2016/01/25

منعرجات النسيان.. قصة بقلم: رولا حسينات



منعرجات النسيان
رولا حسينات
تفل بصاقه في المغسلة الصدئة أمامه وقد التصقت به دماء سوداء، متقوسة أماله وقد هُزم سلطان النوم أمام طبول النهار، التي ما تلبث أن تنتزع منه أجمل أحلامه المسروقة، منكمشا على ذاته المطعونة بتشوهات مجتمع نتن.
 تأمل وجهه المليء بأشواك ما وجدت الشفرة البادحة، طريقا لها بين ما شاك كغابة شعثاء، رماها بكل قوته فانكسرت على البلاطات المتلاصقة بقذارة صفراء، جعلت قطرات الماء تنزُّ من الصنبور، وقد أمال جسده فاتحا يديه لعله يملؤهما بما يشطف به وجهه المائل للسواد، ما استطاع أن يبيح لنفسه القليل بعد لعله يغير شيئا في تلك البقعة السوداء، التي التصقت بوجهه منذ سنوات خلت، يوم أخذت النيران تلتهم دكان أبي سعدون الاسكافي من ابريموس الشاي، وقد ذابت قداحته قريبا من المنضدة الخشبية والتي ارتكز عليها البابور، كل شيء كان عاديا قبلها وهو يركز عينيه على تلك الفتاة الملفوفة بالشال الأحمر تتمايل في الطريق أمامه المكتظ بالدكاكين، ما استطاع أن يميزها عن حبات المانجا بين يديه يرتبها في الصناديق المصطفة فوق بعضها البعض، و لم تكن كالتفاحة الحمراء في شكلها لكنها برائحتها ولونها تحكي الكثير عن كل فنون العشق، أخذت تتخاطر في باله تمر مرَّ السحاب.
 الحب أتراه أم العشق ذلك الجمال كله يدبُّ على الرصيف الممتلئة زواياه بالكثير من بقع الماء؟؟ عائمة على الطريق تلتصق بأحذية المارة، تزدحم بهم الدكاكين على الجانبين والطريق الضيق يطوي بُعد المسافات لوحده، يعبث بنظراته جسدها الغض وطرفة عينها الكحيلة تذبحه بل أخذت تخزُّ بظرِّها في قلبه الوحيد.
 أي قدر كتبه له هذا الجمال وتلك النظرة الذباحة، ليته تعلم نظم الشعر في المدرسة ومشط شعره بمشط ذهبي و غير حياته كلها، لكنه اتخذ من الدكان بين الصناديق المرصوصة بدلا مشكوكا كدبوس في الإسفلت، فعصا عمه أبي قعدة ما فتئت تدق رأسه كلما أطل بخياله عبر الطريق ليشتم ريح الفول والطعمية من دكان جابر الفوال وهباله الساخن يتراقص كأفاع تسرقها الأنوف العابرة، والتي تزدحم بها دكانه وتلك الأيدي تتدافع كلٌّ بقطعته النقدية لصحن فول وعليه رشة من الكمون وقطع البقدونس الخضراء ورشة الزيت الأصفر تلتمع على صفحته

البنية كدراهم ذهبية، وما طال بخياله ليزاحم الأجساد المتلاصقة والأنفاس المتداخلة فقط عيناه من توغلتا لتلمظ لقيمات من هناك، كان يكفيه برتقالة ناعسة، ما كان يكفيه سوى الصمت أن يصمت كل الوقت وهو يتعلم الحساب وأسعار الصناديق وطبشة الميزان، لكنه ذاب بهذا الجمال الذي تهافتت روحه عليه مجرد أن داست بقدميها، وقد بانت سيقانها من الشرخ الطويل في فستانها المقلم الضيق، جعلت أحلامه اليتيمة على وسادته تتجمع أمامه كحورية عارية في الجنان وهو يسترها بجسده ليتذوق وإياها التفاحة، ويعرفا مفاتن الدنيا كلها ويعبرا المرج الذهبي ليتعمدا في ماء الرب في النهر المقدس، والريح تغني بقصيدة غزل تائهة مع خرير  منساب إلى حيث يذوب سحرهما في بحر يلاصق بزرقته صفحة السماء، ليته همس الليالي الخوالي من ما يشفع  له بحب عذري!
تلهبه رقتها بقبلة عابرة من عينيها، ثوان فقط تلك التي رمتها بين أحضانه كأبي زيد ينتزعها من لسعات اللهب وألسنة النار تقبض على ثوبها، أطفأها بجسده وتلك القطع الجلدية تتناثر وتلتصق بكل الدكان وتلك القطعة السوداء اتخذت من وجهه ملاذا أبديا لها، لتنغمس في لحمه وهي تذوب بين يديه جسدها مكور غض، يضغط عليه بين يديه، له وحده دون غيره يطفئه بنيران حبه، سيله العرم يغرقها مذ أن احتلم وهو يمج من القناديل المعلقة في حلكة الليل، ما لوحه به ضوء النهار.
 واعتقها من النار وأباها مازال يضرب الكف بالكف والنيران تستعر بشهوانية تلتقف بدخانها الأسود كل ما تبقى، كل شيء أمام النيران غدا ضعيفا، حتى تلك الأمواه التي تراقصت على استحياء ذوت، وقد أفضت الدكان خالية مما كان فيها، وهو ناره ما فتئت تستعر من لهيبها يقلبها كيفما يشاء وهي ملتصقة فيه، وكأنما تلاقيا من بعد فراق، وأودعها بين الصناديق في مخدعها يدخل عليها وقتما يشاء.
 جعل يقلبها وهي تتوارى بالحجاب وقطع خلوتهما صوت أبيها يسوقه وجعه لوجع ابنته و قد لفتها النيران، سراب كل ما كان.." ليتني أفيق من كابوس." همس الكلمات انتشلها من بئره العميق، وحده يستشعر ألم ما التصق في وجهه بقعة أبدية وصمته كتميمة العمر المارق على عجالة، يستأنس بوميض اللحظات.

 وها هو اليوم يقلب نظراته العاجزة في المرآة ما تفيده أن يتفل هنا وهناك وقد انتهى كل شيء لقد تاه حلم وسادته، ليغترف من حفنات النور المتساقطة على بصيص ذكرياته الصائمة، مغاريف من سوء على سوء عندما أغلق باب أبيها، حبيبته ونحيبها يخرق سكون الليل البارد ورفات عظامه تذروه الرياح، وتسقيه المزن لينبت كل كراهية لعذرية الزمن الذي أقضّ مضجعه، لقد فهم أخيرا مسألة المقامات، فهي تفسير لنظرات أبي جرجس الأرمني الأمرد وصفحة وجهه البيضاء قد غارت بهما عينان صغيرتان بتجويف زمني، وحاجبين قد غطتهما عمامته البيضاء التي لا تفارق رأسه مذ عرفه، عندما جاء لأول مرة وفتح إلى جوار دكان الجزار سنقر محلا للعطور، والذباب يتراكم على تلك اللحوم العفنة التي يبيعها وتلك العطور التي تلهب حواس النساء فتراهن كالحجيج إلى دكانه، وعلى الضفة الأخرى أقمشة حريرية ذات ألوان زاهية، تزيد الجميلات حسنا وجمالا، ودكان ودكان سوق طويل كطول عمره عرفه مذ كان صغيرا يُضرب بالعصا، وهاهي تلك الحسناء توصد نافذتها، وقلبه الثائر في جوفه ينسجها فتلة فتلة ثائرا على وسادته الخالية في منعرجات النسيان بلا حب..

ليست هناك تعليقات: