2017/02/28

يوسف الشارونى إنسانًا بقلم: يعقوب الشارونى



يوسف الشارونى إنسانًا
بقلم: يعقوب الشارونى

أبدأُ بصورةٍ انطبعَتْ فى ذاكرتى لا تمحوها الأيامُ ، حدثت فى منتصفِ الأربعينياتِ من القرن الماضى :
* اقتربَ موعدُ السفرِ ، وتَهيَّأ الأخُ الأكبرُ للخروجِ بصحبةِ الصديقَيْنِ أحمد بهاءِ الدينِ وفتحى غانم ليكونا فى وداعِهِ ، وهو مسافرٌ إلى السودانِ حيث سيعملُ مدرسًا فى الخرطومِ .
          لكن المفأجاةَ كانَتْ فى انتظارِ الصديقَيْنِ ، فقد ارتفعَتْ حرارةُ الأخِ الأكبرِ مع آلامٍ شديدةٍ فى المعدةِ .
          وبدلاً من الذهابِ إلى محطةِ القطارِ المُتَّجهِ إلى أسوانَ ( وبعدها الباخرةِ المتجهةِ إلى السودانِ ) ، ذهبَ الأصدقاءُ الثلاثةُ إلى الطبيبِ .
          لم يجدِ الطبيبُ سببًا مُحدَّدًا للمرضِ .
          بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ ، عندما فاتَ موعدُ القطارِ ، اختفَتْ كلُّ أعراضِ المرضِ .
          قالَ الطبيبُ ضاحكًا : " إنكَ نفسيًّا لم تستطعْ الابتعادَ عن كتبِكِ وأصدقائِكَ بالقاهرةِ ! "
          قالَ الصديقانِ : " بل قُلْ هى حساسيةُ الأديبِ الفنانِ ، فهو " عريسٌ " جديدٌ ، رأى أن يسبقَ عروسَهُ ، لكنْ يبدو أنه لا يرغبُ فى السفرِ إلا وهى معَهُ !! "
          - هذه حادثةٌ لا أنساها ، عاشَها فى بداية حياتِه العملية أخى الأكبرُ يوسفُ الشارونى ، الذى ملأ حياتى منذُ كنتُ فى المدرسةِ الابتدائيةِ ، بكتبِ الأدبِ والنقدِ والفلسفةِ وعلمِ النفسِ ، وبأحاديثِهِ مع أصدقائِهِ الذين تألَّقوا معه جميعًا فى سماءِ الأدبِ والفكرِ والفنِّ ، ومن بينهم الأساتذةُ أحمدُ بهاءُ الدين وفتحى غانم وأنيس منصور وعبد الرحمن الشرقاوى ود . مصطفى سويف وبدر الديب .
*          *          *
إنها صورةٌ تكشفُ ، على نحوٍ مكثفٍ ، عن جوانبَ مختلفةٍ تُفصِحُ عن شخصيةِ أخى الكاتبِ الكبيرِ وأولِ أساتذتى ، يوسف الشارونى .
ذلك أننى عندما كنتُ فى الرابعةِ الابتدائيةِ ، كانَ أخى الأكبرُ يوسفُ فى            السنةِ الأولى بقسمِ الفلسفةِ وعلمِ النفسِ فى كليةِ الآدابِ بجامعةِ فؤاد الأول ( القاهرة  الآن ) .
وهكذا امتلأ البيتُ حولى ، منذ بلغتُ العاشرةَ من عمرى ، بالمسرحياتِ والرواياتِ التى كانت قد صدرَتْ فى ذلك الوقتِ ( 1941 - 1945 ) لتوفيق الحكيم ، الذى تعلمنا منه جميعًا فنَّ الحوارِ وأسرارَه ، وبكتبِ علمِ النفسِ للدكتور يوسف مراد ، وكتبِ الفلسفةِ للدكتورِ عثمان أمين حتى إننى كنتُ واحدًا من ثلاثةٍ نجحوا وحدَهم على مستوى مصرَ ، فى مسابقةِ الفلسفةِ التى كانت تقيمُها وزارةُ التربيةِ والتعليمِ لطلابِ السنةِ النهائيةِ من التعليمِ الثانوىِّ .
وأذكر ، عندما أحضرَ لى أخى يوسف رواياتِ نجيب محفوظ الأولى ، وأنا فى بداية المرحلة الثانوية ، (وكان عمرى 11 سنة) ، أنه قالَ كأنما يتنبأ : " إنه أعظمُ كاتبِ روايةٍ باللغةِ العربيةِ ، وقد يحصلُ يومًا على جائزةِ نوبل " ..  ولعله قالَ هذه العبارةَ ليثيرَ حماسى لكاتبٍ لم أكن قد قرأت له من قبلُ ، لكننى كنتُ أتذكرُها دائمًا كلما انتهيتُ من قراءةِ إحدى رواياتِ كاتبِنا الكبيرِ . وعندما حصلَ أستاذُنا نجيب محفوظ على الجائزةِ عامَ 1988 ، استعدتُ بقوةٍ كلماتِ أخى يوسف الشارونى ، الذى أدركَ بحسِّه الفنىِّ المُرهَفِ أننا أمامَ روائىٍّ مصرىٍّ يستطيعُ أن يضارعَ أكبرَ أدباءِ العالمِ .
وكان أخى يوسف هو الذى اصطحبَنى إلى أولِ لقاءٍ لى مع كاتبِنا الكبيرِ نجيب محفوظ ، عندما كان يعقدُ ندوتَه الأسبوعيةَ بكازينو أوبرا فى وسطِ القاهرةِ .
* أصدقاءُ يوسف الشارونى :
          كذلك امتلأ بيتُنا بعددٍ كبيرٍ من أصدقاءِ أخى يوسف ، مما أتاحَ لى الاستماعَ ، فى تلك السنِّ المبكرةِ ، إلى كثيرٍ من المناقشاتِ والآراءِ ، وقراءةَ عددٍ كبيرٍ من المخطوطاتِ لأعمالٍ أدبيةٍ وفى مجالِ الدراساتِ النفسيةِ ، مما صقلَ موهبتى  الأدبيةَ ، وأثارَ اهتمامى المبكرَ بقضايا وحقائق نفسية وتربوية وآراءٍ متعددةٍ ما كان يمكنُ أن يتعرفَ عليها من كانوا فى مثلِ سنِّى فى ذلك الوقتِ ، وأفادَنى هذا كثيرًا وأنا أكتبُ بعدئذٍ للأطفالِ والشبابِ الصغيرِ ، كذلك وأنا أختار كتبى لمكتبتى الخاصة .
- ومن بينِ ما أذكرُه ، أنه فى حوالَىْ عام 1951 ، عندما كنتُ طالبًا فى                 السنةِ النهائيةِ بكليةِ الحقوقِ بجامعةِ القاهرةِ ، أعطانى أخى يوسف رسالةً وصلَتْ إليه من باريسَ .. كانَ الشاعرُ الكبيرُ الأستاذُ عبدُ الرحمنِ الشرقاوى فى بعثةٍ إلى باريسَ لمدةِ           عامٍ ، وأرسلَ من هناك إلى أخى يوسف مخطوطَ قصيدتِه الرائعةِ " من أبٍ مصرىٍّ إلى الرئيسِ ترومان " - وكعادةِ أخى أشركَنى معه فى الاستمتاعِ بالقصيدةِ وتذوقِها ، لكى يرسلَ بعدئذٍ انطباعَه عنها إلى صديقِه ، الذى أصبحَ من أعلامِ الشعرِ والروايةِ فى مصرَ والعالمِ العربىِّ .
وهكذا كان أخى الأكبر يساهمُ فى تنميةِ تذوقى للشعرِ وغيرِه من الفنونِ ، ومن أهمها القصة ، كما ساهمَ فى تنميةِ جوانبَ أخرى متعددةٍ من حياتى وحياةِ إخوتى ، بل وحياة عدد كبير من شباب المبدعين .
* يوسفُ والثقافةُ الموسيقيةُ :
وكانت الثقافةُ الموسيقيةُ من بينِ الخبراتِ المبكرةِ التى أتاحَها يوسف الشارونى لى ولإخوتى فى ذلك الزمنِ المبكرِ من حياتِنا .
          لقد لاحظَ عددٌ كبيرٌ من النقادِ ، أنه توجدُ فى كثيرٍ من قصصِ الشارونى " ألحانٌ متقابلةٌ " ، أو نغمةٌ أساسيةٌ أو رئيسيةٌ ، تعقبُها وتحيطُ بها تداعياتٌ تنتقلُ بالقصةِ من الخاصِّ إلى العامِّ ، أو من العالمِ الخارجىِّ إلى العالمِ الداخلىِّ ، أو العكسُ ، ثم لا تلبثُ النغمةُ الرئيسيةُ أن تعودَ أكثرَ قوةً ووضوحًا ، وهو ما اعتدْتُ أن أسمِّيَه " تنويعاتٍ ومقابلاتٍ على اللحنِ الأساسىِّ " .  
          والحقيقةُ أن ملاحظاتِ هؤلاء النقادِ حولَ المقارنةِ بين قصصِ يوسف الشارونى والأعمالِ الموسيقيةِ صادقةٌ جدًّا ، وإن كانوا لا يعرفونَ أن مصدرَها هو ثقافتُه الموسيقيةُ المبكرةُ ، التى تذوقْناها معه ، نحن إخوتُه ، انطلاقًا من غرفتِه فى بيتِنا الذى نشأنا فيه  معًا .
          - وبهذه المناسبةِ أذكرُ أن والدَنا ، عندما قررَ الإقامةَ بالقاهرةِ ، وتَركَ الريفَ             و " شارونة " بصعيدِ مصرَ ، اصطحبَ معه بعضَ قيمِ الريفِ ، ومنها الحرصُ على كثرةِ  الأبناءِ ، فكنا تسعةً ، يوسفُ ثالثُهم وأنا سادسُهم .
كذلك حرَصَ والدُنا على بناءِ بيتٍ متسعٍ وسطَ قطعةِ أرضٍ كبيرةِ المساحةِ ،               بها كرمُ عنبٍ ونخيلٌ وأشجارُ سنط ، وحديقةٌ نزرعُها ونلعبُ فيها ، لأن الرجلَ فى الريفِ تلازمُه الرغبةُ فى امتلاكِ مساحةٍ من الأرضِ الزراعيةٍ . وعندما ينتقل إلى المدينةِ ، يكون البديلُ عن الأرضِ أن يمتلكَ بيتًا متسعًا ، أتاحَ أن يستقلَّ كلُّ واحدٍ من الأبناءِ بغرفةٍ مخصصةٍ له .
          وفى غرفةِ يوسف ، شاهدْتُ مكتبتَه تتكونُ خطوةً بعدَ خطوةٍ ، أو كتابًا بعدَ    كتابٍ ، فكانَ أولُ شىءٍ حاولتُ أن أتمثلَ به أن أنشئَ لنفسى مكتبةً ، بل حاولَ كلُّ واحدٍ من إخوتى أن تكونَ له مكتبتُه الخاصةُ فى غرفتِه منذ سنواتِه المبكرةِ ، إلى أن أصبحَتِ المكتبةُ تملأ معظمَ غرفِ بيوتِنا حاليًّا ، وكانَ هذا من أهمِّ نتائجِ القدوةِ التى قدمها لنا الأخُ الأكبرُ ، بعد الوالدِ الذى كان يمتلكُ أيضًا مكتبةً خاصةً ، ونراه دائمًا مشغولاً بالقراءةِ أو الكتابةِ .
* يوسفُ " وجمعيةُ الجرامافون " :
          - وعندما كان أخى يوسفُ طالبًا فى كليةِ الآدابِ ، كانت هناك جمعيةٌ اسمُها          " جمعيةُ الجرامافون " لتنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ . كانت تجتمعُ فى بيوتِ الأعضاءِ بصفةٍ دوريةٍ . والحقيقةُ أننى لم أكن قد استمعتُ إلى الموسيقى الكلاسيكيةِ بقصدٍ ، قبل أن أستمعَ من أخى عن تلك الجمعيةِ عندما كان عمرى 11 أو 12 عامًا .
          وذاتَ يومٍ أعلنَ لنا أخى يوسفُ أنه جاءَ الدورُ على بيتِنا ، وأن أعضاءَ الجمعيةِ سيجتمعون فى غرفتِه للاستماعِ إلى الموسيقى المسجلةِ على أسطواناتٍ . وأحضرَ أخى الأسطواناتِ وجهازَ تشغيلِها ( الجرامافون أو البيك آب ) ، واستمعنا إليها مرارًا قبلَ وبعدَ مجىءِ زملاءِ يوسف ( فى الجامعةِ ) ، ومن بينها السيمفونيةُ الخامسةُ لبيتهوفن ، وشهر زاد لريمسكى كورساكوف . وقد حفظْنا أنا وأخى صبحى ( الدكتورُ صبحى الشارونى الناقدُ التشكيلىُّ ) مقطوعاتٍ كثيرةً مما سمعْنا ، وأخذنا نرددُها فى البيتِ ومع الأصدقاءِ .
          وبدأ يوسفُ يكشفُ لنا أسرارَ القصائدِ السيمفونية ، وكيف أنها تدورُ حول لحنٍ أساسىٍّ يترددُ خلالها ، لكنه يُفسحُ الطريقَ لغيرِه من النغماتِ ، ويكونُ التناسقُ أو التناغمُ أو الهارمونى هو الذى يحققُ الوحدةَ والتماسكَ بين أجزاءِ العملِ الموسيقىِّ ويعطى له أثرَه الكلىَّ . وقد دفعَنى هذا إلى الحرصِ بعدئذٍ على الاستماعِ إلى البرنامجِ الموسيقىِّ بالإذاعةِ ، وقراءةِ الدراساتِ التى تساعدُ على تنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ .
          هذه الثقافةُ الموسيقيةُ انعكسَت بوضوحٍ على البناءِ المتناسقِ الذى نجدُه فى عددٍ كبيرٍ من قصصِ يوسف الشارونى ، رغمَ اختلافِ النغماتِ ما بين العالمِ النفسىِّ للبطلِ والعالمِ الخارجىِّ ، أو ما وصفَه أستاذُنا يحيى حقى بأنها قصصٌ " ذاتُ بعدَيْنِ " ، وهو ما جعلَ عددًا من النقادِ ، كما ذكرتُ ، يشبهون قصصَ يوسف الشارونى بالأعمالِ  الموسيقيةِ ، وهم لا يعرفون أن يوسف الشارونى قد تأثر كثيرًا فى هذا بثقافتِه الموسيقيةِ ، التى بدأت فى الجامعةِ ، ونقلَها بوعىٍ لمن حولَه ، والتى طالما حدثتُ نفسى أنها هى التى أوحت إليه بهذا الشكلِ الجديدِ الحديثِ لقصصِه .
* التناغمُ والتمردُ فى قصصِ يوسف الشارونى :
          - واللافتُ للنظرِ أنه مع هذا التناغمِ الذى يقومُ عليه عددٌ كبيرٌ من قصصِ يوسف الشارونى ، فإن هذا هو الشكلُ الذى اختاره ليعبرَ من خلالِه فى معظم قصصِه عن           " التمردِ " .
          إن شخصيةَ يوسف الشارونى ، على الرغمِ مما كانَ يبدو عليه شخصيًّا من هدوءٍ ، حافلةٌ بالتمردِ . لقد تمردَ يوسفُ أصلاً على الشكلِ الواقعىِّ للقصةِ ، كما تمردَ على الشكلِ الرومانسىِّ ، وبدأ كتاباتِه القصصيةَ الأولى بالقصةِ الحداثيةِ ، وبأكثرِ الأساليبِ معاصرةً فى القصةِ القصيرةِ ، حتى أطلقَ عددٌ من أهمِّ النقادِ على كتاباتِه أنها " قصصٌ تجريبيةٌ أو تعبيريةٌ " .
          - أما من ناحيةِ الموضوعِ ، فإن روحَ التمردِ هذه تسفرُ عن نفسِها بوضوحٍ فى شخصياتِ وموضوعاتِ قصصِه ، خاصةً فى مجموعتِه القصصيةِ الأولى " العشاقُ الخمسةُ " ، ويظهرُ التمردُ هنا كنوعٍ من الاحتجاجِ على ما يحيطُ الإنسانَ من ضغوطٍ وأوضاعٍ وتحدياتٍ .. إنه تمردٌ على الواقعِ الذى تعيشُه الشخصياتُ ، وتسعى إلى تغييرِه .
- ولعلَّ أوضحَ مثالٍ على ذلك قصتُه " مصرعُ عباس الحلو " . إنها قصةُ إنسانٍ يريدُ أن يتحررَ من واقعٍ يرفضُه . إنسانٍ يعيشُ حياةً رتيبةً خاملةً ليس لها هدفٌ ، ثم يتحولُ نتيجةَ الحبِّ والطموحِ إلى إنسانٍ متمردٍ ، يرتكبُ الفعلَ الإيجابىَّ عندما يحاولُ القضاءَ على مَن حاولَت ، ومَن حاولوا معها ، إحباطَ مشروعِه للتحررِ .. عندئذٍ يشعرُ أنه حصلَ على قمةِ تحررِه ، وساهمَ فى تحررِ العالمِ كلِّه .
          - ومن خلالِ هذا التناغمِ بين العالمِ النفسىِّ الداخلىِّ والعالمِ المرفوضِ    الخارجىِّ ، ومن خلالِ هذا التمردِ والاحتجاجِ والرفضِ الذى تعبرُ عنه الشخصياتُ ، فى بناءٍ فنىٍّ متكاملٍ ، نجدُ أنفسَنا أمام أعمالٍ فنيةٍ توحى بمواقفَ إيجابيةٍ تعطى الأملَ فى التغييرِ وتحثُّ عليه . إنها احتجاجُ على الواقعِ ، قد يفقدُ فيه البطلُ الحبَّ أو الحياةَ أو العقلَ ، لكنَّ قصصَ يوسف الشارونى ، من خلالِ ذلك كلِّه ، وبما يختارُ الكاتبُ من ألفاظٍ وعباراتٍ وصياغةٍ ، تؤكدُ  دائمًا ، ومن خلال الفنِّ ، أنه فى قدرةِ الإنسانِ أن يغيرَ دائمًا هذا الواقعَ إلى الأفضلِ .
                                          *          *          *
          لقد وجدتُ دائمًا ، أنه بالرغمِ من البناءِ الفنىِّ المحكمِ لمعظمِ قصصِ يوسف الشارونى ، فإنه يوجَدُ خلفَ كلِّ قصةٍ شىءٌ يريدُ أن يقولَه . وأوضحُ هذه الأشياءِ ، أنه فى قدرةِ الإنسانِ أن يغيرَ الأوضاع التى تقيدُه وتكبلُه والتى لا يرضَى عنها .
          - نؤكدُ هذا بمثالٍ آخرَ من قصةِ " رسالةٌ إلى امرأةٍ " ، فى مجموعتِه القصصيةِ           الثانيةِ . إننا نرَى فيها بوضوحٍ صورةً أخرى من صور الدعوةِ إلى التمردِ ، فهى من أوائلِ القصصِ فى اللغةِ العربيةِ التى عبرت عن حاجةِ المرأةِ إلى التمردِ والتحررِ ، وضرورةِ هذا التمردِ .
          إن قصةَ " رسالةٌ إلى امرأةِ " ، تتوجهُ مباشرةً إلى المرأةِ ، لكى تغيرَ من واقعِها الذى تستسلمُ فيه إلى المصيرِ الذى يفرضُه الغيرُ عليها .. مصيرٍ يرسمُه أفرادُ الأسرةِ ولا تملكُ أمامَه شيئًا . لقد استسلمت بطلةُ القصةِ ، لكن القصةَ نفسَها تؤكدُ أن فى استطاعةِ المرأةِ أن تقاومَ وأن تنتصرَ .
          - كذلك قصةُ " الحذاء " التى نشرَها يوسف عام 1951 ، وتدور حولَ رجلٍ يستخدمُ حذاءً قديمًا ، تصيبُه الشقوقُ ويتمزقُ مرةً بعد أخرى ، فيذهبُ إلى الإسكافىِّ لإصلاحِه .. وبعدَ أن تكررَ الأمرُ عدةَ مراتٍ ، صارحَه الإسكافىُّ : " ما فيش فايدة ..                 لازم جزمة جديدة " .. ومن الواضحِ أن القصةَ تقول إنه أحيانًا لا ينفعُ الترميمُ ، وإنه لابد من التغييرِ الشاملِ .
* جذورُ التمردِ والدعوة إلى التغيير فى حياةِ يوسف الشارونى :
ومع ذلك فإن عددًا من النقادِ ، أو من تناولوا قصصَ الشارونى بالتعليقِ ، قد ركزوا معظمَ ملاحظاتِهم على أن " الشارونى قادَ وأثرَى الجانبَ التعبيرىَّ فى القصةِ "                           ( اقرأ شعبان يوسف - كتاب رسالة إلى امرأة - ص 172 ) .
          وأفاضوا فى الحديثِ عن الابتكارِ فى المعالجةِ ، وقوةِ التأملِ ، وسردِ المشاعرِ والأحاسيسِ التى تدورُ فى نفسِ الإنسانِ ( د . ريمون فرنسيس ) .
          بل يقولُ الناقد شعبان يوسف : " إن القصةَ عند يوسف الشارونى ليست منطويةً على هدفٍ معينٍ سياسيًّا أو إصلاحيًّا " .
          لذلك أجدُ من المهم الكشفَ عن جذورِ " التمردِ " فى حياةِ يوسف الشارونى وقصصِه . وعما يوجدُ خلفَ كلِّ قصةٍ من شىءٍ يريدُ أن يقولَه ، وعلى وجهٍ خاصٍّ قدرةُ الإنسانِ على أن يغيرَ الأوضاعَ التى                       لا يرضَى عنها .
          ففى عامِ 1942 ، عندما كنت فى العاشرةِ من عمرى ، فى السنةِ الرابعةِ            الابتدائيةِ (وكانت نهاية المرحلة الابتدائية) ، كان أخى يوسف قد أتمَّ السنةَ الأولى من دراستِه بقسمِ الفلسفةِ وعلمِ النفسِ بكليةِ الآدابِ بجامعةِ القاهرةِ .
          وعند بدايةِ العطلةِ الصيفيةِ ، اتفقَ مع عددٍ من زملائه أن يذهبوا إلى مدينةِ التلِّ الكبيرِ ، لتجربةِ العملِ فى المتاجرِ التى كانت تبيعُ كلَّ شىءٍ للجنودِ الأجانب الذين كانوا يتمركزون ، خلال الحرب العالمية ، فى المدنِ الممتدةِ على طولِ قناةِ السويسِ والقريبةِ منها .
          سافرَ فى الصباحِ.. وعندَ منتصفِ الليلِ ، فوجئنا ، فى بيتِنا ، بطرقاتٍ عنيفةٍ على بابِ البيتِ .. فزعنا من نومِنا منزعجينَ ، وما إنْ فتحنا البابَ ، حتى اندفعَ إلى الداخلِ مجموعةٌ من الرجالِ ، بعضُهم يرتدى البدلةَ وبعضهم الملابسَ البلديةَ ، ومعهم عددٌ من جنودِ الشرطةِ .. انتشروا بغيرِ استئذانٍ ، فى كلِّ أنحاءِ البيتِ .. وفجأة سألَ أحدُهم - اتضح فيما بعد أنه من ضباطِ القسمِ السياسىِّ - أين المدعُوُّ يوسف ؟
          وهكذا اكتشفنا ، والدى ووالدتى ونحن إخوتُه وأخواتُه الصغارُ ، أن كلَّ هذا العددِ الذى اقتحمَ بيتَنا ، إنما يبحثُ عن أخى الذى لم يكن قد بلغ بعدُ السابعةَ عشرةَ من عمرِه ، والذى ذهبَ وحده فى أولِ مغامرةٍ له ليجربَ عالمَ العملِ أو الوظيفةَ .
          لكن .. لماذا ؟
          لم يحاولْ أحدٌ أن يجيبَ عن تساؤلاتِنا .
          أخبرَه والدى أن يوسف سافرَ فى الصباحِ إلى التلِّ الكبيرِ ليشتغلَ . طلبوا            عنوانَه ، لكننا كنا فى انتظارِ أن يرسل إلينا عنوانَه عندما يستقرُّ هناك . سألوا عن المكانِ المخصصِ فى البيتِ لنومِه ، والمكتبِ الذى يراجعُ فوقه موادَّ دراستِه ، فأرشدَهم والدى إلى غرفتِه المخصصةِ له فى الدورِ الأرضىِّ من منزلِنا .
          اندسستُ أراقبُهم يـُقَلِّبون فى كلِّ شىءٍ ، وعلى وجهٍ خاصٍّ الكتبُ التى جمعَها أخى فى الدولابِ الذى خصصَه ليكونَ " مكتبتَه " .
          لكن ما أثارَ دهشتى ، أنهم اتجهوا إلى " سلةِ المهملاتِ " ، فأفرغوها فوقَ                                  مكتبِه ، وراحوا يقلبون فى كلِّ قطعةِ ورقٍ ممزقةٍ فى السلةِ ، يقرءونها باهتمامٍ ، ثم حفظوها معهم باهتمامٍ !!
          سألت نفسى : " هل يمكنُ أن يكونَ فى مثل هذا الورق المُهْمَلِ ، سببٌ لكلِّ هذا الغزوِ المفاجئِ لبيتِنا ؟! "
          وعندما تجمعوا لينسحبوا ، تصورت أن الغزوَ انتهى ، لكنهم تركوا وراءهم رجلَ شرطةٍ جلس على مقعدٍ أمامَ مدخلِ بيتِنا ، للقبضِ على يوسف إذا حدثَ وعادَ إلى  البيتِ !
          وبعدَ أيامٍ ، اختفَى رجلُ الشرطةِ ، ففهمنا أن شيئًا قد حدثَ !
          وانطلق أبى إلى أحدِ المحامين ، فعرف أنه تم القبضُ على يوسف ، وإحضارُه إلى القاهرةِ من التلِّ الكبيرِ ، ثم أودعوه مركزَ الشرطةِ إلى أن تُتِمَّ النيابةُ تحقيقاتِها معه .
          تحقيقاتٌ حول ماذا ؟ .. لم نصل إلى أحدٍ ليجيبَ عن سؤالِنا .
          أخيرًا عرفنا أنه صدر قرارٌ بحبسِه تحتَ التحقيقِ فى سجنِ مصرَ بجوارِ قلعةِ القاهرةِ ، بعد أن تم اتهامُه " بالانضمامِ إلى جماعةٍ تهدفُ لقلبِ نظامِ الحكمِ " - وذلك بعد أن اكتشفوا أنه حضر ندوةً أو محاضرةً قيلت فيها أشياءُ وصفوها بأنها " خطيرةٌ " .
          وقضى يوسفُ تسعةَ أشهرٍ فى " قرميدان " تحتَ التحقيقِ . وسأل والدى المحامى : " ما هى العقوباتُ المتوقعةُ لمثلِ هذه التهمةِ ؟ " .. وعاد والدى إلى البيتِ مهمومًا ، فقد قال له المحامى " العقوبةُ قد تصلُ إلى الإعدامِ أو الأشغالِ الشاقةِ           المؤبدةِ ! "
          سألت نفسى : " هل تطاردُ السلطاتُ أخى بسببِ قصاصاتٍ ممزقةٍ وجدوها فى سلةِ المهملاتِ بغرفتِه ؟ "
          وبعد هذه الشهورِ الطويلةِ ، أصدر قاضى التحقيقِ قرارَه بأنه لا وجه لإقامةِ الدعوى الجنائيةِ ضد أخى وبقيةِ زملائِه ، فليست هناك أيةُ جماعةٍ ، ولا اتفاقٌ جنائىٌّ ، ولا محاولةٌ لقلبِ النظامِ ، لكنهم طلبةٌ دفعهم حبُّ الاستطلاعِ إلى الذهابِ للاستماعِ إلى محاضرةٍ عن " العدلِ الاجتماعىِّ " .
          وعندما عاد أخى فى منتصفِ العامِ الدراسىِّ التالى إلى الجامعةِ ، اكتشفَ أن شهورَ السجنِ جعلت منه " بطلاً " ، ينظر إليه الزملاءُ والزميلاتُ كرائدٍ فى العملِ               السياسىِّ .
          لقد ظنت أجهزةُ الأمن أنها لقنته مع زملائه درسًا عقابًا له لشغفِه بأن يعرفَ ، وأن يتعرفَ على معنى " العدلِ الاجتماعىِّ " .
          لكننى اكتشفتُ أن ما تعلَّمَه أخى يوسف كان شيئًا مختلفًا تمامًا عما قصدَتْ إليه أجهزةُ الأمنِ !!
*          *          *
          فبعد أربعة أعوام ، فى عامِ 1946 ، قام إسماعيل صدقى رئيسُ الوزراءِ ، بحملةٍ ضدَّ الصحفيينَ والمفكرين والكتابِ ، وذلك عندما تحركَتِ المنظماتُ الشعبيةُ تعقدُ المؤتمراتِ وترتبُ المظاهراتِ احتجاجًا على فكرةِ تكوينِ " لجنةِ الدفاعِ المشتركِ " بين مصرَ وبريطانيا . وأصدرت اللجنةُ الوطنيةُ للعمالِ والطلبةِ بيانًا حددوا فيه يومَ 11 يوليو 1946 ( ذكرى ضربِ الإنجليزِ للإسكندريةِ عامِ 1882 ) يومًا للحدادِ العامِّ وبدءِ الجهادِ الوطنىِّ .
          وهنا أسفرَ صدقى عن وجهِه الحقيقىِّ ، وقامَ فى اليومِ السابقِ على الإضرابِ ، باعتقالِ حوالَىْ مائتين من الكتابِ والصحفيين وزعماءِ اللجنة الوطنية ونقاباتِ العمالِ والطلبةِ ، وأغلقَ كثيرًا من دور النشرِ والجمعياتِ مثلِ اتحادِ خريجى الجامعةِ ، ومؤتمرِ نقاباتِ عمالِ القطرِ المصرىِّ ورابطةِ بعثاتِ الجامعةِ والمعاهدِ ، كما أغلقَ نهائيًّا عددًا من الصحفِ والمجلاتِ من بينِها الوفدُ المصرىُّ ، وصادرَ لعدةِ أيامٍ جرائدَ المصرىِّ والكتلةِ ومصرَ الفتاةِ ، ومنعَ الاحتفالَ بيومِ 11 يوليو .
          وأَطْلَقَ على هذه الحملةِ ( قضيةَ المبادئِ الهدامةِ ) ، وألصقَ بالمعتقلين تهمةَ الشيوعيةِ ، وكان منهم سلامة موسى والدكتور محمد مندور ومحمد زكى عبد القادر وغيرُهم.
          وكانت هذه الحملةُ نقطةَ تحولٍ فى أسلوبِ السلطةِ التنفيذيةِ ، إذ جعلت تلك التهمةَ سيفًا مسلطًا على رقابِ كلِّ الوطنيين الذين يقفون موقفَ المعارضةِ لربطِ مصرَ بعجلةِ الاستعمارِ .
          وأصدرَ صدقى بيانًا نشرته الصحفُ على صفحتين كاملتين ، تبريرًا لفعلتِه ، وتضمَّنَ البيانُ مقتطفاتٍ طويلةً مما نشرته الصحفُ والمجلاتُ التى أغلقَها أو صادرَها .
          وفوجئنا نحن ، إخوةُ يوسف ، بأن البيانَ تضمَّنَ أكثَر من عشرةِ مقتطفاتٍ من مقالاتٍ نشرَها يوسف فى عددٍ كبيرٍ من المجلاتِ التى تمَّ إغلاقُها ، بعضُها كانَ موقعًا باسمِه ، وعددٌ كبيرٌ منها بأسماءٍ مستعارةٍ .
          وهكذا اكتشفنا أن شهورَ السجنِ كانت مدرسةً ، قرأ فيها يوسف الكثيرَ ، وسمعَ الكثيرَ ، وشاهدَ أحوالَ المسجونين ، تأمَّلَ وفَكَّرَ فى الكثيرِ ، فواصلَ على مدى أربعِ سنواتٍ تأكيدَ حقِّ المواطنِ فى العدالةِ الاجتماعيةِ ، مستخدمًا الكلمةَ والفكرةَ والقصةَ .
          وتوقعنا أن تقتحمَ بيتَنا حملةٌ مشابهةٌ لحملةِ سنةِ 1942 ، لكنْ يبدو أن أحدًا لم يتوصلْ إلى صاحبِ الاسمِ الحقيقىِّ للأسماءِ المستعارةِ للكتاباتِ التى كانت من بينِ ما استندَتْ إليه أجهزةُ صدقى فى المصادرةِ والإغلاقِ .
*          *          *
          هل أستطيعُ أن أقولَ أيضًا ، إن أحدَ أهمِّ الآثار التى تركَها يوسف الشارونى فى إخوتِه ، أن الناقدةَ الإيطاليةَ الدكتورة ماريا ألبانو ، أستاذَ الأدبِ العربىِّ فى جامعةِ نابولى ، والمتخصصةَ فى دراساتِ أدبِ الأطفالِ فى العالمِ العربىِّ ، كتبت عن يعقوب الشارونى تقولُ : " والفضلُ الكبيرُ للشارونى فى إدخالِ الروايةِ الاجتماعيةِ فى أدبِ الأطفالِ فى العالمِ العربىِّ " . ( يراجع كتابُ : القصةُ المصريةُ الحديثةُ للأطفالِ - تأليف د . ماريا ألبانو - الصادرُ عن الهيئةِ المصريةِ العامةِ للكتابِ - صفحة 27 ) .
* يوسفُ ويعقوبُ الشارونىُّ وسلطنةُ عمان :
وهناك مرحلةٌ مهمةٌ فى حياتى ، ربطتنى بسلطنةِ عمانَ فى مجالِ أدبِ الأطفالِ ، فقمتُ بزيارتِها أكثرَ من مرةٍ تلبيةً لدعوةٍ كريمةٍ من وزارةِ الإعلامِ . وكانَ لأخى يوسف دورٌ مهمٌّ فى تلك المرحلةِ .
ففى عامِ 1990 ، طلبت وزارةُ الإعلامِ بسلطنةِ عمان من أخى يوسف ، الذى كانَ يعملُ عندئذٍ فى عُمان ، أن يقترحَ علىَّ أن أكتبَ عددًا من الكتبِ للأطفالِ والناشئةِ ، حولَ سلطنةِ عمان .
 وبالتنسيقِ معَ وزارةِ الإعلامِ ، اقترحتُ ستةَ عناوينَ ، أصبحَتْ بعدئذٍ سبعةً ، يقدمُ أولُها إلى الأطفالِ إنجازاتِ صاحبِ الجلالةِ السلطانِ قابوس بنِ سعيد المعظمِ ، على أن يكونَ اسمُ الكتابِ " بابا قابوس " - والثانى عن سعيد الكبيرِ ، والثالثُ عن أسدِ البحارِ أحمد بن ماجد ، ورابعُها عن إعادةِ توطينِ المَها فى أرضِ عُمان ، ثم عن شجرةِ البخورِ ، والأفلاجِ ، والنخيلِ فى  عُمان . واقترحتُ لهذه السلسلةِ اسمَ " حكاياتٌ من عمان " .
وقمتُ بزيارةِ عمان ، لأتعايشَ بصدقٍ مع البشرِ والطبيعةِ والإنجازاتِ قبلَ أن أكتبَ .
وكان أخى يوسف هو دليلى الأولَ أثناءَ زياراتى .
وكم أفادَنى بتوفيرِ المراجعِ التى قَدَّمَت لى كثيرًا من المعلوماتِ حولَ هذه المجموعةِ من الموضوعاتِ . كما أمدَّنى بكتبٍ ومجلاتٍ تساعدُ الرسامين على أن تكونَ كلُّ صفحةٍ من هذه الكتبِ حافلةً بالرسومِ ، التى تتعاونُ مع النصِّ فى إبرازِ الأثرِ الكلىِّ لكلِّ كتابٍ من هذه السلسلةِ ، التى اخترتُ لها شكلاً يشبهُ السردَ القصصىَّ ، عن طريقِ اختيار شخصيةٍ عُمانيةٍ أحكى القصةَ على لسانِها ..                   
فقصتى عن المها ، مثلاً ، أطلقتُ عليها اسمَ " سلمى فى أرضِ عمان " .. وسلمى هذه هى أولُ " مهاة " وُلِدَت على أرضِ عمان ، بعد قرارِ استعادةِ المها العربيةِ إليها ، الذى أصدرَه عام 1975 صاحبُ الجلالةِ السلطانُ قابوس المعظمُ .. كما جعلتُ أحدَ أشجارِ البخورِ تتحدثُ عن ماضى وحاضرِ الاهتمامِ بأشجارِ اللبانِ ، التى اعتبرَها القدماءُ شجرةً مقدسةً .
وكان لتلك المعاونةِ الصادقةِ من أخى الأكبرِ ، الأثرُ الكبيرُ فى نجاحِ هذه السلسلةِ ، الرائدةِ بين كتبى التى تتحدثُ عن وطنٍ غالٍ عزيزٍ من أوطانِ بلادِنا العربيةِ .
* جذورُ القلقِ فى شخصياتِ قصصِ يوسف الشارونى :
وإذا كنا نجدُ جانبًا من شخصياتِ يوسف الشارونى يسيطرُ عليه القلقُ ، الذى قد يتحولُ إلى تمردٍ أو طموحٍ ودعوةٍ إلى التغييرِ ، فإن مشاعرَ القلقِ هذه قد تكونُ لها جذورٌ فى طفولةِ يوسف  الشارونى ...
فعندما كان يوسفُ طفلاً عمرُه ثلاثُ سنواتٍ ، حدثت فى الأسرةِ مأساةٌ ظلَّ الأبُ والأمُّ يتذكرانِها على مدى حياتِهما . فقد كان ليوسف أخٌ يكبرُه بسبعِ سنواتٍ اسمُه                             " شكرى " ، مع ثلاثِ أخوات يسبقنَ يوسفَ فى العمرِ وأختٍ أصغرَ منه عمرُها عامٌ .
وقد تُوفِّيَتْ أولى البناتِ وعمرُها خمسُ سنواتٍ قبلَ أن يولدَ يوسفُ ، واستطاعَتِ الأسرةُ عبورَ أحزانِ ذلك الفَقْدِ . لكن الأحزانَ تجددت عندما فقدت الأسرةُ فجأةً الابنَ الأكبرَ " شكرى " وقد وصلَ عُمرُه إلى عشرِ سنواتٍ ، بينما عُمرُ يوسفَ ثلاثُ سنواتٍ ، فأصبحَ يوسف هو الصبىَّ الوحيدَ بين ثلاثِ بناتٍ ، تكبرُه اثنتانِ وتصغرُه واحدةٌ . وكان من الطبيعىِّ أن يشتعلَ قلبُ الأمِّ والأبِ قلقًا على حياةِ يوسفَ بعد أن أصبحَ الذَّكَرَ الوحيدَ بين أخواتِه البناتِ ، بجوارِ الحزنِ الكبيرِ لرحيلِ الابنِ البكرِ . ولا شك أن هذا القلقَ على حياةِ طفلٍ صغيرٍ فى تلك السنِّ المبكرةِ ، قد تسرب على نحوٍ لا شعورىٍّ من الوالدين إلى هذا الطفلِ الصغيرِ ، فأصبح هو نفسُه يعانى شيئًا من قلقٍ لازمَه طَوالَ حياتِه ، ولعله انعكسَ على عددٍ من شخصياتِ قصصِه .
هل أستطيعُ أن أقول إن هذه الوقائعَ المبكرةَ ، هى أحد المفاتيحِ لشخصيةِ يوسفَ الشارونىِّ ، وبالتالى أحدُ المصادرِ التى قامت عليها بعضُ ملامحِ شخصياتِه فى قصصِه ، وعلى وجه خاص قصص " دفاع منتصف الليل " و " لمحات من حياة موجود  عبد الموجود " ؟
هذا أمرٌ أضعُه أمامَ النقادِ والدارسين ليقولوا فيه كلمتَهم ، بعد أن قالَ الدكتورُ نعيم عطيه فى كتابِه " يوسفُ الشارونىُّ وعالمُه القصصىُّ " : كانَ يوسفُ الشارونىُّ من أوائلِ الكُـتَّابِ المصريين الذين أرسَوْا قواعدَ القصةِ التعبيريةِ ، إذ جنحَ فى قصصِه إلى التعبيرِ عن موجةِ القلقِ التى تسودُ القرنَ العشرينَ " . 
ونشيرُ هنا إلى نموذجٍ واضحٍ لهذه الشخصياتِ " القَلِقَةِ " فى قصصِ يوسفَ الشارونىِّ ، هى شخصيةُ " عباس الحلو " ، التى انتزعَها يوسفُ من بينِ شخصياتِ نجيب محفوظ ، ثم نسجَ حولَ " مصرعِ عباس الحلو " فى " حانةِ النصرِ " بالقاهرةِ ، قصةً جديدةً تفيضُ بالقلقِ والطموحِ والتمردِ .
* يوسف الشارونى وحياتُه اليوميةُ :
وعن أسلوبِ يوسفَ الشارونىِّ فى حياتِه اليوميةِ ، يقولُ كاتبَنا الكبيرَ يحيى حقى :
يوسفُ الشارونىُّ لا يهدرُ وقتَه فى الترددِ للدردشةِ واغتيالِ العمرِ على المنتدياتِ والمقاهي ، بل التزمَ منهجًا صارمًا لا يقوَى عليه إلا من تمرَّسَ بالجدِّ والعزمِ ، وآمنَ برسالةٍ يتعشقُها ويتعبدُها . فهو إذا آبَ من عملِه إلى منزلِه الأقصى بحلوانَ ، فرغَ سريعًا من مؤاكلةِ أسرتِه وقيلولةٍ قصيرةٍ ، ليجلسَ إلى مكتبـِه حتى منتصفِ الليلِ ، يومًا بعدَ يومٍ ، يربى موهبتَه التى لا تُنكرُ له ، بالعكوفِ على روائعِ الفكرِ .. لا قراءةَ طالبِ متعةٍ ذهنيةٍ وثقافيةٍ عامةٍ فحسبُ ، بل قراءةَ الدارسِ الذى يهمُّه قبلَ كلِّ شىءٍ أن ينبشَ أسرارَ صنعتِها ، فهو يتتلمذُ على كبارِ المؤلفين أنفسِهم ، ولا يقتصرُ على رطانةِ الكتبِ النظريةِ فى فنِّ القصةِ ، حتى أصبح خبيرًا بهذا الفنِّ ، وحتى أصبحت قصصُه تنضحُ بأسرارِ هذه الصنعةِ . وأشهدُ أنه عرفَ كيف يَسْلمُ من خطرٍ يترصدُ بأمثالِه حين ينساقونَ لا إلى الاهتداءِ بهذه الأسرارِ بل إلى تقليدِها ، وما أدقَّ الفرقَ بين الاهتداءِ والتقليدِ .
*          *          *
خلاصةُ ما أستطيعُ قولَه عن أخى الأكبرِ وأستاذى الأولِ يوسفَ الشارونىِّ ، إن الأدبَ العظيمَ هو القادرُ ، بقوةِ الفنِّ وحدَه - وليس بالهتافاتِ - أن يغيرَ ، وأن يحملَ الناسَ على أن يفكروا على نحوٍ    مختلفٍ ، لكى يتغيروا ، وأن يصبحوا قادرين على التغييرِ .