2017/08/04

قراءة في كتاب:«الغرب والإسلام :الدين والفكر السياسي في التاريخ العالـمي» بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة

قراءة في كتاب:«الغرب والإسلام :الدين والفكر السياسي في التاريخ العالـمي» 
 بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة 
قسم الأدب العربي-جامعة عنابة

يقدم كتاب«الغرب والإسلام:الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي»دراسة عميقة عن تطور الأنساق الفكرية القديمة،ويبحث في مختلف الرؤى والأفكار التي قدمت عن الملكية المقدسة وشرعية الدولة،ودور الشعب في مختلف الثقافات،ويدرس الفكر السياسي منذ ظهور الدين الإسلامي إلى غاية أيام الإصلاح الأوروبي. مؤلف الكتاب هو أنتوني بلاك؛أستاذ تاريخ الفكر السياسي في جامعة دندي في اسكتلندا-بريطانيا،وقد عرفه مترجم الكتاب إلى اللغة العربية الدكتور فؤاد عبد المطلب بقوله:«هو واحد من باحثين نخبة يحاولون الإحاطة عبر نظرة موسعة بالاتجاهات المتعددة للنظرية السياسية الأوروبية والإسلامية معاً في آن واحد،ويتضمن عمله دراسات متنوعة تتصل بالمفاهيم السياسية عبر تطورها في سياقات ثقافية وتاريخية مختلفة.وبمزيد من التحديد،لقد عمل أنتوني بلاك على دراسة الفكر والنظريات السياسية الأوروبية الباكرة وخصوصاً في القرون الوسطى.وعكف على دراسة الفكر السياسي الإسلامي،وعلى عقد مقارنات بين تطور الفكر السياسي في الغرب وفي الأصقاع الإسلامية.كما قام أخيراً بإلقاء نظرة شاملة على الفلسفات والأيديولوجيات السياسية للثقافات القديمة الراقية،بما في ذلك المصرية واليونانية والرومانية والهندية والصينية»(ص:31). ومن بين الأعمال المنشورة لأنتوني بلاك-كما ذكرها المترجم-كتاب«تاريخ الفكر السياسي الإسلامي منذ أيام النبي حتى العصر الحالي»،وكتاب«الفكر السياسي في أوروبا ما بين العامين1250و1450»،وكتاب«النقابة والدولة:الفكر السياسي الأوروبي من القرن الحادي عشر إلى الوقت الحاضر»، إضافة إلى كتاب«تاريخ الفكر السياسي العالمي القديم». بين أنتوني بلاك في المقدمة التي كتبها أن كتابه«الغرب والإسلام:الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي» هو عبارة عن تاريخ مقارن للفكر السياسي،وقد اهتم فيه بمراقبة ثلاث منظومات منفصلة للفكر السياسي(الغربي،والإسلامي،والبيزنطي)جنباً إلى جنب،وذلك لاكتشاف القواسم المشتركة بينها،وإبراز أسباب الاختلاف،كما يسعى إلى تقديم دراسة عن العوامل المشتركة بين المنهجين الغربي والإسلامي تجاه السياسة،وهذا ما يساعد في تفسير الوضعية الراهنة للعالم. وينبه أنتوني بلاك إلى أن موضوع البحث في هذا الكتاب هو جزء من التفسير،وجزء من مشروع لكتابة تاريخ عالمي للفكر السياسي،ويذكر أن منهجه قام على محاولة ملامسة الخط الرفيع بين الدقة العلمية وسهولة الوصول إلى القارئ العام،وعن مجال الكتاب ودوافع تأليفه، يقول«إن حجة هذا الكتاب،أولاً:هي أنه حتى العام1050م تقريباً كان لأوروبا المسيحية والإسلام والعالم البيزنطي قواسم مشتركة أكثر مما يظن عادة.وثانيا:إن ما ميزها على نحو حاسم كان الثورة البابوية في أواخر القرن الحادي عشر،التي تلتها نهضة أوروبا في القرن الثاني عشر. إن حقيقة الحجة الأولى لا تعتمد على الثانية،وحقيقة الحجة الثانية تستند إلى حد ما على الأولى.وقد لا يوافق القارئ على أي من هاتين الحجتين.ولكن إذا وافق على الأولى لا على الثانية،فإن عليه عندئذ أن يجد تفسيراً آخر للتفرغ اللاحق.ومقولة إن الفكر السياسي لأوروبا(أو الغرب) والإسلام كانا مختلفين جداً في الأزمنة الحديثة لا يمكن إنكارها... تستدعي هذه الثقافات الثلاث-على نحو خاص-الدراسة المقارنة لأنها تتقاسم عدداً من التركات المشتركة.إن الإسلام وبيزنطة هما الثقافتان اللتان تبدوان،للوهلة الأولى،أنهما كانتا تحملان عوامل مشتركة أكثر مع الغرب.فقد كانت هذه الثقافات الثلاث متجاورة مادياً أيضاً،وتقاتلت وتبادلت التجارة بعضها مع بعض.وكان ثمة بعض الحوار بينها،مع أنه أقل مما يمكن أن يتوقع المرء.وأعطى كثيراً من الاهتمام لتأثير الفلاسفة المسلمين في أوروبا العصور الوسطى،وفي الحقيقة،خلال المناقشات الحادة الحديثة،كان ذلك مبالغاً فيه بعض الشيء»(ص:46). يركز أنتوني بلاك على الفترة الممتدة منذ ظهور الإسلام في العام:632م تقريباً حتى سنة:1450م،ويرجع سبب تركيزه على هذه المرحلة كونها الفترة المكونة للفكر السياسي لكل من الغرب والعالم الإسلامي،وقد لا حظ المؤلف أن الفكر السياسي الإسلامي تطور بسرعة خلال قرونه الخمسة الأولى،ثم توقف،وخلال عصره الحيوي جرى التعبير عن الأفكار السياسية بثلاثة أشكال منفصلة:1-نصيحة الملوك.2-التشريع الديني(الفقه).3-الفلسفة بالأسلوب الأفلاطوني المحدث(الفلسفة). الدين والسياسة:الغرب،الإسلام،بيزنطة في الفصل الأول من الكتاب ركز المؤلف على جملة من القضايا التي تتصل بالدين والسياسة في أوروبا والعالم الإسلامي وبيزنطة ،وأشار إلى أن للمسيحية والإسلام وجهات نظر مختلفة بشكل أساسي فيما يتعلق بالصلة بين الدين والسياسة،فالمسيحية المبكرة كانت غير سياسية،في حين كان للإسلام الأصلي مهمة سياسية بالإضافة إلى مهمته الدينية،ونظراً لضغط الظروف التاريخية،فقد دفع أفراد كل دين إلى تعديل المواقع الأصلية،وهذا ما أدى إلى التلاقي من حين إلى آخر،وقد أثبتت الوقائع أن المواقع المعدلة غير مستقرة،إذ أصر المنظرون على المواقع الأصلية لكل دين،وقد مارست هذه المواقع تأثيراً مهماً على بنية السياسة والمجتمع عند المسلمين والأوروبيين. في رصده للاختلافات الأصلية بين الإسلام والغرب لاحظ أنتوني بلاك أن المسيح عليه السلام كان لديه مغزى ثوري وبرنامج اجتماعي،غير أن المسيحيين الأوائل لم يكن عندهم برنامج سياسي بأي معنى عادي،كما كان لدى المسيحيين الأوائل جدول أعمال قانوني ثوري،وقد رفضت المسيحية الفكرة المتعلقة بالقانون المقدر إلهياً بوصفه وسيلة للخلاص،واستبدلتها بفكرة المغفرة وجملة من المبادئ الأخلاقية العامة. ويذهب أنتوني بلاك إلى أن الأكثر أصالة وتأثيراً في التاريخ العالمي،ومساهمة في الفكر السياسي هو اعتبار الكنيسة مجتمعاً منظماً ومقدساً ومنفصلاً عن الدولة، فقد شكل المسيحيون مجتمعات متوازية،حيث إنهم يعيشون في بلدانهم الخاصة،ولكن بوصفهم أجانب،ويشتركون في مختلف الواجبات مثل سائر المواطنين ويعانون مثل الأجانب. أما الإسلام فقد تولى عن طريق المقارنة تنظيم السلوك الشخصي والاجتماعي بالتفصيل على أساس شرعي ديني سماوي موحى به يستند إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية(أقوال النبي صلى الله عليه وسلم). ويشير إلى أن الإسلام المبكر اختلف عن المسيحية المبكرة في التطلع إلى الاهتمام بكل جانب من جوانب العيش،وقد تطلعت كل من الكنيسة المسيحية والأمة الإسلامية إلى مد اليد إلى البشر الفانين عبر المكان والزمان،وبالنسبة إلى الفوارق بين الإسلام والمسيحية يرى أنتوني بلاك أن الإسلام خلافاً للمسيحية رأى أن مهمته تتضمن تبديل الحكومات الموجودة بنظام جديد للقيادة والسيطرة الاجتماعية،واعتقد أنه من دون سيطرة سياسية لا يستطيع المرء النجاح في نشر الدين الحقيقي على نحو عملي،وقد تبدى له أن فصل الكنيسة عن الدولة كان يعد بصورة دائمة تقريباً المعيار في أوروبا والغرب،وأن دمج السياسة بالدين كان يعد على نحو دائم تقريباً المعيار في الدول الإسلامية،وقد كان الابتعاد عن هذه المعايير في الثقافتين عرضة للتحدي. الشرعية:الخلافة والدولة ناقش أنتوني بلاك في الفصل الثاني من الكتاب مسألة الشرعية بين الخلافة والدولة،فذكر في مستهل هذا الفصل أن الإسلام عرف مؤسسة شرعية واحدة فقط،وهي أمة المؤمنين، وسلطة شرعية واحدة هي الخلافة(خلافة النبي صلى الله عليه وسلم)،وقد عرف سيطرة حكام على مناطق مختلفة،وظلت شرعيتهم تعتمد على انتمائهم إلى المجتمع الإسلامي،ومن ثم خضوعهم للخلافة سواء ضمنياً أو بشكل واضح،وقد شكل الشعب الإسلامي بكامله«عالم السلام(دار الإسلام)»،وقد كان هذا العالم يقابل عالم الصراع. وفي بيزنطة عرف أن الإمبراطور كان يعلن أنه السلطة الشرعية الوحيدة في العالم،وفي أوروبا الغربية كانت السلطة القضائية الشرعية المفروضة،وكانت تخص مجموعة من التجمعات الإقليمية وحكامها(إنجلترا وفرنسا وقشتالة وغيرها).وقد كانت تنتمي إلى كنيسة واحدة،وكانت تعترف بالسيادة الروحية للبابوية،بيد أن شرعيتها سياسية،ولم تعترف هذه التجمعات في حالات كثيرة بالسلطة القضائية للإمبراطور الغربي،وهذا يعني-كما يرى المؤلف-أنها كانت علمانية وذات سيادة،إضافة إلى أنها كثيرة العدد. تعرض المؤلف إلى أصول السلطة القضائية المفروضة والغاية منها،و أشار في هذا الصدد إلى أن المسلمين والأوروبيين طوروا نظريات تتعلق بأصل السلطة المفروضة،وسبب وجودها ومبرراتها،وما كان في ذهن المسلمين هي الخلافة،أم ما كان في ذهن الأوروبيين فهي الدول،وفي الإسلام جرى تقديم الشريعة باعتبارها أفضل جميع الأنظمة القانونية،وهي التي توجه الناس إلى الله،فالشريعة عند المسلمين كانت تضطلع بالدور المركزي في المحافظة على الانضباط الاجتماعي الذي عزاه المفكرون الغربيون إلى الدولة،وقد اقترب الفكر الغربي من الأفكار القديمة لتبرير السلطة المفروضة،غير أن الأفكار التي اقترب منها المفكرون الغربيون كانت مختلفة عن تلك التي اعتمد عليها المسلمون،حيث كان لديهم حجة أوغسطين بأن الدول نشأت من الشهوة إلى السلطة،والملك هو الذي ينجح أكثر من غيره في السيطرة على الآخرين،وهذا الأمر يجلب سلاماً وأمناً من نوع ما،وقد كان البعض في أوروبا يعتقدون أن السلطة مستمدة من الله بقوة السيف. الـمجتمع:القبيلة والتجمع والأمة في الفصل الثالث من الكتاب ركز المؤلف على قضايا المجتمع:القبيلة والتجمع والأمة،وانطلق من دور العائلة،وذهب في مقارنته بين العالم الإسلامي وأوروبا إلى أن دورها يختلف إلى حد ما،إذ كانت أوروبا فريدة في تطوير العائلة الصغيرة في مرحلة مبكرة،وذلك على حساب العائلة الكبيرة أو العشيرة،وهذا ما جعل أوروبا مختلفة عن العالم الإسلامي وعن أغلب الثقافات الأخرى،وفيما يتصل بالتجمعات يرى المؤلف أن الروابط التي تستند إلى القسم والطقوس والأخوة المصطنعة حلت في أوروبا محل القبيلة والعشيرة،وقد نشأت روابط عدة استندت إلى اتفاقيات القسم بين رجال من منزلة متساوية،وليس أقرباء بالضرورة،وذلك من أجل مساندة بعضهم البعض،وقد كانت روابط القسم،أو التجمعات ذات خصوصية في أوروبا،حيث سهلت تطور نوع جديد من المجتمع يستند إلى المصالح العامة(الاتحادات الاجتماعية والحرفية،وجماعات البلدة والقرية). وفي العالم الإسلامي كانت المدن تنقسم إلى مناطق تقطنها مجموعات عشائرية ومحلية وقبلية وطائفية مختلفة،ولكل منها هوية خاصة،وقد عرفت الاتحادات الحرفية تطوراً في الثقافتين الإسلامية والأوروبية،وقد ظل الولاء العشائري والقبلي قوياً نسبياً في العالم الإسلامي،وبالمقارنة بين القبيلة وروابط القسم والمجموعات المشتركة التي كانت تتطور في أوروبا،فالقبيلة ولدت إحساساً بالانتماء وولاء شاملاً ،ويذكر أنتوني بلاك أنه مع انهيار الإمبراطورية الرومانية حلت الأمة(العشيرة،الوطن)محل القبيلة،وقد كان في كل من أوروبا والعالم الإسلامي مجتمع ديني شامل،هو المجتمع الإنساني،و كان يعتقد أن كلا من المسيحيين والمسلمين هم أفراد في مجتمع ديني شامل،وكان الانتماء لكل منهما ضرورياً،وقد تجاوز الانتماء إلى هذا المجتمع جميع المطالب الاجتماعية الأخرى. وبالنسبة للطبقات يشير المؤلف إلى أن الطريقة الأكثر شيوعاً في تفسير الأوروبيين لعدم المساواة الاجتماعية وتقسيم العمل تتم عن طريق التناظر مع الجسم البشري،وهذا ما طبقه القديس بولس مع الكنيسة حتى يفسر تقسيم العمل،وقد استخدم الكتاب المسلمون أيضاً التناظر بين الجسم والمجتمع،وتم تقسيم المجتمع في الغرب إلى الذين يصلون ويحاربون ويعملون،ويرجح المؤلف أن يكون مصدر هذا التقسيم يعود إلى المصادر الهندية الإيرانية،أو إلى أفلاطون. الأنظمة:أوروبا والإسلام وبيزنطة في الفصل الرابع من الكتاب قدم المؤلف دراسة تحليلية للأنظمة في أوروبا وعند المسلمين وفي بيزنطة،ووصف في بداية هذا الفصل الحكم الملكي بأنه النظام السياسي الوحيد المأخوذ بجدية في أوروبا وعند المسلمين والبيزنطيين،إلى أن تغيرت الأمور في أوروبا منذ العام:1050م تقريباً،وقد استمدت المسيحية الشرقية والغربية فكرتهما عن الحكم الملكي المقدس من الأيديولوجية الإمبراطورية الرومانية بعد تحولها إلى المسيحية،و منحت الكنيسة في الغرب البابوية بعض السلطة الملكية في الأمور الدينية،وبالنسبة للمسلمين فقد كانوا ميالين على نحو خاص إلى وضع ثقتهم في قائد فرد بارز،وكان ثمة استعداد في العالم الإسلامي للاعتقاد أن السلطة الحقيقية تكمن في شخص يتميز بالفضيلة والتقوى والذكاء. ويذكر المؤلف أن العدالة هي المعيار السياسي الذي يلجأ إليه في كلا المجتمعين،وهي الالتزام الأساسي للملكية، وقد عُرفت عند المسلمين بأنها القانون المنزل من عند الله،وعند الأوروبيين كانت مجسدة في القانون الروماني،و لا تُعرف إلا بتعبيرات عامة جداً مثل(النية القوية والثابتة لإعطاء كل شخص حقه)،وقد استمد الأوروبيون أغلب أفكارهم المتعلقة بالإجراء القانوني من القانون المدني في روما القديمة،و ينبه أنتوني بلاك إلى القواسم المشتركة بين الأوروبيين والمسلمين والبيزنطيين،والتي تتمثل في اعترافهم على حد سواء بالسيادة الأخلاقية للقانون على الحكام،وقد كان هذا الأمر أقدم تقييد على السلطة الملكية،غير أن هناك بعض الاختلافات الحاسمة في طريقة التطبيق في أوروبا من ناحية،وعند المسلمين والبيزنطيين من ناحية أخرى،حيث كان بإمكان المحاكم الكنسية في أوروبا أن تفرض قانوناً كنسياً ضد الملك،وقد كانت تفعل ذلك معتمدة على سياسة القوة،حيث ابتكرت بعض الدول الأوروبية وسائل دستورية لمساءلة الملك الذي يرفض الامتثال إلى القوانين العلمانية. السياسة العملية ومناهج الفكر السياسي في الفصلين الخامس والسادس درس المؤلف السياسة العملية بين الفكرين الغربي والإسلامي،وتطرق إلى مناهج الفكر السياسي الإسلامية والأوروبية، ومن أهم ما أشار إليه أن العلاقة بين النظرية والممارسة،وبين الأخلاقي والممكن هي قضية نادراً ما تكون مستترة في الجنس الأدبي الإسلامي المتعلق بالنصيحة للملوك،وأغلب المقارنات التي أجريت في العالم الإسلامي كانت مع المرايا الأوروبية للأمراء،والتي أعدت لتعليم الأمير كيف يحكم جيداً وفق المبادئ الأخلاقية التي علمتها المسيحية والرواقية،وسبب عدم وجود مكافئ حقيقي في أوروبا لأدب النصيحة في العالم الإسلامي يعود إلى دستور الدولة الملكية،وقد كانت آداب نصيحة الملوك أكثر تنوعاً من المرايا الأوروبية،وكان يوجد الكثير منها،حيث تطرقت إلى مختلف القضايا التي تتصل بالتنجيم والصداقة وثقافة التهذيب والسلوك الاجتماعي. وذكر أنتوني بلاك أن الثقافات السياسية الإسلامية والبيزنطية والأوروبية تميزت باحتوائها على عناصر مشتركة أكثر من أي ثقافة قديمة أخرى،ولاسيما في مراحلها المبكرة،إذ كانت تشترك في التوحيد الإبراهيمي،وفي بعض العناصر مع الأفلاطونية المحدثة،غير أن نتائج الإرث الإبراهيمي والأفلاطوني كانت مختلفة تقريباً في جميع المجالات،فالنماذج الفكرية العامة تباينت على نحو واضح،و قد أكد المؤلف على ضرورة إعادة تقويم أهمية الدور السببي المحدد لهذين التقليدين في تشكيل أوروبا من ناحية،والإسلام من ناحية أخرى، ولا حظ أن ما يميز بينهما لم يكن المصادر والنصوص والتقاليد،بل المواقف واتجاه النشاط الثقافي. كما تعرض إلى تأثيرات أفلاطون وأرسطو،حيث لقيا اهتماماً كبيراً من قبل المسلمين والأوروبيين،وذلك من أجل التوجيه الأخلاقي،وقد اهتم المسلمون بهما كونهما يقدمان نموذجاً للحكومة المثالية،واتبعوا أفلاطون في ربط شخصية الدولة ونوعيتها مع شخصية حاكمها وشعبها ونوعيتهما،كما تأثر الفكر السياسي الأوروبي بالأفلاطونية المحدثة،ولكنه كان بقدر أقل. التغييرات في الدين والسياسة في الفصل السابع من الكتاب انتقل المؤلف إلى دراسة التغييرات التي وقعت في الدين والسياسة،فمع أواخر القرن الحادي عشر بدأ الفكر السياسي في أوروبا وبيزنطة وعند المسلمين يتباعد بشكل كبير،ويرجع أنتوني بلاك هذا الأمر إلى قيام أوروبا بجملة من التغييرات التي شكلت قطيعة مع الماضي ومع الثقافات الأخرى،إضافة إلى ظهور الحركة الغريغورية من أجل إصلاح الكنيسة،والتي كان هدفها الرئيس تحرير رجال الدين من سيطرة الحكام العلمانيين،ومع خمسينيات القرن الحادي عشر سيطر المصلحون على البابوية،وأكدوا على سيادة الكنيسة على الحكام العلمانيين،وقد شكلت آراء غريغوري التي تتعلق بالسياسة نقداً حاسماً استند إلى سمات العقيدة المسيحية،كما وضع الحكومة العلمانية على مستوى أدنى في ترتيب الأمور،وقد أوجد هذا التحرك جملة من التصدعات ظهرت من خلالها قيود على السلطة الملكية وحق المقاومة وعزل الملوك. وخلال القرن الحادي عشر كان العالم الإسلامي يعيد تقويم العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية،وإلى حد ما كانت تعاد صياغة التعريفات،فقد وجدت الخلافة العباسية نفسها محاصرة في قلب المنطقة الإسلامية،وكان الدافع الفكري يختلف اختلافاً كلياً عن دافع الإصلاح البابوي،و كان برنامج إعادة الخلافة إلى موقعها الأصلي قد وضع مخططه الفقيه الماوردي الذي أراد إعادة تأسيس الخلافة لتصبح الإدارة العامة للأمة الإسلامية،ونقطة ارتكاز نظام المجتمع السياسي والديني. ووفق منظور المؤلف فقد وقعت تسوية جديدة بين المجالين الديني والسياسي وسلطتيهما،-العلماء والسلطان-و تحققت في نهاية القرن الحادي عشر،وكانت نتيجة سياسة الوزير السلجوقي نظام الملك الذي عرض رؤيته في عمل مؤثر سماه«سياسة الملوك»رأى فيه أن العلاقة بين السلطان والعلماء تبادلية،وفي زمن تأسيس الجامعات الأوروبية الأولى بدأ الوزير نظام الملك برنامجاً طموحاً لتمويل المدارس في جميع المدن الرئيسة. أصول الفكر السياسي الغربي في الفصل الأخير من الكتاب قدم أنتوني بلاك متابعة لأصول الفكر السياسي الأوروبي،وتوصل إلى أنه بعد العام1100 تقريباً أضحى الفكر السياسي الأوروبي مختلفاً بشكل كبير عن فكر الثقافات الأخرى،فقد جاءت النظرية الأوروبية للدولة كرد فعل على مطالب الهيمنة من السلطات الدينية،ولم تتضح فكرة الدولة باعتبارها نتاجاً للطبيعة البشرية إلا بعد مرور نحو قرنين من الزمن،فقد كانت الأسئلة التي طرحتها العلاقة بين الدولة والكنيسة في الغرب هي المركز الأساسي في الفكر السياسي الأوروبي في الفترة الواقعة بين الثورة البابوية والإصلاح،وقد ورث الأوروبيون عن روما فكرة«قانون الأمم»الذي أشار إلى معايير أخلاقية أكثر خصوصية،وكان يعتقد أنها ضرورية جداً لمصلحة البشر في كل زمان ومكان. وقد خلص المؤلف في ختام هذا الفصل إلى أن الأفكار السياسية المعبر عنها في الإسلام والغرب اختلفت،وقد كيف المفكرون تراثهم النصي الخاص وطوعوه وفقا لاختياراتهم الثقافية وبرامجهم السياسية المفضلة،ولم يكن أي طرف من الطرفين أكثر أصالة من الآخر،فقد أنجبت أوروبا مارسيليوس وأوكهام وأنجب العالم الإسلامي ابن خلدون،و بدأ الفارق يتضح بين الفلسفة السياسية الأوروبية والإسلامية مع حلول القرن الرابع عشر في نظرية مارسيليوس وأوكهام التي تتصل بحقوق الناس.

ليست هناك تعليقات: