتله ..إخواني  إن وافقتموني الرأي ، فإنني أقترح أن نحبسه ، و في الليل يتظاهر الحارسان بالنوم  ليمنحاه فرصة للهروب ، و ينتشر خبر هروبه ،  و نضمن بذلك هيبته لنا ، كما نكون قد برئنا من سفك أزكى دم  في القرية .
   و افقت الجماعة على هذا  الاقتراح الحكيم ، و بقي سي لخضر مطلوبا  من الطرفين .
    يقف العربي الآن أمام القايد و العداء يملأ عينيه ، لا يريد أن يعتذر، و لكن لا يريد أن يحاسب عما فعل ،و دون أن ينبس ببنت شفة ،رمى بالديك الذي كان في يده اليمنى ، فراح يتبختر في المسكن الجديد يبحث عن أميرات المنزل  ، ثم رمى بالدورو الذي كان بيده اليسرى فلفّ لفتين في المنزل حتى أصابه الدوار، فوقع غير بعيد عن هذا الجالس ..تمدد لكي يتناوله ، و قال:
ـ يا العربي اصفعني مرة ثانية إذا أحببت كما فعلت أمس ، و لكن أعطني الدراهم ، فأنا أعمل من أجل أبنائي.. لا تحسب أنني أكرهكم ، أسرتكم بالذات فوق رأسي..
   ها هو دم العربي يغلي في عروقه  قد ملّ من هذه الدورة  الدموية الروتينية الآسرة ، و يريد أن يجد منفذا إلى العالم الخارجي ليروي هذه الأرض .. الأمر يفوقه ، يشبه الدروشة، فأرواح أجداده تناديه ..تجعله يتمتم بصوت يكاد يكون مسموعا:
ـ القومي يبقى قومي ،حتى إذا ما قوّدوش الرومي .. لو لم تدخل فرنسا لاتخذتم من شجرة الهندي مرابطة ، و صبحتموها بالأخبار، و تلمستم عليها دون أن تجرحكم لأنه لا إحساس لكم ..
ـ هل تدري  يا خوي العربي بأنني أرغمت  على ارتداء لباس القايد هذا ؟! لقد أحرقت فرنسا في قريتنا التي وصلتها الثورة قبلكم كل شيء ،و قتلت معظم الرجال، أما الباقون ، فكما ترى.. و الله ..ثم والله لقد أفصح لي الضابط مرات عديدة عن عزمه على قتلك  انتقاما من أخويك ،لكنني كنت دائما  أهدّئ  من غضبه ، و أثنيه عن عزمه ،وأنفي عنك أيّ صلة تربطك بهما، صدقني يا العربي،إنني أحبكم لله.. لا لأي شيء آخر ..ترى أين يمكن أن يكون أخوك مختبئا؟
ـ يا القايد أنت و فرنسا تعلمون أنه في الجبل..اذهبوا إليه ، و لكن احذروا..
  قال هذه الكلمات دون أن  يجتهد في إخفاء غضبه.. خرج من المنزل دون أن ينتظر الجالس ليكمل كلامه  متمتما:
ـ ما يليقلكم غير سي لخضر يا أولاد الـ..
    في الصباح فرح الناس  عندما رأوا  العربي يخرج من منزله  سالما، لكن شيئا واحدا في القرية كان غاضبا ، ذلك الشيء هو الدم  الفائر  الأسير في عروق العربي،  ينتظر بلهفة موعد إطلاق سراحه .
توضيحات:
القايد:  كلمة عامية  و هو حاكم من العرب تضعه فرنسا.
الدورو : عملة لم تعد مستعملة ،عشرين وحدة منها تكوّن الدينار الجزائري الحالي .

ليست هناك تعليقات: