2008/10/02

عراء


عراء

أحمد طوسون

إظلام تام
يبدو طبيعيا أن تغيب شمس أو يحتجب قمر وتتوارى نجوم ، لكن أن تتفق الشمس والقمر والنجوم مع عامل الكهرباء ومولدات الطاقة وكل وسائل الإنارة البدائية والحديثة فمن المؤكد أن هناك شيئا متعمدا.
لن يكون ذلك لمجرد حرمانك من متابعة مسلسل أو برنامج فضائي أو مباراة كرة أو حتى قراءة كتاب مصادر بأوامر أمنية.
وكونك تتخيل نفسك ميتا ، ترزح ـ فوقك طبقة طولها متر ونصف وسمكها متر ونصف أو أكثر من القشرة الأرضية .
بحر عميق من التراب الناعم يفقدك الإحساس بالجاذبية والوزن ويتخلل مسامك الصغيرة فتفقد الشعور بالحكة التي تلازمك حين تعرضك للأتربة .
بالطبع لن يمكنك أخذ نفس عميق يساعدك على ترتيب أفكارك أو إعطائك فرصة لتدخين سيجارة .
من الممكن الآن أن يكون فوق سطح القشرة الأرضية مقعد صغير !
شيخ وأبنه يثرثران عن أشياء غبية .
بجوار هما يضحك بسخرية وهو ممسك بعقارب ساعته .
يريانه أو لا يريانه
لكنه يكسو ملامحهما بسخريته .
أو ربما كان هناك أولاد وبنات يضحكون ويلعبون الحجلة والمساكة .. أو طريق إسفلتي سريع وعربات كثيرة وسائق أهوج يدهس شيخا ضريرا .
نجيل أخضر وأزهار زاهية وسط غابة من الأشجار المورقة ، وولد وبنت يمارسان الحب بعيدا عن عيون الناس وأفكارهم التقليدية .
أو ربما كان مكانا مهجورا وكلب أجرب يبول فوق رأسك .
فرضا لو كنت حقا ميتا
كن حذرا .
الملكان بجوارك عن اليمين وعن الشمال يستعدان لبدء تحقيق فوري عن أفعالك الجسيمة التي تكدر الأمن العام .
يمكنك للتأقلم مع الوضع تشبيهيهما بشرطيين مكلفين باستجوابك ، لذلك سيبدو طبيعيا استخدام بعض الوسائل التقليدية لدفعك إلى الاعتراف ، مع ملاحظة أنك داخل كتلة مسمطة من القشرة الأرضية .
صمت ثقيل مفزع يدق رأسك .
من الممكن أن تكون هناك كائنات دقيقة تسمح لها طبيعتها غير البشرية باختراق تلك الكتلة المسمطة والعبث في جسدك المتلاشي .
لا تفكر في مقاومة كتلة مسمطة ترزح فوق جسدك وتحبس خلاياك المتجمدة داخل بحر عميق من التراب الناعم ، نقيض الفراغ .
لا تحاول استكشاف الكائنات المغرقة في الظلمة التي تتعايش داخل كتلة مسمطة ، فمع افتراض موتك وتوقف الحواس الخمس عن العمل بشكل دائم يصبح ضربا من المستحيل تلك المحاولات الفاشلة .
فقط عندما تستعيد صورة الموت وهو يلقى بجسده الشائه البشع فوق جسدك في محاولة اغتصاب مصحوب بعنف .
اغتصاب مشفوع بحماية قانونية .
صمت ثقيل مفزع .
وكل الذين يمارسون حياتهم فوق قشرة أرضية طولها متر ونصف وسمكها متر ونصف أو أكثر لا يفكرون بك لحظة .
جسد شائه
وآخر ممسك بعقارب ساعته ويضحك ساخرا
فقط ذلك الفزع الارتجالي الذي أصاب كائناتك الداخلية كان كفيلا بإحداث ثورة وانفجار بركاني قذف بجسدك وسط مجموعة من الحمم الباردة التعسة لتسقط .
ثورة بيضاء لان ضحيتها الوحيدة أنت ، الساقط من فوهة بركان .
تسقط ...
كأن تم قذفك من كوكب آخر .
إحساسك بانهيار العالم فوق رأسك .
عالم يتشكل من أجسام معدنية تشبه الكراسي ، تتكوم فوق جسدك بعد سقوطها الرهيب .
ورغم الظلام التام تتحسس تلك الأجسام المعدنية الباردة وتحس تلك الكراهية التي تنسجها كائناتها وخيوطها حولك .. تشم رائحة الفراغ بتفاؤل لا مبرر له ،
ورغم تعثراتك الكثيرة ـ في المحتويات الصلبة التي تجهلها .. بوجه ما شعرت بكراهيتها لك ـ بحثا عن مفتاح كهرباء أو نافذة يتسرب منها شعاع العالم ..
لم يراودك شك في نجاتك من مجهول مفزع .
إظلام تام
لكن حين وقعت يداك مصادفة على مفتاح الكهرباء ـ لاحظ إنه في هذه اللحظة نقضت الشمس اتفاقيتها المبرمة مع عامل الكهرباء ولم يعترض أحد ، سطعت في عينيك لمبة النيون بوهجها الذي أصابك بعماء لحظي ، أفقت على هذا الكم الهائل من الكراسي التي تكومت في وسط قاعة عرض مسرحي .
من المؤكد إنك كنت هناك تحت هذا الكم من الكراسي المعدنية وتلك الجدران العالية تلف القاعة .. عالية بصورة جعلتك تعجز عن الوصول إلى منتهاها .
لم يكن هناك غيرك بين كل هذه الأجسام المعدنية الباردة التي ألقاها أحدهم مرة واحدة فوق رأسك .
كان باستطاعتك أخذ نفس عميق قادر على ترتيب أفكارك المربكة والتساؤل عن سبب منطقي لازدراء الكتلة المسمطة لك رغم عدم إبداء أي مقاومة أو امتعاض وإلقاءك وحيدا في هذا العراء القاحل .

ليست هناك تعليقات: