2008/05/20

رواية مراسم عزاء العائلة


مراسم عزاء العائلة
رواية

أحمد طوسون

إهداء :

إلى روح أبي الذي علمني قنص الحزن .
إلى روح جدتي نور .
إلى روح سميه ..
............................
أتنسم أريج الأحباب !
1

ذلك المخبول الذي يقولون إنه خالي مات .
غربت شمس وتوارى نهار آخر رتيب .. زعقت حدأة فوق سطح بيتنا ونعق غراب وحيد من فوق عمود الإنارة ونظر إلى جواره و حوله فلم يجد أحدا ، طأطأ رأسه إلى الأرض وبقى في مكانه صامتا ، ثم دق أحدهم بابنا دقات قوية متواصلة ففزع وحلـّق بجناحيه السوداويين بعيدا .
أبى كان يجلس فوق كرسيه المنجد بالقطيفة البنية الباهتة التي تآكلت عند المسندين ـ والذي أصبح مع السنين حكرا له وحده .
يشرب الشاي رغم تعليمات الطبيب له بعدم تناوله .
أسند ظهره إلى المقعد ومد قدميه على طولهما وأسندهما فوق طاولة صغيرة وقديمة .. تصاعد أزيز يشبه صرير باب صدئ .
في محاولة لاجتياز مساء فاتر ، يقلب صفحات كشكول دوّن فيه مصاريف اليوم ويراجع ما تبقى من راتب الشهر .
يتصفح جريدة قديمة اعتاد أن يتصفحها كل يوم في مثل هذا الوقت من المساء وكأنها مازالت تحمل الجديد من الأخبار .. يشعل سيجارة ، يشد أنفاسها و يحتسى رشفة من كوب الشاي الذي انتصف .
أمي كعادتها في حركة مستمرة بين صالة المعيشة والمطبخ وباقي الحجرات ، ترفع أشياء وتضع أخرى وتعيد ترتيبها ، أحيانا صامتة وأحيانا تنطق جملة أو أكثر وأبى لا يجيب عليها ، كأنه لا يسمعها .
يكتفي برفع نظارته عن عينيه ومراقبة الأشياء الصغيرة تنتقل إلى أماكنها الجديدة ، يسترخى في مقعده ويعيد نظارته إلى عينيه ثانية .
في حركتها الدائمة تخطر على بالها أغنية قديمة ( لصباح ) أو ( فايزة أحمد ) .. نسمعها تدندن بحس صاف .
أخوتي يجلسون فوق الكليم الذي اشتريناه هذا الشهر ووضعناه فوق السجادة التي اهترأت .
يلعبون الكوتشينة دون ضجيج تنفيذا لأوامر أبى ، لكنهم بين الحين والآخر يرتفع صوتهم بالصياح ، نسمع أبي يشخط فيهم بصوته العالي .. فيعودون إلى صمتهم كاتمين ضحكاتهم داخل الحلوق .
تمتم أبي غاضبا ونادى على أمي لتفتح الباب .
لم يسمعها أحد ترد عليه .
أزاح النظارة السميكة عن عينيه وأمسكها في يده .. أزاح الطاولة بقدميه فارتجت وسقطت .. وضع كوب الشاي فوق المنضدة الصغيرة بجوار الهاتف وترك السيجارة المشتعلة في المطفأة ونهض .
سارعت عيوننا تتلمس الطريق إلى الغريب صاحب الدقات التي أغضبت والدي .. كنا نراقبهما من أماكننا ونتلهف إلى معرفة الغريب .
أطلت أمي برأسها من باب المطبخ .
سرسوب من الرغاوي البيضاء انسل من بين يديها إلى الأرضية .
توقعنا أن تكون ثرثرته عالية كدقاته لكننا لم نسمع شيئا .
نرهف السمع وننتظر .
همس في أذن والدي كأنه تعمد ألا نسمع شيئا مما قاله .. لم تظهر له ملامح بعد أن غمرته ظلال بابنا .
نصف وجهه الذي ظهر لنا بدا غريبا لم نره من قبل ، بدا مرتبكا وحائرا كأنه يحمل أخبارا ثقيلة على النفس لا يعرف كيف يقولها.
انتهى من همسه .
حدق أبى في عينيه وبادله كلمات - لم نسمعها أيضا - فاستعادت ملامحه الهدوء .
لم ُيبد والدي اهتماما للكلام الذي سمعه .. استدار و أغلق الباب وعاد إلى كوب الشاي والسيجارة التي تحولت إلى رماد متناثر بالمطفأة .
أعاد وضع النظارة فوق عينيه وتناول الجريدة بين يديه مرة ثانية .
تركت أمي ما في يديها وشدت كرسيا خشبيا واقتربت به وجلست إلى جوار أبي وسمعناها تقول :
ـ من ؟؟!
ألتفت أبي بوجهه بعيدا و تصفح الجريدة وكأنه لم يسمعها ، نهضتْ وأخذت كوب الشاي بعد أن انتهى منه وذهبت إلى المطبخ كأنها لم تسأل ولا تنتظر إجابة .
سمعنا صوت اندفاع الماء من الصنبور وطرطشاته على الحوض والجدار الأملس الذي كساه أبى بسيراميك رخيص أبتاعه من سوق الجمعة بأحد زياراته للقاهرة .
انتظرنا لحيظات ليعاود الصنبور صمته وسكونه مرة ثانية .
بعد عودته إلى الإنحباس ، عادت أمي بمنشفة في يدها وجلست إلى جوار أبى الذي وضع الجريدة فوق المنضدة وأشعل سيجارة جديدة .. رفع النظارة عن عينيه وقال :
ـ ِمن طرف مسعد .
لم تسأل أمي أسئلة أخرى .. كأن الكلمات التي قالها أبي فيها إجابة شافية تكفى لتعرف السبب الذي جاء من أجله الغريب ، نهضت بعد برهة سادها صمت وسكون وأدارت مفتاح تشغيل التلفزيون .. ثم قالت بحياد :
ـ موعد المسلسل حان .
شد أبى التليفون من فوق المنضدة ووضعه بين قدميه وأدار القرص ، انتظر لحظات بدا الرنين فيها واضحا بأذاننا الصغيرة ثم انقطع فجأة و سمعناه يتحدث إلى أحدهم عن انشغاله في أمور كثيرة .. الظروف الصعبة التي يواجهها في عمله والتي تجعله لا يلتفت حوله .. حالته الصحية التي تتدهور في الفترة الأخيرة ، التدخين والبرد والضغط غير المستقر .
بعدها أخبره إن مسعدا مات ، حضر أحدهم وقال إنهم يريدون أحدا ليتسلمه ويقوم بإجراءات الدفن .
بدا وكأن الآخر يثرثر وأبي يستمع حتى قاطعه أبي وقال إنه اتصل ليتصرفوا ووضع السماعة وأغلق الهاتف .
سكتنا جميعا .
علا صوت المسلسل حتى انتهى وعاد أبي وأمي يثرثران عن مسئوليات الحياة وظروف المعيشة الصعبة وقيمة القرش الذي ينفع صاحبه.. والميت الذي لم يعمل حسابا للزمن .
الميت الذي أراح واستراح .






2

في المستشفى العمومي الممر ضيق وطويل ، رائحة مقبضة للمطهرات التي يستخدمها المرضى تعبق المكان برغم نظافة البلاط الباهت ، من بعيد يترامى صوت دقات وخطوات أحذية في الطرقات ، نداءات لمرضى أو ثرثرة لزوار ومرافقين وسعال يتعالى .
على جانبي الممر أبواب العنابر باللون الأخضر .. لتكراره يصيبك بحالة من الملل والكآبة .
الجدران باللون الأبيض قبل أن يغطيه اللون الأصفر بخطوط طويلة تنتهي بنقاط صغيرة تشبه دموعا جفت وجمدها الصقيع .
عند كل باب لوحة صغيرة بالخط الرياض الأسود .. غرفة العمليات ، العناية المركزة ، الباطنة ، المستوطنة ، المسالك ، عيادة الأطفال ، عيادة الأسنان ، استراحة الممرضات ، دورة مياه للسيدات ، دورة مياه للرجال ، عنبر المرضى .
الباب من ضلفتين كبيرتين إحداهما مفتوحة دائما ، أثنى عشرة سريرا يميل إلى الزرقة الداكنة ، فوق عشر منها مراتب قديمة برسومات وأشكال هندسية رتيبة وألوان قاتمة كالحة ، لا تعطى راحة للعين وهى عراء بلا ملاءات .
الآخران تغطيهما ملاءتان بيضاوان تشوبوهما صفرة وبقع رمادية ربما من بقايا بيتادين أو أثار لدم متخثر .
فوق أحدهما يرقد مسعد بجوار الآخر الذي يعانى مرضا صدريا .
ربما كان درنا .
ظن ذلك من سعاله المتتالي والبقع الصغيرة الحمراء التي بصقها فوق البلاط .
لا أحد غيرهما .
ممرضة شابة أتت على سعال الآخر المستغيث ، في محاولة لتهدئته ، كانت الكلمات تسقط متلاحقة من فيها مع شريط المسكنات الذي خرج من درج المنضدة الصغيرة التي تفصل بين سريرهما وسقطت حباته الصغيرة في فمه .
تناوله كوبا من الماء ، بين كلمة وأخرى استطاع أن يلتقط أحدها .
- الطبيب .
ينتهي ..
العمليات .
يمر عليه
مجرد شرخ .
ظهرك ..
إلى الوسادة .
من بعيد سرى صوت حليم مع نسمة باردة ، ربما من راديو بأحد العنابر الأخرى وربما كانت الأغنية ( موعود ) .
بين إغماءة وإفاقة يرى طيفها يلاحقه .. يحس بعبير أنفاسها يسري بين خياشيمه ، يزحزح رائحة البيتادين بعيدا عن أنفه .
كانت صافية كأطياف الجنة .. تمد كفيها إليه .. يلعق من نبعهما حتى يرتوي .. ينسل من جسده ، يتخلص من خيوط كبلته طويلا .. يحلق معها بين سماوات ونجوم وأزهار ، تنزلق الحوريات من بين أشجارها الحمراء والزرقاء والخضراء .
رجاء اء اء .
نداءه يتردد بين الجدران ، يتخطاها إلى سماوات ممتدة بلا انتهاء ويضيع دون أن يسمعه حتى المسعول الراقد إلى جواره .
في العروق يسري خيط واهي من الدم ببطء .. دبيب خفيف ينبض بشرايينه الباردة .
يتذكر أول مرة رآها .
كانت تقف هناك أمام حجرته القديمة ، تستند إلى جذع نخلته وتستظل من هجير الحواري بظل سعفاتها .. ترقب عفاريت الصور المثبتة بالمشابك فوق الحبل .
نظرت إليه بعينين ُمدهَّشتين ، ضحكت وقالت :
- الغسيل ؟!
أخذ نفسا معتقا برائحة المرأة التي فاحت بالمكان وعطرته .. سرى في جسده دم دفيء .. اقترب منها خطوات وقال :
- طبعا لا .
................
أول مرة تشوفي الصور ؟
قبضت على فستانها الستان الأزرق بقبضة يدها وحطت يديها على وسطها .. مالت برأسها ناحية كتفها وقالت :
- أنت فاكرني عبيطة ؟!!
صور ؟
لم تبرح عيناه الطريق إلى عينيها .. طاوع خطواته واقترب منها حتى كاد أن يلتصق بجسدها .. يشم العطر الزكي الذي تتعطر به .. شعر بعصفور ينقر في قلبه .. يرف بلا هوادة ليتعلم الطيران .
بدلال سحبت جسدها بعيدا واحتضنت جذع النخلة .. تمايلت سعفاتها ومسدت شعرها بحنو .
- تحبي آخذ لك صورة ؟
أخرج ألبوم الصور التي يحتفظ بها منذ ترك أستوديو الخواجة كاللي .
أشجار خضراء يانعة ، أزهار وورود ، بنايات شاهقة وشوارع واسعة ونظيفة ، سقيفة وممر زهور وأرائك خشبية ونساء جميلات بعيون خضراء وزرقاء ، شعورهن مثل خيوط الذهب ، لا مثيل لهن ، لم تر مثلهن من قبل ، لم ترهن في جرائد عم عوض أو عندما تركب القطار وتذهب إلى البندر .
قال إنها أجمل منهن .
لا يوجد أجمل من خيول البراري التي تمرح .. لا يوجد أجمل من نبتة طازجة لم تلمسها يد .
رغم السنين التي مرت لا زال يحتفظ بأول صورة .. يأتزر بها كلما داهمه صقيع الوحدة .
يمد يديه ليمسك بها ، تتراوغ ويفلت طيفها كالماء من بين أصابعه .
العنبر واسع وفارغ مثل مقبرة كبيرة خالية من الأحياء والأموات ، لا يسكنها إلا ساكن وحيد لا يرغب أحد في ملاقاته .
هو فوق سريره يفتح عينيه بين الحين والآخر ، يتفحص الجدران البيضاء العالية والسقف الواطئ الذي يجعل السماء بعيدة عن عينيه .
لم تسمعه الممرضة ينطق بأسمائهم .
نجاة
جمال
...
عليّه
محمد
رجاء ..
اء ..
ربما ظن في نفسه إنه ردد أسماءهم و أسماء غيرها ، أو خطرت على رأسه الموجوع .
على الجدران رأى أبوابا تفتح ، بدت كفوهات كهوف هائلة لا يسكنها إلا الظلام .. أحس رغبة لحوحة في رؤية أحدهم .
شيء مجهول يشبه شبحا يتداعى سرى في دمه ، زحزحه من مكانه ودفعه ليحرك يديه اللتين بقيتا ساكنتين منذ فترة طالت .
لم تنتبه الممرضة إلا عندما أمسك بالبالطو الأبيض النظيف وجذبها بكل ما امتلكه من قوة متهالكة .
ملامحها بيضاء شاحبة كنهار تحجبه السحابات ، أدارت نفسها نصف دورة وتركت الأخر المسعول والتفتت إليه ، سرت رجفة في جسدها ، خوف تسرب إلى عينيها بمجرد أن وقعتا عليه .
بدت جديدة على المكان رغم مرور سنوات ثلاث عليها في المستشفى ومرورها بالكثير من المواقف التي يشي وجهها الجميل بأنها لا تتحملها .
ذلك اللمعان في عينيه يصيبها بالرعب والعجز ، تعرف تلك النظرات التي تختار طرقا مختصرة إلى الموت ، كما تعرف الأخرى التي تختار طرقا طويلة وشاقة للوصول إليه .
دون وعى نادت بأعلى صوتها :
ـ فوزيه .. فوزيه .
غالبا ستكون فوزيه كبيرة الحكيمات أو زميلة تشاركها الوردية ، لكن أحدا لم يرد ، حتى السعال المتتالي الذي يؤنس ارتباكها في مواجهة تلك الملامح المشرفة على الموت انقطع .
أشار لها بيده الأخرى .
قرأت في عينيه سطورا طويلة من الاستجداء المر ، في عينيها فزع يلفها بشراشيب العجز .. تنسق ارتباكها وتقف مذهولة .
ـ اجل ..... س
ي
ـ ..............
ـ أرجو.. كِ
لم تحرك قدميها من مكانهما للحظات .. كائن مجهول قفز من نوافذ العنبر ونزع عن جسدها شراشيب العجز .. سحبت قدميها خطوة إلى حافة السرير وجلست إلى جواره .. يدها ألتفت حول رأسه ترفعها وتسندها إلى الوسادة .
رأس تغطيها الحراشف و الزوائد والبقع البنية الداكنة ، خطوط زرقاء بارزة ومنتفخة ، ولا أثر لشعر بالرأس إلا كزغب أبيض يتوارى خلف الأذنين بخجل .
ربما تذكرت تلك الملامح التي رأتها حين مات والدها .
كانت لا تزال طفلة ، والموت شبح بشع يتخفى في صورة أي شيء حولها ، ربما يسكن دولابها ، ملابسها ، إنائها ، كتابها ، أو دميتها القطنية الصغيرة .
تعرف إنه يراه ، تعرف إنه موجود بينهم ، لكنها غير قادرة على مواجهته .
هو يحاول أن يقول لها الكثير .
تتسمع له ولا تفهم أغلب ما يقوله ، تتذكر تلك اللحظة جيدا ، جسده الذي تحول إلى قطعة كبيرة من الثلج .
خائفة من أشيائها الصغيرة التي ربما ساعدت كائنها البشع على التخفي لمفاجأة والدها والتهامه .
من القاسي أن تصبح شطيرة من الجبن البارد في فم وحش قاس ، ألا تجد من يمسك بساعدك في محاولة أخيرة لمنع التهامك .
في داخلها طفلة مذعورة من كائن خرافي يلتهم وجبة نيئة تتلوى .
تصحو طفلتها كلما عادت لتعيش هذه اللحظات مع احتضار أحدهم .. تعرف ذلك اللمعان الذي يسبق الأفول .
لمحت حركة شفتيه .
سمعته يقول إن جاء أحد .
...................
يتكلم بصعوبة .
بدت الكلمات وكأنه يتقيأها لكنها تتأبى ، لم تفهم الكثير من غمغمته ، الجمل ، الكلمات ، الحروف ، لكنها حاولت كي تطمئنه .
لم يكن يهمه كثيرا أن تفهم ، المهم أن تسمع له .
رغبة أخيرة في الثرثرة .
..........................
ال.....
صور
كلها ..
منذ أول صورة .
كان من الممكن أن آخذ صورة لكِ .
ظن نفسه يضحك ، لكنها لم تسمعه ، تمنى لو شرب رشفة ماء بارد .. واسى نفسه بأنه لم يعد لديه الوقت .
المهم أن تسمع له .
الصورالشمسية .. المائية
تختلف .
الكل افتتحوا استوديوهات كبيرة .. اشتروا كاميرات حديثة ، أبيض وأسود وكاميرات ألوان ، إلا أنا .
لم أفارقها ولم تفارقني .. جزء من تراث الناس ، تمسك بلحظاتهم وتجمدها ، في أفراحهم وأحزانهم ، في ضعفهم وقوتهم .
يمكنني التحكم فيها مثل عجينة طرية .. لا تحتاج إلا عينا مركبة تلتقط مواطن الجمال في الأشياء العادية ، ليست مثل الكاميرات الرقمية الحديثة التي يستخدمها أي عابر.
كاميرا لابد لها من عين فنان خلف عدستها .
لكل إنسان زاوية جمالية خاصة تحتفظ بمساقط الضوء وتكوينات الظل ، ولكل مصور لحظة .
لحظته الخاصة ..
يعيد فيها تشكيل الصورة ورسمها من جديد .
.........................
.. س
ها ...ها .....آه
أكياس
أكياس كثيرة
كبيرة .
............
العدسة والحامل والصندوق
حوض الحامض
كاسيت الصور
كيس القماش الأسود
زجاجات المحلول
الحبر الأحمر
.......................
يمكنك أن تأخذيهم
من الممكن أن تضعيهم في مكان ما بالشقة
إن رفضوا ...
لا يهم .
اتركيهم .
ليأخذها أي واحد منهم .
يمكنهم استخدامهم كلعب لأطفالهم
لا بأس
..........
ليتهم يفعلون !
إن جاء أحد .
الأحباء ... آ ....ه
أين ..؟؟ !!
لم تسمع شيئا مما قاله سوى كلمات قليلة فهمتها بصعوبة .
إن جاء أحد
.............
الصور ..
الصندوق ..
........................
أحبهم ..
صوته ازداد خفوتا .
تحاول أن تسمع بصعوبة ، الآخر عاد إلى السعال ثانية كأنه يشاركه الوداع الأخير، بقع الدم تناثرت فوق البلاط والملاءات .
ظنت إنها سمعته يقول الشهادتين ويبتسم .
مدت يديها وأسبلت عينيه ، بينما يده مازالت ممسكة بالبالطو الأبيض النظيف .

3

لم يكن لأمي أخوة .
كانت تعيش في بيت كبير مزدحم بأبناء العـم والأعمـام و الأوقات المغموسـة بالحياة ، بخلاف الخالات وأبنائهم الذين يأتون للزيارة محملين بالحكايات و الحواديت والأخبار الجديدة عن الأهل والجيران .
يزحمون البيت بالضجيج ثم يرحلون تاركين خلفهم أحاديث تكفي ليتذكرهم أهل البيت حتى يلف الأسبوع أيامه ويحين موعد الزيارة من جديد .
لكنها دائما ما تمنت أن يكون لها أخ أو أخت .. كلما ألح عليها هذا الخاطر تساقطت ندف الروح وسحت عيناها بالدموع .
ما المانع أن يزاحـمها أحد قلب أبيها الشيخ عبـد الوهاب ، حتى لو احتله كله ، ما المانع ؟.
المهـم أن يكون هـناك أخ يفتح البيت .
يغرس الدار بالصغار ويجمل الجدران بالفرح .. يستقبل المهنئين في الأعياد والأفراح ويقف سندا في الشدائد والنوائب .
لا يهم إن كان بارا أو عاقا بها ، حتى و إن لم تكن ستراه إلا مرة أو مرتين في السنة .
لم تتردد أن تطلب من أبيها أن يتزوج لينجب الأخ ، رغم الحزن الأخرس القاسي الذي يطل من عينيّ جدتي كلما سمعتها تردد ذلك الكلام على أذنيه .
جدي ترتسم قسمات الشجن على وجهه ويقول إنه راضي وقانع بقضاء الله .
جدتي قالت بعد وفاة جدي إنها لم تمانع ، حاولتْ معه ليتزوج وينجب الولد .
حاولتُ معه من أجلك - رغم قسوتك عليّ .
دائما كنت تقولينها دون مراعاة لمشاعري ، آخذك في حضني وأضم ذراعيَّ حولك وأتذكر كلامك وأبكى .
عندما فكرت قلت ما المانع ، لا أحد يضمن الأيام ، الأخ سند في الحياة ، سيتزوج أبوك وتعيش العروس معنا مثل الآخرين .
ربما جاءت بالولد الذي تتمنين .
قلت له إنه سيصبح ابني ..
كل ما يمت لك بصلة جزء من كياني ، لكنه رفض ، قال : أولاد أخي أولادي وأخوة لابنتك .. لم يبق لهم غيري بعد وفاة أبيهم .
صرف عليهم كل ما يملك ورباهم أحسن تربية .
تقول أمي إن كل الأولاد والبنات الذين يلعبون معها كان لهم أخوة إلا هي .. السنين لم تداوِّ شعورها بالوحدة ورغبتها أن يكون لها أخ أو أخت ، كلما غضبت منا أو من أبى نسمعها تقول إنها مقطوعة من شجرة .
حتى البيت تهدمت حيطانه وأصبح خرابا ولم يجد من يعمره بعد وفاة أبيها .
كلما جاءت السيرة نحس ألما حقيقيا يعشش في قلبها ويطل من عينيها .. لا يريد أن يفارقها ، لكنها في أحيان كثيرة تتلقفنا بين أحضانها وتقول إننا كل حياتها وإننا الأخ والأخت والأب والأم وكل الدنيا .
نظن إنها نسيت ، لكنها لا تنسى .
أبو مسعد كان ابن عم والدها ، لهذا يقولون إنه خالي .
كذلك أخوته جميعا .
نجاة التي تعيش في الخليج منذ سنوات طويلة .. جمال الذي أصبح ضابطا كبيرا في الجيش واستقر بالقاهرة .. و خالتي عليّه التي تزوجت هي الأخرى بالصعيد وعاشت هناك مع زوجها و أولادها .
الوحيد الذي لم أره ولا أعرف عنه الكثير خالي محمد .
أمي تقول إنه أكبر أبناء عمها وأحنهم .. عندما كنا صغارا كان يزورنا في الكتاب ، يجلس مع الشيخ ويسأله عني ويطمئن على أحوالي ، حتى في الأجازات القليلة التي ينزل فيها إلى البلد ، يزعق في الأولاد ويقول :
ـ إياكم تزعلو أختي
الأولاد يقولون له إن الشيخ عبد الوهاب لم ينجب إلا ابنة وحيدة ، ينهرهم ويقول : الشيخ عبد الوهاب أبي و فاطمة أختي ..
ربنا يشفيه ، منذ سنين طوال يرقد بالمستشفى ، لم يعد أحد يسأل عنه أو يسأل عن زوجته وابنته ، الدنيا تلاهى ..
زوجته هي الأخرى لم تعد تزورنا منذ فترة ، الوحيدة التي مازالت تعيش في البلد .
بعد ما حدث لخالك ، أخذت ابنتها وعاشت في بيت أبيها ، قلت لها افتحي البيت الكبير وعيشي فيه كما كان أيام جدك .. لكنها رفضت ، قالت إن معها قرشين ستبنى بهم حجرة بجوار بيت أبيها تداريها وابنتها من الناس وكلامهم .
أخوة محمد كلهم تركوا البلد إلا هيّ .. لا تريد أن تعيش وحيدة !
أبى يقول إن محمدا دخل المستشفى بعد عودته من حرب اليمن .
الحرب قاسية ورهيبة ومحمد كان رهيفا ، يحمل بين صدره قلب فنان ، لم يتحمل يوما رؤية طائر أو حيوان يموت أو ُيذبح أمام عينيه ، فكيف يطلبون منه أن يحمل سلاحا ليقتل أحدا من بني آدم .
لم يتحمل ما رآه من فظائع و قسوة ، أتباع الإمام كانوا يعاملون الثوار كأنهم قطيع من البهائم ، يذبحونهم في الساحات أمام الخلق دون رحمة ، بحار الدم لم تترك في النفوس مكانا للرحمة .
طلقات المعارك لا عيون لها .
تنهش لحم البشر و تتقيأه مقددا .
نيران لا نهاية لها ، طلقات أتباع الإمام نيران ، وطلقات الثوار نيران ! .
لم يعد باستطاعته أن يعرف أين الصواب وأين الخطأ .
هل كان عبد الناصر محقا ليرسله مناصرا لطرف على آخر في حرب لا يستطيع معرفة القاتل فيها من المقتول ؟!.
كنت اسمعه وأخاف عليه من انفعاله وأحس أن شيئا سيحدث له ، ظل يعالج فترة بعد عودته حتى ُشفى وخرج من المستشفى ، لكنه لم يعد محمد الذي كنا نعرفه .
لم يبق بيننا طويلا حتى عاد مرة أخرى !.
خالتي عليّه زارتنا ذات مرة وقالت إنها كانت عند محمد في المستشفى .. ظلت تبكى و أمي تحاول تهدئتها ، لكنها فشلت ، سمعتها تقول لأمي :
ـ منهم لله الظلمة
محمد عمره ما كان شيوعيا
حينها لم أكن أعرف ما تعنيه كلمة شيوعي ، لكنني ظننتها شيئا فظيعا لأنها جعلت خالي يقضى حياته في المستشفى !.
عندما سألت أمي عن السبب الذي جعل خالي شيوعيا ، قالت إن خالي ليس شيوعيا ، خالك محمد يعرف ربنا ويصلى كل وقت في وقته .
بعدها عرفت من خالتي نجاة إن الحكومة اعتقلت خالي بعد خروجه من المستشفى أول مرة بفترة .
قالوا إنه عضو في تنظيم ضد الدولة .. رغم إنه كان يموت في حب عبدالناصر وصورته يحتفظ بها فوق سريره !.
قضى عامين أو أكثر في المعتقل ومن هناك رحلوه إلى المستشفى .




4

مع كل إجازة تأتى خالتي نجاة لزيارتنا .
تقضى يوما أو اثنين مع أولادها بالقاهرة ثم تأتى إلى البلد لتطمئن على بيتها وأشيائها التي تتركها فيه .
أولادها لا يأتون معها ، يذهبون ليقضوا بضعة أيام في الإسكندرية أو رأس البر ولا يفكرون في زيارة أهلهم .
بالكاد نعرف ملامحهم من الصور التي تحتفظ بها خالتي في حقيبة يدها أو من المرات النادرة التي قابلناهم فيها ، مثلما حدث يوم جنازة أبيهم .
أمي تقول إنهم لا يعرفون أهلهم .
يتعاملون مع الناس من طرف مناخيرهم .. الفلوس تبدل النفوس ! .
أبي يقول إنهم معذورون ، تربوا في بلاد غريبة ولم يختلطوا بأحد .
حين تأتى خالتي تتصل بنا وتقول إنها جاءت إلى البلد و ستبقى أياما قبل أن تعود إلى أولادها ، يذهب أبي ليسلم عليها ويعود .
يقول إنها ستزورنا غدا ، تذهب في الصباح لتشتري أشياءً لها وستمر علينا بعد الظهر .
غالبا تذهب لتشتري أشياءً تنقص البيت وتحتاجها في الفترة التي ستقضيها في البلد ، بيرسول ، منافض ، منظفات .. جبن ومعلبات وعصائرتضعها في الثلاجة حتى لا تحتاج شيئا ولا تضطر إلى النزول من شقتها كثيرا .. بخلاف اللحوم والطيور وبعض المستلزمات التي تجدها هنا أرخص من القاهرة ، تقول إن اللحوم في مصر لا طعم لها ولا رائحة ، لحم ( وقيع ) والناس تأكل ولا تسأل ، لا يوجد أطعم من لحم بلدنا .
بمجرد أن تعرف أمي بوصولها تستعد لاستقبالها ، تمسح الشقة مرتين أو ثلاثا .. ُتخرج المفارش التي نفرشها في الأعياد وتكوي ملابسنا الجديدة وتجهز لعشاء الغد وأنواع الطعام الكثيرة التي تجمعها مائدة واحدة ولا تجتمع عادة إلا عندما تزورنا خالتي ..
أمي تقول : في الزيارة الأخيرة وصّيتها أن تشترى لي قماشة قطيفة سوداء وطرحة طبيعي ألبسها في المآتم والمناسبات ، وسجادة صلاة لأبيكم ، وبالتأكيد لن تنسى هداياكم .
حين تأتي خالتي نجري إليها فرحين .
نتأمل وجهها البشوش وبياضها المورد ولا نرى أثرا للزمن عليه .
أمي تقول إنها طوال عمرها جميلة .
أجمل بنات العائلة ، ورثت الجمال من جدودنا الأتراك .
أبي يضحك ويقول :
ـ جدودك كانوا كلهم صعايدة أولاد
صعايدة .
جعلتيهم الآن أتراك !!
تقسم أمي إن جدة والدها كانت تركية وترطن بالتركي ، تلتفت ناحية أبي وتقول بغيظ :
- أنت عارف
...............
أتراك ولا صعايدة ؟
أكلهم التراب والدود واستراحوا.
ترحب أمي بخالتي .
نتقدم ونسلم عليها .
بشغف نتأمل الأكياس الكبيرة التي تحملها ونظل نحلم بالهدايا التي تصحبها معها .
على المائدة الكبيرة تجلس بجوار أمي .
تسأل عن أخبار العائلة .
خالتي عليّه التي لم ترها منذ ثلاث أو أربع سنوات ، الصعيد بعيد والسفر شاق ومرهق والإجازة قصيرة ، لا تكفى حتى لقضاء حوائجها وهي لا تفكر مرة أن تسأل عنها ، أخر مرة رأتها عندما عاد ابنها إبراهيم من الحجاز ، كانت خالتي نجاة في إجازة وذهبت إليهم في الصعيد - في عز الحر- لتسلم عليه ، لم يعرف أن يعطيها ولو هدية صغيرة من الحجاز .
خالتي تقول إنها غنية وتحب الهدية !.
نضحك ، تقفز عيوننا الصغيرة إلى الأكياس التي وضعتها إلى جوارها ، يمر الوقت بطيئا ، تقوم خالتي وتقبّل أمي وتصافحنا .
ينهض أبى ويودعها عند الباب .
نراها تحمل الأكياس معها وتذهب ، نحس مرارة في نفوسنا الصغيرة .
تغتاظ أمي ، تلعن الأهل وأحوالهم .
نسوا والدها الشيخ عبد الوهاب وتربيته لهم ، يغضب أبى ويقول هازئا :
ـ وهل تنتظرين هديتها لتعيشي بها ؟ !
تقول أمي بغيظ :
ـ كنت سأعطيها ثمن القماشة القطيفة
والطرحة الطبيعي .
تغيب خالتي يوما أو أثنين وتعود إلينا ومعها الأكياس التي اعتادت أن تحملها .
تستقبلها أمي بجفاء و تنصرف عنها إلى أشياء تدعي الانشغال بها .
يقوم أبي بالترحيب بها .
تظل تثرثر عن أيام الشيخ عبد الوهاب والبيت الكبير في القرية والذكريات الجميلة .
تترك أمي أشياءها وتخرج إليها ، تقاطعها وتقول :
ـ يا اختي ..
ومن يتذكر هذه الأيام ؟؟!
تنهض خالتي واقفة .
بفتور تدعوها أمي للبقاء وتناول العشاء معنا ، لكنها تأبى .
قبل أن تذهب تطلب من أبي أن نصحبها إلى بيتها ، أمي ترفض وتقول :
ـ عندهم مذاكرة
يستعدون للسنة الجديدة .
ينهرها أبي ويقول :
ـ اتركيهم يذهبون مع خالتهم .
تأخذني وأختي الصغيرة معها .
الكبيرة قالت إنها تنتظر زميلاتها بالمدرسة .
نصحبها إلى البيت .
تعبث في دواليبها المغلقة التي غطاها تراب ناعم ، تخرج ملابس كثيرة تفوح منها رائحة النفتالين ، تقول إنها ملابس أولادها ، تحتفظ بهم منذ كانوا في المدارس ، تفرز الأشياء جيدا ، تقول : هذه تناسبك وهذه تناسب أختك وهذه لأختك الكبيرة .
أولادي لم يلبسوها إلا مرة أو مرتين ، بعضها لم تمسه أجسادهم .
تلفهم وتضعهم في كيس كبير وتضع معهم ملابس أخرى وتقول :
ـ أعطوهم لوالدتكم تعمل منهم مفارش .
أمي وأبى يغضبان بشدة ، أكثر من مرة أعادا الأشياء التي حملناها معنا ، قالا إننا لا نحتاج إلى شيء منها .
لكنها حين قالت إنها لا تحتاج إلى دولاب قديم عندها وتريد أن تعطيه لأحدهم ، أمي قالت :
ـ نأخذه للأولاد .
مسعد كان يعيش في حجرة بالطابق الأرضي في بيت خالتي نجاة ، أمي تقول : يحرس لها البيت في غيابها .
عندما تأخذنا معها إلى البيت نجده هناك .
يجلس وحيدا على كرسيه الخشبي القديم بركن من صالة البيت .
أمامه طاولة صغيرة تتناثر فوقها أختام نحاسية .. إلى جواره ينتصب الحامل بثلاثة أضلاع خشبية ، وصندوق الكاميرا يغطيه كيس من القماش الأسود يتدلى من الصندوق حتى رأس الحامل .
قبالته دكة خشبية مغطاة بقطعة من سجادة قديمة ، ربما كان يغفو فوقها .
في الأركان زجاجات ملأى بالكيماويات .
خالتي تقول إنها خليط من السلفه والكاربونات والميتول والهيدرويكول .
زجاجات الحبر الأحمر ، وأخرى فارغة ترقد باستسلام .. صحن به بقايا من دجاج تركه على الأرض وزجاجة مياه معدنية فارغة .
تفترش الأرض مجلات وجرائد وصور تبدو فيها الوجوه سوداء والرؤوس بيضاء .
أبي يقول إنها الصورة السالبة ، يضعها المصور على خشبة تمتد من فجوة صندوقه الأمامية ، وينظر في نتوء من الجهة الخلفية لصندوقه و ُيخرج ورقة بيضاء .. يضعها في ماء أصفر لزج للحظات فتظهر الصورة الحقيقية .
جسده كان أقرب إلى الضمور ، وعيناه أخذتا في الانطفاء .
ببطء يرفع أهدابه ويرمقنا بنظرة ، لكن سرعان ما يبعد بنظراته عنا و ينكب على معدنه النحاسي ، يحفر وينحت بأزميله .
نلحظ يده البيضاء تمسك بالأزميل بين الأصابع كأنه ريشة فنان يخط بألوانه ظلا في لوحة متناسقة .
خالتي تقول إن يديه وكأنهما أصاباهما البهاق من الكيماويات والمنظفات التي يستخدمها .
عنده وسواس .
لا يستخدم شيئا قبل أن يغسله بالصابون والرابسو مرات ومرات .
دائما ما تتندر العائلة عليه .
يقولون إنه يحتفظ في جيبه بصابون لا يفارقه أينما ذهب .
أهل البلد رأوه يخرج صابونة من جيبه ليغسل يديه بعد أن أكل بالمطعم ولم يستخدم الصابون الموجود فوق الأحواض .
خالتي تقول إن العين تلحظ علب المبيدات والمنظفات الموجودة بكل مكان حوله .. رائحة ألفنيك التي تفوح من الصالة وتتباعد كلما صعدنا درجات السلم إلى الطابق الثاني .
عادة لا تلقي خالتي بالا له في صعودها وهبوطها .
لم تلقِّ السلام عليه ، كأنه غير موجود .
صعدت درجة وأخرى ونحن نتبعها .. نراه يرقبنا بعينين غائرتين حمراوين ووجه مسحوب شاحب .
استندت خالتي إلى الجدار وقالت دون أن تلتفت ناحيته :
- لا تنسَ أن تغلق الباب .
لم نسمعه يرد عليها وواصلنا صعود درجات السلم .
في إحدى المرات أوقفنا على عتبة السلم ، حينها كان ممددا على الدكة الخشبية يتصفح مجلة .
ظننا إنه لم يرنا ، لكنه نادى علينا وقال بصوت خفيض و بطيء :
- انتظروا لحظة .
خالتي نجاة وقفت فوقفنا معها ، تعكر وجهها وقالت :
- هل تريد شيئا ؟!
ضم أصابع كفه على شكل زهرة نائمة وأشار لها أن تنتظر للحظات .
نهض من فوق دكته الخشبية ودخل إلى حجرة معتمة فاختفى عن عيوننا ، تطلعنا إلى وجه خالتي وعدنا نترقب خروجه من الحجرة .
عاد يحمل بين يديه علبة صغيرة مغلفة بالسلوفان الأحمر، أعطاها لأختي لكنها رفضت .
خالتي قالت :
- خذيها .
أمسكت بها وضمتها إلى صدرها دون أن تعرف ما بها .
قبل أن نصعد الدرجات أخرج من جيبه قطعتي شيكولاته ، أعطى كلا منا واحدة وابتسم .
عندما عدنا إلى البيت ،قالت أمي :
- غريبة
لم يفعلها من قبل !.
مدت يديها وفضت ورق السلوفان الأحمر عن العلبة وفتحتها .
أخرجت دبا أبيض بعيون زرقاء جميلة ، تنازعنا أنا وأختي على امتلاكه .
أخر مرة زارتنا فيها خالتي نجاة قالت إن صحتها لم تعد تساعدها على السفر .
الطريق من مصر إلى البلد طويل ومرهق ، وإنها في حاجة إلى البيت لتبيعه وتشترى شقة بجوار أولادها في مصر لتقضي الإجازة فيها .
لا أحب أن أعيش مع زوجات أولادي ، أحب العيشة بحريتي ، لن أستطيع التصرف في البيت ومسعد فيه .
أمي قالت :
ـ مسكين
أين سيذهب ؟؟
خالتي قالت :
ـ لن يغلب ..
يعيش بمفرده وليس بحاجة إلى أحد.
يكسب في اليوم الواحد أكثر من 100
جنيها
- مائة جنيها !!
هل هناك من يكسب مائة جنيها في
اليوم ؟!!
فتحنا حلوقنا غير مصدقين .
والدي موظف الحكومة يأخذ مائتي جنيها في الشهر بعد أن كان راتبه عند تعيينه سبع جنيهات كما تقول أمي .
- وماذا يفعل بهذه الفلوس ؟!
- ينفقها على الصغار !!!!
حلويات ولعب وهدايا وأشياء أخرى .
أهل الأولاد يعرفون هوسه بالصغار .. يرسلونهم إليه ويطلبون منه ما يريدون .
هكذا قالت خالتي .
ابتسمت أمي ونهضت لتواصل حركتها بين الصالة والمطبخ تحمل أشياءً وتضع أخرى وتركت خالتي تكمل حديثها مع أبي .
بعدها غابت خالتي نجاة ولم تعد تزورنا كما اعتادت من قبل .


5

( افتتحه الرئيس جمال عبد الناصر عام 1965 )
عبارة قصيرة فوق لافته من الرخام تتصدر واجهة المستشفى الحكومي الذي يرقد عند أطراف البلدة من الناحية القبلية وسط منطقة المدارس وتجمع سكاني حديث .
أبى يقول إن الزراعات كانت تحيط بالمستشفى من كل جانب .. لم يكن يوجد بيوت إلى جوارها إلا بيت شيخ الخفر .
أهل البلد يظنون إنها منطقة مسكونة بالعفاريت ، شيخ الخفر الوحيد الذي بنى بيتا من الطوب اللبني هناك وسكن فيه .
من يذهب برجليه ليشارك العفاريت عيشتهم ؟!
الشيخ حسن إمام الجامع قال :
- ما عفريت إلا ابن آدم .
كثيرون لم يصدقوا الشيخ حسن ، كم رجلا ساقه قدره ليرى الشعلة تشق الظلام وتزغرد بين الزراعات ، الواحد منهم يعود إلى داره تمتلكه الرعشة وتسكنه الحمى لأيام .
شيخ الخفر يقول إنه لا يوجد عفريت ولا غيره ، المخبول مسعد كلما هفه عقله ذهب إلى هناك ، يحمل شعلة في يديه ويبحث في الغيطان وبين الزراعات عن رجاء .
- لو رأيته سأنشه عيارا
وأريحكم منه .
لم يصدق أحد كلامه ، الكل يعرف إنه يتمنى أن يبنوا المستشفى بجوار أرضه الزراعية ليبيعها بالمتر بعد أن كانت حمضا ، لا تساوي شيئا .
المنطقة مهجورة .
من المغربية تتحول الأحراش والأشواك وزراعات الذرة إلى أشباح ، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها ، إذا نجا مسعد من العفاريت ، لن ينجو من السلعوة والذئاب التي تعشش بين الزراعات .
الكل كان يعرف حكاية رجاء ، سكبت جركن جاز فوق جسدها وأشعلت النار في نفسها وخرجت تولول وتتمرغ في الغيطان وبين الزراعات .
من ساعتها يرون شعلة النار كل ليلة تسير بين الزراعات ويعرفون إنه عفريتها .
عيد العبيط صدق كلام شيخ الخفر ، ذهب إلى هناك ، شمر جلبابه ودس نفسه بين الزراعات وانتظر حتى ظهر الوهج من بعيد ، وظل يطارده .
يقولون إنها لحست عقله ، لا أحد يعرف على وجه اليقين ماذا رأى وماذا حدث له ، لكنهم وجدوه ملقى عاريا عند الفارون ..
من حينها ذهب عقله وظل يهيم على وجهه في الشوارع والغيطان .
رغم ذلك بنوا المستشفى هناك !.
البلد كلها كانت ترى طوابقها الأربع قبل أن تتغير مبانيها وترتفع عماراتها .
كانوا يخططون لبناء المستشفى بأرض السوق القديمة التي أصبحت ساحة شعبية الآن ـ ويفكرون في إلغائها وإعداد ساحة أخرى في قرية تابعة لمدينتنا تبعد عنها نصف ساعة بالسيارة ليبنوا مكانها وحدة بيطرية ومدرسة جديدة .
حكيم الوحدة أرسل تقريرا إلى المسئولين قال فيه إن المستشفى سيكون بها أكبر قسم للصدر في المحافظة .. الدرّن ينتشر وينتقل بالعدوى ولابد أن تكون المستشفى بعيدة عن البيوت .
بعد افتتاح المستشفى بنوا أمامها مدرستين ، مدرسة ( بنات سنورس ) الابتدائية ومدرسة ( الشهيد صلاح الدين ) للتعليم الاعدادى والثانوي .
قامت حرب 1967 وتوقف بناء المدرسة ولم يكتمل بناؤها إلا عام 1970 ، كانت أول مدرسة ثانوي في مراكز المحافظة .
أبي يقول إن الحكومة أسمتها على اسم الشهيد صلاح الدين ابن الحاج حسين ، كان طيارا وسقطت طائرته واستشهد في حرب أكتوبر ، المدرسة كان اسمها في الأصل مدرسة ناصر ، ثم صدر قرار بتغيير اسمها في عام 1975 ، في العام نفسه شرعوا في بناء المدرسة الصناعية ثم المدرسة التجارية .
بعد افتتاح المستشفى بعام واحد دقوا أول طريق أسفلتي يصل مابين البلد والمستشفى ويقسم البلد إلى نصفين .. بجوار المستشفى بنوا استراحة للأطباء ، أغلبهم كانوا من خارج المحافظة ويضطرون إلى المبيت بها ، لم يكن هناك طبيب واحد من أهل البلد ، المتعلمون بالبلد كانوا لا يزيدون عن عدد الأصابع .
الآن اكتظت المنطقة بالمدارس ، البيوت حاصرتها من كل اتجاه .
على مسافة قريبة أقيم مصنعان للطوب الطفلي ولم يعد هناك أثر للزرع الأخضر ولا للطريق الإسفلتي الذي أكله الزمن .
واجهة المستشفى بهتت وشاخت ، لكن المبنى إلى الآن الأجمل معماريا وهندسيا بين مباني مدينتا .
إلى وقت قريب كانت بها حديقة كبيرة تكسوها الخضرة والأزهار الزاهية قبل أن يستغلها الأطباء كجراش لسياراتهم ، سلالم المبنى على شكل دلتا مقلوبة فرعاها ينتهيان عند بابي ومدخل المستشفى ، الطابق الأول يتكون من حجرات الاستقبال والمعامل والثلاجة ومركز الأشعة وصيدلية وساحة واسعة معدة بكراسي ثابتة كانت تستغل في محاضرات للإسعافات الأولية للمتطوعين أثناء الحرب والآن يستغلها المرضى في انتظار أطباء العيادة الخارجية .
تلحظ العين نظافة البلاط والطرقات رغم الرائحة النفاذة للمطهرات التي تنتشر في أرجاء المستشفى .
أبي يقول إن المستشفى نظيفة لأنه لم يعد أحد يرتادها ، العنابر شبه خالية ولم يعد العلاج بالمجان ، صيدلية المستشفى لا علاج بها ، العلاج يشتريه المرضى من خارج المستشفى ، حتى السرنجة يشترونها من الصيدلية التي عند أول الشارع .
يقولون إنها ملك زوجة مدير المستشفى ، يتعمد ألا يوجد علاج بصيدلية المستشفى ليروج لصيدلية زوجته !.
الناس لم تعد تثق في المستشفيات الحكومية .. نسمع عما وصل إليه الطب والعلم في العالم وعندنا طبيب واحد قتل ثلاثة مرضى وتسبب في عجز مستديم لإثنين أثناء إجرائه عمليات استئصال مرارة ، يقولون إنه يضع حجرا أسفل ظهر المريض أثناء قيامه بالجراحة ، وأحيانا يترك بطن المريض مفتوحة ليتحدث في التليفون أو يوقع على أوراق أدارية ، أكثر من مرة ينسى منشفة طبية أو مقصا ببطن المريض !.
بلدنا لم يكن بها غير المستشفى الحكومي حتى سنوات قليلة ، حينما افتتحوا مركزا طبيا حضريا في الناحية الشرقية من البلد .
منذ عامين بنى الدكتور حسن عبد الرحيم مستشفى كبيرا كالمستشفيات التي نسمع عنها في القاهرة ، الناس يقولون إن المستشفى تكلّف ملايننا ولا يعرفون من أين أتى بها .
بلدنا لا تترك أحدا في حاله !.
الدكتور حسن رجل طيب ويعرف ربنا ، لكنهم يقولون إنهم يعرفون أصله ، لم يرث قرشا واحدا عن أبيه أو أمه وعيادته الصغيرة بالكاد يكفي دخلها لمصروفات الحياة .
أبي يقول إن الجماعات الإسلامية تمولهم ، الانتخابات الأخيرة رشح نفسه عن الأخوان المسلمين لكنه لم ينجح ، قوات الأمن منعت الناس من الوصول إلى اللجان للإدلاء بأصواتهم خوفا أن يختاروه ، من بعدها لم تتركه الحكومة ، اعتقلته مرات عديدة ، لكنه يخرج بعدها بأيام قليلة .
حين وصلنا إلى العنبر الذي كان يرقد فيه لم نجده هناك ، وجدنا الآخر الذي يسعل وبقع الدم المتناثرة فوق البلاط الباهت والممرضة التي جاءت بطعام للذي يسعل .
حين سألناها عنه قالت :
- إذا لم يكن أحد استلمه
ستجدونه في الثلاجة بالدور الأرضي .
مضى يوم كامل ولم يحضر أحد لاستلامه ، تكلمت معنا عن أشياءٍ قالها لم تفهمها جيدا ، لكنه كان يتكلم عن صور ؟!!
عند الثلاجة سأل الموظف أبي عن صلة قرابته بالميت ، أخذه معه إلى حجرة بعيدة رأينا على بابها كلمة ( مخزن ) ، ورأيناه يخرج ومعه كيس ربما تكون فيه أشياء تخص الميت ، تركها أبي إلى جانب جدار قبل أن يذهب مرة أخرى مع الموظف إلى حجرة بعيدة .
الغريب الذي كان يرافقنا قال :
ـ ربما سيوقع على بعض الأوراق .


6

في صندوق خشبي بأربعة حوامل كان يرقد .
حمله أبي وثلاثة معه ، أحدهم الغريب الذي دق بابنا ذات يوم وعاد ثانية بعد أن انقضى ليل ونهار ، استقبله أبي وظل يثرثر معه لبرهة ، بعدها أرتدى أبي ملابسه وخرجنا معه .
الغريب سأل عن مقابر عائلتنا ، صمت أبي ولم يرد .
الغريب قال :
ـ ندفنه في مقابرنا
.. ثواب عند الله
أمي تقول إنهم يخافون من الموت وسيرته ولا يحبون أحدا يكلمهم عنه ! .
حتى المقابر لم يعملوا حسابهم عليها ، الموت علينا حق ، مقابرنا في القرية هدوها وبنوا مكانها بيوتا ولم يشترِّ أحد تربة لنا في المقابر الجديدة .
أبوك هو الآخر يثور كلما فاتحته في موضوع المقابر ، كثير من عائلات قريتنا أرسلوا لنا لنشترى مقبرة جديدة ، بعضهم عرض أن نتشارك في مقبرة واحدة .
أبوك ظل يُسَوِّفُ ، حين أفاتحه يقول :
ـ الناس يفكرون في الحياة وأنتم تفكرون في الموت !
.. حين أموت لن تغلبوا فيّ .
لا أعرف سببا لخوفهم هذا .
الغريب أرسل رجالا ليعدوا التربة ، ألتفت إلى أبى وقال غاضبا :
ـ لم يسأل أخوته عنه حتى بعد موته !!
الثاني والثالث كانا عند الاستقبال عندما كنا ننهى الإجراءات لاستلامه ، حكى لهما الغريب الذي قال إنه صاحب البيت الذي سكن سطحه ، أحدهما قال :
ـ الدنيا لم يعد بها خير!.
أبى قال إنه اتصل بهم ، خالي جمال لم يحضر ، قال إنه سيتصل بنجاة ، استقرت مع ابنها أشرف في مصر ، أما هو فسيضطر إلى السفر للخارج لتوقيع عقد مهم ، لا أحد يستطيع التأخير عن مثل هذه الأمور لكنها الظروف ، أخته عليّه مريضة وأولادها لا نعرف تليفوناتهم .
الثاني قال إنه يستطيع أن يدبر مبلغا لإجراءات الدفن ، الغريب رفض ، قال إن مسعد ترك معه مبلغا من المال ليتصرف به إن مات ، أولاد الحلال أعطونا بطانية لنغطى بها النعش ، أبي قال سنعيدها بعد الدفن .
كانوا يحملونه ويسيرون ببطء .
أمي تقول إن الميت يمشي ببطء لإنه لا يريد أن يفارق أحبابه ..
لكن مسعدا لا يعرف أحدا و لم نرَّ له أحبابا ، فلماذا كان يسير بطيئا ؟! .
الشوارع غير مستوية ، ملأى بالحصى والأحجار التي لا تدع الأقدام تستقر في أماكنها ، بها الكثير من الحفر العميقة التي حفرها العمال لمشروع الصرف الصحي ولم تردم .
الطريق بين المستشفى والمقابر طويل والليل أعمى لا عيون له ، الصقيع جعلنا نرتجف ، سلكنا طرقا جانبية لنبتعد عن الحفر ، الحواري الضيقة برغم ظلامها أكثر دفئا .
الرجال أصابهم التعب ، لم يكن النعش يطاوعهم بسهولة ، كانوا في حاجة إلى الراحة ، أنزلوا النعش عن أكتافهم المثقلة ووقفوا صامتين ليستردوا أنفاسهم ، ثم عادوا ليحملوه من جديد .
قليل من الناس شاهدونا ونحن نحمله ، بعضهم توقفوا حتى نمر ثم سمعناهم يسألون عن الميت .
الآخرون لم يهتموا ..
الغريب تنهد بأسى وقال إن الدنيا انعدم خيرها ، في الماضي لم تكن جنازة تمر إلا وخرجت البلد كلها خلفها .
حين اقتربنا من المقابر قال أحدنا :
ـ ألن نصلى عليه ؟؟
تخطينا الحارة التي سلكناها إلى الشارع الرئيسي المؤدى إلى المقابر ، الغريب أشار ناحية المسجد و قال :
ـ الجامع أمام المقابر
حين اقتربنا وجدناه مغلقا .
قال أحد الرجلين الآخرين :
ـ يغلقون المساجد بعد الصلاة ..
أوامر الأوقاف ... والأمن !.
الآخر لم يتكلم ، الغريب قال :
ـ أنا متوضي
سأصلى عليه .
الذي تكلم سابقا طلب أن ننتظر ، قال إن خادم المسجد يسكن بالقرب من هنا .
تركنا ورأيناه يدق باب بيت أو أكثر .
أبي أخرج سيجارة وأشعلها ، ثم أخرج علبته وأعطى للغريب واحدة فلم يأخذها وأخذها الآخر الذي لم يتكلم طوال الطريق .
عاد الرجل بعد أن أختفي عن عيوننا وبصحبته آخر قصير ، عرفنا إنه خادم المسجد ، فتح الميضة لنتوضأ ، دخلنا وبقى الذي لم يتكلم بالخارج .
أبى قال للغريب :
ـ يبدو إنه مسيحي .
النعش كان أمامنا عند القبلة ، القصير أمَّنا وصلينا ، حمل معهم النعش حتى باب المسجد ، اقترب الذي لم يتكلم وحل مكان القصير .
على بعد خطوات منا لاح باب المقابر.
حارس السور كان في انتظارنا بكشاف أبيض ، تقدمنا فرأينا الطريق والشواهد الصغيرة التي تتابعنا وتحف في ملابسنا .. سمعنا نشيجا لكائنات تنوح بنشيد أبدي حزين ، وسمعنا صريرا ونباحا لكلاب رأينا عيونها تلمع في الظلام .
رجفة شديدة أصابتني .
أبي قال :
ـ اقرأ السلام على أموات المسلمين .
عند المقبرة كان هناك رجلان أرسلهما الغريب قبلنا ، أنزلا النعش عن كاهل الرجال وهبطا بالميت إلى المقبرة ، سبقهما حارس السور بالكشاف وخرجوا بسرعة .
أهالوا التراب على الشاهد ورجعوا إلى الخلف خطوات واصطفوا خلف القصير .
القصير قرأ بعض آيات من القرآن ثم تلاها بأدعية للميت .
رفعنا أكفنا إلى السماء وقلنا آمين .


7

ـ مسكين الله يرحمه ..
لم يكن له أحد !.
رجت أمي ذاكرتها ، عادت بالزمن إلى الوراء وحكت .
مرات قليلة دق فيها بابنا ، دائما كان عنده سبب للزيارة إلا هذه المرة .
كانت في عينيه فرحة تخفق بأجنحة خفيفة كأجنحة الملائكة وتطل باستحياء .
دق بابنا دقات متتالية ملهوفة .
فتحت الباب ، عندما وجدته أردت أن أتراجع ، لكنه رآني .
لم أعطه فرصة للدخول ، بجسدي سددت في وجهه الباب الموارب .
لم أنطق ولو بكلمة واحدة ، إلا إنه كان يعرف إنني أتساءل عن سبب زيارته .
ظل صامتا برهة مما جعلني أبدي قلقا وتبرما .
أحس ارتباكا ما ، سارع وقال متلعثما:
ـ نجاة اتصلت !.
لم أبدِّ اهتماما .
ما شأننا باتصال نجاة أو غيرها ، إذا كانت تريد منا شيئا لِمَ لا تتصل بنا ؟! .
على ملامحي ارتسمت علامات تعجب كبيرة ، فقد كنت أكره الزيارات التي يفاجئنا بها كل فترة ، شعور بالضيق يتلبسني ولا أجد له سببا ، لم يطلب شيئا لنفسه أبدا ، زياراته لا تستغرق أكثر من دقائق سريعة ينصرف بعدها ، كلها من على الباب باستثناء مرة واحدة ، دخل فيها مع أبيكم وشرب شايا وانصرف .
غالبا ما يحمل رسالة من نجاة أو خبرا عنها ، لكنها عادة أخبار غير هامة .
عندما أحس قلقي بادر مسرعا وقال :
ـ لا تقلقي
نجاة بخير
ـ ...................... ؟
تغيرت نبرة صوته فأصبحت عالية وبها رنين :
ـ تريدني أن أزورها في شقتها الجديدة
.................
ـ عادت من السفر ..
صحتها لم تعد تساعدها لتحضر وتراني
وتريد أن تطمئن على أخباري .
...............
أول مرة تدعوني إلى زيارة شقتها الجديدة
تريدني أن أقضي عندها يومين
...................................
لم أكن أعرف حتى عنوان شقتها ..
لكنها وصفته لي
ـ ....................... ؟ !!!
ـ فكرت أن أقول لكم
لو كنتم تريدون منها شيئا ..
.......................
ـ شكرا ..
سلم عليها .
أغلقت الباب دون أن أتأكد إن كان ما زال واقفا مكانه أم لا ؟ .
لم أجد فيما قاله سببا يدعوه لزيارتنا ، قلت في نفسي لابد إنه سعيد لدعوتها له ليقضى عندها يومين ويريد أن يخبرنا إنها تهتم به !.
مالنا بذلك شأن ؟!
هم أحرار في أنفسهم .
عندما فكرت وجدت إنه من الغريب حقا أن تدعوه نجاة لزيارتها ، لم تفعلها من قبل !.
تتحدث عنه دائما وكأنه عيبة التصقت بها ، لو كان الأمر بيدها لتبرأت منه !.
حين عاد من عندها حكى للحج حسين ما فعلته به .. صوته كان به رنة حزينة مثل غناء مزمار .
قال إنها تقطن ببرج كبير على النيل يسكنه أكابر الناس ، الوزراء والفنانون والمشاهير و أصحاب الملايين ، على باب العمارة اثنان للأمن ، بخلاف البواب الذي يسألك عن الشقة التي تقصدها وأسمك وصفتك ، كأنه تحقيق في نيابة أو قسم بوليس .
لم يسمح البواب بدخوله العمارة إلا بعد أن اتصل بها وأخبرته إنها تنتظره ، صحبه إلى المصعد ، وقف منبهرا أمامه ولم يعرف كيف يُشَغِّلهُ ؟ .
لم يستطع تجاهل الأشياء الغريبة التي يراها لأول مرة ، فبدا مضطربا .
انتهز فرصة ابتعاد البواب وذهب إلى السلم وصعد عليه .
- أربعة عشر طابقا قطعوا نفسه !.
الشقة لم تكن مثل ما نعرفه من شقق أو بيوت ، كانت أشبه بقصور أمراء وأميرات الخيال .
السجاد العجمي من القطيفة الخالصة ، تغوص فيه قدماه رغم إنه يسير على أطراف أصابعه .
التماثيل والأنتيكات التي جمعها أبناؤها من كل بلاد العالم ، أحواض سمك ونافورة تتوسط الشقة ، ربما أكبر من تلك التي تتوسط ميدان بلدنا .
بالأركان أشجار وأزهار ظنها طبيعية ، وأثاث لم ير له مثيلا من قبل .
يعرف إنها غنية ، ولكن لم يتصور أن تكون بهذه الدرجة من الثراء !.
شقتها في البلد عادية ، أما شقة مصر فشيء آخر .
وجدها في انتظاره هي وأولادها .
أحس ارتباكا ، كل شيء حوله منسق ومرتب ، كأنه صورة في كتالوج .
وجد نفسه الوحيد الذي لا يتناغم مع الصورة وإطارها .
للحظات وقف حائرا ، لا يعرف كيف يتصرف ؟
خاف أن يتحرك أو يلمس شيئا فيفسده .
قامت وسلمت عليه ، أمسكت بيده كأنها تعينه على الحركة ، ثم قالت :
ـ نأكل أولا وبعد ذلك نتكلم .
جرته إلى المائدة المعدة مسبقا .
...............................
فيم سيتكلمان ؟!!
سأل نفسه .
طرد الهواجس عن عقله ، قال : ربما تقصد الكلام المعتاد ، السؤال عن الأهل والأصحاب والأخبار ، لِم سيشغل رأسه ؟!
المائدة كانت عامرة بأنواع وصنوف لا حصر لها ، وليمة لم يحلم أبدا بالتهامها ، نجاة تجلس أمامه وأولادها حولها .
لم ينطق أحدهم بكلمة .
حتى السلام ، لا يتذكر إنهم سلموا عليه ، لم يسترح لاجتماعهم هكذا ، ساوره قلق ، الموضوع أكبر من عشاء ويومين يقضيهما عندها .
حاول أن يتذوق الطعام الذي أمامه ، لكن الهواجس طاردته وأغلقت شهيته .. معدته انقبضت منكمشة فلم تدع شيئا يمر .
لأول مرة يستشعر إن أحدا يسأل عنه ويحرص على رؤيته والاطمئنان على أحواله ، قطع كل هذه المسافة فرحا بهذا الظن ، من فرحته لم يترك أحدا لم يخبره بزيارته لها .
ـ الأكل لا يعجبك ؟!
سألته دون أن ترفع عينيها إليه .
ـ بالعكس
الأكل كثير .. وجميل
يلامس الطعام ببطء بطرف الشوكة ويقضم قضمة ، يظل يمضغها لفترة طويلة دون أن يبلعها ، يحس إن العالم أجمع يسمع صوت أسنانه تصطك ببعضها البعض .. يخشى أن يرفع عينيه إلى نجاة أوإلى أولادها .
يجدهم يحدقون فيه ببطء وهم يحبسون أنفاسهم ، حتى كاد أن يغشى عليه .
ـ على فكرة يا مسعد ..
.......................
ـ .................. ؟؟؟
ـ أنا ..
..بعت البيت
ـ ...................
لم يلحظ أحد المشاعر المتناقضة التي زحفت متسللة إليه .
جرفت الكآبة نفسه وروحه .
أحس بعطش شديد ، تناول كوب الماء ورشف رشفة ، اهتز الكوب بين يديه وسقطت قطرات على المائدة .
مدت يدها في حقيبتها الملقاة على أريكة إلى جوارها وأخرجت مظروفا ووضعته أمامه .
ـ المظروف فيه 500 جنيه
ادفعهم مقدما لأي حجرة واسكن فيها .
........................
اتكأ بيديه على مفرش المائدة وفرك أنامله ببطء ، لا يعرف لِمَ استدعى رأسه أزمة مارس في هذه اللحظات تحديدا ، كلامه مع محمد وقتها ، محمد رأى إن ما حدث كان طبيعيا ، عبد الناصر صنع الفكرة وخطط ونفذ وكان أصلح من يتولى عجلة القيادة ، نجيب لم يكن إلا واجهة ، أضعف من أن تقود ، مسعد قال إن الشعب اختار نجيب وأعاده ، لكن الجيش كان أقوى واختار جمال ، كانت فرصة لا تعوض فوتها الناس .
ابتسم ابتسامة هازئة واستقر بنظره فوق أدوات المائدة الفضية .
كلماتها كانت مثل أسياخ من حديد غرزتها في جسده وخاطت عليها .
ـ أنت وحيد ولن تغلب ..
...................
المشترى سيستلم البيت بعد أسبوع .
لم ينطق بكلمة .
هكذا قال لعم حسين .
كثير من الكلمات والجمل والعبارات دارت برأسه ، لكنه بغض أن يرى نفسه يتذلل لأحد .
أخذ المظروف وخرج من الشقة دون أن ينطق .. لم يكلف أحد منهم نفسه ويقول له مع السلامة .
بات كل شيء حوله معتما ، تلمس الطريق إلى السلم وهبط عدة درجات حتى اطمأن إنهم لا يرونه ، وجلس ، مال بجسده على الدرجات وفكر أن يرقد للحظات ويأخذ قسطا من الراحة ، أحس بجسده كله يتهاوى .. دمع يحتبس في عينيه لم يتمالك كبحه .
يقول انه لم يبكِّ بهذه الحرقة من قبل .
منذ أكثر من ثلاثين عاما لم تسقط منه دمعة حتى ظن إنه فقد القدرة على البكاء ، لكنه فوجىء بدموعه تنزل بحرقة ، بعدها أحس بشيء من الراحة ، أخذ أنفاسه بانتظام ، ضغط على المظروف ووضعه في جيبه وعاد يلملم حاجاته ويبحث عن سكن جديد .



8

مثل السرطان تنتشر الحارات المعتمة وتتوغل في جسد بلدتنا .
لم يعد غريبا أن أكتشف شارعا أو حارة جديدة .
عندما أمر من أمامها أظنها حارة صغيرة أو زقاقا ينتهي عند البقعة المعتمة التي عادة ما تكون بيتا في أخر الزقاق .
العتمة سمة مشتركة رغم الضوء الأصفر الشحيح الذي يتسرب من أعمدة الإنارة التي تتدلى منها خيوط تنتهي بلمبات رخيصة .
ضوء يغلف الجدران والبيوت والأشياء بمسحة من الرمادية و الغموض ويترك على الوجوه مسحة من حزن .
حارة ضيقة رطبة تنتشر بأرضيتها الترابية بثور من الطين المتجمد .
تصلها بعد أن تمر على أكثر من حارة تشبهها ، حتى تظن إنها نفس الوجوه الكالحة المرهقة .
نفس النسوة بجلابيبهن السود ، يسرن في الشوارع يحملن في جعبتهن وجع النهار وينثرنه على الشفاه مع البسمات وتحيات الطريق .
بجلابيبهن البيتية المرصعة بالأزهار وبقايا الغبار يثرثرن من خلف الأبواب والنوافذ مع الجارات .
الرجال يلملمون تعب النهار مع الحكايات ، يفترشون الأرض الرطبة أمام البيوت التي رشتها النساء بالماء المشبع برائحة النعناع بمجرد أن توارت الشمس خلف البيوت .
يدخنون الشيشة والسجائر ويلعبون الكوتشينة بحثا عن نسمة باردة وحكاية لم تصل إلى الأذان وضاعت بين زحمة النهار وضجيجه .
نفس العيون التي تطالع الغرباء بلهفة في محاولة لتعريتهم وكشف نواياهم وأسباب دخولهم إلى هذه الحواري الميتة .
عادة ما تتشابه الحواري في المدن الكبيرة ، لكن ما يميز حواري المدن الصغيرة عن غيرها إن كل حارة فيها لها لون وطعم ورائحة .
منها ما يفوح برائحة النعناع الأخضر والريحان ، ومنها ما يفاجئك بتكعيبات عنبها وأزهار ست الحسن تتدلى كخيوط على الجدران من شرفات منازلها ، ومنها ما تسكنها روائح الأرض المبلولة والأجساد المعروقة والأنفاس اللاهثة ويلونها الغبار.. وأخرى بروائح عطنة تكونت من طرنشات المجارى الطافحة أمام البيوت التي اختلطت بروائح حامضية لبقايا أطعمه وروث قطط وكلاب ضالة ، وظلت تزحف في بطء حتى سكنتها .
روائح تعرفها كل الحواري المعتمة في الجنوب .
عكس المدن الكبيرة التي عادة ما تكون حواريها بلا رائحة أو لون ، إلا لون الأصباغ الصناعية الثقيلة التي سرعان ما ترسم على وجوهها التجاعيد .
باستثناء مدن تاريخية كالقاهرة ، تحتفظ كل حارة فيها برائحتها الخاصة .
رائحة عتيقة لها طعم الماضي السحيق الضارب في أعماق التاريخ .
تتغنى بأصوات المؤذنين وابتهالات المنشدين وترنيمات العُباد وأجراس الكنائس .
رائحة الفسطاط القديمة .
رائحة عثمانية .
رائحة فاطمية .
رائحة مملوكية ...
تحتفظ جدرانها وحواريها بكل الروائح التي فاحت بها حتى روائح الأجريج والفرنساوية والإنجليز .
أخذت من كل غُزاتها وزوارها ، ولم تفقد رائحتها التي كحلها طمي النيل وعتقها أبو الهول الراقد في صمت وحكمة السنين على عتبات الجيزة .
لكل حارة بالقاهرة رائحة .
منها ما يشبه العنبر والحبهان والمستكة ، ومنها ما يفوح بأبخرة المنشدين وأضرحة الأولياء ومنها ما يترنم بأغاني سيد درويش وثومه وعبد الوهاب وحليم ويرقص على ألحان القصبجي وسلامه حجازي ويجلس منصتا لحكايات نجيب محفوظ ، وينشد أشعار بيرم وحداد وجاهين .
...............................
الغريب الذي صحبنا أشار ناحية فتحة إلى يسارنا وقال :
- مِن هنا .
البيوت واطئة من طابق واحد أو طابقين أو ثلاث ، ذات أسطح شائهة ، غطتها عشش الصفيح والخشب والجريد وأطباق صغيرة لاستقبال الإرسال التليفزيوني .
واجهات المباني من الطوب الأحمر الذي غطته رمادية داكنة ومسحة من رطوبة ، عدا بيت أو أكثر غطاه طلاء جيري باهت ربما بفعل الإضاءة الضعيفة .
الحارة على ضيقها تمتد وتتلوى مثل ثعبان خرافي . يتسرب إليك شعور بأنها لا تنتهي وإحساس بالوحدة والوحشة رغم كل العيون التي تسكن الجدران والنوافذ وتترقب أيَّ عابر أو غريب ينسل إلى داخلها بإمعان في تعريته .
الغريب سبقنا بخطواته التي تحفظ الطريق .
تمايل برأسه أسفا وقال إنه لم يكن ينوي أن يُسَّكِنَ أحدا بالبيت ، البيت قديم وينوي هدمه وبناءه من جديد عندما يفرجها ربنا بقرشين ، لكن الحج حسين رحمه الله ألح عليه ، بعد أن حكى له أحوال مسعد وظروفه وافق بشرط أن يترك السكن وقتما يطلب منه إخلاءه .
الحج حسين قال إنه يضمن مسعدا برقبته ، لن تجد أحدا في طيبته .
ضرب كفا بكف وقال بأسى :
- الناس تغيرت
لم يعد أحد يصل الرحم التي أمر الله أن توصل .
المدة التي سكنها عندي لم يسمع أحد صوته فيها حتى ظن الناس إنه لا يعيش بالشقة .
لم يثر أي مشكلة مع أحد من السكان أو الحارة .
حتى أم عاشور التي لم تترك أحدا في حاله كانت تشكر فيه .
الأشياء حولنا كانت تنسحق وتتوارى ، ابتلعها الظلام في هدوء مخيف وطاردنا شبحها .
بين كل عدة بيوت فتحة صغيرة ، تتكشف عن بيتين أو أكثر يكونان زقاقا صغيرا بلا مخرج ، ومنها من يمتد حتى تظن إنه حارة أخرى كبيرة ، لكننا في أخرها رأينا بيتا ذا واجهة ضيقة غطاها الأسمنت بلونه الرمادي الثقيل وباب صغير متهالك دفن ثلثه الأسفل إلى الأرض .
الغريب تقدمنا بخطوة وقال :
ـ بيتي
دفع الباب بقوة ، لكنه قاومه بشدة كأنه لم يُفتح منذ سنين .
لطمه لطمة قوية فارتج الباب واستسلم له وصر صريرا موجعا .
تقدمنا بخطوة .
شممنا رائحة غريبة نفاذة ، ربما لندرة الهواء في المكان ، تحسست أنفى وسددته .
المدخل غطته ظلمة حالكة رغم عود الثقاب الذي أشعلة أبي .
الغريب سبقنا إلى السلم .
تعثرت أقدامنا في كراكيب وأشياء تراكمت بالمدخل ، لم نتعرف عليها ، لكن بدا من صوت ارتطامنا بها إنها من المعدن أو الصفيح .
كدت أقع حين اصطدمت بعصا غليظة أو سيخ حديدي ، لولا يد أبي التي أمسكت بي .
بصعوبة لحقنا بالغريب عند السلم الضيق الذي يتلوى كالثعبان .
انطفأ عود الثقاب وعادت الظلمة تحاصرنا من جديد ، تحسسنا درجات السلم المتأكلة تحت أقدامنا وصعدنا .
عند اقترابنا من الطابق الثاني نادى الغريب :
ـ يا حج محمود
أنر اللمبة ينوبك ثواب
لمبة صغيرة فرق نورها فلول الظلام .
لحظنا اتساعا في منور السلم وطلاء أخضر ورسومات للكعبة وطيورا صغيرة غطت الجدران وباب الشقة .
الغريب قال إن الحج محمود يعيش هو الآخر وحيدا ، أولاده كل واحد في بلد ولم يعد أحد يسأل عنه .
منذ عامين ربنا كرمه وحج بيت الله هو وزوجته الله يرحمها ، لكنه مسكين ، المرض أثقل عليه ولم يعد يستطيع الحركة .
يجلس على كرسي متحرك يتنقل به في الشقة ويُمكنه من فتح الباب إن دق أحدهم بابه ، أولاد الحلال كل فترة يسألون عنه إذا كان يريد شيئا .
كان موظفا في الحكومة ومعاشه يجعله في غنى عن أولاده .
الرائحة النفاذة خفت حدتها .
الغريب قال إن الطابق الأول لا يسكنه أحد بعد أن أكرمه الله وافتكر أم عاشور .
امرأة أعوذ بالله !.
كانت سيرتها بطـّاله ، الميت لا يجوز عليه إلا الرحمة ، بنتها محاسن ألعن منها !.
سلسال واحد وطينة واحدة ، ربنا رزقها بواحد مغفل تزوجها وغادرا على ليبيا بغير رجعة .
ربنا يكرمنا ونهد البيت ونبنيه من جديد .
...................
أبي يقول إن عمر بيوت الحارة لا يزيد عن ثلاثين عاما لكنها تبدو وكأنها منذ أيام الفراعنة .
المنطقة بنيت بعشوائية لأن الحكومة تمنع الناس من البناء على أرض زراعية والترخيص لهم ، لكنهم بعد أن يبنوا البيوت ويسكنوها ، رغما عن الحكومة تعترف بهم وتمدهم بالماء والكهرباء .
الأرض هنا كانت مالحة ولم يكن أحد يتصور إنها ستعمر في يوم من الأيام وتمتلئ بالبيوت .
وصلنا إلى الطابق الثالث .
طاردتنا العتمة من جديد حتى صعدنا إلى السطح ، من بعيد يطل قمر غير مكتمل ، على ضوئه الشحيح لحظنا حجرة صغيرة وفراغ تشغله كراكيب كثيرة مهملة وتسكنه قطط صغيرة خائفة ، بمجرد أن رأتنا توارت بين الكراكيب ولمعت عيونها بوميض أحمر .
سمعنا خربشة قط عجوز جائع بين أكوام الزبالة ومرق فأر من أمامنا واختبأ بأحد الجحور .
تأملنا مساحة السطح الضيق و عرفنا إن شقق البيت لن تزيد عن حجرتين وصالة صغيرة أو ممر ضيق .
بحث الغريب بين مفاتيحه عن مفتاح الحجرة حتى استقر على واحد منها ، وضعه في الباب ، أشعل والدي عودا جديدا من الثقاب ، على ضوئه تبينت عيوننا موضع مفتاح الكهرباء .
أعطى الغريب المفتاح لأبي وتركنا وذهب .

9

- ينفق أمواله على الصغار !.
جملة تتردد كثيرا في بيتنا كلما زارتنا خالتي نجاة وجاءت سيرة مسعد .
لم نكن نفهم ما تعنيه كلماتها ولِم تصر على ترديدها كل حين .
مسعد لا أولاد له ولا زوجة ! .
وكلما رددوا هذه الجملة رأيناهم يضحكون ويتغامزون فيما بينهم ، فعرفنا إن في الموضوع سرا .
خالتي نجاة كانت تجلس مع أبي في الصالة وأمي تعد الشاي لهما ، سمعناها تقول لأبي إن مسعدا طلب منها عشرة آلاف جنيها .
شهقت أمي ، توقفت عند عتبة المطبخ وقالت :
ـ عشرة آلاف جنيه !! ..
ماذا سيفعل بهم ؟؟!
خالتي قالت إنه يريد أن يفتتح أستوديو جديدا ، يقول إن الناس تحب الصور الملونة ولا يهمها ما يفعله المصور ، التكنولوجيات جعلت الناس نهمين .
الشخص النهم لا يبحث عن جوهر .
كاميراتي أصبحت جزءا من تراث كلاسيكي لا أحد يحرص على استخدامه !.
التصوير وحده لم يعد يكفى .
كثير من الهواة امتلكوا كاميرات مثيرة ومدهشة في تقنياتها وإمكانياتها .
لم تعد الكاميرا تحتاج مهارة أو دُربة ، كل بيت أصبح به كاميرا أو أكثر وأي أستوديو لابد أن يكون به ماكينة تصوير مستندات ومناظر طبيعية وكاميرات رقمية حديثة وتصوير فوري .
لا أحد يتذكر الصور المائية الآن أو يريدها .
أبي قاطعها وقال إن مسعدا الوحيد في البلد الذي يصنع الأختام .
يأخذ جنيها ونصف عن الخاتم الواحد .
إذا عمل عشرة أختام في اليوم الواحد ، يأخذ خمسة عشر جنيها .
أحسن من أي موظف بشهادة جامعية ! .
أمي قالت إن البلد لم تعد مثل زمان ، التعليم انتشر والناس تعلمت القراءة والكتابة ولم يعد أحد يحتاج إلى الأختام مثل زمان !!
أبي قال :
ـ كفاية عليه خمسة أختام في اليوم !.
خالتي قالت إنها ذهبت إليه عند قهوة أم سيد لتأخذ مفاتيح البيت منه وتذهب إلى شقتها .
أعتاد منذ فترة أن يضع منضدة عليها الأختام هناك ويأخذ كاميرته والحامل معه .
وجدته يجمع حوله حشدا من العيال .
يلتقط لهم الصور، ثم يشتري لهم الحلوى والبسكويت والشكولاته .
أم سيد صاحبة المقهى قالت لها إنه اشترى الأسبوع الماضي دراجة للولد ابن حبيشي وأتارى لبنت سيد همام .
العيال يعرفون إنه عبيط ويضحكون عليه .
أمي قالت :
ـ يمكن لإنه محروم من العيال .
خالتي قالت :
ـ هو الذي لم يتزوج ..
حاولت معه كثيرا لكنه لم يوافق .
أبى قال :
ـ يمكن يكون ..؟؟؟
.........................
ضحكت خالتي نجاة وقالت إنها سألته .
قال إنه ليس به شيء ، لكنه لا يحب أن يقيد حريته بالزواج ! .
لا تنسى إنه كان سيفضحنا ويتزوج من رجاء .
لم يكن النوم يعرف طريقه إلى عينيه ، كأنها سحرته ، إن رآها أكتنفه فرح غامر مثل فرح طفل بلعبة جديدة ، أمسكت بتلابيب فؤاده ولسعت قلبه بجمرات الشوق وأغلقت أذنيه عن سماع أي نصيحة .
كان على استعداد أن يفعل أيَّ شيء من أجل الارتباط بها .
لم تكن من مقامنا !!.
أمها تسرح بالخضار في الشوارع ، وأبوها ـ إن كان لها أب ـ لا أحد يعرفه ، على أحسن الأحوال سيكون صرماتي أو شحاتا .
لكن الحق يقال ، البنت من يراها يظنها بنت أصول .
بيضاء ، وجهها كتفاحة ناضجة شهية .
جميلة وملفوفة القوام وعيناها واسعتان وجريئتان وتندب فيهما رصاصة .
كانت تأتي إليه كل يوم في الأستوديو القديم ، قبل أن نهده ونبني البيت .
عيناها كانتا تراقبهما عن بعد بتحفظ .
تراهما يستغرقان في عالم آخر بعيدا عن عالمنا ، همسات وضحكات صافية من القلب ولمسات حانية !.
أكثر من مرة طردتها من عنده ، لكنها كانت تعود إليه ثانية .
مسعد جن في عقله وذهب ليخطبها ، من فضل ربنا أمها رفضت .
امرأة لم يكن يهمها شيئا في الدنيا إلا القرش ، غلب على كلماتها الألفاظ السوقية و الهزل المبتذل ، تفحصته من أخمص قدميه حتى فروة رأسه ، وقالت : ( من أين سيصرف عليها العويّل ؟! ) .
ساعتها لم يكن أحد له قيمة إلا إذا كان موظفا أو عنده أرض يزرعها ويأكل من خيرها .
طردته من بيتها و زوجتها من شيخ الخفر .
رجل عجوز ، تزوج أكثر من واحدة ولم ينجب ، يقولون إن العيب كان منه .
عنده أطيان كثيرة وليس له أولاد ولا أخوة ، المرأة نظرت إلى مصلحة ابنتها !.
دفع لها مهرا مائة جنيها ، ساعتها كان الجنيه جنيها .
أبي قاطعها وقال إن البنت هي الأخرى كانت تحبه ، ظلت ترفل في ثوب حداد طويل عندما رفضت أمها زواجهما .
عندما أجبروها على الزواج من غيره لم تستطع أن تخلعه من قلبها ، تصاعد من صدرها لهيب ودخان حار وأحرقت نفسها لتتخلص من العذاب .
في الصباحية سكبت جركن جاز على نفسها وأشعلت النار في جسدها وخرجت تولول في الشوارع حتى سقطت أمام حجرة مسعد .
أهل بلدنا ما زالوا يتذكرون حكايتها كلما جاءت سيرة الجن والعفاريت التي تسكن البلد .
خالتي قالت إن هذه الحكاية لا أساس لها من الصحة .
شيخ الخفر روج الشائعة بعد أن تركت له البيت و هربت إلى مصر ، يقولون إنها عملت مع الغوازي وتركت ابنتها معه .
شيخ الخفر لم يكن ينجب ، عندما انتفخ بطنها خافت من الفضيحة ، هربت ووضعت البنت بعيدا عن عيون البلد ، لكنها لم تعد بعدها .
الناس فوجئوا بشيخ البلد يصحب البنت معه ويقول إنها ابنته ، والله أعلم بأصل البنت .
أمي قالت :
ـ هذه الحكاية قديمة ومر عليها زمن .
وإذا لم يكن عنده سبب ، لماذا لم يتزوج ؟!.
خالتي قالت :
ـ حتى إن كان هناك سبب ..
قلت له تزوج للونس .
...............................
لكن العيال أكلوا مخه !! .
خالتي عليّه عندما زارتنا مرة وسألت عن أخباره أمي حدثتها عما تقوله نجاة عليه ، أمتعض وجهها وغطته عكارة وقالت بأسى :
ـ حرام عليها !!
أكلت حقه وتشنع عليه .
..................
مسكين .
قلبه حنين ويعطف على الأولاد .
عندما حدثت واقعة حسني المكوجي حركنا أفكارنا المسترخية وفهمنا ما قصدوه ويحاولون مواراته عنا ، أمي صاحت وقالت :
ـ يا لطيف يا رب
يخرب بيته ، رجل شاب وعاب !.
أبى قال :
ـ ربنا يستر ..
ولا يفضحنا مسعد هو الآخر .
أمي قالت :
ـ ومالنا بمسعد
لا قريبنا ولا نعرفه ؟! .

10

- قبضوا على مسعد !.
لم تلعب أخيلتنا الصغيرة بنا طويلا .. ما أن وصلنا الخبر حتى عرفنا السبب .
قبضوا عليه مع من قبضوا عليهم أثناء أحداث شحاتة ألحرامي .
الحكومة قالت إنه من الجماعات المتطرفة التي تكره الحكومة وتكفر الناس .
ساعتها أرسلوا رجلين إلى بيتنا .
أعطيا ورقة صغيرة لأبي وقبل أن ينصرفا ، ألتفت أحدهم إليه وقال مهددا :
- إذا لم تأت في الموعد
فلا تلومن إلا نفسك .
أبي أكد إنه لن يتأخر .
لو أرادا أن يذهب معهما في التو واللحظة لما تأخر .
بعدما انصرفا بدا قلقا وعصبيا ولم يبادلنا الأحاديث أو يرد على أحدنا ، سمعناه يسب ويلعن دون أن نعرف إن كان يقصد مسعدا أم الحكومة !.
أمي أيضا تعكرت ملامحها ، سقطت أشياء من بين يديها على الأرض ، تهشمت وصنعت جلبة وضجيجا بالبيت .
انتظرَ ساعات – مرت بطيئة وثقيلة - قبل أن يدخلوه على الضابط المختص .
كان أهون عليه أن يخبره أحدهم إنه مقبوض عليه ليستريح .
تركوه في غرفة لا يدخلها الهواء ولا يجد بها أحدا يسأله عن شيء .
كلما ألتفت ناحية الجدران استشعر عيونا ترقبه وتعد عليه أنفاسه .
الضابط سأله عن أشياء كثيرة لم يعرف سببا لاهتمام الحكومة بها وزادت من هواجسه ومخاوفه .
لا يعرف كيف تسرب إليه إحساس بأنه مجرم خطير يهدد أمن الوطن ، وإن لم يكن يعرف جريمته بالتحديد .
كاد أن يتهاوى من التعب والقلق حين سأله الضابط عن مسعد .
قال له إن مسعدا يعيش في حاله ، لا يعرف أحدا ولا يختلط بأحد وليس له في السياسة .
أبي قال إنهم مازالوا يتذكرون محمدا ، قالوا إن له أخا أعتقل من قبل في قضية سياسية وإن الشيخ مجدي عبدالعزيز أمير الجهاد في بلدنا كان يعمل معه .
قال لهم إن محمدا في المستشفى منذ أكثرمن ثلاثين عاما .
محمد كانوا يتهموه بأنه شيوعي ولا علاقة له بالجماعات الإسلامية ، أما الشيخ مجدي فقد كان يعمل عنده قبل أن يصبح شيخا وأميرا للجماعات الإسلامية .
ساعتها كان ولدا صغيرا أبوه أرسله لمسعد ليعلمه التصوير وحفرالأختام ، عندما كبر وعرف طريق الجماعات حرم التصوير .
قال إن التصوير الشمسي للإنسان والحيوان حرام ومن الكبائر التي عليه أن يتركها ويتوب عنها .
ظل ينصح مسعدا أن يترك الضلال الذي يعيش فيه وينضم إليهم ، لكن مسعدا قال إن التصوير فن والفن عمره ما كان ضلالا .
كان يعرف إنه ليس كل من ألتقط صورا شمسية فنانا .
لكنه على الأقل لم يكن يهمه أن يكتسب من التصوير ، تعلم حفر الأختام وكتابتها من أجل المال ، أما التصوير فيسري في دمه .
في المدينة كان يطارد صخب النهارات وفسيفساء الجدران والبيوت والشوارع والحارات والوجوه .
العمال إلى مصانعهم والتجار إلى حوانيتهم والزراع إلى حقولهم والموظفون إلى دواوينهم .
الصاغة والصباغون والنجارون والمدرسون والطلاب .
قضاة ومتقاضون ومحامون .
جورنالنيه وأدباء وفنانون .
سائقو الحافلات والناقلات والتاكسيات .
وجوه يطلع فجرها مع فجر المدينة وتغرب مع غروبها .
........................
بعدها قاطع الشيخ مجدي مسعدا ولم يعد بينهما أي صلة .
الشيخ مجدي أعتقل منذ سنوات طويلة وإلى الآن في المعتقل ولم يخرج .
كل الموضوع إن مسعدا شاف ما حدث مع شحاتة الحرامي وأحس بأنه ُظلم ، تصرف بطبيعته ولم يكن يدور برأسه أي شيء مما حدث .
الحكومة قالت إن تقاريرها تؤكد إن له نشاطا مع جماعة الأخوان المحظورة ودائما يصلي معهم في مسجد قباء التابع لهم .
أبي قال إنه لا يراه يصلي إلا يوم الجمعة فقط ، لكن الحكومة أدرى منا .
كل شيء جائز ! .
أمي قالت :
- إننا لا نأخذ منه إلا وجع القلب والفضيحة .
والعيال يأخذون فلوسه كلها ! .















11

اثنان لا ثالث لهما يشتهران بهذا الأمر في بلدتنا .
جودة البقال و حسني المكوجى .
جودة كلنا نعرفه .
محل بقالته هناك في أخر شارعنا ، دائما يقف في دكانته ولا يفارقها ، نجده هناك طوال الوقت حتى ظننا إنه لا يغادرها أبدا .
أذهب إليه ، أشترى ما أريده وأرحل بسرعة .
أبي يقول إنه يصلي كل فرض معهم في الجامع ، ساعتها يترك أي واحد من جيرانه أو معارفه مكانه في الدكان ويذهب ليصلي ثم يعود بسرعة .
لكن العيال لا يكفون عن سرد القصص والحكايات عنه، كل يوم ينسجون حكاية جديدة .
قالوا إنه يعطيهم الحلوى والبسكويت والشيكولاته ولا يأخذ منهم الفلوس .
مرة يصفونه بالطيب ومرات يلصقون به حكايات من الصعب تصديقها .
قالوا إنه أعطى البنت سوسن بنت أم خضر حلوى وحاول أن يبوسها ، لكنها تركت الحلوى وجرت ، من بعدها لم تذهب إليه ولم تأخذ منه شيئا .
محرز يقول إنه أعطاه أيس كريم وبعد أن أكلها طلب منه أن يلعب في سرواله ، شخط فيه وقال إنه سيقول لأبيه حتى يربيه .
ظل جودة يترجاه دون فائدة .
أعطاه واحدة أخرى وطلب منه ألا يحدث أحدا بما قاله ، أخذها منه وحكى لأبيه ما دار بينهما .
في هذا اليوم ، الرجال منعوا أبا محرز عنه بالعافية ، أهل الشارع سمعوه يسب ويلعن في جودة ، ورأوه يمسك بساطورويجري ناحيته ليقتله أو يهشم رأسه ، بالكاد منعوه عنه حتى أغلق جودة الدكان وفر بحياته .
بعدها كنا نراه يجلس أمام دكانه ولا أحد يشتري منه ، حتى نسى الناس وعادوا ليشتروا منه .
أبي يقول إن إسماعيل البقال يروج لهذه الشائعات حتى يشتري الناس من بقالته ولا يذهبون إلى جودة .
إسماعيل بقالته مخزونه وقديمة ، أغلبها فاسد ومنتهي الصلاحية .
رجل لا يراعي ربنا وحكاية جودة البقال من تخطيطه وتدبيره .
البنت رضا تقول إن جودة عبيط لا يعمل شيئا .
تذهب إليه كثيرا ودائما نرى معها الحلوى والبسكويت وأحيانا شايا وسكرا وأرزا لأمها ، أمي تقول عنها :
ـ جسمها فاير ..
وعديمة التربية مثل أمها .
رضا تقول إن البنات والأولاد يذهبون إليه ويشترون منه رغم أوامر الأهل لهم بعدم الذهاب إليه والشراء منه .
حسني المكوجي الوحيد في البلد الذي يكوي الملابس بالمكواة الرجل ، دكانه هناك بجوار مجلس المدينة ، ولم يرد اسمه في حكايات العيال من قبل ، أو نسمع عنه شيئا حتى اليوم المشئوم .
في تلك الليلة لم تنم بلدتنا ، كنا في شهر رمضان ، أفطرنا وخرجنا كالعادة إلى الساحة الشعبية لمتابعة الدورة الرمضانية .
الولد عاصم قال إن الأستاذ فؤاد الموظف بعمر أفندي كان عنده موعد هام بعد الإفطار ، أرسل ابنته لتحضر ملابسه من عند حسني المكوجى .
الشوارع كانت لاتزل خالية من الناس .
حسني كان أسير ظمأ حاد لشيء أثيم تتصاعد رائحته في رأسه ، تفحصها بنظرة ذئب جائع ولحس شفتيه وطلب منها أن تدخل وتأخذ ملابس أبيها من الدكان ، الملابس كانت على طاولة داخل الدكان .
بمجرد أن دخلت هجم الملعون حسني عليها كثورأعمى ، البنت ارتاع وجهها وأحمر وأزرق ، ظلت تسب وتشتم وتقاوم لكنها لم تستطع مغالبته .
صرخت صرخات حادة مزقت صمت الشوارع والليل حتى سمعها الجيران وخرجوا على استغاثاتها .
وجدوا الدموع على خدها تسيل ووجهها محتقنا من الألم والوجع وشديد الاصفرار .
أنقذوها من بين يديه وظلوا يضربون فيه ، والبنت أخذوها إلى المستشفى .
لم نصدق كلام عاصم .
حسني لم نسمع عنه شيئا من قبل ولم نفكر فيه كشخص منحرف إلى هذه الدرجة .
أولاده معروفون ومحترمون .
ابنه الكبير الأستاذ جرجس مدرس كيمياء في المدرسة الثانوية ، والصغير جورج طبيب أطفال وله عيادة هنا وأخرى بالمحافظة .
وزهرة مازالت طفلة صغيرة ونحيفة وجسمها مقروض كما تصفها أمي .
عاصم أقسم إنه رأى الناس تكوموا فوقه وانهالوا عليه ضربا .
لم يتركوه إلا عندما أتى ضابط المباحث وعساكر المركز وأخذوه معهم وأغلقوا الدكان .
ذهبنا بأنفسنا لنرى ..
مسحنا بنظراتنا المكان والشوارع .
من بعيد رأينا الدكان مغلقا وملابس كثيرة ملقاة على الأرض وإلى جوارها رأينا بقعا حمراء ظنناها دما .
الرجال تراصوا بالطرقات وأمام البيوت مبهوتين والنسوة تجمعن بالنوافذ والشرفات .
عاصم قال :
ـ أرأيتم بأنفسكم ؟!
لم يكمل عاصم كلامه حتى رأينا عند أول الشارع شحاتة الحرامي ومعه بعض الشباب والأولاد يمسكون العصي في أيديهم ويصيحون غضبا ويشتمون البلد وحكومتها .
اقتربوا من دكان حسني وظلوا يدقون بابه بعصيهم ويقذفونه بالحجارة حتى انكسر ، أخرجوا ما داخله من ملابس وطاولات ومشاجب وكراسي .
كل ما طالته أيديهم ، جمعوه بالشارع وأشعلوا النار فيه وأحرقوه .
حين شاهدوا العساكر يأتون من الناحية الأخرى ألقوا الحجارة على وجوههم الزجاجية وتحصنوا بالحواري الجانبية .
الولد جلال ابن صبحي الطباخ كان معهم ، قال إنهم كسروا باب محل الذهب الذي بالميدان وألقوا بالذهب على الأرض ، الناس مسحوا الأرض وخطفوا ما وصلت إليه أياديهم وجروا بعيدا عن عين الحكومة .
ذهبوا بعدها إلى بيت الدكتور نعيم وألقوا الحجارة عليه وأصابوا زوجته .
وقال إنهم سيذهبون إلى مركز الشرطة ليكسروه .
جلال طلب منا أن نذهب معهم لكننا خفنا .
عم حسين الفكهاني جارنا رآنا نقف هناك ، زعق فينا وقال :
ـ البلد مقلوبة
ارجعوا إلى بيوتكم بسرعة .
بعدها نزل العساكر إلى الشوارع واحتلتها ، قوات كبيرة لم نر مثلها من قبل ، عساكرها ليست كعساكرنا ، عساكرنا يلبسون البذل الكاكى ويعيشون في البلد بيننا ، يعرفوننا ونعرفهم ، أما العساكر الذين رأيناهم ليسوا من بلدنا .
يلبسون بذلا سوداء ويمسكون بعصي غليظة ، يضربون بها كل من يقابلونه .
لا يفرقون بين كبير أو صغير ، تسبقهم عربات سوداء مصفحة .
وقفت عند أول كل شارع عربة وخيم الخوف كظل ثقيل على البلدة .
الناس قالوا :
ـ كأنها حرب وقامت ..
الأستاذ محروس زميل أبي في العمل كان في طريقه لزيارتنا ، قابلته العربات السوداء المصفحة في الطريق وأخذته معها .
قال لهم إنه خرج ليزور أبي كعادته بعد صلاة العشاء ليلعبا الطاولة ويتبادلا الأحاديث والحكايات مع فنجان القهوة .
لم يسمعه أحد !.
أخذوا كل من قابلوه في الشوارع .
حتى عم حسين الفكهاني ، عرفنا إنهم أخذوه معهم .
العساكر ظلوا في الشوارع أسبوعا كاملا .
لم يذهب أحد إلى مدرسته أو يخرج من بيته .
عند أذان المغرب نسمع خطوات أحذيتهم الثقيلة تدنو من أبوابنا ، نرقبهم من خلف النوافذ كما نرقب ارتفاع الأذان بالمساجد .
نراهم يمدون أيديهم الخشنة ويدقون الأبواب ويطلبون طعاما يفطرون به .
حين يفتح الأهل الأبواب نخاف منهم ونتوارى بعيدا .
أمي تقول إنهم مساكين يفطرون بعيدا عن أهلهم في هذا الشهر الكريم وليس لهم ذنب .
الواحد منهم عبد المأمور .
الأستاذ محروس ظل معتقلا ستة أِشهر .
بعد خروجه من المعتقل لم نعد نراه كثيرا .
أبي يقول إنه لا يخرج من بيته بعد عودته من عمله إلا لظروف قهرية ، منذ خروجه من المعتقل أصبح في حاله ولا يحب الخروج كثيرا !.
مسعد كل البلد تعرفه .
لم يترك بيتا فيها لم يدخله ولم يطلع على أدق تفاصيله ، دخل بيوتها الطينية الفقيرة ، وسرايا عائلاتها الموسرة .
صور ربيع البلد ورسم صور الطفولة والشقاوة والصبا .
فرحة الغيطان وخريفها .
ثبت لحظات الفرح والانكسار بلقطات لا تموت ، وحفظ على جدران البيوت صور العرس والأفراح مع صور الزعيم وصور الذين رحلوا .
صورة الجد في زاوية وصورة الأب في زاوية أخرى .
صور الشهداء وصور الذين غابوا ولم يعودوا !.
صور مازالت تضحك وتتحدى الموت والزمن !.
منهم من علق بذاكرته ولم تمسحه الأيام والليالي ، وآخرون مروا أمامه كأطياف .
لكنهم لم يعرفوا عنه شيئا مما أشيع عن جودة البقال أو مما فعله حسني المكوجي .
ولم يحكِّ أحد عنه أي حكاية من هذه الحكايات .
لا يوجد إلا أقاربنا ! .
عندما تأتي سيرته تراهم يتغامزون ويكتمون ضحكات خبيثة عن عيوننا ، كأننا لا نفهم ما يقصدونه وما يرمون إليه .



12

خالي جمال لم أره إلا مرة واحدة في حياتي .
أمي تقول إنه كان يزورنا باستمرار، لا يترك أجازة أو مناسبة إلا زارنا فيها .
الآن لا يعرف أن يرفع سماعة التليفون ليسأل عن أخبارنا !.
آخر مرة زارنا كانت يوم ولادتك ، ساعتها كان هو وأبوك يجلسان أمام التليفزيون .
السادات كان في تل أبيب ويخطب في الكنيست الإسرائيلي .
الناس تركوا مصالحهم و التفوا حول شاشات التلفزيون وجلسوا يتتبعونه باندهاش .
لم يكن أحد ساعتها يصدق إن السادات سيذهب إلى هناك ، حتى إن ذهب إليهم ، هل سينسى اليهود إنه أذاقهم مرارة الهزيمة لأول مرة .
كانوا يسألون فيما بينهم عما يمكن أن يحدث إن اغتالوه هناك ؟.
خالك ضرب كفا بكف وقال لأبيك :
ـ الرجل أتجن
مازالوا في أرضنا ..
ويتكلم عن السلام .
أبوك قال :
- السادات على استعداد أن يفعل ما لا يتخيله
أحد ليبقى خالدا في كتب التاريخ .
خالك هز رأسه بضيق وابتسم هازئا ولم يتكلم .
قلت لهما أن يبعدا نفسهما عن السياسة وكفاية ما حدث لمحمد من السياسة .
بعدها أحسست بالألم يعتصر أحشائي ، حملوني إلى المستشفى وهناك جئت أنت إلى الدنيا .
فرح بك كثيرا ، خاصة بعد أن أسماك أبوك على اسمه .
قال إنك تشبه جدك الله يرحمه .
قضى الليلة عندنا وقبل أن يمشى أخرج ورقة بعشرين جنيها وأعطاها لك ، ساعتها كان راتب أبيك خمسين جنيها في الشهر !.
سكتت أمي للحظات ثم قالت إن العشرين جنيها لا تساوى شيئا مما أنفقه جدك عليهم وخصوصا ما صرفه على جمال .
مصاريف الكلية الحربية كانت كبيرة ، لكن جدك أصر أن يدخله الحربية مهما كان الثمن ، ليصبح ضابطا في الجيش كما كان يتمنى المرحوم أخوه .
باع الفدانين الذي كان يملكهما من أجل تعليمه ، أخذ معه الشيخ رفاعي ونزلا إلى مصر ليقدما له الأوراق ، رفاعي كان شيخا في الأزهر ويعرف ناسا كبيرة في مصر ، توسطوا لخالك وأدخلوه الكلية الحربية .
لكنهم ينسون فضل الشيخ عبد الوهاب عليهم ! .
يغضب أبى كلما سمع أمي تردد هذا الكلام ويزعق فيها :
ـ تريدينهم أن ينفقوا علينا ؟!!!
المرة الوحيدة التي رأيته فيها أتذكرها جيدا .
حينها رن جرس الهاتف رنينا طويلا .
أسرع والدي ورفع السماعة وسمعناه يقول :
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .
ارتدت أمي ثيابا سوداء وشدت طرحتها على رأسها وأنَّتْ أنينا حارقا .
ارتديت ملابسي الجديدة وصحبت أبي وأمي وتركنا أخوتي وحدهم بالبيت ، وركبنا القطارمن بلدتنا إلى القاهرة .
أبي قال إن زوج خالتي نجاة مات .
كانوا في أجازتهم السنوية وعائدين لتوهم من الإسكندرية بعد أن قضوا أسبوعا هناك ، ما أن دخلوا إلى شقتهم حتى تذكروا إنهم لم يحضروا شيئا للعشاء ، ابنه أشرف نزل ليشترى شيئا ليأكلوه ، بمجرد أن ركب سيارته اشتعلت فيها النار .
الرجل شاف المنظر من البلكونه لم يحتمل ، صرخ على ابنه وسقط على الأرض ، رغم أن أشرف أطفأ النار ولم يصب بأذى .
الرجل جاءته أزمة قلبية حادة أو جلطة في المخ .
أخذوه إلى مستشفى استثماري كبير .
ظل في العناية المركزة ثلاثة أيام وخرج السر الالهى .
المستشفى أخذت منهم عشرة آلاف جنيها رغم إنه مات !! .
أمي قالت إن الفلوس لم تنفعهم في شيء .

في السرداق الكبير جلست إلى جوار أبي ، أشار والدي ناحية أحدهم وقال :
ـ خالك جمال .
عرفت بعدها إنه ترك الخدمة العسكرية وافتتح شركة أمن خاصة ، أصبح من رجال الأعمال الكبار وعنده الكثير من المصانع والشركات .
أبي يقول إن ابنه الكبير رفض أن يعمل معه أو أن يعمل بشهادته الجامعية ، أخذ قطعة أرض بالنوبارية ويقوم باستصلاحها .
في نهاية اليوم تركنا السرداق وعدنا إلى شقة خالتي نجاة .
خالتي عليّه لم تحضر العزاء ، لكن ابنها إبراهيم حضر هو وأعمامه .
إبراهيم قال إنها لم تعد بصحتها مثل زمان ، لم تعد تستطيع الحركة بسهولة .
أبناء خالتي نجاة أظهروا ضيقا لحضور أعمام إبراهيم معه ، يقولون إنهم لا يحبون أغرابا في بيوتهم .
إبراهيم وأعمامه لم يمكثوا بعد العزاء ولم يذهبوا معنا إلى شقة خالتي نجاة ، عادوا إلى الصعيد في نفس اليوم رغم السفر الطويل الشاق .
والدي همس في أذن أمي وقال :
ـ الحق عليهم ، أردوا أن يشرفوهم أمام الخلق .
ناس لا يعرفون الواجب !
أبناء نجاة خمسة .
الكبير حمادة يعمل في الكويت ، لم يحضر عزاء أبيه ، حين سألنا عنه ، خالتي قالت إنه سافر مع زوجته عند أهلها لقضاء الأجازة هناك .
زوجته أجنبية من بلد اسمها المكسيك ، لم نخبره بوفاة أبيه حتى لا يتعب نفسه ، بلد زوجته بعيدة ومجيئه لن يغير شيئا .
أمي قالت :
ـ يتزوج من واحدة دينها غير ديننا ؟! .
أبي لكزها تحت إبطها بقسوة فسكتت .
أشرف يعمل في شركة بترول بقطر ، كان يجلس هادئا وحزينا ، لا يوجد به أي أثار لحروق رغم إنهم يقولون إن السيارة اشتعلت وهو بداخلها .
حسام وعادل هاجرا إلى أمريكا ويعيشان هناك .
خالتي تقول إن حساما سيحضر غدا في طائرة الساعة الثانية عشر ظهرا .
عادل لن يستطيع الحضور لظروف عمله .
شوكت أصغرهم ، كان يجلس حزينا في ركن وحده ولم يتكلم مع أحد .
أمي تقول إنه الخيبان الذي فيهم ، لم يكمل دراسته في الجامعة .
ـ أبوه فتح له معرض سيارات في قطر!.
سبحان العاطي بلا سبب .
...............................
لم يكونوا يجدون ما يأكلوه !.
خالي جمال سلم علينا باشتياق .
ظل يتحدث معنا عن الأيام الجميلة والبلد التي أفتقد أيامها ولياليها وسألنا عن أخبار الزبد الفلاحي و الفراخ الفيومي والعسل النحل .
أمي قالت غاضبة :
ـ أنت فاكرنا فلاحين قصادك ؟!.
تركنا خالي بعدها وذهب إلى خالتي نجاة ليواسيها .
أمي اقتربت من أبي وقالت له :
ـ كلم جمال يشوف لك وظيفة معه أحسن من
وظيفة الحكومة .
نظر أبي إليها وهمهم بضيق ، سمعته يقول :
ـ في الظروف التي نحن بها ؟؟!!
خالتي نجاة نادت على أبي وقالت إن مسعدا لم يأتِّ ، لا يعرف عمل الواجب .
أبي قال إنه رآه في السرداق أول ما حضرنا .
كان يصحب كاميرته والحامل ، وضعهما في زاوية وشد كرسيا وجلس إلى جوارهما ، لم يره أحد بخلاف والدي .
خالي جمال قال :
ـ مسعد غير طبيعي ..
مكانه الطبيعي مستشفى المجانين
.. بدلا من محمد .
أبي يقول إن مسعدا ربما انصرف لأنه لم يستقبله أحد ويرحب به .
خالي سلم علينا فردا فردا وتركنا وذهب .
لم يبق غيرنا مع خالتي نجاة ، أبي قال لأمي :
ـ هيا بنا .
لكن أمي أصرت على البقاء مع خالتي يومين ، لن تتركها وحدها في مثل هذه الظروف .
أبي صحبني معه وركبنا القطار عائدين إلى بيتنا ومن ساعتها لم أر خالي جمال ثانية .





13

أمي تقول إننا أغراب ! .
هذه ليست بلدنا وليس لنا بها أحد .
جيراننا كلهم عائلة واحدة ، يعيشون بجوار بعضهم البعض ولا يوجد بينهم من يعيش بمفرده وحيدا ، ورغم خلافتهم التي تصل أحيانا إلى عراك وخناقات يتفرج عليها الشارع كله - عادة بسبب الأولاد أو النساء وكلامهن الفارغ ولسانهن الذي لا يترك أحدا في حاله - إلا إنهم عند أي مشكلة ينسون كل شيء ويقفون معا صفا واحدا .
أهلنا وجودهم كعدمهم !.
منذ تزوجت أبيكم ونحن نعيش أغرابا .
كل يوم في بلد .
عشنا في المنصورة عاما ، مدينة كبيرة ، خيرها كثير وأهلها طيبون لكن شتاءها قارص ، يفتت العظم ، والمطر لا ينقطع عنها طوال الشتاء.
جدتكم لأبيكم لم تعتاد على جو بحري ، آلام الروماتيزم اشتدت عليها وأصرت أن تترك البلد .
أبوكم قدم طلبا لنقله وانتقلنا إلى العياط ، بلد ريفي مثل بلدنا ولم نحس يوما إننا أغراب فيها .
أختكم الكبيرة ولدت هناك .
بعد ولادتها بعام ماتت جدتكم ولم تفرح بكم ، كان نفسها في ولد يحمل اسم ابنها !.
ساعة وفاتها عرفنا معنى الغربة وذقنا مرارتها ، أبوكم كان وحيدا و لم يكن يعرف ماذا يفعل .
أهل الخير وقفوا معه لإنهاء الإجراءات واستخراج تصريح الدفن ، ثم قطعنا سفرا طويلا لندفنها في مقابرنا .
بعدها قال أبوكم :
ـ لن نعيش أغرابا بعد اليوم .
أمي قالت إن أباها الشيخ عبد الوهاب كان قد مات هو الآخر وقالت لأبي إنها لن تعيش في الروضة بعد وفاته .
لم يبق لها أحد هناك .
أبوكم قدم طلبا لنقله وعشنا هنا بالقرب من أهلنا في البلد وأهلنا في مصر .
لكنها ليست بلدنا .
أنا وأخوتي نقول إنها بلدنا ولا نعرف بلدا غيرها ، ولدنا وعشنا فيها و الروضة نزورها كالأغراب ،
حتى أهلنا الذين تتحدث عنهم لا نعرفهم ومن الممكن أن نتقابل دون أن يعرف أحدنا الآخر .
أعمامي يعيشون في حلوان .
لا نراهم إلا كل عام أو عامين مرة ، باقي العائلة يعيشون في شبرا وإمبابة والسويس ولا نعرف حتى أسماءهم .
الوحيد الذي يعرفهم أبي .
أحيانا يذهب لزيارتهم عندما يسافر إلى مصر لمصلحة يقضيها أو لعمل كلف به ، أو يزورهم في المناسبات كالأفراح والمآتم .
أبي يقول إن لنا أقارب في أغلب المحافظات ، لكنه لا يعرف عناوينهم .
أمي تقول إن أخوالي جميعا سكنوا هنا أثناء دراستهم ، المسافة بين البلد وهنا كبيرة والمواصلات لم تكن سهلة مثل الآن .
بعد وفاة الشيخ عبد الوهاب استقر مسعد هنا ، عليّه عاشت في الصعيد مع زوجها ، ونجاة كانت مخطوبة لفوزي أفندي ومحمد في الحرب وجمال كان ضابطا صغيرا ومصاريفه على قدر حاجته .
مسعد لم يطع عمه الشيخ عبدالوهاب .
قال إنه أصبح رجلا ويستطيع أن يدبر حاله ويكتسب قوت يومه .
يكفي على عمه أن يتولى شئون أخوته ، ترك المدرسة وسافر ليعمل بمصر .
أشتغل عند مصور يوناني في الحسين اسمه كاللي .
أستوديو صغير لكن المصور كان فنانا يعشق التصوير والرسم ، أحب مسعد وأعتبره مثل ابنه ولم يبخل عليه بشيء .
قضى معه عامين ، شرب فيهما مسعد المهنة على يديه .
بعدها تغيرت الظروف ، قامت الثورة وتبدلت أحوال البلاد .
مسعد سأله عن أسباب قلقه ولماذا بدا حزينا بعدما رحل الملك عن البلاد .
إلى هذه الدرجة كان يحب الملك ؟ ..
أومأ الخواجة برأسه إلى الأرض وقال بأسى :
- المسألة لا تتعلق برحيل الملك
إنما تتعلق بمصر ! .
- وماذا حدث لمصر يا خواجة ؟!
- مصر لا تستحق أن يحكمها العساكر
- لكن عبدالناصر ثائر وزعيم وطني
- يا حبيبي ..
ستذهب الثورة ولن يعود الضباط إلى ثكناتهم .
ولا أحب أن أعيش في بلد يحكمه العساكر !.
باع كاللي الأستوديو وترك مصر وعاد إلى بلاده .
عاد مسعد إلى البلد ولا يملك من الدنيا غير كاميرا شمسية عتيقة ، أبيض وأسود ، أعطاها له صاحب الأستوديو وقال له إنه لا يهم الكاميرا ، لكن المهم من يقف وراءها .
اشتغل بها فترة في الفيوم ، لكن الظروف لم تساعده .
الناس بالفيوم اعتادوا على أستوديو ريفولي لصاحبه الأجريجي ، بخلاف الأستوديهات الجديدة التي اُفْتُتحت على البحر .
الناس في مصر تحب التصوير ، هناك ظروفهم المعيشية أفضل ويقبلون على الحياة بحب .
يريدون أن يحتفظوا بكل لحظة تمر بحياتهم .
أما هنا فلا أحد يذهب إلى الأستوديو إلا إذا كان يحتاج إلى الصور في مصلحة ضرورية ، حتى الأفراح لا يصورها إلا الأغنياء !.
البعض نصح مسعدا أن يذهب إلى سنورس ويفتتح أستوديو هناك .
بلد صغير لكن لا يوجد بها أستوديوهات أو مصورون ومن يحتاج إلى التصوير يذهب إلى استوديوهات الفيوم .
صحب كاميرته وذهب إلى هناك وسكن البيت القديم الذي كان يسكنه أيام الدراسة .
التصوير لم يكن دخله يكفي ليدبر أمور حياته ، اشتغل في عمل الأختام .
أغلب أهل البلد لا يعرفون القراءة والكتابة ويحتاجون إلى الأختام ليقضوا مصالحهم .
التصوير لم يكن مجرد مهنة امتهنها ، كان يتفنن في التقاط الصور ، يظل أكثر من مرة يضبط المسافة بين الوجه والكاميرا ثم يدخل رأسه داخل الغطاء الأسود حتى يرضى عن أحسن وضع ممكن ، يضع ورق الزبدة أمام العدسة لتخرج الصورة رائقة ويأخذ اللقطة .
عند التحميض يعيد رسم الصورة من جديد .
يمسك الصورة الأبيض والأسود ويعيد تشكيلها بألوانه المائية ، يضعها في المحلول الكيميائي ويخرجها ، إذا كانت الصورة باهتة يضيف المزيد من الحبر الأحمر لتتحدد الملامح وتصبح أكثر وضوحا .
تجد دائما أطراف أصابعه تحمل تلك الأصباغ المائية ، البني والأحمر والبنفسجي .
بعد أن ينتهي من التحميض يعلق الصور على حبل داخل الحجرة وأمامها على حبل آخر تجد العفاريت مدلاة ..
أيام جميلة !.
لم يكن يهمه المكسب أو العائد الذي يدره التصوير عليه .
كان يحب عمله إلى درجة الجنون .
يصور الناس لمجرد التصوير .
لا يهمه إن دفعوا حساب الصور أم لا ، حتى كتابة الأختام يقول إنها فنا ..
تنقش الاسم فوق المعدن تماما كما ينقش الفنانون رسوماتهم على النحاس في خان الخليلي .
بعد عامين ربنا كرمه واشترى الحجرة التي كان يعيش فيها وقطعة الأرض التي إلى جوارها .
كانت عبارة عن أرض بور يستخدمها الناس في إلقاء قمامتهم وقاذوراتهم بها ، لكن صاحبها أصر أن يأخذها مسعد ويدفع ثمنها وقتما يريد وكيفما شاء .
نظفها مسعد وكنسها ورشها بالماء المعطر بالريحان وغرس فيها نخلتين وبعض الأزهار ووضع أمامها المنضدة وفوقها الأختام .
إلى جوار المنضدة وضع الكاميرا والحامل وكتب يافطة دوّن عليها ( أستوديو مسعد ) .
نجاة كانت قد تزوجت من فوزي أفندي .
كان مدرسا في مدرسة ابتدائي على قدر حاله وعاشت معه في بيت أبيه ، لم يمر عام على زواجهما إلا وكان الرجل المخبول أبوه تزوج هو الآخر .
الخلافات بين فوزي وأبيه كانت لا تنطفئ إلا لتستعر من جديد ، أبوه طرده من البيت ومعه نجاة ، لم يجدا مكانا يعيشان فيه إلا عند مسعد .
ترك لهما الحجرة التي ينام فيها وبنى كوخا من الخشب بين النخلتين .
بعدها بعام سافر فوزي زوج خالتك إلى ليبيا وأرسل إلى نجاة لتشترى أرضا وتبنى بيتا .
نجاة قالت لمسعد إنها تريد أن تهد الحجرة وتبنى بيتا كبيرا بالطوب الأحمر والأسمنت المسلح .
مسعد لم يكن موافقا ، قال لها :
ـ اشترِّ أرضا وابنِّ لنفسك .
نجاة قالت إنها وحيدة وليس لها أحد في الدنيا غيره .
جمال في مصر ، وعليّه في الصعيد ، ولم يبق لها غيره .
إن اشترت أرضا ستشتريها وسط الزراعات ، البلد ضيقة ، والبيت في الزراعات ستخاف أن تسكن فيه وحدها ، ولا يرضيه أن يتركها تعيش وحدها وزوجها غائب .
ستبنى بيتا كبيرا من دورين أو ثلاثة أدوار، الدور الأول كله له ، شقة كبيرة تنفعه حينما يتزوج ودكان على الشارع يفتحه أستوديو .
قالت إن فوزي أفندي سيرسل له كاميرا ياشكا ياباني بالألوان من ليبيا .
أمي تقول إنها استفردت به وضحكت عليه .
أخوته لم يتكلم منهم أحد ، كل واحد منهم لا يفكر إلا في مصلحته .
حتى عندما سافرت خالتك مع زوجها وعاشت في ليبيا ، أغلقت شقتها وأغلب حجرات البيت وأخذت المفاتيح معها ..
لم تترك له إلا حجرة وحيدة ينام فيها ويضع كأميرته وأشياءه بها .
14

بلدنا أمرها غريب .. !!
لم يمر عام على حكاية حسني المكوجي وزهرة بنت الأستاذ فؤاد والعساكر الذين حاصرونا وحبسونا في البيوت لأيام وأسابيع ، حتى حدث ما حدث .
كانت مغربية نهار صيفي .
الغبار جعل المساء مُضببا والحلوق عطشت وتشققت والشوارع سكنها صهد حار.
رأينا ضابط المباحث الجديد يمتطى جواده ويسير في شوارع البلدة وخلفه عسكريان فوق جواديهما ..
نساء بلدتنا تطلعن إليهم بإعجاب .
العجائز حكين حواديتهن القديمة عن ابن الباشا الذي كان يزور البلد ويركب جواده .
ببندقيته يصطاد الطير الرامح في السماء .
طيور كثيرة يجمعها الخفر ويحملونها إلى السرايا ويلقونها إلى الكلاب ، هكذا يقولون !!
شيوخ البلد ترقبوهم بقلق وقالوا :
ـ اللهم اجعله خيرا .
أبي قال لعم حسين الفكهاني إنه لف بر مصر كله ، لكنه لم ير مثل ما يحدث في بلدنا ، ضباط القسم بظنونها تكية لهم ..
مع أذان العشاء رأينا الخفر يجرون حمارا يركب فوقه شحاتة الحرامي مربوطا من ذراعيه ومن قدميه والعيال خلفهم يصيحون : ( من دا بكرة بقرشين ) .
لم يكن مر أكثر من أسبوع على ضابط المباحث الجديد في بلدنا .
أبو رمضان المخبر قال إن الضابط الجديد أقسم أول يوم دخل إلى القسم فيه ألا تحدث حادثة واحدة في البلد طوال وجوده بها .
هذه البلد تحتاج إلى من يربيها .
بلد صغير لكنه يسبب صداعا في رأس المديرية ، سيرتها وصلت حتى الوزارة في مصر .
الملعون شحاتة أبو شوك لم يبطل داء السرقة ، السرقة في دمه ، المديرية بنت له كشكا أمام القسم ليسترزق منه ، لكن ذيل الكلب لا ينعدل .
أمي تقول إن من به داء لا يبطله .
عم حسين الفكهاني يقول إنه غلبان ، جاء إلى الدنيا يتيما ولو وجد من يهتم به ويراعاه لما مد يديه إلى الحرام .
أبو رمضان المخبر قال إنهم فوجئوا بالمعلم سعد الضاوي يدخل عليهم القسم ويصرخ كالمجنون ..
باع البهيمتين في السوق ووضع القرشين في الدولاب .
في الصباح وجد حاجاته وملابسه ملقاة على الأرض وحجرته مهشمة ، كأن شيطان حملها إلى السماء وألقى بها إلى الأرض ، والفلوس لم يجدها بمكانها.
أمي تقول إن المعلم سعد رجل بطال ، امرأته غلبت معه ، غضبانة عند أبيها منذ يومين وهو بالتأكيد كان في مكان من الأماكن المشبوهة التي يتردد عليها .
ـ كان يشرب هبابا أو عند الغوازي
وإلا كان أحس بالحرامى ..
الضابط الجديد حين علم بالخبر كاد أن يجن .
لم يمر عليه أسبوع في البلد وتحدث مثل هذه الجريمة ؟.
قال إنهم لا يعرفوه ! .
جمع كل حرامية البلد وظل يضرب فيهم .
أقسموا إنهم لم يفعلوها .
قالوا إن ربنا تاب عليهم ووسع في رزقهم ، فلِم يعودون للحرام ؟؟!!
أبي يقول إنهم لم يعودوا في حاجة إلى السرقة .
الفلوس المزورة وتجارة الآثار ملأت البلد ، عمائرهم ارتفعت وأرصدتهم تكدست بالبنوك .
ـ يصرفونها في سوق البهائم ..
وتجارة الأراضي .
.......................
البلد كلها تعرف ، بما فيها المديرية .
أبو رمضان قال إن الصول خميس الأزرق قال إن شحاتة الحرامي هو الذي فعلها .
منذ يومين لم يفتح الكشك ولم يظهر أو يره أحد في البلد كلها .
الضابط الجديد قال :
ـ هاتوه من تحت الأرض .
المخبرون لم يتركوا مكانا لم يبحثوا فيه .
بعد يومين عرفوا إنه يختبئ في وراق العرب عند جماعة من بلدياته .
ضابط المباحث نزل إلى مصر بنفسه مع بعض عساكره ليقبض عليه .
عندما أمسكوا به ظلوا يضربونه حتى اعترف .
الضابط الجديد طلب طرحة وملابس حريمي وأمره أن يلبسها .
وضعوه فوق الحمار .
ربطوه وساروا به ومن حواليه الخفر والعساكر .
الرجال والنساء خرجوا إلى الشوارع يشاهدون شحاتة الحرامي وما يجرى له .
أبي قال إن هذا ( تجريس ) ، لم يحدث منذ عهد المماليك ولا يرضى أحدا !! .
أمي شدتني إلى داخل بيتنا وقالت لأبي :
ـ خلينا في حالنا
لا شأن لنا بالسياسة .
خالي مسعد كان يتناول عشاءه في المطعم وسمع العيال يجرون وراء الحمار ويصيحون :
ـ من دا بكرة بقرشين .
لكنه لم يهتم .
طوال عمره في حاله ولا شأن له بما يحدث حوله ، فلِم يهتم اليوم .
كل ما شغله أن يحضر كاميرته ويصور ما يحدث .
مرزوق أفندي كان واقفا أمام باب المطعم ورأى العيال يلتفون حول شحاتة ، يضربون بأكفهم علب الصفيح ويغنون .
نظر إلى مسعد وقال بلهجة غضب وتوبيخ :
ـ انظر
هل هذا يرضى ربنا ؟!!
مال مسعد برأسه إلى الأرض ولم ينبس بحرف .
الدم غلى في عروق مرزوق أفندي ، زعق في العيال وجرى ناحية الخفر وقال :
ـ اتركوا الرجل ..
ما تفعلوه حرام ولا يقبله عقل أو دين .
الناس لم يصدقوا عيونهم .
مرزوق أفندي موظف على قدر حاله ، وليس لأحد قدرة على مواجهة الحكومة والوقوف في وجهها ، المجنون سيلقي بنفسه إلى التهلكة ولن يستفيد شيئا إلا وجع القلب ! .
مسعد جرى خلف مرزوق أفندي وحاول منعه .
الناس قالوا إن مسعدا لم يكن يهتم بأمر أحد ، ماله ومال مرزوق أفندي .
مرزوق أفندي عائلته كبيرة وسيجد من يقف معه ، أما مسعد فلا أحد له ، سيسبب لنفسه مشاكل هو في غنى عنها ..
الخفر أزاحوا مسعدا ومرزوقا بعيدا وقالوا إنهم ينفذون الأوامر .
مسعد تهاوى على الأرض وسقط .
بصعوبة تحامل على نفسه وأستند على كف أحدهم ونهض واقفا .
قال إن ما يفعلوه بشحاتة طغيان وتجبر ! .
السارق يأخذ عقوبته ، أما ما يحدث أمامه فظلم وافتراء .
الناس بالشارع فتحوا عينا وأغمضوا أخرى مثل بومة تتأهب لاصطياد فريسة ، مصمصوا شفاههم وبلعوا ريقهم في صمت غاضب .
علت بعض الأصوات التي قالت إن مرزوقا ومسعدا معهما حق .
مرزوق أفندي لم يسكت ، هجم على الخفروالعساكر وحاول أن يفك أسر شحاتة من أيديهم وينزله من فوق الحمار .
مسعد حاول أن يبعد مرزوقا أفندي لكنه لم يستطع .
الخفر والعساكرأزاحوهما بعيدا وانهالوا عليهما ضربا .
امرأة صرخت وقالت :
ـ يا ناس يا هووو
ألا يعرف أحدكم المروءة
أنقذوا الرجلين من أيديهم .
ساعتها تقدم رجل أو أكثر لتخليصهما من أيديهم .
في لحظتها تغير كل شيء ، لم يعد باستطاعة أحد أن يميز بين الضارب والمضروب ،
تعالت الهمهمات وهاج الناس وأنزلوا شحاتة من فوق الحمار .
الخفر خافوا وجروا إلى القسم والناس يجرون وراءهم .
عساكر القسم أطلقوا طلقاتهم في الهواء لتفريق الناس لكنهم لم يتفرقوا وظلوا يرشقون القسم بالحجارة ، حتى جاءت العربات المصفحة ورأوا عساكر الأمن المركزي يتحفزون من بعيد وأعادوا احتلال بلدتنا .
الناس فروا إلى بيوتهم .
الشوارع خلت إلا من العساكر والعربات المصفحة والكلاب الضالة .
بعد ليله عاصفة نامت بلدنا .
لكننا صحونا على دقات عنيفة ببابنا .
أمي قامت مذعورة وهى تردد :
ـ اللهم اجعله خيرا
حين فتحت أمي الباب وجدت عساكر كثيرين احتلوا بيتنا ومعهم رجلا يرتدى بذلة سوداء برابطة عنق أنيقة .
وقف وسط صالة بيتنا وقال إنه يريد أبي ليذهب معهم .
أبي قال إنه لم يفعل شيئا !.
طأطأ رأسه وطلب منهم أن يغير ملابسه قبل أن يذهب معهم .
بعدها عرفنا إن مسعدا هو السبب وإنه لا يأتي من ورائه خير أبدا .


15

تركنا الغريب - صاحب البيت - ورحل .
ارتج الباب خلفه صاخبا ثم خيم صمت حزين على المكان كظل ثقيل .
شيء ما أمسك بقلبي وقبض على تلابيبه وجرف الكآبة إلى صدري ، تحررت من قيوده بالتعود على ملامح المكان رغم الرائحة العطنة التي انبعثت دون أن أعلم مصدرها .
أول ما وقعت عليه عيوننا صورة كبيرة داخل برواز مائل فوق الحائط .
الصورة غطاها تراب ناعم تراكم منذ أمد سحيق ، سرى فيها وحولها إلى ركام من رماد وتراب فلم تبن ملامحها ولم نتعرف إلا على بروازها الخشبي الذي ضاع لونه وتآكلت حوافه ، كأن جيوشا من الفئران الصغيرة التي لا نراها - لكننا نحس بها ونسمعها تصيء وهى تقرض أعمارنا في الظلام وحين نبحث عنها لا نجدها ، لكنها تقرض وتقرض دون أن يراها أحد حتى أحالت البرواز القديم إلى مجرد فراغ وسط كومة كبيرة من التراب الناعم .
كان أبى يتطلع إلى التراب الناعم الذى غطى كل شىء ويتفحص الأشباح المختفية هناك خلف البرواز القديم .
بمنديله أزاح التراب الذى يقاوم تلك المحاولة لتحريك ركوده المطمئن .
بدت وجوه كثيرة شاحبة وباهتة .
وجوه ذهب زمنها وولى لكنها تحتفظ بعفويتها ولو داخل برواز قديم .
لم تكن صورة جماعية لحشد من الناس .
كانت مجموعة من صورالبورترية الشخصية ، جمعها أحدهم ووضعها معا داخل برواز واحد .
متفاوتة الأحجام والأشكال .
منها ما هو على شكل قلب أو داخل تلفزيون أو صورة 4×6 ، منها الصغير والكبير أو جزء اقتطع من صورة ليوضع قسرا داخل إطار البرواز .
لابد إن أبي استغرق بعيدا في أفكاره ، عبر درفتين لباب يفصل بين الماضي والحاضر وظل يترجل بين دروبه وحواريه قضاها صامتا دون أن ينبس بحرف .
حين أفاق من شروده مسح بنظراته ملامحهم وأشار ناحية الوجوه وقال :
عليّه قبل أن تتزوج .
لم تكن تشبه تلك التى رأيتها من قبل ، كانت لا تزال طفلة صغيرة ، ملامحها جميلة ولم تكن بها تلك الصلابة التى تطل من عينيها أو التجاعيد التي سكنت وجهها .
نجاة بعد أن سافرت مع زوجها إلى ليبيا .
جدك الشيخ عبد الوهاب
الله يرحمه ، كان يلم العائلة حوله ..
منذ مات ذهب كل الى طريق ..
يقولون إنك تشبهه .
تفحصت صورته جيدا محاولا استعادة ملامحي لمقارنتها بالصورة دون فائدة .
القفطان البلدي ، الطربوش الذي غطى رأسه أوحى بمرور زمن طويل وبعيد .
نظرت إلى أبي وأشرت ناحية الطربوش وقلت :
ـ ألم يكن شيخا ؟؟!!
أبي قال إن الطربوش كان زيا رسيما وجدك كان يلبسه فى زياراته الى مصر .
الشيخ محمود أبو مسعد عم والدتك .
أمك قبل أن تتزوج
كانت في الابتدائية ..
أختك الكبيرة أصبحت تشبه هذه الصورة كثيرا .
رجاء
كانت من جيران مسعد .. كان سيتزوجها لكن الظروف فرقت بينهما .
شعرها كان أسود ناعما أشبه بالحرير .
تبدو مثل حورية ببياضها المورد والمؤلم وملامح الخجل الرقيق ترقص حول شفتيها ، أكاد أسمع صوت أنفاسها الهادئة حولي .
جمال ..
و محمد .
فوزي .
زوج خالتك عليّه.
جدتك .
تطلعت إلى رأسها المشدود بمنديل أسود تحت طرحتها وملامحها التي شاخت .
صورتي عندما كنت أعمل في المنصورة ..
من أين أتى بهذه الصور ؟؟!!
ـ الله يرحمك يا مسعد ..
قالها أبي طويلة وممطوطة ، كأنه يكتشف للمرة الأولى وفاته .
وكأنه تذكر إن الميت المخبول الذى يقولون عنه إنه خالي يستحق الرحمة لأجل هذه الصور التى استرجع بها أياما ولت ولن تعود .
صور بدت ملامح كل من أعرفهم فيها غريبة ، كأني أراهم لأول مرة .
لا أعرف لم شعرت إن مسعدا كان بائسا إلى أقصى مدى ، ارتمى بين أحضان الذكرى والحسرة وتركهما يقرضان في حياته باستسلام ورضا .
جلس أبي فوق السرير الصغير الذى يكفى بالكاد لجسد واحد ، يجرف ما يستطيع من أعماق الماضى الى ذاكرته ..
بعد صمت دام لبرهة تنهد .
جاء صوته مغموسا بالذكرى والشجن وقال :
ـ جدك كان يحبه .
في فوضى تتكوم بطانية رمادية وملاءتان باهتتان وجريدة أو أكثر بأوراق صفراء .
مجلة مصورة وعلبة سجائر فارغة ودمية صغيرة مبتورة الساقين .
جدران الحجرة من الطوب الأحمر الذى أكلته الرطوبة وصنعت به فجوات وكوات أطلت منها أوراق صغيرة مطوية بعناية .
كوات أخرى عميقة غطتها خيوط داكنة لعنكبوت عجوز ارتعب من رؤيتنا .
سحبت ورقة وفتحتها .
ورقة وورقة وورقة .
أوراق كثيرة ، بها أسماء وتواريخ وأرقام وخطوط على شكل رسومات أو مجرد خط قلم .
غالبا ما ستكون الأوراق التى يدون فيها أسماء زبائنه ومواعيدهم وحساباتهم وإن كانت تحمل تواريخا قديمة !.
على الأرض حصير قديم من القش بأصباغ عند حوافه .
فردة حذاء واحدة ، غالبا ستكون الأخرى تحت السرير ..
زجاجة مياه فارغة وأخرى معدنية لم يفتحها أحد وكيس كبير به عده لفافات تفوح منها رائحة نفاذة خانقة .
عندما تقترب من الكيس لتتفحصه ستجد به طعاما تعفن قبل أن يأكله صاحبه وغطته طبقة سوداء هشه .
في الناحية الأخرى من الحجرة منضدة صغيرة فى حجم مكتب حكومى افترش فوقها صفحات جرائد قديمة .
فوقها الصندوق به أجسام معدنية صفراء على شكل أختام صغيرة وإلى جواره أكواب بها بقايا شاى تجمد سطحه .
بجوارهم كتابان أو ثلاثة عن فن التصوير .
ألبوم لطوابع البريد .
عدة دواوين لنزار .
أركب آلاف القطاراتِ ..
وأمتطي فجيعتي ..
وأمتطي غيم سجاراتي
حقيبة واحدةٌ .. أحملها
فيها عناوين حبيباتي ..
من كُن ، بالأمسِ ، حبيباتي ..
يمضي قطاري مسرعاً .. مسرعاً
يمضغُ في طريقه لحم المسافاتِ ..
يفترس الحقول في طريقهِ
يلتهم الأشجار في طريقهِ
يلحس أقدام البحيراتِ ..
يسألني مفتش القطار عن تذكرتي
وموقفي الآتي ..
.. وهل هناك موقف آتي ؟
فنادق العالم لا تعرفني
ولا عناوين حبيباتي ..
*
أنا قطار الحزن ..
لا رصيف لي ..
أقصدهُ .. في كل رحلاتي
أر صفتي جميعها .. هاربةٌ
هاربةٌ .. مني محطاتي ..

لا أعرف لِم زارتني ابتسامة مرة ساخرة وأنا أقلب دواوينه وأتصفحها .
ربما لم أتخيل أن أجد ديوانا أو كتابا فى تلك الحجرة الصغيرة التى أشتم فيها رائحة فئران تصىء وبقايا فضلاتها .
تلك الرائحة التي تتسبب في تلك الحكة بأنفى .
إلى جوار المنضدة الحامل فوقه الكاميرا والغطاء الأسود .
المنضدة الصغيرة بدرج واحد كبير به أختام صنعها للشيوخ وللعجائز ليقبضوا معاشاتهم من التأمينات .
أسفل المنضدة مجموعة كبيرة من عفاريت الصور التى تحتاج الى ألوان مائية وفرشات لتصبغ ملامح أصحابها الذين أعرفهم أو لا أعرفهم .
آلاف العفاريت والأشباح التى تشبه الأشباح التى تختبئ خلف البرواز القديم المائل فوق الحائط الأحمر الذى أكلته الرطوبة .

16

الأيام لا تريد أن تمر .
لم يعد أحد يزورنا أو يرن هاتفنا ..
ولم نعد نسمع الجديد عن مسعد الذي رحل .
حتى عندما تأتي سيرته ، أسمع أبي وأمي يتحدثان بنفس حكاياتهما القديمة وكأن شيئا لم يحدث ، وكأنهما لا يملان ترديدها من جديد .
بعد أن أعود مع أبى من صلاة الجمعة ، أجلس وحيدا في حجرتي .
أتأمل الحامل والكاميرا والصندوق وزجاجات المحلول والحبر الأحمر وقد ركنوا في جانب من الحجرة .
أتأمل الأشباح التي لصقتها على الجدران .
تبدو وجوهها سوداء وشعرها أبيض ! .
غطت جدارا كاملا وجزءا من باقي الجدران .
نفس الملامح التي تتشابه .
الأصباغ التي مسحها الزمن ولم يبق منها شيئا .
بين حين وآخر أخرج لمراقبة أخوتي وهم يلعبون الكوتشينة أو يشاهدون التليفزيون .
أبي وهو يعيد قراءة الجرائد القديمة .
أمي وهي تنشغل كعادتها في إعداد الطعام وترتيب البيت .
أجد نفسي وحيدا .
لا شيء يؤنسني إلا تلك الأشباح التي تتجاهلني .
تلك النظرة المحايدة فى عينيها التي لا تتغير برغم مرور الأيام .
الشيخ عبد الوهاب .
أبي وأمي .
خالتي نجاة .
خالتي علية .
محمد ، جمال ..
الحج محمود أبو جمال .
فوزي
رجاء ..
مسعد الله يرحمه ..
جدتي !.
أتذكر جدتي .
ونسها الدفيء وحكاياتها القديمة عن الأرواح التي تتذكر أهلها وتعود بين حين وأخر لتطمئن عليهم فى شكل عصفور أخضر أو طائر أزرق صغير .
أرقب العصفور الأخضر الصغير بجناحيه الزرقاوين يقترب من بعيد .
يرف ويحلق أمام زجاج نافذتي .
أراه ينظر لي .
يتطلع إلى الأشباح الملصقة فوق الجدار .
يرنو إلى الكاميرا والحامل والصندوق .
أظنه يحاول الدخول إلى الحجرة ، فيمنعه زجاج نافذتي .
يعود ويكرر المحاولة ..
يكرر المحاولة مرات ومرات ولا يمل .
أهم بفتح نافذتي ، لكنه يطير بعيدا حتى يغيب عن عيني بين الغمامات .
وتمر أيام طويلة قبل أن يعود .

ليست هناك تعليقات: