2016/01/04

"الباحث عن شيء آخر" قصة قصيرة بقلم: جمال فايز



الباحث عن شيء آخر (1)
قصة قصيرة
 بقلم: جمال فايز
www.jamalfayez.com

أقبلَ نحوي رجل لا أعرفه .. جلسَ على الكرسي المقابل أمامي .. تفصل بيننا طاولة خشبية صغيرة مستديرة .. ومثلها عشرات الطاولات الموضوعة قريبة من بعضها .. وضعت بمواجهة ساحة البلدة القديمة (2)..هكذا تُعرّف هذه المنطقة في مدينة براغ .. مُـناخها في الصيف مائل إلى البرودة .. سماؤها لا تخلو من السحب المتفرقة حيناً والمتجمعة في أغلب الأوقات..وناس كثر، تعرفهم من سيماهم من أي مناطق العالم قدموا إلى هنا، منهم من يمشي، ومنهم من يقف، وأغلبهم يتفرج على العروض المختلفة، يقوم بها أشخاص يجيدون أداءها، ومثل كثيرين يجلسون على كراسي المقاهي الموضوعة حول الساحة، أنظر إلى الناس، وإلى المباني التي يرجع بـِناؤها إلى مئات السنين.

التفتُ مبتسماً إلى الجالس أمامي عندما قال:

-   المكان رائع أليس كذلك سيدي؟ "أومأت موافقاً رأيه، أكمل" أنا أيضاً أحب هذه الساحة، وما زلت أستمتع كلما جئت إلى هنا بهذا المكان الجميل .. قدمت إلى هنا قبل نحو سبع سنوات .. أعمل ماسح أحذية، وفي مواسم الحصاد، أذهب وأصدقاء لنعمل في قطف الثمار .. الحمد لله على كل حال .. لولا انتكاسة كدرت صفو حياتي، فقد أصيبت والدتي بفشل كلوي، والعلاج هنا مكلف .. أنا لن أطلب منك إلا بما تجود به نفسك .. هي تحتاج إلى غسل الكـُـلى ثلاث مرات في الأسبوع، والغسل الواحد كلفـــ .. ـتـ .. ـه ....

نظرت إلى الساعة الفلكية(3) التي بدأت تصدر منها أصوات أجراس الكنائس، لكن الناس لم تتوقف عن المشي، والأطفال عن اللعب، وأشخاص عن عرض مهاراتهم المختلفة.

التفت إليه من جديد عندما يسألني بصوت عال:

-         سيدي .. أنا أكلمك؟
-         أسمعك ..
-         قلت لك .. زوجتي تعاني من الفشـ..ـــل ...
-         هي والدتك أم زوجتك؟
-         زوجتي سيدي، والدتي يرحمها الله توفيـت قبل سبعة أعوام.
-         لكنك كأنما أول مرة قلت والدتك .. حسناً، لا عليك .. أكمل.
-         لقد قلت .. أطلب منك أن تساعدني بما تجود به من مال سيدي.
-         أعتذر ..
-         سيدي أرجـ..ــوك، إن زوجــ..ـتـ..ي
-         وأنا أجبتك، قلت لك.. أنا أعتذر.

تبادلنا النظرات للحظات .. نهض .. مشى، لكني بعد بضع خطوات من ابتعاده ناديته بصوت عال، جاءني يهرول فرحاً، وقف أمامي، قال:

-         شكراً لك سيدي .. نحن العرب بطبعنا قلوبنا على بعض..
-         اسمع .. لماذا أنت هنا؟
-         نعم؟!
-         لماذا تركت وطنك ؟؟
-         عن إذنك ..

ومشى بينما رشفت ما بقي موجوداً في القدح من القهوة، نظرت له ثانية وهو
يمشي ثم فجأة رأيته وقف، أدار وجهه نحوي، سمعته وهو يشير بسبابته إلى أعلى:

-   لأصبح مثل هذه، الحمائم .. البيض .. التي تحلق في السماء بحرية .. (وبدأ يردد) حرية .. حرية .. حرية ..

ونظرت إلى حيث أشار، تأملتها لبعض الوقت، ثم عدت أنظر إليه فما رأيته غير صوته الذي بالكاد يُسمع، اختفى وسط تزاحم الناس، الذين منهم يمشي، ومنهم يقف، يحدث بعضهم بعضاً ، ومنهم من يتفرج على آخرين يقدمون مهاراتهم، وكل في المجال الذي يجيده.

                                                براغ – مايو 2015م

----------
(1): موضوع القصة لا صلة له بالمكان.
(2): الساعـة الفلكـية تقع في ساحـة المدينة القديمة، وتعتبر واحـدة مــــن
      أقدم ساعات الحائط في العالم، تم تثبيتها أول مرة في عام 1400م،
      وأعيد بناؤها على يد ماستر هانس في العام 1490م.
(3): ساحـة بلـدة المدينة القديمة: تقع في مدينة براغ عاصمة التشيك وفيها  
      توجـد الساعـة الفلكـيــة وكاتدرائيــة تايــن القوطيــة وكنيســة القديس 
      نيكولاس والنصب التذكاري لجان هوس وغيرها من معالم أخرى.

ليست هناك تعليقات: