2018/03/29

"رقَّاصة" بلاغة المراوغة وبراعةُ الرقص في تحفةِ النص بقلم: رانيا مسعود



"رقَّاصة" بلاغة المراوغة وبراعةُ الرقص في تحفةِ النص
بقلم: رانيا مسعود
استدعت فكرة قراءة الديوان لديَّ في ذهني صورة الفنان محمود حميدة برأسه تعلو بما يعلو به مزاجه، وتتمايل بملامح لا مبالية برقصةٍ وضعَ لها في أصابع كلتا يديه الصاجات الرنَّانة. التقتا الصورةُ والفكرةُ للديوان في مخيلتي لأربطهما برقصاتٍ إيقاعية على أنغام قراءتي لأفلام الخيالة المفضلة لديَّ قديمًا وحديثًا في كتابي "خياليات" الصادر عن سلسلة طيوف 2017. أما الديوان فهو صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2011 ضمن الفائزين بالمسابقة المركزية دورة نجيب محفوظ حيث استحق الديوان لفكرته الجائزة الأولى بجدارة.
وقد تكون الرقصة سابقةً للتهاوي من بعدِ شقاءِ اللف والدوران حول ما أحاط بالمبدع الفنان من أجواءٍ أدت به في النهاية إلى التخلي عن أخذ الأمورِ باعتباراتٍ جديَّة لتنزل إلى درجة الرقص الأشبه بدرجة إيقاعات البَدَن لدجاجةٍ استلَّ الفرارجي لها سكينه ليُنهيَ رغمًا عنها حياتَها بفلسفةٍ عميقةٍ لتلك الرقصة الأخيرة.  
في رقصات ديوانِهِ يرقصُ مَن اختاره "محمد سالم عبادة" من شخصياتٍ ذات دلالة خاصة بمفاهيم التسامي؛ فكل شخصية من هؤلاء المختارين بعناية توحي باتساعِ أفق المترجم الدلالي بداخل المثقف الذي قدمها برؤيةٍ مختلفة. ومن آخر صفحات الديوان تجد هوامشَ تزيده ثراءً، وتكشفُ قليلًا مما تعمق في تقديمه بتكثيف.
وأختارُ تحديدًا بعضَ الشخصيات منه لأُلقي على ما جاءَ في قوله عنها قراءتي. ويأتي اختياري من اقترابِها ذهنيًّا إلى تفكيري نظرًا لحضورها القوي الناتج عن دراستي لها، وخلودها في ذهني عن غيرها، مع الإشادة بما جاء في الديوان من تعريفات بالشخصيات الأخرى التي أفاضَ علينا الكاتب بما تعلَّمَهُ عنها، ليزيد إلى علمنا بالشخصيات الأخرى علومًا متنوعة على اتساع وامتداد ثقافته بالإبحار في عوالم الشخصيات العالمية المختلفة.
استهل عبادة ديوانه برقصة (حور محب) ذلك المحارب الذي تولى عرش مصر بعد وفاة آخر حاكم شرعي لها يحملُ الدماء الملكية وهو (توت عنخ آمون) ومن تبعه على العرش الكاهن (آي) إلى أن انفردَ (حور محب) بحكم قيادته لجيش مصر في ذلك الوقت بالحكم وتلاه من بعده قادة الجيش من الرعامسة في الأسرات التاسعة عشرة وغيرها لتسقط مصر بعدها أسيرة في أيادي الفرس ومن بعدهم اليونان والرومان. وللمرجعية التاريخية اختار "محمد سالم عبادة" هذه الشخصية وهو يشير في مستهل القصيدة إلى الهاوية التي سقطت فيها مصر باختتام الصلاة لعبادة الشمس كإله اختار له أخناتون أن يكون موحدًا في ذات (آتون) رافضًا بذلك كل معبودات مصر المتعددة. وهنا يروي ببساطة وبكلمات تلقي بظلالها على الأحداث التاريخية "عبادة" حين يختار من تبع ملوك مصر ومن كان قبل (حور محب) من ملوك. واختيار الألفاظ الساخرة من التاريخ وحكمة الماضي ومرور المجد بهذه الطريقة بجلوسه في النهاية أعلى المسلة هو في حقيقته سخرية من صراعات سلطوية أدت في النهاية إلى انهيار معتقد وزيادة معتقد آخر حتى بلوغه ذاك المصير. إنه التهاوي بعد رقصٍ من دوارِ اللف في رحايا طحنت التاريخ بشخصياته والآثار بما نُقِشَ عليها.
ثم يدخل بنا الشاعر إلى المنعطف الديني باختياره شخصية (السامري) التي وردت في النص المقدس ويتبعها برقصة فلسفية لـ (ديوجين) حتى نصل إلى رقصة (الوليد بن المغيرة) تلك الرقصة المتفردة والتي اختار لها الشاعر إيقاعًا مختلفًا، أوحى إلينا بهذا الفخر الشخصي السائد العائد إلى فخرٍ قبلي، ومراوغة ذات بهاء مختلف حين يستدعي لها ألفاظ النصوص الدينية وأسماء السور القرآنية ليتحدث ببساطة عن فلسفة الشخصية المفوهة عصماء الخطبة في الناس وزيادتها في العناد الذي أدى بها إلى منتهى الكفر على الرغم مما شهدت به من فصاحة وبراعة النص القرآني إذ أن (الوليد) هو المغالي في كفره بعد مقولته الشهيرة إثر استماعه للقرآن الكريم: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة...". وعليه فيومئ إلى مآله "عُبادة" حين يختتم بمصيره الذي حفظه كل طفل عن ظهر قلب من الآيات.
وتتالى الرقصات لكنني أتوقف عند رقصة (واصل بن عطاء) ذلك المتمرد على شيخه والذي اعتزل فرقته فكانت له مكانته الخاصة في التأويل للنص القرآني والذي أدى ببعض المتشددين إلى وصفه بالزندقة بل ولا نبالغ أنهم قد نعتوه بالكفر. وعليه فقد ذكره "عبادة" في هامشه ليستفتح قصيدته بما جرى في هذا المجلس من نزال وجدال أدى إلى نشأة الفرقة واعتزال الفكر السائد وانفراده  بفرقته التي سُمِّيَت بالمعتزلة. ويناقش الشاعر ببلاغة واضحة قضايا لا يمكن للعقل أن يتقبلها بالفكر السائد في تلك الفترة التاريخية إلا بقليلٍ من إعمال العقل كما لجأ إليه (واصل) في فرقته بنزاعه الذي أدى به إلى تأويله النص بصورة مختلفة تبتعد عن سطحية تقبل أفكار جامدة خافت الاقتراب بقليل من التفلسف لتأويل النص على اعتبار قدسيته. ويختتم الشاعر نصه بإصرار العقل على النزال والجدال الذي اتبعه (واصل) وفرقته قائلًا:
وعينك تشوف الصفة، تنطرف..
فتتوضَّا، تقعد، وتنشَدّ، تنشِد:
ما فيش بينَّا غير الاعتزال،
والنِّزال!
وهنا نجد الجناس التام في كلمتي (تنشدّ، تنشِد) والسجع والجناس الناقص في اتفاق بعض حروف كلمتي (الاعتزال، النزال).
وتصل محطات الديوان إلى رقصة (عبد الله بن المقفع) تلك الشخصية التاريخية التي استخدمت الحكمة والفلسفة لترمي بقضايا واقعية معاصرة في تلك المرحلة لتعانق بها حكايات على ألسنة الحيوان ترجمها (عبد الله بن المقفع) لتصير لنا من ذخائر التراث نظل نتروَّى ونحن نختار القصص من بينها لنشير بها إلى كل حدثٍ يمر بنا في التاريخ باستخدامنا الحيوان بالغرض نفسه الذي من أجله أُلِّفَتْ الحكايات الفارسية وتناقلها الجميعُ بسخريةٍ مستترة متكشِّفة واضحة. ولنا العبرة في كائنات الحيوان نتعظ مما جرى لها وكان في طفولتنا وصبانا وحتى الممات يضربون لنا الأمثالَ بالجنوحِ بعيدًا عن شخصيات الأنسنة الواقعية. أما ختام القصيدة فهو البراعة حين يؤكد الشاعر أن هذا هو الصحيح بينما ما يسعى لتصديقه على الرغم من عدم مصداقيته الآخر مخبول. جملة مواسية لكثيرٍ ممن اتبع مسار الحق فوجدَ الباطلَ يسود إلا أن الشاعر يختم قصيدته ليضع الأمور في مسارها الصحيح.

أما (فرويد) عالم النفس الشهير في التاريخ فقد اختاره "عُبادة" كمرجعية تاريخية عِلمنفسية مهمة لا بد للجميع أن يعود إليه في رقصهِ عكس ما كان من نظرياتٍ تفرَّدَ هو الآخر بشخصهِ حين طرحها في علم النفس. ومراوغة النص القصير هنا تحملُ ما تحمله من تمكن الشاعر باستغلال نظريات طرحها ذلك العالم المهم على البشرية إلى أن وصل إلى اختتام قصيدته ببراعة بالإشارة إلى قضية (الأنا الأعلى). هي حكمة واصل في إثباتها بكلماتٍ مكثِّفة سبحَ بها خارج تيار المألوف.
        وأخيرًا أختتمُ قراءتي برقصة (سليمان باشا الفرنساوي) ليس للاختيار الذي اختاره الشاعر فقط، بل لاندهاشي مما وصلت إليه أوضاع مقبرته الكائنة بمواجهة الكورنيش من تردٍّ واضحٍ لابتعاد العامة من الناس عن روح الشخصية ومرجعيتها التاريخية بما جعلهم يلقون على أثره المهم بمخلفاتهم. ونعودُ بالتاريخ إلى المصير المجهول الذي كان لتلك الشخصية المختارة من نابليون الغازي لبلاد الشرق مسيطرًا في حملته ذات الأسباب الواقعية والأسباب المجاهر بها علنًا بالزيف. وفي نصه يشير الشاعر إلى الحملة الفرنسية باستدعاء دخان الغليون والبارود والمقارنة بين مدينة القاهرة ودولة فرنسا إلى أن استقر (سليمان باشا الفرنساوي) بعد إعلانه إسلامه في هذا المقر في قبرٍ لا يدرك العامة قيمته فيتجرأ البعضُ عليه بإلقاء مخلفاته دون أن يعي لهذه الشخصية ما كان لها من تأثيرٍ في التاريخ.
        الديوان لمن يدرك لمعانيه الباطنة مخزى لا بد أن يُقَدّرَه ليس فقط لما قد كان من كلماتٍ واصفة على ظهر غلافه، بل للقيمة والمرجعية التاريخية التي رقصت بها في الواقع كل شخصية اختارها الشاعر بجدارة ليعبر بها عن الحالة التي استدعت في الذهن صورة الفيلم العربي للفنان (محمود حميدة) والتي آثرتُ أن أربطَ بها ما جاء في نصوص "محمد سالم عبادة" وما جاء في رقصةِ المشهد.


ليست هناك تعليقات: