2018/09/30

محمد صالح الجابري... عاشق الثورة الجزائرية ....خادم الأدب الجزائري بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بــوفلاقــــة


 محمد صالح الجابري... عاشق الثورة الجزائرية ....خادم الأدب الجزائري
بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بــوفلاقــــة
 انتقل إلى الرفيق الأعلى خلال شهر جوان سنة:  2009م   الأديب البارز، والبحاثة القدير،والمبدع المتميز،الدكتور محمد صالح الجابري-عليه رحمة الله-،وبرحيل الجابري تكون الساحة الثقافية والفكرية في تونس، والمغرب العربي، والوطن العربي ككل، قد مُنيت بنكسة فادحة، فقد كان الجابري شُعلةً وضاءة لا تخبو،وجذوة مُتوقدة لا تنطفئ،وقامة سامقة من قامات العلم والمعرفة، وجسراً من جسور التواصل الثقافي بين أقطار المغرب العربي، يتضح ذلك جلياً عندما نرى نشاطاته الجمة، وأعماله الكثيرة، وإنتاجه الغزير المتلاحق.

فهو وجه مشرق من وجوه الثقافة التونسية وملمح ناضر من ملامحها الناضرة، حيث إنه كان واحداً من  المثقفين الموسوعيين العظام، يُعدّ بحق رائداً من الرواد، وعلماً من الأعلام الجادين الذين جمعوا بين شغف البحث العلمي، وجماليات الإبداع الفني، وعمق الرؤية الفكرية،ومن يرغب في إدراج الجابري وتصنيفه فإنه سيُدرجه ضمن أولئك الكُتاب القلائل الذين  تستهويهم الثقافة الموسوعية،فلم يجعل يراعه حكراً على جنس أدبي معين، فقد ألف الكثير من الدراسات النقدية، وكتب القصة والرواية والمسرحية، وأحب الجزائر حُباً جماً، ونافح عنها وعن أدبائها بكُل غالٍ ونفيس، وثابر بكل جد وجهد وعلو همة ،على خدمة الأدب الجزائري، وإذاعة صيته في مختلف الأقطار العربية، ومن آثاره الهامة التي تشهد على حُبه وعشقه للجزائر وللأدباء الجزائريين كتابه الموسوم ب:«الأدب الجزائري في تونس»،الذي هو بمنزلة موسوعة شاملة،بذل من خلالها الباحث جهداً علمياً كبيراً،لا ينهض به إلا أصحاب الهمم العالية ، فقد ألف ذلك الكتاب الموسوعة مُقدماً من خلاله خدمة جليلة للباحثين والدارسين الجزائريين،مُعبداً لهم الدروب، وفاتحاً لهم الآفاق، وقد أثنى على ذلك الكتاب الكثير من كبار الأدباء والنقاد الجزائريين، فكتبوا منوهين بمستواه العلمي، وعمقه الفكري، ومن بينهم الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الله ركيبي الذي أصدر قراراً وتوصية بدعم طباعته، وتعميمه على كل الجامعات، والمعاهد العليا في الجزائر،فلا يُمكن لأي دارسِ للأدب الجزائري،أن يتجاوز تلك الموسوعة الشاملة، والتي ألفها الأديب الراحل بسبب حبه وإعجابه بالأدب الجزائري، ورغبةً منه في خدمته، والإعلاء من شأنه، وكي يُلملم شتاته المتناثر في شتى الصحف والمجلات التليدة ،ويذكر لنا أسباب تأليفه لذلك الكتاب، وما بذله من جهود في سبيله بقوله:«وإن السبب في إنجاز هذه الدّراسة يعود أساساً إلى غايتين،أولاهما أن أساعد الدّارسين الجزائريين المتطلعين إلى استيفاء مصادر أدبهم،على الكشف عن بعض الصفحات المجهولة حقا من أدبهم، وُأنصف أولئك المبدعين الذين كان لهم شرف إرساء المعالم الأولى للأدب الجزائري الحديث،في صمت وفي ظروف عويصة مفعمة بالإحباط والخيبة، والحرمان، والعنت، وشظف العيش.
      وثانيهما إعجاب شخصي بهذا التراث الأدبي الذي لم يُركز على تناول قضايا الجزائر في تلك المرحلة الحرجة فحسب،وقد كانت الجزائر أحوج ما تكون إلى من يُعرّف بها وبقضيتها، ولكنه كان يحمل قضية المغرب العربي بكل تبعاتها وأوزارها، وقضية العروبة بمشاغلها ومشاكلها، وقضية الأمة الإسلامية بما فيها من أحزان ويأس وتشتت....وما من شك في أن المصدر الأوحد لهذا التراث الأدبي هو الصحافة والمجلات،على وفرتها وتعددها، مما اضطرني إلى متابعة مئات الصحف، وتصفح بضعة آلاف من الصفحات،ومع كل ما يعانيه أي باحث قدّر عليه أن يتصيد مصادره من المجهول فإنني أعتبر نفسي محظوظاً إذ أبُت بهذا الحصاد الأدبي الوفير، ولقد تعاظمت سعادتي حين أدركت أن الكثير من هذا الأدب الذي استفدتُ منه في وضع هذه الدراسة لم يكن معروفاً لدى الباحثين،كما لم يكن من اليسير بلوغه من مظانه التونسية المتشعبة والمبعثرة بين عدد من المكتبات، ودور التوثيق، والدور الخاصة،ولربما ساعد ظهور هذا الإنتاج الأدبي الجزائري على إعادة النظر إلى بعض الدراسات،التي لم تتوفر لها كل المصادر عن هذا الأدب،وخاصة المصادر التونسية التي يمكن التأكيد بأنها على جانب لا يُستهان به من الأهمية، وباعتبار أن هذا التراث الأدبي يؤلف في مجاله الزمني، وفي حدود المرحلة التاريخية التي تأثر بها وتناولها وعايشها وأسهم في معالجة قضاياها صورة متكاملة عن واقع تلك المرحلة،فقد قمت بدراسة هذا التراث في إطار تلك المرحلة،دون أن أغفل الاستفادة مما أتيح لي العثور عليه من مصادر أدبية حديثة تناولت الأدب الجزائري أو الفكر الجزائري بصورة عامة،أو تناولت الشخصيات التي عاشت هذه الحقبة الزمنية،على أني لمست حقيقة ثابتة لابد من إبرازها وهي أن القضايا والمشكلات التي عالجها هذا الأدب في مرحلة المحنة الاستعمارية ما تزال متجددة في الأدب الجزائري الذي تلا مرحلة الأساس هذه، وهو ما يُوحي بأن المقومات الفكرية للشخصية الثقافية الجزائرية ظلت مؤسسة على حب الوطن، والإخلاص له، والاعتزاز بالانتماء إلى العروبة والإسلام،وأنه لولا هذه الثوابت من المقومات، ولولا أولئك الرجال الأفذاذ الذين نذروا أقلامهم، وكرسوا حياتهم للذوذ عن الشخصية الجزائرية، وجذورها العربيّة الإسلامية،لما أمكن لهذا الجيل الأدبي الجديد أن يقفز قفزته الحالية ليكون في مستوى ما يكتبه أدباء الأقطار العربية الأخرى الذين لم يعانوا مثل المحنة الجزائرية نفسها»(1).

 

         إن ما نصبو إليه من خلال هذه الورقة هو أن نُلقي وجهاً من الضياء،على جهود الدكتور الجابري في مجال تدعيم العلاقات الثقافية بين الجزائر وتونس، وذلك من خلال تعرضنا لكتابه الهام والقيم الموسوم ب:«التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس»، الذي يُعد أهم سفر تناول العلاقات الثقافية بين البلدين  بالدرس والتحليل، والرصد الشامل، وقبل الارتحال بين دفتي الكتاب،نشير إلى أن الدكتور محمد صالح الجابري قد ولد سنة:1940م،بمدينة توزر بالجنوب التونسي، ودخل الكتاب في سن مبكر،ثم تابع دراسته بمدرسة «ابن شباط» الابتدائية إلى غاية سنة:1953م حيث واصل الدراسة بالمعهد الثانوي بمدينة توزر، وفي سنة:1957م التحق بمعهد ابن خلدون بالعاصمة التونسية، وتخرج منه سنة:1962م، وفي نفس السنة انخرط في سلك التعليم فعمل في كل من مدينتي:توزر وتونس،وقد عُرف الرجل بكفاحه وصبره وعصاميته،فقد تحمل مشاق السفر بمفرده إلى بغداد طلباً للعلم والمعرفة،فانتسب هناك إلى كلية الآداب،وحصل منها على شهادة ليسانس سنة:1975م، وفي نفس السنة عاد إلى وطنه فعمل بالتدريس في مدينة المنستير، وبعدها بسنتين التحق بمعهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر،وأتم به دراساته العليا.
      ومن أهم دراساته النقدية،نذكر:«الشعر التونسي المعاصر خلال قرن»،«محمود بيرم التونسي في المنفى،حياته وآثاره»،«القصة التونسية أوائلها وروادها»،«رحلات الأدباء التونسيين إلى الجزائر»، «ديوان الشعر التونسي الحديث»،«دراسات في الأدب التونسي الحديث»،«يوميات الجهاد الليبي في الصحافة التونسية»،«النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس»،ومن إسهاماته الإبداعية:روايات«يوم من أيام زمرا»،«البحر ينشر ألواحه»،«ليلة السنوات العشر»،وقصص«إنه الخريف يا حبيبتي»،و«الرخ يجول في الرقعة»،ومسرحية«كيف لا أحب النهار».
      والمتأمل في أعمال الجابري الإبداعية،يخرج بجملة من الملاحظات،والأحكام،من بينها أنه رائد من رواد الواقعية في التجربة السردية في المغرب العربي،فأغلب أعماله مستوحاة من تجاربه الخاصة،وشخصياته مستمدة من الناس الذين خامرهم في حياته ،ونُلفت الانتباه إلى عمل جبار ومشروع ضخم أشرف عليه الراحل، وهو :«موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين»،والذي أشرف عليه في إطار أبحاثه لفائدة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم(الالسكو)، فقضى من أجله ما يربو عن ثلاثين عاماً في البحث والتنقيب،خدمة للثقافة العربية، وقد صدر منه لحد الآن تسعة عشر مجلداً، ومن المهام التي تولاها الفقيد:كاتب عام لرابطة القلم الجديد، وعضو في جمعية القصة والرواية لاتحاد الكتاب التونسيين، واتحاد الكتاب العرب، ومدير المركز الثقافي التونسي بطرابلس.
    العلاقات الثقافية بين الجزائر وتونس:
     لا شك في أن الصلات الفكرية والثقافية بين تونس والجزائر،تعد من النماذج الطريفة، والفريدة،ومثالاً يُحتذى به للصلات الحميمة التي تنشأ بين قطرين حميمين، وكما عبّر عن ذلك الدكتور محمد صالح الجابري فهي تُعتبر مثالاً نادراً لعلاقات الجوار الإيجابي والخصيب بين الأقطار العربية التي تجمع بينها حدود مشتركة،وهي صلات ذات مظاهر متعددة،ومتنوعة،كما أنها مشتملة على ميادين شتى، تعليمية، وثقافية، وصحفية، وسياسية، ويُرجع الدكتور محمد صالح الجابري المصدر الرئيس لجسور التواصل بين البلدين إلى ذلك التحريض الذي أطلقه العلاّمة عبد الحميد بن باديس للطلبة مشدداً على ضرورة الالتحاق بجامع الزيتونة للنهل من علومه المتنوعة،ويتطرق الدكتور الجابري في مبحثه الأول من الكتاب،والموسوم ب:«احتفالات تونس بذكرى الشيخ عبد الحميد بن باديس» إلى ذلك الاحتفاء والتقدير الكبير الذي حظي به رائد النهضة الجزائرية في البلاد التونسية،فعبد الحميد بن باديس شيد جسوراً للتواصل بين البلدين،وكان كلما حلّ بتونس حظي باستقبال حار،فيهب لاستقباله العلماء والساسة،وتفتح له النوادي والمنابر لإلقاء محاضراته،ويلتف حوله التونسيون والجزائريون ويحتفون به أيما احتفاء ،وبعد وفاته أصبح تاريخ وفاته مناسبة وطنية مغاربية«وفُرصة لعقد اللقاءات، واستلهام العبر، وتجديد العهد مع النضال،وإلقاء الخطب والكلمات والقصائد التي تؤثل كفاح ونضال المغاربة ضد الاستعمار،وتُعرف بأمجادهم،وتستعرض صفحات من تاريخهم المجيد،فخلال خمس عشرة سنة من وفاة ابن باديس أحيا التونسيون تارة بمفردهم،وطوراً بمشاركة المهاجرين الجزائريين إلى تونس سبع مناسبات لتكريمه بداية من سنة1946وحتى سنة1955،وكانت مدار هذه المناسبات شخصية الراحل العلمية والإصلاحية،ودوره في الإصلاح الوطني والديني،وما قدم من جليل الخدمات لترسيخ القيم والفضائل، والدفاع عن العروبة والإسلام، وبناء المغرب العربي،كما كانت هذه المناسبات منطلقاً للإشادة بنضال الجزائريين  جميعاً ووطنيتهم،وتضحياتهم في سبيل وطنهم،ولما كانت الغاية من هذه المناسبات تعبئة المشاعر،وبعث الحماس والنخوة في نفوس المشاركين والمساهمين في إحيائها،ووصل ماضي كفاحهم بحاضره،والتأكيد على روح التضامن بين الشعبين التونسي والجزائري،فقد استأثر الشعراء بصدارة هذه المنابر واللقاءات،وفاقت نسبة المشاركين منهم فيها نسبة الكتاب والخطباء والساسة،نظراً للتأثير الذي كان للشعر خلال هذه الفترة، ولحاجة الجمهور الماسة إلى الكلمة الصادية،المنفعلة،القادرة على إلهاب الحماس،والتجاوب مع ما يعتمل في النفوس من غليان وتوتر،ونزوع للثورة والرفض والتحدي والعناد والإصرار»(2).
      ويقصر الدكتور الجابري عرضه لما قيل في ذكريات الإمام عبد الحميد بن باديس في تونس على القصائد الشعرية،فيُقدم لها شرحاً وافياً عن معانيها ومضامينها،فمن أبرز شعراء تونس الذين شاركوا في إحياء ذكرى الإمام ابن باديس:محمد الشاذلي خزندار، ومصطفى خريف، وجلال الدين النقاش،ومحمد زيد، ومنور صمادح، وفاطمة بوذينة،فقد عبر الشعراء في قصائدهم عن مواقفهم من الاستعمار،وعن تضامنهم مع القضايا المغاربية، ومؤازرتهم الشديدة لأشقائهم الجزائريين، ومثال ذلك قصيدة«قلب المغرب» للشاعر مصطفى خريف،والتي كتبها بمناسبة الذكرى السادسة لرحيل العلاّمة عبد الحميد بن باديس،فاستهلها بتحية الجزائر وبالترحيب بالجزائريين الطلبة في الزيتونة بقوله:
حي الجزائر فهي قلب المغرب     واهتف لفتيتها الكرام ورحب
واحمل من الخضراء نفحة ودها     للأقرب الأدنى لها فالأقرب
من رأس أطلسها الأشم لسفحه     ولـغابـه ولغيلـه المتأشب
سطعت رباه وأينعت وتنفست    كتنفس الإصباح بعد الغيـهب
تلك القوادم رنقت فأجابها     خفقان قلب في الجوانح ملهب  
 فابسط يداً لبني أبيك مصافحاً   وخذ المحبة،واعط، وادفع واجذب
فهم الأعـزة من سلالة يعرب    نفدي بمهجتنا سلالة يعرب(3)
     وقد ركز الشاعر مصطفى خريف في قصيدته على مكانة الطالب الجزائري في قلوب التونسيين،وأشاد بصمود الجزائريين في وطنهم،كما تباهى بتاريخهم الذي يحفل بالانتصارات والبطولات،وفي الأخير وقف للحديث عن العلاّمة الشيخ عبد الحميد بن باديس،باعث النهضة العلمية ،ورائد الجهود الإصلاحية،فيصفه بقوله:
عبد الحميد أبَا البلاد وشيخها    لا يستجد العرب غيرك من أبِ
ذكراك تبعث في النفوس عزائماً    فمنحت علًّتنا دواء مجرب
صغت الحنيفة والعروبة مذهباً     أكرم به،أكـرمْ به مذهب
ومضيت كالجبار هبَّ مُصمماً     لم يثن همتَه نبـاحُ الأكلب
وبذرت بذراً طيباً وسقيته الإ      خلاص في البلد الكريم الطيب
حتى استوى وربَا وأخرج شطأه     فانظر إلى ثمرٍ وروضٍ معشب
أشرق بروحك فوقنا وأمدنا       بشهـاب مقتبس،وأملل نكتب(4)
     ومن أهم قصائد الشاعر مصطفى خريف التي أشاد فيها بأرض الجزائر وأمجادها قصيدة«أرى فجراً يسري نحونا»،والتي ألقاها بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل العلاّمة عبد الحميد بن باديس،وذلك سنة:1948م،تلك المناسبة التي اشترك فيها كذلك الشاعر محمد زيد،الذي ألقى قصيدة ملؤها الشجن ركز فيها على ذلك الفراغ الرهيب الذي تركه رحيل رائد النهضة الجزائرية،فطفق يصفُ الظلام المخيم على الوجود،والطيور الصامتة، والربوع الناكبة ،وكل ذلك بسبب وفاة شيخ الأجيال:
ماذا أقول ونايُ الروح أسيان     ووجه دهري أكدار وأحزان
والأفق مغفٍ فلا نور الصباح به    مُحيِ،ولا نغم الأطيار فتان
وغيمة الجو مد الساقيات،وأطباق      وأدخنة تطغى وأدران(5)
       وفي ختام القصيدة،يُلقي الشاعر بعض الأنوار على ذلك الظلام القاتم،فيُعرج على ضرورة الاستضاءة بالضوء الذي تجليه الذكرى في نفوس الجزائريين،الذين عندما يتذكرون رائد نهضتهم يسيرون على دربه، ويقتفون نهجه،فيقول الشاعر:
يا ساكب الروح نوراً هب راشقهُ   وفي حشاه إلى الأضواء ألحان
إني أحييك بالذكرى وقد جمعت    لمجدك اليوم من ضِيموا ومن هانوا
من الجـزائر أشبالاً عنيت بهم   فتابعوا النهـج والأشـبال أعوان
ومن أشقـائهم أبناء تونس من    يشجيهـمو منك إقدام وإحسـان
وارفع له الشـكر ألحاناً ترنمه   في عالم  الخلد حيث العز شكـران
وادأب على ضوء ما أبقي فإن به    ينال ما غمـّه منع وحـرمان(6)
     وأما الشاعر محمد الشاذلي خزندار،صديق ابن باديس، وزميله في الدراسة بالزيتونة،فهو يرى بأن ذكرى ابن باديس هي بمثابة تجديد للروابط والعلاقات بين أقطار المغرب العربي،وقد أهداه روائعه الشعرية،التي كان يستعيد من خلالها ذكرياته الخاصة به،وعلاقاته المتميزة معه،فيعبر من خلالها عن مدى توقيره،وتقديره لذلك العلاّمة الجليل،وكذلك الشأن عند الشاعر جلال الدين النقاش الذي طالما وصفهُ في شعره بأنه مفخرة للعروبة وللمسلمين قاطبة، وركزت الشاعرة فاطمة بوذينة في شعرها على إبراز الدعائم التي أرساها، والأسس التي وضعها منذ إطلاقه لصرخته المدوية بأن الشعب الجزائري مسلم،وإلى العروبة ينتسب،كما أنها جعلت مبادئه منطلقاً وتقديماً للوصف والتعمق في شمائل رائد النهضة الجزائرية.
     وأما الشيخ البشير الإبراهيمي أمير البيان،فقد جمعته علاقات طيبة بتونس، وأهلها،إذ يعود أول اتصال له بتونس وبالزيتونة،إبان إقامة أسرته بالمدينة المنورة،حيث تتلمذ على الشيخ محمد العزيز الوزير،و بوساطته تعرف على مكانة جامع الزيتونة، ودوره المميز،فتوثقت صلته به،وأعجب به أيما إعجاب،وعلى الرغم من أنه لم يتخرج منه، ولم يقرأ فيه إلا أنه ما فتئ يُثني عليه كل الثناء،ومنذ أن انضم الشيخ الإبراهيمي إلى جمعية العلماء التي كان غالبية أعضائها قد تخرجوا من جامع الزيتونة،كان متجاوباً تجاوباً كبيراً مع توطيد العلاقات بتونس ساعيا إلى ذلك بمختلف الطرائق الممكنة وذلك« نظراً لما كان يتميز به الإبراهيمي من حسّ سياسي، ومن إيمان متجذّر بوحدة المغرب العربي،ووجوب تظافر جهود أقطاره ومناضليه لإجهاض المخطط الاستعماري الذي كان يهدف إلى تمزيق شمل هذا المغرب، وفصله عن بقية الأقطار العربية الأخرى،وانتهاج سياسات متباينة بين أقطاره لتعميق الخلاف بين زعمائه،وخلق ما يُسمى بتضارب المصالح،وتأكيداً لهذه التوجهات نجد الشيخ الإبراهيمي الذي أوكلت إليه جمعية العلماء مهمة الاتصال الخارجي مع الأقطار العربية القريبة والبعيدة يشدّ الترحال مراراً إلى تونس للالتقاء بعلمائها وزعمائها،وللاطلاع على أحوال العمال والطلبة الجزائريين المهاجرين، والاجتماع بهم وحثهم على تكوين الجمعيات الطلابية والثقافية،والكتابة في الصحافة التونسية للتعريف بوطنهم وقضيتهم، وعقد الصلة مع نظرائهم التونسيين ليكونوا حلقة الوصل بين الجمعية وبين سائر المؤسسات العلمية والوطنية في تونس، وبفضل هذه اللقاءات والزيارات،وهذا الدور الذي قام به الإبراهيمي على أكمل وجه نشأت جمعية(الطلبة الجزائريين الزيتونيين) في الثلاثينيات بتحريض من الإبراهيمي نفسه إثر اجتماع عقده بالعمال والطلبة في أحد أحياء العاصمة التونسية وهو حي(الحجامين)،إذ أشار إليهم الأستاذ الإبراهيمي بالكتابة في الصحافة التونسية،إظهاراً لما يُكابدونه من أتعاب،وقد تولى هاته المهمّة أحد الطلبة فكتب عدة مقالات في الصحافة،ومن هنا ابتدأ إطار الطلبة يتكون ووحدتهم تقوى وتشتد فأصبحوا يكونون الاجتماعات الخاصة،ويشاركون كطلبة لهم وحدة أدبية في الاجتماعات العامة التي تعقدها الجمعيات المحلية»(7).
      وقد كان الشيخ الإبراهيمي-عليه رحمة الله-يُكنُ لأرض تونس الطيبة، وأهلها البررة،كل الحب والتقدير،وكان يصفها بأنها«قبلة الجزائر العلمية،ومأزرها الذي تأزر إليه في النوائب،ومنارتها التي تشرف منها على أنوار الشرق فلا عجب إذَا حرصت جمعية العلماء على تمتين الجبال الواصلة بين الجزائر وبنيها،وعلى توضيح ما يخفى من أحوال الجار على جاره، ولعل أروع الأناشيد الخالدة التي تجسد صدق عاطفة الكاتب نحو تونس وأهلها وزُعمائها يتمثل في رثائه للباي المناضل محمد المنصف الذي توفي سنة 1949والذي أبعدته فرنسا عن بلاده بسبب مواقفه الوطنية إلى مدينة(الأغواط)بجنوب الجزائر أولاً،ثم إلى مدينة(تنس)على شاطئ البحر غرب مدينة الجزائر قبل إبعاده إلى بلدة(بو)جنوب فرنسا حيث توفي،فكانت وفاته مبعث حزن لجميع المناضلين في الشمال الإفريقي،ومن ضمنهم الكاتب الذي أبنه بمقال يعبر عن لوعة المشاعر التي انتابته وانتابت كل الجزائريين حين بلغهم خبر نعيه،متمنياً لو أن الأقدار اختارت الجزائر تربة له لتحظى بهذا الشرف الأثيل، وتفسح له في جنانها وقلوب بنيها مكاناً عالياً إلى جانب الشهداء من أبنائها»(8).
      وأما عن أصداء كتابات الشيخ المبارك الميلي،وجهاد الأمير عبد القادر في الصحافة التونسية،فقد أحاط بها الدكتور محمد صالح الجابري في بحثين مستقلين،ففي البحث الأول الموسوم ب:«مبارك الميلي والصحافة التونسية»،تعرض من خلاله إلى الاهتمام الكبير الذي حظي به المبارك الميلي في الصحافة التونسية، وذلك عند صدور كتابه الهام «تاريخ الجزائر في القديم والحديث»،فركزت الصحافة التونسية الأضواء عليه،واحتفت به أيما احتفاء وأثنت على جهود صاحبه«واعتبرته من الأعمال الجليلة التي جاءت في إبانها،لا لتسد النقص الذي تشكو منه المكتبة الجزائرية فحسب،وإنما اعتبرته ضرباً من ضروب المقاومة،وتصويباً للأخطاء والمغالطات التي تقصَّد إليها الأجانب من المستعمرين في خطة مبيتة لتشويه تاريخ الجزائر،وعدت الصحافة التونسية ظهور هذا الكتاب بداية نهضة حقيقية قائلة بهذا الصدد:نهضت الجزائر نهضة مباركة منذ سنوات قليلة، وشعرت بأن الخطوة الأولى في سبيل النهوض لابد أن تعتمد على الأدب الذي هو قوام الروح وغذاء الفكر،والدافع الأقوى إلى المشي نحو الأمام،وقبل هذا الوقت كانت الجزائر لا تملك كتاباً يحوي صحفاً من تاريخها،ولا يعلم أبناؤها العالم منهم وغير العالم بما كان ماضياً زاهراً أو غير زاهر،حتى إذا صدر كتاب(موجز التاريخ العام للجزائر)،و(قرطاجنة في أربعة عصور)أخذت الأمة الجزائرية تشعر بذاتيتها،وتعلم أن لها مركزاً بين الأمم كريماً مُشرفاً،فبعث ذلك في همة أبنائها،وحملهم على التأليف في تاريخها،وأول من قام بهذا العمل الطيب السيد مبارك الميلي الهلالي،وهو من أبناء الجزائر الذين أخذوا العلم بمسقط رأسهم،ثم تخرجوا من الجامع الأعظم بحاضرة تونس فأوقف ما عنده من العلم على خدمة أبناء بلاده بالكلمة،ثم تحول من هذه المرتبة إلى مقام التأليف،وأي تأليف؟إن هو إلا التأليف في تاريخ الجزائر على أسلوب عصري وفي دائرة واسعة النطاق»(9)،وكما حظي كتابه القيم عن التاريخ الجزائري بالاهتمام والاحتفاء،فعندما صدرت رسالته عن الشرك ومظاهره،لقيت أصداء طيبة، وقبولاً واسعاً في الأوساط العلمية بتونس،وأُصدر قرار فُرض من خلاله تدريس هذه الرسالة في المعاهد التونسية المفرنسة، وقد كان للميلي-عليه رحمة الله- صلات وطيدة بنخبة كبيرة من علماء الزيتونة،وعندما بلغ خبر وفاته الأوساط التونسية،عمّ الحزن والأسى تلك الأوساط،واعتُبر رحيل ذلك العلاّمة الجليل،والبحاثة القدير بمنزلة رزء فادح،ونكسة كبيرة للحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي ككُل،ودعت جمعية الشبان المسلمين لإقامة حفل تأبيني عنه،كما أفردت«المجلة الزيتونية» لهذا الحفل عدداً خاصاً تضمن ما أُلقي عن الفقيد من محاضرات، وقصائد شعرية،وشهادات.
      وفي المبحث الثاني المعنون ب:«أصداء جهاد الأمير عبد القادر في الصحافة التونسية»أبرز الدكتور الجابري الاهتمامات الكبيرة التي حظي بها كفاح الأمير عبد القادر الجزائري من قبل جريدة«الرائد التونسي»،إذ صدر خبر وفاته في أول عدد منها بعد الوفاة مباشرة،تحت عنوان:«نزيل دمشق وفقيدها»،وقد صيغ  ذلك الخبر صياغة أدبية مليئة بالشجن والتفجع على رحيل الأمير عبد القادر،كما غلب على تلك الكلمة الاقتضاب والسجع،ووصف خصال الأمير الأدبية والعلمية والسياسية، وفي العدد الموالي منها خصصت الجريدة ملفاً خاصاً عن الأمير في ثلاث صفحات،وقدمت من خلالها صورة متكاملة عن الفقيد وأعماله الوطنية والفكرية والعلمية،كما قدم المؤلف في بحثه هذا أربع وثائق هي عبارة عن مرثيات وشهادات كُتبت عن الأمير الراحل لم تخلُ من محاولات للادعاء بصداقة الأمير للفرنسيين،وذلك رغبة منهم في النيل من شخصيته بأسلوب مغرض كما أشار إلى ذلك الدكتور الجابري،وأما الوثيقة الرابعة فهي شهادة قيمة موضوعية كتبها الوطني التونسي المعروف محمد السنوسي عن شخصية الأمير ،وضح من خلالها الصورة الحقيقية،والمكانة الصائبة التي كان يُمثلها الأمير عبد القادر في نفوس التونسيين، وبالأخص الرعيل الأول منهم فقد كانوا يرون بأن جهاد الأمير هو مثلٌ يُحتذى به،ودرسٌ لمختلف الأجيال المغاربية،ونبراسٌ يُستضاء به في التواريخ الحافلة بالبطولات.
    ومن الأبحاث الهامة التي نُلفيها في هذا الكتاب القيم،بحثٌ عن :«الثورة الجزائرية في المسرح التونسي»،فأول نص مسرحي جزائري نُشر في تونس عن الثورة الجزائرية،صدر بمجلة«الفكر» وذلك في شهر جويلية1957م،كان من تأليف الكاتب الجزائري مصطفى الأشرف،تحت عنوان:«الباب الأخير»،إذ أنه كتبه باللغة الفرنسية،وتولت ترجمته إلى العربية هيئة المجلة،وتدور أحداث تلك المسرحية  في مقاطعة من مقاطعات مدينة قسنطينة،وتتحدث المسرحية عن الثورة التي التفت حولها جميع طبقات المجتمع ،كما ركزت المسرحية على ردود فعل المستعمر الفرنسي بجرائمه الشنعاء المعهودة  ضد الأبرياء والعُزل ،وهي مسرحية ثورية بامتياز إذ صورت كفاح الشعب الجزائري المقاوم إثر بداية الثورة بأدق تفاصيله،وقد لقيت هذه المسرحية قبولاً واسعاً من قبل الطلبة الجزائريين المهاجرين في تونس،وقد تأثروا بها أيما تأثر،وهو ما حذا بالدكتور صالح خرفي-عليه رحمة الله-أن يقوم بتمثيل هذه المسرحية بالمدرسة اليوسفية رفقة مجموعة من الطلبة، وذلك عندما كان يُشرف على النشاط الثقافي للطلبة الجزائريين بتونس،وهو الذي تأثر بالكتابة المسرحية سعياً منه لنصرة القضية الجزائرية فكتب مسرحية«في المعركة» سنة:1957م،وهي مسرحية ثورية يُعبر عنها عنوانها تعبيراً وافياً،وقد تناولت أوضاع الطلبة الجزائريين المهاجرين،«وانطلاقاً من هذا التوجه الواضح لخلق نواة مسرح ثوري،يُعرف بالثورة ويُواكب نضالها،ويُقدمها للجمهور على نطاق أشمل،تجرأ عبد الله ركيبي في سنة1959م على نشر مسرحيته«مصرع الطغاة»التي كانت أول نص مسرحي جزائري يظهر في كتاب مستقل خلال هذه الفترة،ولا يمكن القول بأن هذا العمل كان مغامرة جريئة فقط،باعتبار ما كان يُلاقيه رواج الكتاب الثقافي آنذاك من صعوبات جمة ولكنه كان يمثل شجاعة أدبية نادرة من كاتب ناشئ ما يزال على مقاعد الدراسة بالتعليم الثانوي، ولم تكن له صلة بالمسرح ولا بالفن المسرحي،وقصارى ما كان له من نشاط أدبي في هذه المرحلة لم يتعد نشره لبعض المقالات والقليل من القصص في الصحف التونسية،ويبدو أن المؤلف كان قد شعر بهذا الحرج،وتهيب عواقب مغامرته فالتجأ إلى بعض أساتذته من التونسيين لتقديم هذا العمل،ومساعدته على إقناع القارئ بأهمية هذه المحاولة وأهدافها والغرض منها،فطلب من الأستاذ البشير العريبي أحد أساتذة الزيتونة ومن الصحفي المرحوم الهادي العبيدي رئيس تحرير جريدة«الصباح» تزكية عمله وإغراء القارئ بمطالعته،فكان أن استجاب لرغبة كلاهما،حيث اهتبل الأستاذ العريبي ليضع هذه المسرحية في إطارها الوطني والنضالي، ويُعدها من التجارب الجديدة التي يجب أن يُنسج على منوالها ،وتُعزز بمحاولات أخرى سواء من طرف المؤلف أو غيره من الكتاب لإطلاع الناس من خلال هذا الفن على صفحات ناصعة وجوانب مضيئة من الثورة الجزائرية قائلاً بهذا الصدد:فهذه الرواية تجربة جديدة،نرجو أن تعقبها تجارب من المؤلف أو سواه،لدراسة العالم الجزائري الرحب العميق وما فيه من ممكنات وأسرار،تجربة خاصة بإبراز صورة ناصعة من صور الثورة التحريرية الموفقة،وتتبع خطاها منذ يوم انبعاثها وتبلج سناها، ولكنها لا تقف عند هذا الحد لأنها تعكس على صفحاتها صوراً وصوراً أخرى للحياة الجزائرية على العموم ،وفي الحياة الجزائرية جوانب شتى لو عنى الكاتبون بالكشف عنها لكشفت لهم عن جزائر غير التي يعرفونها و«جزائريين» غير الدين احتكوا بهم في الكتب أو عالم الناس من قبل »(10)،وقد كانت مسرحية«مصرع الطغاة» لعبد الله ركيبي بمنزلة لوحةٍ زاخرة الألوان عن دوافع الثورة الجزائرية كما وصفها بذلك الدكتور الجابري.
     ومن المسرحيات الهامة التي جسدت بطولة المرأة الجزائرية،مسرحية الكاتب التونسي محمد فرج الشاذلي المعنونة ب:«البطلة»،ومسرحية الكاتب الليبي عبد الله القويري الموسومة ب:«جميلة» وكلتاهما نشرتا في مجلة«الفكر»سنة:1961م،تلك المجلة التي احتضنت الثورة الجزائرية كل الاحتضان،واحتفت بها احتفاء ليس بعده احتفاء،وهي علامة من العلامات المضيئة الدالة على  عمق التواصل الثقافي بين البلدين،ودليل من الدلائل البارزة على مدى التضامن والمساندة المطلقة التي حظيت بها الثورة الجزائرية في الصحف والمجلات التونسية،فمجلة الفكر«تجاوبت مع الثورة الجزائرية منذ بروز عددها الأول في شهر أكتوبر1955،واستمرت تتابع أحداثها شهراً فشهراً طيلة سبع سنوات متصلة،واحتفظت لنا بأوفر ما كتب عنها من دراسات،وقصائد،وقصص ومسرحيات،دون سائر المجلات والصحف التونسية الأخرى التي اقتصر نشاطها في غالب الأحيان على نشر الأخبار العامة،أنباء المعارك اليومية، ولم تحفل بالإنتاج الفكري إلا لماماً...وقد لا يكون من المغالاة في شيء إدراج هذه المجلة،واحتسابُها في عداد أهم المجلات الإعلامية التي خدمت الثورة الجزائرية،وعملت على خلق أدب مغربي ثوري،وأتاحت للكتاب الجزائريين فرصة المناضلة بأقلامهم وفتح جبهة فكرية على صفحاتها لممارسة حقهم في الدفاع عن وطنهم،كما أتاحت للكتاب التونسيين مجال الإسهام في معاضدة أشقائهم والتضامن معهم عملياً وأدبياً،وفتحت صفحاتها لجميع الكتاب العرب والأجانب الذين آزروا الثورة تأكيداً منها للبعد العربي والإنساني لهذه الثورة، ويتجلى تلاحم المجلة والثورة الجزائرية من خلال إفرادها سبعة أعداد خاصة في المناسبات المختلفة للثورة،وخاصة مناسبة الاحتفال بذكرى اندلاعها في مطلع شهر نوفمبر من كل سنة،حيث درجت على استكتاب الأدباء والمثقفين لهذه الغاية وتسجيل المراحل المختلفة التي تقطعها الثورة مُوشحة غلاف كل عدد من هذه الأعداد تارة بصورة للعلم الجزائري، وطوراً برسم تذكاري يرمز إلى أبعاد هذا النضال من إبداع أحد الفنانين التونسيين المعروفين،وآناً آخر بصورة شخصية لأحد المفكرين الجزائريين البارزين،وقد صدرت هذه الأعداد على التوالي في شهر جانفي1957وشهر نوفمبر1957،ونوفمبر1958،ونوفمبر1959،ونوفمبر1960،ونوفمبر1961 وشهر أفريل1962غداة إعلان وقف إطلاق النار في 19مارس1962،وخلال هذه السنوات السبع من المواكبة المطردة للثورة نشرت المجلة مائة وسبعين عملاً فكرياً وأدبياً،بين مقالة،وقصة، ومسرحية، وقصيدة،وبلغ عدد الكتاب الذين أسهموا في وضع هذا الإنتاج سبعة وسبعين كاتباً وشاعراً وقصاصاً  من بينهم ستة وثلاثون تونسياً،وخمسة وعشرون جزائرياً،وأحد عشر شاعراً عربياً وخمسة كتاب من الأجانب،وقد تعدد هذا الإنتاج وتنوع بين سبعين مقالة ودراسة وسبعة وعشرين قصة،وستين قصيدة وست مسرحيات أنتجها كتاب وشعراء ينتمون لمختلف الأقطار العربية،تونس، والجزائر، والعراق،ولبنان،وسوريا، وليبيا، ومصر إضافة إلى كتّاب من أقطار أجنبية منها فرنسا وألمانيا»(11).
       ويتتبع الدكتور محمد صالح الجابري في بحثه المعنون ب:«رحلات الأدباء التونسيين إلى الجزائر» أربع رحلات أسهمت في تعميق التواصل الثقافي بين البلدين ، وذلك نظراً لأهميتها،إذ أن الهدف الرئيس من وراء هذه الرحلات هو الاطلاع على أوضاع الجزائريين الاجتماعية والسياسية والفكرية، وكذلك تدعيم الوشائج الثقافية بالاتصال مع العلماء والمثقفين، وهي:
-رحلة الشيخ محمد الخضر حسين التي نشرت بمجلة«السعادة العظمى».
-ورحلة الشيخ أحمد حسين المهيري،وقد نشرت بجريدة«لسان الشعب».
-ورحلة الطيب بن عيسى ونشرت بجريدة«الوزير».
- والرحلة الخامسة هي رحلة الشاعر الجزائري«حمزة بوكوشة»،وقد كتبها بطلب من جريدة «الوزير»، وقد سجل من خلالها انطباعات دقيقة عن بعض المدن الجزائرية.
    فالرحلة الأولى قام بها العلاّمة التونسي المعروف محمد الخضر حسين،وقد نشرت بمجلة«السعادة العظمى» سنة:1904م، وقد كانت رحلته رغبة منه في الاطلاع على الأحوال العلمية، و تركزت  في أساسها على« وصف لقاءاته بالعلماء،سواء منهم الذين صادفهم في المدن التي مر بها في طريقه كمدن(سوق أهراس)و(تبسة)و(العين البيضاء)و(قسنطينة)و(باتنة)،أو الذين التقى بهم في الجزائر العاصمة في الدكاكين الثقافية، والمساجد والدور الخاصة أمثال الشيخ محمد بوقندورة الشيخ الحنفي بالجزائر،والحليم بن سماية،ومحمد بن أبي شنب، وعبد القادر المجاوي وغيرهم...ولم تتجاوز رحلته هذا الهدف الذي حدده لنفسه إلا لماماً كوصفه بعض حلقات العلم والتدريس،أو المناظر الطبيعية لمدينة الجزائر،على أن الدافع لرحلة أحمد حسين المهيري عما قصده الخضر بن حسين من رحلته العلمية،إذ كان غرض المهيري الاطلاع على الأحوال العامة للقطر الجزائري، وتسجيل ملاحظات عن ذلك لقراء جريدته، وقد حدد هذا الغرض في مقدمة رحلته بقوله:منذ مدة ونحن في غاية التشوق إلى الاطلاع على أحوال القطر الجزائري المجاور لمملكتنا،إذ نرى من العار عدم الاطلاع على أقرب الممالك الإسلامية إلينا،فعزمنا بحول الله سبحانه وتعالى أن نجري  رحلة استكشافية، وننشر خلاصتها إلى قرائنا الكرام،ومع أن الهدف الذي حدده من الرحلة كان واضحاً فإن حسين المهيري لم يقتصر في رحلته على وصف أحوال القطر الجزائري فحسب،وإنما كانت له اتصالات بعدد من العلماء والشعراء أمثال:أحمد عباس بن حمانة، والشيخ محمود قشوط، والأمين العمودي وغيرهم ممن ورد ذكرهم في الرحلة،كما أنه التقى في مدينة(العين البيضاء) بالأمير خالد الذي جاء إلى هذه المدينة،وقد وصفه بأنه:رجل شهم ذو همة سامية وأخلاق راقية،طويل القامة،كثيف اللحية،كريم الطباع،حسن الأخلاق متواضع،ذو غيرة وطنية،حر الضمير،مخلص لوطنه،مما يدل على إعجابه بالأمير خالد وبخصاله الوطنية، ويبدو من ثنايا الرحلة أن أحمد حسن المهيري قام بهذه الرحلة بعد الإعداد لها،والاتصال المسبق ببعض أصدقائه ومعارفه بالجزائر،إذ نراه في بلدة(تبسة) يستقبل ويودع من طرف ثلة من أعيان البلدة،وكذلك في باقي المدن التي زارها...وأما رحلة سعيد أبي بكر إلى الجزائر،وبالأحرى إلى (عمالة قسنطينة)فقد كان الدافع إليها ما بلغه من الناس في تونس من أن جميع مدن الجزائر آيلة إلى التفرنس،باستثناء مدينة(قسنطينة) التي حافظت على شخصيتها العربية،فحفزه هذا الحديث على شد الرحال للاطلاع على هذه المدينة التي صمدت في وجه الاستعمار،ورفضت التفرنس» (12)،وفي الأخير استخلص الدكتور الجابري جملة من الملاحظ الهامة عن هذه الرحلات،دونها على النحو الآتي:
«1-تنديد أصحاب هذه الرحلات بالاستعمار وأعوانه من الأجانب، وعملائه من الجزائريين،والتركيز على ما يعاني الجزائري من اضطهاد وتمييز وتفقير وانتزاع لأرضه وإهدار لحقوقه،باستثناء رحلة الشيخ الخضر حسين التي لم تتناول هذا الجانب،لأن رحلته كانت أساساً من أجل الالتقاء بالعلماء ومحاورتهم حول المسائل الدينية.
2-نقمة أصحاب الرحلات على الطرقية والزوايا،ونعت أصحابها بالسذج والبسطاء والمحتالين،والتنويه بالمصلحين الجزائريين الذين كانوا يقومون بدور بارز في مقاومة الطرقية والانحرافات الدينية،وذلك أيضاً باستثناء رحلة الشيخ الخضر حسين التي لا يرد فيها شيء من ذلك بسبب أن تيار الطرقية لم يكن في مطلع القرن يشكل الخطر الذي أصبح يشكله بداية من العشرينيات.
3-عناية هذه الرحلات بوصف الحياة العامة في الجزائر من أسواق يومية وأسبوعية،وذكر لأسعار المواد الأساسية كالزيت واللحم وغيرهما،واختلاف تداول العملات ونوعيتها من ولاية إلى أخرى، و اكتضاض المقاهي بالعاطلين...
     كما اعتنت كذلك بوصف حياة المرأة الجزائرية في هذه الحقبة،عندما كانت تتصنع الحجاب في المدن حفاظاً على شخصيتها،واعتزازاً بتقاليدها بينما نراها في الريف والقرى تناضل إلى جانب زوجها،وأحياناً بمفردها لانتزاع قُوتها اليومي،وقد شاهد الرحالة التونسي نماذج من النساء الجزائريات،ووصفهن وصفاً يفي بحقهن،وينوه بكفاحهن وصلابتهن،وحفاظهن على تقاليدهن وأصالتهن العربية الإسلامية.
  4- تُجمِع هذه الرحلات على إبراز عناية الجزائريين بالمساجد،بما يليق بهذه المعالم من مكانة دينية وعلمية،وقد وصفها بعضهم بدقة وتفصيل،وأشاد بما يتحلى به الجزائري من توقير للإمام والقاضي وحارس المسجد،وأطنب جلهم في التنويه بالمكانة العلمية للقائمين بإلقاء الدروس التعليمية والوعظية والدينية بهذه المساجد،وقد حضر معظمهم حلقات علمية، وخاصة الشيخ الخضر حسين الذي كان حرصه منصباً على حضور الدروس التي تُلقى بهذه المساجد، ومساجلة أصحابها في المسائل الفقهية العويصة،وقد أثنى ثناء عظيماً على علماء الجزائر، وأبدى إعجابه بطرق طرحهم للمسائل الاجتهادية وتمكنهم من الموضوعات الدينية.
5-تُبرز جميع هذه الرحلات تمازج الشعبين التونسي والجزائري،وعمق التبادل العلمي والتجاري بينهما،فقد ورد في هذه الرحلات ذكر للعديد من أسماء التجار التونسيين الذين كانوا يتعاطون التجارة في مختلف المدن التي زاروها، وذكر للعلماء الذين كانوا يقيمون بهذه المدن لنشر التعليم،وقد أسس بعضهم مدارس من حرّ ماله لهذا الغرض،كما تبرز الرحلات العلاقة الوطيدة، والمشاعر العميقة التي ظل يكنها خريجو جامع الزيتونة من الجزائريين لهذا المعهد،ولكل العلماء الذين تتلمذوا عليهم،ورفاقهم الذين زاملوهم في الدراسة، والدور الفعال الذي يقوم به خريجو الزيتونة في النهضة الإصلاحية بالجزائر، وفي إثراء الحياة العلمية والثقافية.
6-تتفق جميع هذه الرحلات على الإشادة بخصال الجزائريين، وما يتحلون به من أخلاق فاضلة،وشيم عالية،وكرم وفادة، وبذل سخي في سبيل نهضة وطنهم،وتفاؤل بمستقبل بلادهم،وإصرار على النضال ضد المستعمر وأعوانه.
7-ونظراً إلى أن هذه الرحلات كانت موجهة إلى القارئ العادي،فقد غلب عليها الأسلوب الصحفي المبسط الذي لم يخل أحياناً من استعمال للعامية،والدخيل من اللغات الأجنبية خاصة اللغة الفرنسية،وذلك إمعاناً في التوضيح،والاقتراب من نفوس الناس،والالتزام بالواقع المحض،ونقله نقلاً مباشراً دونما تدخل أو افتعال،ولم تشذ عن هذا الأسلوب غير رحلة الشيخ الخضر حسين التي كتبت بأسلوب العلماء،وكانت مرصعة بالشواهد من القرآن، والحديث النبوي والمسائل الفقهية مفصحة عن أسلوب صاحبها وشخصيته كعالم ديني»(13).
  وقد تضمن كتاب الدكتور الجابري عدة دراسات أخرى،نذكر من بينها:
-نضال الجزائر في الشعر التونسي.
-و مفدي زكرياء شاعر الوحدة المغربية.
-و تونس في مذكرات مالك بن نبي،وسواها.
    فذلكة:
        لا يملك  المتبصر في هذا السفر إلا أن يُثني على الجهود التي بذلها الدكتور محمد صالح الجابري-عليه رحمة الله- من أجل تقديم دراسة وافية، وأفكار ورؤى معمقة و متنوعة عن الوشائج الثقافية العميقة والمزدهرة بين البلدين، وأبحاث هذا الكتاب دالة على ذلك ،فقد تطرق من خلاله المؤلف إلى شتى الروابط الثقافية بين البلدين الشقيقين وأبرزها من خلال جملة من المنابر كالمجلات والجرائد والمسرح والرحلات والمذكرات،  فيمكن القول إننا وقفنا مع أهم كتاب تناول العلاقات الثقافية بين البلدين، وأحاط بها من شتى الجوانب،فهو يعدّ موسوعة حقيقية،وإن أهم ما يتسم به كتاب الدكتور محمد صالح الجابري تلك الطريقة المنطقية، والمتسلسلة في طرحه لمواضيعه،فكلما غُصت فيه أكثر،ألفيت بأن أهميته ليست حكراً على تلك المواضيع وحسب، بل فيما يُقدمه لك من دعوات للتعمق، والبحث ، والتأمل بين دفتيه،فأنت تُقبل عليه ، وتستوقفك فيه خصال عدة،فتُعجب بتلك اللغة السليمة الصافية والأنيقة،وتنبهر بذلك الأسلوب الجميل والسلس بالرغم من بساطته، وابتعاده عن التكلف والتصنع، والانزياح نحو الحوشي والغريب، وتنحني أمام تلك التراكيب السهلة الواضحة فلا تقعر فيها، ولا إسفاف،فهو كتاب مُحكم الأركان،سلس الأسلوب يُلفي فيه القارئ فائدة كبيرة ومتعة جمة ،نظراً لما يتمتع به صاحبه من معرفة عالية وعميقة،فيقتل موضوعاته شرحاً وتحليلاً،وهذا ما يجعل المتبصر يُلم إلماماً شاملاً بالصلات الثقافية الوطيدة بين البلدين الشقيقين .
     وفي الختام وإن كان لنا من كلمة أو اقتراح فإن محمد صالح الجابري بما أنجزه من مؤلفات وأعمال جليلة عن الأدب الجزائري، ونضال الأدباء الجزائريين فهو أهل لكل ثناء وتقدير، ويستحق أن يُكرم ويُمجد،وأن تُقام من أجله ندوات علمية وثقافية،أو مُلتقى يتدارس أعماله على أرض الجزائر التي أحبها وقدم لها الكثير والكثير...
    الهوامش:
(1)د.محمد صالح الجابري:الأدب الجزائري في تونس،ج:01،المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات،بيت الحكمة،تونس،1991م،ص:8-10.
(2)د.محمد صالح الجابري:التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس،دار الغرب الإسلامي،بيروت،لبنان،ط:01،1990م،ص:08.
(3)د.محمد صالح الجابري:التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس،ص:12.
(4)د.محمد صالح الجابري: المصدر نفسه،ص:14-15.
(5)المصدر نفسه،ص:20.
(6)المصدر نفسه،ص:21-22.
(7)المصدر نفسه،ص: 36-37.
(8)المصدر نفسه،ص:47.
(9)المصدر نفسه،ص:55-56.
(10)المصدر نفسه،ص:161-162.
(11)المصدر نفسه،ص:181-182.
(12)المصدر نفسه،ص:282-284.
(13)المصدر نفسه،ص:292-295.

ليست هناك تعليقات: