2018/02/20

يحدث فى يونيو! قراءة فى المجموعة القصصية (يونيو)، لـ "عمرو الرديني".. بقلم: محمود عرفات



يحدث فى يونيو!
قراءة فى المجموعة القصصية (يونيو)، لـ "عمرو الرديني"..
بقلم: محمود عرفات
مررتُ على بائع الصحف، فلفت نظرى غلاف مجموعة (يونيو) القصصية، لعمرو الرديني، فاقتنيتها على الفور.. لأنني سبق أن استمعت لعمرو وهو يلقي قصصه في مؤتمر الإقليم بالإسكندرية، ثم قرأت روايته الأولى (البوابة رقم 10)، فأـدركت أنني أمام كاتب موهوب، يعرف قيمة الكلمة وأهمية الإبداع. بعد انتهائي من قراءة إبداعه هاتفته في ساعةٍ متأخرة لأحييه على قصصه التي أعجبتني.. فطلب مني أن أكتب خواطري بشأنها، فتحيرت وأجلت الكتابة حتى أكتشف مسارا أستطيع البدء منه. طال الوقت إلى أن فاجأنيباختياري لأكتب مقالًا عن ذات المجموعة وألقيه في مناقشة لها بالمركز الدولي للكتاب.
"عمرو" قاص وروائي وشاعر. أفصح عن شاعريته في كل من روايته الأولى ومجموعة قصصه التي بين أيدينا. فقد أورد نماذج من شعره على شكل رباعيات صاغ فيها أفكاره وتأملاته فيسطورٍ قليلة ووافية. هو مشغول بهموم الإنسان. يعرض في قصصه نماذج إنسانية نعرفها ونتعايش معها. إنه يلتقط المواقف بذكاء، ويخلصها من الشوائب؛ فيحولها إلى جوهرة تعبر عن الهم الإنساني في تجلياته المختلفة.كما أنه غير مهتم بطرح إجابات أو حلول لما يواجه البشر من مواقف ومشكلات مختلفة. ولعل النص الذى أورده في الصفحة التالية بعد الإهداء يؤكد هذه الفكرة.. حيث أورد جزء من نص لـ "أحمد مصطفى سعيد" بعنوان (منمنمات عشق)يقول فيه: "بكتْ علامات الاستفهام، وواستها علامات التعجب، إلى متى يا أختاه نظل عذارى ولن نلد إجابات؟!".
   وهو يهدي كتابه إلى شهر (يونيو) الذى يشق السنة لنصفين! ويصفه بأنه شهر: الحر والامتحانات والأحزان وبداية الصيف والإجازات والشطآن.. كما أنه شهر الأحلام. وبالرغم من كل هذه الصفات التي وصف بها شهره الحميم إلا أنني أظن أنه لم يفصح عن السبب الحقيقي الذى دعاه لتسمية المجموعة بهذا الاسم، ومن ثم يهدي له إبداعه. أنا شخصيًا أراه شهرَ الأحزان الذي حدثت فيه هزيمة سبعة وستين المروعة، والتى أوقن أنها ستظلل حياتنا بآثارها الفادحة لعقودٍ قادمة.
   أول ما يلفت الانتباه في لغة "عمرو الرديني" أنه يصوغ حكاياته في جملٍ قصيرة مُوحية.. مبتعدًا عن أيِّ فائضٍ لغويٍ يصيب النص بالترهل.
   اعتمد "الرديني" في بعض حكاياته على آلية المفارقة.. استنادًا إلى المقولة الشهيرة: وبضدها تتميز الأشياء. فقد اقتنص مثلاً المؤلف لحظة امتدت بين أذانين: أذان الفجر، وأذانصلاة الجمعة.. ورسم صورةً حية لشخصياتٍ تتقاطعُ مصائرها، وتتباين سلوكياتُها في السوق. الشخصيات تكاد تتحرك داخل ورق القصص بما يعتمل داخلها من أشواقٍ وهموم وتطلعات ودناءات ومخاوف وأطماع ورغبات وآلام. تنتهي القصة بدخول كل الرجال إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة: المتحرش والمنفلت والمتنطع واللص ورافع الأذان والورع! ولعل من يقرأ هذه القصة تصيبهالدهشة بسبب التصرفات المتناقضة المضفورة في سياق قصصي واحد بين أذانين.
يقدم المؤلف صورة أخرى من صور المفارقة.. فجسَّد وفاء الكلب لصاحبه النذل الذي أخذ يصفر له ليتبعه. لكن الكلب الحريص على ملاحقةِ صاحبه يسقط صريعًا تحت عجلات سيارة مسرعة أثناء عبوره الطريق المزدحم بينما استمر صاحبُ الكلب في طريقه ولم يظهر بعد ذلك أبدًا.
   في قصة "امرأتان تأكل إحداهما الآيس كريم" يروي حكاية شاب مفتون بامرأةٍفقيرة بائسة يراقبهاعبر النافذة المقابلة له. ويتابعها في ذهابها إلى العمل مع صديقتها وهى تلعق الآيس كريم الذي تحرص على شرائه كل يوم. تحسدها صديقتها على غرامه بها. إنه لا يتذكر ملامحَ صديقتها التي تستطيعُ أن ترسمه من الذاكرة. استخدم "عمرو" في هذه القصة ضمير المخاطَب (أنت) ليتمكن من سرد الوقائع والمشاعر التي لا يعرفها بطل الحكاية عن فتاته وصديقتها. وبهذه التقنية فإن الراوي يساعد البطل المفتون في تجلية مشاعره، وخاصة من خلال جملتي البداية والنهاية. ففي البداية يقول له: تنظر إليها بشغفٍ كبير، بفضول، وانتظار، وولع أخشى أنْ يصل بك للحب. وفي النهاية يقول له: ورغم ذلك كله لا تزال تقف في الأعلى، تحدق في مؤخرتها الرجراجة.
يقدم لنا المؤلف نموذج آخر هو "سلطان الرديني" المفتون بالموضةوبحب الظهور وممارسة كل التقاليع التي تتفشى بين الناس. ولعل اختيار لقب "الردينى" لـ "سلطان" يمنح القصة معنى أكثر شمولًا من مجرد الحديث عن شخصية مريضة بتلميع نفسها. المؤلف يوضح، في بداية القصة، أنَّ: ("سلطان الرديني" ليس قريبي، رغم اشتراكنا في اللقب.. لكنه بات قريبًا لكل المصريين). هذا التقديم يمثل رسالةً تحذيرية للمجتمع الذي تتفشى فيه هذه الظاهرة. وكأنه يقول: حتى أنا.. يمكن أن تمسّني تلك الظاهرة ولا أنجو منها.. وباختصار..كلنا هذا الرجل.. تقريبًا.
   في قصة "ربيع العمر" يقدم المؤلف مشهدين يمثلان مفارقة لطيفة.. المشهد الأول لزوجين يتبادلان الخصام والشجار بسبب غيرة كل منهما على الآخر. ثم الصلح  والانغماس في الحب. المشهد الثانيلمهاتفةٍ من ابنهما الذييوقظهما من نومهما في العسل ليهنئهما بعيد زواجهما الأربعين.
   قدم المؤلف في قصة "اعوجاج" نماذجَلبشرٍ لا تنسى عيوبَ الآخرين حتى لو نجحوا فيعلاجها. والاعوجاج ليس في أنفِ بطلة القصة التي أجْرَتْ جراحة لتصحيح اعوجاجه وتجميله وحسب. لكنه اعوجاج في أخلاق الناس وفي حُسنِ تقديرهم للمواقف والأشخاص، والانتصار للمظاهر التي قد تكون زائفة في كثيرٍ من الأحيان.
   في قصة "رصيد" يعتمد حاصد الجوائزعلى آلية المطابقة لا المفارقة.. من خلال سبعة مقاطع قصيرة غير مرتبة تلخص حياة رجل عربيد.. يعيش وحشة أيامه الأخيرة بعد أن ترك وظيفته الهامة، وباع سيارته وأصبح وحيدًا لا يسأل عنه سوى المرض. ذلك الرجل الوحيد يتلقى اتصالات من امرأةٍلا يتذكرها من كثرة ما عرف من نساء.. ردد أسماءهن واحدة واحدة دون أن يفلح. وتنتهي القصة بسماعه رسالة مسجلة على هاتفه: عفوا.. لقد نفذ رصيدُكم.. يرجى إعادة شحن البطاقة. إنها رسالة تذكره بأن رصيدَه الباقي له في الدنيا قليل. إنه يقضيأيامه الأخيرة يمضغ الندم، ويحتسي الملل بجانب القهوة السادة.
   يحكي المؤلف في قصة "نقطة" الفصل الأخير من قصة بائسة انتهت بخروج الزوجة من بيتها نهائيًا بسبب ضرب زوجها المتكرر لها. واستخدم في هذه القصة فكرة المطابقة بين النقطة التي تتسرب بانتظامٍ من الصنبور القديم الذي ينتظر الإصلاح ونقطة الدمع التي تسقط من عينها بسبب الضرب ولا يصلح معها الإصلاح.
هكذا يمضي أديبنا الشاب في حكاياته، فيصوِّر الأحلامَ المُهدرة التي يعاني منها الإنسان في حياته كما في قصة "حجز". ويحذر من الإفراط في الابتعاد عن الناس والاكتفاء بالذات كما في "أمرٌ ثان". ويرسم بانوراما لحالِ الموظفين في المكاتب الحكومية كما في قصة "مكتب". ويتعرض لحوارات الإنسان مع ذاته في محاولة للتخفف من آلام الإخفاق والفشل والندم على النذالات الصغيرة كما في قصة "لست نبيًا"، والخيانات الكبيرة، وتتبع مسارات الفهم والنضج، ومواجهة الازدواجية في التصرفات، والخجل من التصرفات الخسيسة، والصراع الدائم بين الواقع والمثال كما في قصة "مواجهة". أما في قصته "شىءٌ من السيرة الذاتية" يأخذنا المؤلف في رحلةٍ قصيرة، لكنها لافتة.. حيث يتكيء على وفاة الوالد ليسترجعَطرفًا من ذكرياته وتأملاته في نسيج العلاقات الأسرية. يكتب القصة بقلبٍ بارد لكن بطريقةٍ مؤثرة. وينتهي من تأملاته بأنَّ غياب الأب الرقيب لم يدفعه إلى الانفلات.. بل أصبح هو رقيب نفسه.
   مجموعة (يونيو) القصصية الصادرة عن سلسلة "كتابات جديدة" بالهيئة المصرية العامة للكتاب فى منتصف 2017 تستحق أن نحتفي بها وبمؤلفها. فقد استطاع -دون أن يقع في فخ الفذلكة أو الاستطراد- أن يقدم حكايات تمس الناس وتخصهم، في لغةٍ منضبطة سهلة وغير متقعرة،وكل ما أطلبه منه: أنْ يعكف على مشروعه الفني الواعدالمتميز، فيحتشد له ويطوره ويستمر في القراءة والبحث والتجريب، ويواصل الخطو الواثق الراسخ ليمتعنا بإبداعاته المتجددة.

(كفر الزيات) السبت11 من نوفمبر 2017م

ليست هناك تعليقات: