2008/10/30

تنوع الأساليب السردية وإنتاج الدلالة- دراسة في ثلاثة نماذج قصصية

تنوع الأساليب السردية وإنتاج الدلالة
دراسة في ثلاثة نماذج قصصية
بقلم : محمد مصطفى حسانين

تحاول هذه الدراسة الاقتراب من ثلاثة نماذج للسرد القصصي، ورصد الآليات السردية المكونة لسمت الكتابة في كل منها، وما تتمايز به كل كتابة عن غيرها، في سعيها نحو إنتاج دلالتها النصية، وذلك عبر استكشاف الأسلوب السردي الذي يمثل منزعًا مسيطرًا وقارًا، تنتهجه كل مجموعة، وذلك من خلال فرز الطرائق السردية الخاصة وأنماط الدلالات المتولدة بسبب من تقاطعها مع هذه الطرائق، ومن ثم سوف يكون المعول الأساسي قائم على استنطاق الأبنية السردية والدلالية المصاحبة، في كل مجموعة على حدا، تأكيدًا منذ البداية على ضروب التمايز من جانب، وسعيًا إلى ترسيخ استقلالية كل نص، وحفظًا ما لكل مجموعة من بنية خاصة من جانب آخر.
مجموعة " شتاء قارس" لأحمد طوسون
إن مجموعة أحمد طوسون المُعنّونة بـ"شتاء قارس " تبرهنُ على منـزعٍ أسلوبيّ في السّرد القصصيّ يميلُ إلى التنوع في سيره نحو تشكيل الدّلالة النَّصية، حيث تؤكدُ المجموعة عبر تنوع طرائق صياغة قصصها، وتعدد آليات تشكيلها، عن وعيٍ قصديٍ بتغايرِ الأساليب السَّرديّة، ومن ثمّ اجتراح حالة تجريب لاستراتجيات منوعة، يتم استثمار معطياتها، بغيةَ رسم البناء الدلالي سواء على مستوى كل قصة، باعتبارها تمثلُ نصًا مكتملاً في ذاته، أو على مستوى البنية الكلية العامة للمجموعة، والتي يتعاضد داخل إطارها الكلي هذا التعدد، من خلال خيط الدلالة الناظم للمجموع.
فعبر تنوع الطرائق السردية المنتقاة لتشكيل معالم القصّ ينهضُ مسارٌ عام يمنع المجموع من التشتت ويحفظ له قدرًا من الاتزان بين مقتضيات السرد لكل قصة وحاجة المجموع إلى التّضام في بناء دلالي يخطه التعدد ولا يلغيه في أغلب قصص المجموعة، حيث تجد القصص في تعددها مسوغات كونها داخل فضاءٍ كلي له هيمنته التي يمارسها على التعدد وإن بدا في البداية عصيًّا على التراسل الدلالي.
ويصلح عنوان المجموعة الدّال في هذا السّياق، في تأكيد مسار عام تسير فيه المجموعة، والذي يحمل في أعطافه إيحاءات تكرّسُ على دلالة طقوس الشتاء القارس وما تكتنفه من حالات السأم والوحدة والانفصال، وحيث أجواء الانكفاء على الذات ومشاعر الألم والضجر من الحياة حين تبدو باردة تمامًا، خالية من التجدد والديمومة والنمو، وكأنها يبست وصارت كرةً من الجليد لا يزيد الزمن إلا حجم مأساتها.
ولا تحبط المجموعة هذه الدلالات المستمدة من أطياف المعاني الدائرة حول العنوان، فهذه الدلالات أيضًا يكرسها ويشدد عليها التصدير التالي لإهداء المجموعة، والذي يمثل مقتبسًا من أشعار (بودلير)، والذي يقول " أيها الألم !آه أيها الألم! إن الزمن ليعتصر الحياة، إنه العدو المجهول الذي يلتهم القلب، القلب الذي يعود لينمو وينتعش من الدماء التي نزفت فيه "
[1]
إن التصدير يرشح لنا البؤرة الدلالية العامة، ويستبق افتراضات التأويل التي يمكن أن تنهض أو تنشط، ويرَشّدها لحساب مسار خاص دون أن يحدَّ في اللَّحظة نفسها من احتمالات التعدد أيضًا داخل هذا الإطار. ومن هنا يبدو – أي التصدير - محملاً بكم هائل من المعاناة والقلق من الحياة ممزوج بخوف كبير من الزمن ولحظاته المجهولة، التي تتسارع نحو نهاية دامية ومصير مغرق في وحشته المفرطة.
وتأتي قصة " شتاء قارس " والتي تستمد منها المجموعة تسميتها لترسم لنا هيئة خاصة للعزلة وأجواء الوحدة والانزواء، ويتم ترسيخ دلالة الموت البطيء وتَقلّص فرص الحياة مع تقلص أسبابها تدريجيًا، فتبدأ ملامح المصير العاجل أو الآجل في دق أجراسها بخطى وئيدة في تدرج يسير حاضنًا بين أضلاعه كسور زمن ولي، لم يبق منه غير أطياف شديدة الألم، وزمن آخر يهجم بقسوة وفي أعطافه ما أشد ألمًا.
ومن ثم تُكوّن القصّة صورة سيدة عجوز قابعة دومًا على كرسيها الخيزران في صقيع الشتاء بين أركان شرفتها، تتابع الحياة في صمت، مُغْفلة ردَّ التَّحية، مكتفية بنظرة دافئة، مع أن الشّارع يعجُّ حولها بحركة الصّغار والمارة وهي على حال ثابت.
" من بيوتنا أعتدنا رؤيتها قبل أن تفصلها عنا العمارات الجديدة، تجلس فوق كرسيها
الخيزران في جلباب بيتي وتلف رأسها بشال أسود ينتهي بشراشيب صغيرة، في الشارع نرى أزهار حديقتنا تتفتح ونراها على كرسيها تتابع لعبنا بعيون دافئة "
[2]
حالة النمو والحركة والتجدد التي تنتشر في المكان تجد مضادها لدى هذه السيدة، تفتّح الزهور وحركة الأطفال يواكبها أجواء دالة على الذّبول والجفاف والموت، في مشهد دوري يعاد تمثيله يوميًا دونما اختلاف أو تغيير، بعد أن تقطّعت بها أسبابها للحياة بوفاة الزوج الممعن في تسلطه في حياته، من خلال منعها من الخروج، ولم يبق إلا أبنتها الوحيدة التي تمثل زيارتها كل جمعة حدثًا يقطع صيرورة الأشياء وطقوس يومها المعتاد، غير أن هذا الحدث غير المعتاد يزول مع سفر الابنة، ولا يبق منه سوى انتظار الخطابات التي يحملها "البوسطجي" كل شهر، ثم تنقطع الخطابات معلنة وفاة الابنة، ومن ثم غياب أحد أسبابها للحياة وما يكسر نمطيتها المعتادة، ومع خشخشة التروس وتزييق الرافعات والجرفات ملتهمة أحواض الزهور التي طالما استمدت منها آخر أسبابها للحياة تنسرب حياة هذه السيدة .
وإذا كان إنتاج الدلالة في القصة السابقة تشكل عبر بنية سردية تقوم على نحو من التدرج والتسلسل المتتابع، الأشبه بأنماط السرد المعتادة غالبًا، فإن بعض قصص المجموعة تتخذ وضعيات مختلفة في إنتاج دلالتها، هذا التسلسل المتسارع للموت في تعاقب الغياب التدريجي لأسباب الحياة، والذي يُؤمن تفهم حيثياته السياق العام للسرد الذي يشير إلى مفردات محددة مكانيًا وزمنيًا في القصة السابقة، يقابله نزوع سردي إلى تغييب الإطار الكلي المؤمن منذ البداية تفهم العالم الذي تدور فيه الوقائع.
قراءة القصة المعنونة بـ" اسم" يرهص عن تغييب لإطار ثابت أو محدد يمكن الولوج من خلاله مباشرة للدلالة النصية، ثمة رهان على التلقي وفك الشفرات ومحاولة ردم الفجوات الناقصة فيما يقال، وتنشيط لمقدرة الأسئلة التي يستفزنا على طرحها غياب عناصر نتصور وجودها.
تبدأ القصة على هذا النحو:
" انتهى كل شيء وعدنا، عرف كل منا مكانه وجلس، آخر من جاء حمل أوراق الأسماء، أعطى كلا منا ورقته وجلس، لم تشغلنا الأوراق، ظلت أمامنا مطوية وبقيت معه ورقتان مطويتان على اسمين.
نظر إلينا وقال: تبقى ورقة لم يأخذها أحد
تسحبت الوجوه تبحث عن جواب، تسمرت عند كرسي خال لم يأت صاحبه، قال :هل يعرفه أحد؟"
[3]
بهذه الطريقة تبدأ القصة وتمتد، لتشير إلى غياب أحد الأشخاص، دونما معرفة للآخرين عنه شيئًا بل يستغربون بداية ويشكون في وجوده بينهم، ومع تناقص عددهم تدرجيًا من ثمانية إلى أربعة واحد تلو الآخر، تظل علامات التعجب مرسومة فوق الوجوه.
وعلى هذا النحو تُغَيّيب القصة عنا الكثير من الركائز التي تمثل أطارًا لفهم عالمها، وتنشط الأسئلة حول الفجوات الناقصة، فالنص السردي قام بعملية أشبه بالتعتيم على الأمور التالية:
- الإطار العام الذي يضم هذه الأشخاص سواء على مستوى المكان المشترك، أو الحيثية التي تكفل تجمعهم.
- هوية الأوراق وهوية الممسك بها مناديًا على الغائب وهوية الغائب.
- تبريرات سبب الغياب وجهل الحضور بالغائب.
هذه الأسئلة وغيرها يطرحها النص، والتي تمثل تغييب لما هو مفترض من جانبنا نحن القراء، لكنها وإن كانت تخلق عائقًا في القراءة فإنها كذلك تنشط فعل التأويل، فعلينا دومًا ألا نستسلم لغياب بعض العناصر، فردم الفجوات يشدد على تلقي النص من خلال أبعاد رمزية تتجاوب من خلالها القصة مع البنية الدلالية المهيمنة على المجموعة، حيث التشديد على طقوس الوحدة التي يعانيها الفرد في إطار المجموع، وتحوله إلى مجرد اسم مفرّغ من المعنى، منتظرًا غده ومصيره بشيء من الترقب والقلق والحذر.
وقريب من آلية التغييب لبعض أركان الحدث التي وجدناها في القصة السابقة، ما نلاحظه أيضًا في قصة " نصف قلب فضي " والتي تسرد وضعية العلاقة بين رجل وامرأة تباعدا أو افترقا ثم تلاقيا واقتربا، لكن القصة تتجاهل منذ البداية أسباب الافتراق وتؤكد على عدم معرفة الأسباب.
- " حين رآها قادمة من بعيد أشعل سيجارة، لم يتذكر سبب افتراقهما في المرة الأولى رغم محاولاته، عام كامل عاشه بعيدًا "
[4]
- " حاول تلمس رائحتها في البقايا الصغيرة، استعاد كل الذكريات عدا سبب افتراقهما في المرة الأولى "
[5]
لكن ما يلبث الصمت عن أسباب الافتراق أن يتحول إلى بوح بطريقة غير مباشرة، فينبثق الحوار ليقوم بدور في كشف المستور من الضمائر وما هو مخبئ فيها، فمع نهاية القصة تظهر حالة عدم الثقة التي يخفيها العاشق المفترض.
" ..قطعت صمتها الذي امتد وقالت :
- لازم نصل إلى حل
صمت لحظة وقال :
- حتى لو كان بينكما شيء ..
- سأغفره لك "
[6]
ومن آلية تغييب بعض العناصر السردية وإنشاء الفجوات المنشطة للقراءة، والتي تسهم في تشكيل النص وإنتاج دلالاته، تنقلنا قصص أحمد طوسون إلى آلية أخرى تقوم على إنشاء نص يقوم على علاقة تواصل وتآزر بين بنية أشبه بالمتن وهامش يحوّم حولها، يكملها ويسد ما غاب من تفاصيلها، عاقدًا خطوطًا من التراسل من شأنها إضاءة النص.
في قصة " ثقب " تنتج دلالات الغربة والسفر الخائب بحثًا عن الثروة والأحلام الجميلة، وما يواكبها من فشل الرحلة إلى أرض الزيت والنفط، من خلال بناء سردي مغاير لما سبق من أبنية سردية.
يتكون البناء السري من عدة مفاصل تقوم تشكل ملامحه، فتبدأ القصة بمقطع وصفي منفصل يمثل تقديمًا سرديًا يقوم به المؤلف الضمني المفترض للنص، ومن ثم يقوم في هذا الصدد بوظيفة استباقية
[7] تحمل في طياتها معنى النبوءة، لكنها نبوءة سلبية تحذر من حلول اللعنة مع طغيان بقع الزيت، وجفاف أوراق الشجر، ويلي التقديم متن سردي يرصد حركة معاكسة ترهص بالاستقرار والسعادة مع ظهور السفينة التي تحمل صنوف الكساء والطعام آملة في مرفأ دافئ يقترب.
ويعقب المتن الأول متن آخر تتشكل ملامحه عبر رصده لوضعية تالية ترسو فيها السفينة على شاطئها المنتظر، ومع هذه الوضعية تتجاور الصور السردية وتتجاوب أصداء كل منها، في تعدد يشير إلى مفردات واقع متناثر، فنجد صورة السمان العائد والذي يعادل رمزيًّا صورة العائد من السفر، يسقط على رمال الشاطئ تنهشه الغربان، ثم صورة الطفل مختبئًا بين الصخور في جلبابه القصير، ثم صورة الأعرابي الطيب وقد دأب على التسول خالقًا الأكاذيب لتبرير أفعاله، فنراه مستجديًا طعامه ونفقات علاج ابنته المريضة، على الرغم من عدم وجود أبناء له، وفي هذه الأجواء تتولد صورة السماء المغطاة بدخان كثيف له سخونته في الحلوق.
و يجمع تشتت هذه العناصر دلالتها على الخيبة والفشل وضياع الحلم، ومن هنا يأتي الملحق السردي والهامش، ليعبران معًا عن نهاية حلم السفر بضياع السفينة، واستيلاء القراصنة عليها وغرقها، وموت الطفل محترقًا تحت وطأة لواهب السفر والزيت.على هذا النحو من التراتب المتتابع للمفاصل السردية القائمة على التوازي والتداخل والتقاطع تمت عملية البناء السردي وطريقته في تشكيل الدلالة النصية.
وإلى جوار الأساليب السابقة في تشكيل البناء السردي يمكن أن نشير سريعًا إلى أسلوبين آخرين، أولها أسلوب السرد عبر كتابة اليوميات، حيث يتم تتبع الحدث المركزي المسيطر على البؤرة السردية من خلال تقطيع جوانبه المتعددة على عدد من المقاطع السرية تمثل عدد من الأيام المتوالية، في قصة " نشرة أخبار التاسعة " يتم التعامل مع ما تبثه وسائل الدعاية والتلفزيون خاصة على اعتباره بالونات فارغة تنفجر هنا وهناك، ومن خلال أسلوب اليوميات تتبع القصة نبأ أحد الحوادث وتسلط عليه الضوء، بطريقة تباطنها السخرية .
أما الأسلوب الآخر فهو أسلوب النصوص القصصية بالغة القصر، والتي يجمعها خيط دلالي عام يخترق المجموع، فالنصوص وإن كانت تقوم على التجاور كما يظهر في " نصوص قديمة جدًا" لكنها أيضًا تقوم على التواشج والتداخل عبر صورة الكائن التي تخترق تجلياته وتصوير أناه العميقة كل النصوص بمعنى من المعاني.
مجموعة " عيار طائش " لعصام الزهيري
وإذا كان مسار السّرد في مجموعة " شتاء قارس" يقوم على التنوع الأسلوبي في إنشاء النصوص، فإن مجموعة " عيار طائش"
[8] لعصام الزهيري تخط لنفسها مسارًا خاصًا، يطرح من برنامجه تعدد الأساليب، وملتزمًا في اللحظة نفسها بطريقة تكاد تكون قارة في الحكي، لا تكاد تختلف من قصة لأخرى في الأغلب، فإذا استثنينا نص " حكايات قديمة " المعتمد على نسق النصوص القصصية بالغة القصيرة، فلن نجد سوى مجموعة من النصوص تنحاز إلى طول متوسط لا يمل إلى الطول ولا إلى القصر، هذا على مستوى الفضاء أو الحيز الذي تشغله الكتابة، أما على مستوى البناء الداخلي فتكاد البنية السردية في بعدها الناظم لحركة القصص على قدر من الثبات، وهو ثبات نسبي بطبيعة الحال، فيشدها ميلٌ واضح إلى خلق حدث مركزي يتم التركيز عليه، بحيث يغدو البؤرة المركزية التي تضبط خطى السرد، وغالبًا ما يرتبط الحدث بصناعة شخصية سردية تمثل مناط القص، ويتقاطع كل من الشخصية والحدث ويتلازمان مكونان معًا البناء القار المسيطر، وإلى جوار هذه الآليات تأتي آليات أخرى متناثرة في كل نص تحفظ له فرادته، مما يجل له سمته الخاص في اختلافه عن غيره.
ويأتي تخير الشخصيات والأحداث متلازمًا مع خط دلالي عام يشدد على التراسل مع الواقع الخارجي وتلمس قضاياه السائدة، التي تمثل هاجسًا ملحا على الجماعة،وهو أمر لا يكاد عصام الزهيري يتخلى عنه في كتابة نصوصه، ومن هذا المنطلق تعالج جُلّ نصوص المجموعة موضوعًا هامًا وظاهرةً اجتماعية ممعنة في قدمها، فظاهرة الثأر بما لها من رصيد ممتد في الوعي الجمعي هي ما يمثل العصب الدلالي الذي يلم توزع المجموعة، ويكسبها بنيتها الخاصة. ويعبر إهداء المجموعة عن هذا المعنى ويؤكد عليه حين يرصد لمن لم يصبه دوره في الثأر،" إلى من لم يقتلوا بعد " وكأن القتل في سيرورة مستمرة، والكل مرصود له لا محالة.
وعنوان المجموعة دالٌ في هذا السياق على مستوى أولي، بإشارته إلى أجواء القتل وأعيرة النار الطائشة، التي لا تصيب أهدافها، وكأنها أسهم سددت إلى هدفٍ أخطأته، على أن العنوان من جهة أخرى يتعامد مع المثل الشعبي السائد الذي يقول " العيار اللي مايصبش يدوش "، تبقى إذن وظيفة أخرى تتولد من عدم الإصابة، فيكتفى منها بما تمثله من قدرة على الإفزاع، وخلق حالة التوتر والقلق المصاحب، فثمة صخب وضوضاء تحدث تكون مرادة في ذاتها لا تقل بحال عن القتل.
ونصوص المجموعة تجري مع هذين المعنيين، وتتوزع النصوص عليهما، لكنها تسير بهما في مسار أبعد، فتستثمر المراد الظاهر لتخط دلالة أعمق، ففكرة الثأر يتم التعامل معها في تجلياتها المتعددة، وتُسردُ الوقائع التي تشير إليها في دلالتها القريبة المباشرة، كما تُسترفدُ ظلالها المجازية في قصصٍ تعبر عنها أيضًا، فتتجاورُ الأعيرةُ النارية القاتلة في حومةٍ ثأرٍ حقيقيّ لا يعرفُ الرَّحمةَ، مع أعيرة مجازية ورمزية طائشة تحمل أيضًا دلالةَ الثأر.
ويمكن ملاحظة أجواء الثأر بدلالته المباشرة في عدد من القصص، مثل (عيار طائش) و( مقتل عبد الله خبيري) و( صداقة هامشية)، حيث تصنع النماذج الواقعة تحت سيطرة فكرة الثأر، مدفوعة إليها، أو كانت واقعة في براثنه وضحية من ضحاياه، لكن القصص ما تلبث أيضًا أن تخلط الجاني بالمجني عليه، وتتداخل صورة القاتل والمقتول، حين يصبح القاتل مقتولاً الآن، فالوجوه تتداخل والأدوار تتبدل، وجه الضحية ووجه الجاني يتداخلان في جسد واحد، وعلى هذا النحو تقع الشخوص تحت أعباء ماضيها وحاضرها، بل كذلك تحت عبء ما صنعته وما لم تصنعه.
وتسطر هذه الدلالات عبر أبنية حكائية وعناصر سردية تتكفل بإنتاج شكل للقص يقود إليها، فالبيئة المكانية المتقاطعة مع أجواء الريف والقرى، التي تجري فيها أغلب الأحداث المسرودة تمثل إطارًا ضامًا للمتخيل السردي يبرره على نحو من الأنحاء.
على أن الآلية السردية المسيطرة على أغلب النصوص، ويتشكل الملفوظ من خلالها، ترتد لعمل الجهة التي يسرد من خلالها الخطاب، والذي يتموقع فيه السارد في الحكي، آخذًا شكل السارد العليم بما يقول، ومعلقًا على الأحداث والشخوص، ويتزامن أو تتداخل هيئته مع صورة المؤلف غير الممثل في الحكي، إنه فقط من رأى ومن سمع ومن يقوم الآن بفعل السرد، لكنه لم يكن طرفًا مشاركًا في الوقائع بل يشاهدها فحسب، لتأمل المقطع التالي من قصة " عيار طائش" :
" سقط خالي علي عبد الفتاح من فوق حماره فزعًا وامتلأت عباءته بالتراب، حدث ذلك خلال إحدى المرات النادرة التي يرى فيها دون صحبة أحد من رجاله، انطخ عليه عيار وطاشت الرصاصة فوق رأسه، في أحوال معينة يمكن التفكير ببساطة في أن الطلقة طائشة, إن الحادث كله غير مقصود وبلا قيمة، ومثل هذا التفكير كان واردًا لو وقع الحادث خارج بلدنا الحافل بإرثه الحي من الثأر والتهلكة، ولو كان الشخص الذي تعرض للحادث شخصًا آخر غير خالي ما نتج عنه بالتأكيد كل ما تلاه من تداعيات دامية"
[9]
الرؤية العيانية للحدث من قبل السارد تؤكد على علمه بما جرى، ويتأكد هذا المعنى أكثر من خلال صلة القرابة الوطيدة التي تربطه بمحور القص، وهنا نبدو في مواجهة مؤلف غير ممثل في سرده، على الرغم من علمه بالحوادث، ومن هذا المنطلق نجده يتدخل بالتعليقات لتوجه دفة السرد نحو مسار خاص، فينفي اعتباطية الحادث من واقع خبرته بقريته، وتاريخ خاله الحافل بالعداوات، ومع امتداد السرد يخبرنا كذلك بأجواء البيت والمشاحنات التي لا تنتهي بين أمه وأخيه الأكبر الناقم دومًا على هذا الخال، وتزداد نقمته عليه بعد أن قتل مجاوره في السوق، بدعوى العيار الطائش، ثم لا يلبث أن يخبرنا بمقتل الخال على يد أخيه، لكنه هذا المرة يتخلى عن إبانة الأمور، مكتفًا بالتعليق غير الحاسم والمنفتح على تعدد احتمالات سبب القتل،" هل أراد خالي أن يكرر الإشارة إلى أخي كما فعل مع الرشيدي، أم أنه أراد أن يكرر ببساطة ما فعله من قبل لينفي عن نفسه التهمة ؟ حتى الآن لا أحد يعرف"
[10]
وإذا كان السارد هنا يصدر عن رؤيته الخاصة للحدث، وعلمه به، فليس ذلك مسلكه دومًا في كل القصص، إذ نراه في قصة " مقتل عبد الله خبيري" في موضع جامع الأخبار، المترصد للأحاديث المتناثرة حول واقعة مقتل عبد الله خبيري، مسكون بالأقوال والآراء المتباينة، ومن ثم تتداخل الأقوال والضمائر الدالة على الحضور أو الغياب وكذلك الأفعال الدالة على الإخبار، ولنا أن نتأملها في الفقرات التالية
[11]:
- "قالوا إنهم وجدوا عبد الله خبيري مقتولاً".
- " أفهمونا أن واحدًا من عائلة الوسية كان قد رآه ليلاً في طريقه إلى زيارة أهله فانتظروه".
- "قالوا إنه ظل واقفًا على قدميه حتى عاجله آخر برصاصة خلف أذنه فوقع، وقال آخرون أنه وقع بعد رصاصتين".
- "بيقولوا اللي قتل عبد الله خد تمن قراريط وعشرة آلاف جنيه".
إن المقتبسات السابقة تبرز اعتماد السارد على الأقوال الشائعة، وميله لتلمس الحكايات المتنوعة، وكأنه يحاول تفعيل ما هو دائر في الحوار الاجتماعي، من خلال محاكاته، وهنا تبدو القصة مشدودة لنمط القرية وعاداتها الاجتماعية التي لا يكف أهلها عن الكلام حول الحوادث، بأقوال مرسلة أحيانًا أو حقيقية، فالكل يحاول أن يلقي برأيه ووجهة نظره، خاصة حين يتعلق الأمر بحادثة ثأر لرجل مثل " عبد الله خبيري" واقع في دوائر الثأر، ومن ثم كان من المنطقي أن تدور الدوائر عليه ويقع في سيرورة الموت،" لم يكن يخفى على أحد أن مقتل عبد الله خبيري ليس إلا ثأرًا لرجل من " الوسية" قتل بدوره ثأرًا منذ خمسة وعشرين عامًا، وقاتله الذي حوكم وسجن بعدها كان عبد الله خبيري نفسه"
[12]، على هذا النحو يبدو عبد الله خبيري نموذجًا معبرًا عن الشخصية التي تقوم بتصفية ثأرها دون مقاومة أو ابتعاد، وهو نفس الأمر الذي نجد عليه " عبد الغني" محور قصة " صداقة هامشية" الذي يقع فريسة الثأر ولكن بوضيعة أخرى، تبدو فيه الشخصية منقادة إلى التخلص من عبء الثأر، على حساب كل القيم والمبادئ والأعراف، فصداقة " عبد الغني" من " ضياء" التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس، وضرب بها المثل، كما حامت حولها الأقاويل، وابتعدت فيها الآراء إلى مدى بعيد، مما جعلها في سمت العلاقة غير السوية، بين رجلين، هذه الصداقة تقدم في النهاية بوصفها عربون صفقة لتخليص عبد الغني من ثأره، فقدم صديقة لمن لهم ثأر لديه، في مقابل إرشاده عن قاتل أبيه، عرض قبله ولم يكن في وسعه أن يرفضه، تحت وطأة الاتهامات الممكنة في حال رفضه، " عرض لم يكن له سبيل سوى عار الاتهام بالجبن لو اضمر رجال النوقية إعلان تفريط عبد الغني في دم أبيه في حال رفضه ما يعرضون"[13]، يمكن التضحية إذن بهذه الصداقة غير المرغوب فيها اجتماعيًا على حساب تقليد سلبي له سلطة تمارس بعنف دورها في ضم أو نبذ الأفراد، ومن ثم نجد القصة تسخر من هذه الوضعية المقلوبة قيميًا، على الأقل بواسطة توصيف علاقة الصداقة المتينة بين الرجلين التي دفعت ثمنًا في آخر الأمر، بأنها مجرد صداقة هامشية لم يرض عنها أحد منذ البداية.
هكذا تبدو أعراف الثأر متحكمة في مصائر البشر، جاعلة من نفسها عرفًا يطمس كل القيم ويلغي أي تأثير لها على السلوك، فإما أن تسيل دماء مقابل دماء حتى تروى مشاعر الغل والكراهية فينال القاتل وضعية القبول الاجتماعي أو يتحلى المرء بالتسامح فيلقى نبذًا وضعة بين الجميع.
وإلى جوار الثأر بدلاته المباشرة على تصفية حسابات الدم، تعالج النصوص تجليًا آخر له يقوم على بعد مجازي، فهناك أشكال لا حصر لها وصور متعددة، تبرز من ثناياها مفاهيم عدم الرضا بالهزيمة، حتى لو كان الأمر مجرد مساجلة كلامية بين شخصين لا يرضى كل منهما بهزيمته أمام حضور يمثلون سلطة الجماعة التي لا بد أن تجعل أحدهما غالبًا والآخر مغلوبًا، إذ لا بد من فائز ومهزوم، ففي قصة " الحشد" ذات العنوان الدال على سلطة الجماعة في تأجيج نار الثأر، يبدأ العراك بين طرفين مع طلقة مغايرة هذه المرة، فليست عيارًا ناريًا بل " طلقة كلامية " يتجمع على أثرها الناس ويتزايدون مع اشتعال الحرب الكلامية، وهنا يتجمع المتظاهرين بالتفريق بين الطرفين " المحجزين" بوصفهم حاجزًا بينهما على الرغم من دورهم إلى جوار الجمهور الآخذ في التكاثر في زيادة وابل السباب والشتائم من كل طرف، محاولاً بكل ما أوتي من جهورية صوت أن يتغلب على خصمه، " أخذت الدوائر تتسع دائرة بعد أخرى بزيادة عدد المشاهدين حتى بدا المتعاركين من بعيد كخطيبين عنيفين يحضان الناس للخروج في مظاهرة تخريبية، بعد وقت قصير أصبح الجمع تجمهرًا يصعب معه تصور الأمر على أنه مجرد حرب كلامية لن تتجاوز هذا الحد، وكان للإحساس بالحشد تأثير مملموس على الغريمين ربما فاق نفس تأثيره على طاغية من هواة الخطب في الميادين"
[14].
على هذا النحو يظل الصراع حاميًا بين الطرفين، كل منهما منتظرًا سقطة للآخر، أو أن يصيبه الإعياء والتعب حتى يجهز عليه، وحين وقع أحدهما في سقطة كلامية استدعت سخرية وضحك الجمهور نال الآخر مراده منه، لذا لم يجد المنهزم سوى الهجوم على المنتصر بالضرب محولة لرد هيبته التي ضاعت، ومن ثم لم يقابل هجومه سوى باعتذار بعد أن نال ما يريد، والاعتذار في النهاية تفضل من الغالب على المغلوب في هذا السياق، إنه القادر الذي ملك العفو وأعطاه لعاجز عن الثأر.
إن تسويةَ الصراع هنا جاءت لحساب طرف كسب المعركة الكلامية، لكن في قصة " الأغراض الفنية " المغايرة في نهجها الداخلي عن بقية نصوص المجموعة، تكون التسوية قائمة على التأويل للحدث الكلامي، وتسويف أي دلالة قاطعة له، لحساب أغراض سلطوية تماطل في حسم الدلالة القطعية، إذا كان فيها ما يؤدي إلى حرب فعلية، فيقتصر الأمر على تلويح بالحرب وتسوية لمنطوق القول.
فالقصةُ تراهنُ على تفعيلِ حدث تاريخيّ تتعامدُ معه، وتمتصُّ محتواه، وتحاول إنتاجه في سياقٍ جديدٍ مواكب لحركة القصِّ وبنية الدلالة السّائدة، وهنا يظلُّ أسلوب القص المسيطر على المجموعة فارضًا سطوته، فصوت المؤلف الذي يكتب نصه لا تغادرنا منذ السطور الأولى، وهو يحكي لنا عن حدث غابر، كأنه منذ البداية يوجه خطابه دون أدنى مواربة لقارئه المفترض، وفي الوقت نفسه يراقب خط السرد وما يشير إليه من دلالة، إذ يحكي لنا مباشرة ودون أي أقنعة، عن الملك السومري "لوجال زجيري" الذي مدحه أحد الشعراء المتكسَّبين بالشِّعر بقصيدةٍ قد باعها إلى ملك سومري آخر يدعى " لوجال شجتجور"، والمفارقة في أن الملك الأخير كان قد ألقاها" ذات صباح ربيعي معتدل الجو وزعم – بين صيحات الإعجاب وتهليل الرعية أنه قد ألفها بنفسه تغزلاً بفاتنة مملكته وزوجته الوفية، ولأنها قصيدة من تأليف الملك فقد دونها الكتاب على مئات الألواح الطينية وغرسوها في أنحاء المملكة"
[15].
لكن هذه المفارقة تتحول إلى لون من السخرية السردية، حين يستمر السارد في ضخ سيل من الحوادث والإجراءات التي تضخم من الواقعة وما ترتب عليها، فما يلبث أن يعلن" شجتجور" الحرب على" زجيري" ما لم يعلن تبرئته من ملكية القصيدة، فيكظم الأخير غيظه مرسلاً وفدًا من الشعراء والحكماء لتَّباحث حول القصيدة، وتستمر المباحثات سنوات، تفرعت فيها الطرق وشملت آلاف الأبحاث في العديد من الفروع المعرفية المختلفة، ثم تقلص الخلاف إلى سؤال عن غرض القصيدة مدح أم غزل، ثم تقلص الأمر إلى بيت واحد، بل إلى كلمة واحدة هل تنطق بالتنوين أم بدونه، هكذا تسطح القضية، ويُسّوفُ الحكم فيها، فلا مبرر لحسم يمكن أن يؤدي إلى معركة. إن القصة على هذا النحو تعبر عن نوع من الثأر يتم تسويته بطريقة هادئة من خلال المداورة والخداع وعمليات التأويل، ودون مواجهة، وكأن لكل فئة اجتماعية طريقتها التي تعتمدها في نيل ما تريده، فالملك الذي هُدد بالحرب، نال ثأره من خلال تقليص فرص الخلاف.
بهذه الطريقة التي تجمع بين التهويل والسخرية والنهاية غير المتوقعة، تشكل القصة مفارقتها القصصية، والتي تأتي إلى جوار العناصر السردية الأخرى مثل إقحام السارد، وتداخلات المؤلف، وحكاية الأقوال الاجتماعية المتعددة إزاء الحدث، وتكريس الواقعة في إطار ريفي في الغالب، كل هذه العناصر وغيرها في قصص المجموعة، تؤكد على التماس والتقاطع مع الواقع الخارجي، ومحاولة تشكيله فنيًا من جديد، في ضوء وضعية ترصده وتسخر منه، بعين مراقب سمح لنفسه بدرجة كبيرة من الاقتراب من نصه، وهو في هالة تلبس مع واقعه.
مجموعة " شد الأوتار" لمحمد سعد أبو الجود
تنشد كتابة محمد سعد أبو الجود في مجموعته " شد الأوتار "
[16] نمطًا مغايرًا للكتابة، محملة بهاجس مسيطر يروم التجريب ومجاوزة التخوم القريبة لسرد قصة قصيرة، فالكتابة نفسها في موضع شك وإعادة فحص، وعناصر القصة القصيرة المتعارف عليها يتم تأملها، بحيث تصبح الكتابة مختبرًا لإعادة النظر، وفعل بحث عن الآليات، التي تمثل عبورًا نحو ضفة منتظرة، ولم يعد في هذا الإطار الاكتفاء بمحاكاة الواقع أو التقاطع أو التوازي مع مفرداته السائدة، بل محاولة الانعطاف على أدوات الكتابة السردية بغية طرح التساؤل حولها، والرجوع إلى العالم من أجل إعادة خلقه بعد تغريب معالمه المتماسكة، ليغدو في هيئة مشوشة المعالم، فلا يرتد النص إلى واقعه إلا عبر شعاع خافت.
فنصوص المجموعة تحاول الفكاك من الأبنية القارة للنوع القصصي، وتتلاعب بأعرافه التي تكتب تحت مظلتها، وهذا التلاعب يتم بالمعني الذي يتجسد فيه النوع بوصفه مجموعة من الطرائق السردية التي لها مقدار ما من الشيوع، من خلال عناصر تم اعتمادها مع تراكم الكتابة فيه، وليس بالمعنى الذي تغدو فيه الكتابة في قطعية تامة مع الأعراف القرائية المُطبِّعة للنص الأدبي
[17]، فما زال هناك وعي ما يشد النص نحو العالم، لكنه وعي مأزوم بهموم الذات والكتابة معًا، يقول: " أطلعكم أيها السادة من هذا الجو الخانق جدًا...حيث انتشار الرطوبة والعفن، وذرات الغبار تتصاعد مخترقة الخياشيم...أنني كنت في طريقي لكتابة قصة. واسمحوا لي أن أدخل في التفاصيل"[18].
يشدد فعل الكتابة من البداية على فعل الحضور لما هو خارج عنها، وكأنها تخلخل أسلوب كتابة سائدة، فيؤكد الناطق على موقعه فيما يكتب، بوصفه من يقوم به دون مواربة، موجه خطابه إلى القارئ دون أقنعة، فهو المؤلف الذي طالما توارى خلف نصه، ولكنه الآن داخل المكتوب، ومصنفًا كتابته داخل جنسها المزمع التلاعب بأعرافه، ليس ذلك فحسب بل ينقل لنا الأجواء المحيطة، حيث انتشار العفن والرطوبة وكل ما يخلق جوًا خانقًا.
وفي إطار هذا الجو الخانق المحمل بكم هائل من الوساوس والشكوك والضيق، تأتي النصوص لتعارض المألوف في الحياة والكتابة، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، ومن ثم تتعدد الوسائل التي تسير ضد نمط السرد المتعارف، وتسخر من عناصره، بطريقة تضخم من شأن آليات ليست هي مركز السرد، لتصبح ضمن فاعليته الدلالية وتستحوذ على قدر كبير من هيئته التعبيرية، فمن خلال اعتماد السرد على وسائل متعددة يتم تدشين نمط مخالف من الكتابة، وهذه الوسائل تتمثل في الإطناب وعمليات التكرار المفرط للصيغ والمفردات، أو تحول الكتابة إلى محض كتابة وصفية يغيب عنها الحدث، أو تتكون على هيئة انطباع، أو استدعاء تقوم به الذاكرة من ماضٍ قريب أو بعيد، أو تتماس الكتابة مع الأسطورة وتتقاطع مع أحداثها منتِجَةً بواسطتها دلالةً مغايرة، أو تُعرِّجُ على الخرافة آخذةً منها غرابتها وغموضها، أو من سرود الحياة الشَّعبية أو اليوميّة دلالتها على الراهن والمعاش، كذلك نجدُ الاعتماد أحيانًا على تشغيلِ نمط الكتابة غير الأدبية، فيبدو النَّص في صورة نعيٍ في أحدى الجرائد.
تأتي كل هذه الوسائل داخل بناء سردي يراهن على الكتابة الممعنة في كثافتها، من خلال تركيز اللغة والاقتصاد في القول، ومن ثم يغدو النص السردي باعتماده على الأبنية القصيرة للقص آخذًا صورة المقاطع المرقمة في إطار فاعليات تقوم على التداخل والتعادل بين ما يشير إليه كل مقطع والنسق المسيطر على المجموع، وكأنها بؤر متعددة ترهص ببنية قارة على الرغم من التشتت الظاهر بداية، ومن هنا تتداخل المقاطع وتتشابك سويًّا في سعيها لرسم دلالة النص النهائية.
ويتصاحب منطق الصوغ ووسائله مع منطق المحتوى الداخلي، حيث الوعي الحاد بأزمة الذات وما تعانيه من انشطار صارخ في وعيها بنفسها وبالعالم، وانشغالها الهستيري بجسدها وحالات الرغبة المقموعة أو المشبعة، ومن ثم لا يكف النّص عن تصوير المغامرات المتعددة بحثًا عن اللذة والشبق والنزوات والعلاقات العابرة، وكأن الذات الكاتبة تدور في دوائر متداخلة، تمحو معاني الإشباع وهي تخط سرود الشهوة، وكأنها تفرغ العالم من معطياتها وتسبر عمقه الداخلي فلا تجد سوى البحث الذي يقابله الفشل، فتضيع صورة الذات وراء ردائفها المعادلة لها جوعًا ونهمًا.
ومن هذا المنطلق تظل عملية البحث دائمة على الرغم من المطاردة من الآخرين، يقول: " بعينيه المائتين استطاع أن يبصر الكمين أعدته الذئاب له سار بظهره قليلاً مبتعدًا عن الخطر المتربص ومستترًا بأشجار الغابة، والظلام. فلما احتوته الطريق انطلق أطلق ساقيه للريح، وتبخر سريعًا في الهواء. هبط ( الكبش) أمام منزل صاحبه ( الكبش) انزلق.بدت للـ( الكبش) الطريق وعرة، وموحشة، وبدا أن الصعود أصعب عليه بكثير من الهبوط، صعد( الكبش) إلى الرصيف فصعدت خلفه سيارة أرادت أن تقتله نجا ( الكبش) بأعجوبة فشكر الله، ودعا على السائق المجرم، هبط ( الكبش) إلى الشارع يعبره يالله – اصطدم بـ( الكبش) مثله فمات"
[19]
تتجلى الذات هنا في وضعية تكفل لها الظهور عبر كائن موازٍ لها رمزيًا، تبرز عبر دلالته على الفحولة والشبق الغريزي محنتها وسعيها نحو تلمس خطى المتعة، وتتأكد هذه الدلالة بواسطة التكرار الدوري لمفردة ( الكبش)، التي يسير تكرارها على عكس جنس سردي يقوم على الاختزال، لكن التكرار هنا يفرّغ الأشياء من وضعها المعتاد، ويسخر من وضعية السعي على هذا النحو، يأتي قصر النص وتكثيف الحدث، على عكس مجرى التكرار، فكأنه وهو يشدد على البحث المحموم، يؤكد كذلك على دورته العبثية، المفضية في إلى موت محقق، على الهيئة نفسها يأتي نص"حكاية عن الموت الجميل"، حيث التشديد من خلال التكرار على تفريغ الأشياء من محتواها تأكيدًا لحضور الموت، لكنه هذه المرة يتبدى في صورة نعي للذات.
" (1) مات.
بكل تأكيد مات. تثلجت أطرافه..وتوقف قلبه عن النبض وجحظت عيناه..ولم يرف له جفن. لهذا فهو وبشكل لا يدع مجالاً للشك قد مات.
(2) كان ولدًا طيبًا ورقيقًا محبًا للحياة والناس لذلك مات.
(3) مات ولن يحصل على الشقة التي قضى نصف عمره في البحث عنها وعن التي شاركته الحلم ألف سنة مما تعدون.
(4) مات قبل أن ينشر قصة واحدة من الآلاف المؤلفة التي كتبها( بدمه ودموعه وتوجعاته).
(5) مات ولم يودع أصدقاءه الذين يحبهم كل الحب والذين يبغضونه كل البغض.
(6) مات لأنه لن يحصل أبدًا على طفل يقول له بابا ويبكي لغيابه.
(7) في النهاية يجب أن نعرف أنه أطلق على نفسه رصاصة ومات."
[20]
من خلال السرد الغيابي المعتمد على صيغة ضمير الغائب الذي يمثل بؤرة القول، تتم عملية الترائي، فتظهر تعيينها لآخر مع أنها ترصد ذاتها العميقة بصيغة أو بأخرى، وبهذه الهيئة تتنافذ الكتابة السردية مع الكتابة الشعرية وتقترب من تخومها، ويأتي التكرار الذي هو صيغة أصيلة للشعر ليقوم بدور في تعزيز هذا التوجه، ففعل (مات) الذي يتردد تسع مرات محتلاً لبداية الجمل يقوم بفعل تجسيدي مثلما يقوم الترجيع في الكتابة الشعرية، لكن النص الذي بين أيدينا يراهن على خلخلة أو مشاكسة الكتابة السردية، ومن ثم لا يكف أن يتقاطع كذلك مع نوع مغاير للكتابة الأدبية، فإذا كان يترافد مع صيغ الشعر حتى يبدو النص وكأنه يعقد بعض الصلات مع الرثاء، فليس ثمة مع يبعده عن الكتابة الصحفية، وهيئة النعي.
ويأتي الموت في النص بوصفه محصلة نهائية لكل مظاهر الانكسار وضياع الأحلام العادية التي لم يتم الحصول عليها، فتتقاطع أحلام الكتابة مع أحلام الحياة، في بعد دال على فقدان تحقق كل منهما، فقدانًا يعبر عن غياب الحب في العالم، فلم تعد طيبة القلب أو التسامح مع الآخرين الذي يتحلى به من يتم نعيه هنا، سببًا وجيهًا للحياة، بل تصبح طريقًا دافعًا للموت.
وفي ظل هذا البعد المتشائم تأتي نصوص المجموعة لتؤكد كذلك على حالة الانفصال التي تعانيها الذات الكاتبة، حين تظهر صورتها في المرايا من خلال وجه يدل على الحضور والغياب، والتأرجح بين الثبات والتشتت، وكأن صورة الذات لجسدها قد اعتراها ضباب كثيف حاجب لرؤيته، إن الصور التي تأتي إلينا عبر المرآة تُجسِّد في لحظة واحدة تصورنا لأنفسنا وللآخرين أيضًا ، تكتشف ذواتنا العميقة في تعارضاتها مع الآخر ، وتعارض الآخر أيضًا معنا، ويئول نسق الصور في هذه الحالة إلى نوع من الجمع بين المتقابلات، "في شكل مرئي ولا مرئي، معلوم ولا معلوم، حقيقي ولا حقيقي"
[21]، فحين يطالع السارد عالمه من خلال مدينته، يطالعها عبر وجهه الناظر لما حوله، ووجه آخر منظور إليه من قبل الآخرين، ومن ثم تظهر المسافة بينهما، " ..لما حالت مراياها بين وجهي الناظر ووجهي المنظور هبطت شوارعها..خالية الآن من الناس..كان يضايقني زحامها...اليوم أضيق بالوحدة..أضيق، وأتسلل في العتمة حزينًا ضائعًا أنا السائر دونما ظل يبدد وحشتي فقد سقطت عني ملامح وجهي وأنا أتحسسه [22]".
سقوط ملامح الوجه في هذا النص يتحول في نص آخر تحت وطأة الانفصال الداخلي إلى حالة من الانقسام المريع، فتنفصل الذات عن نفسها وتنزع إلى إقامة معادل لها يمثل قرينًا يقاسمها الحياة ويشاطرها المسكن والسرير، وكأنه كائن غريب لم تعهده من قبل، "دخل الرجل داره، أغلق بابه عليه بات ليلته يتوجس خيفة، يحلم بذلك- الكائن- يقتحم داره عليه يلج حجرته، يتسلل إلى فراشه، يندس بداخله يتجول في أعماقه. انتابته رجفة وقشعريرة وصحا من نومه مروعًا مذعورًا استيقظ الكائن على صرخات الرجل واستغاثاته..هرع الكائن إلى الرجل ألفاه عاريًا تمامًا
[23]"
إن حالة الانفصال مع العالم على الرغم من عملية التواصل معه، تسيطر على الكتابة السردية، فتظل رؤية هذا العالم محكومة بشروط الرائي ووجهة نظره، وتتحول وجهة النظر هذه في بعض النصوص إلى محض انطباع عن الأشياء البسيطة العابرة والمهمشة والغريبة، التي تختزل رؤيته لها رؤية كلية للعالم والبشر والأشياء، في أسلوب يعتمد على الإخفاء أكثر من الإظهار، والتلميح أكثر من التصريح، ففي نص " صراصير وخنافس " ذات العنوان الذي لا يخلو من غرابة ومفاجئة للقارئ الذي لم يألف تدشين مثل هذه الكائنات في النص بحيث تصبح مناط الرؤية السردية، تتم عملية اختزال العالم ورؤية البشر في مجرد انطباع عن كائنات هامشية، ممعنة في حقارتها، " أكره الخنافس والصراصير لكن كرهي للخنافس أشد ذلك أن الخنافس لها رائحة حقيرة تدلك عليها وتجعلك شديد النفور منها، أما الصراصير فتأتي على الرائحة التي هي من صنع الإنسان والتي في الغالب تكون كريهة. لذا أقتل الخنافس دونما أسف أما الصراصير فأكون في غاية الأسف عند قتلي لها
[24]".
على هذا النحو تأتي الرؤية حادة، إذ تساوي بين الجميع لكنها تستثني ربما على استحياء ما كان غير ملامس للبشر، وكأن الذات في حالة من الصدام التام مع عالمها ولا تستطيع التواصل مع مفرداته السلبية.
ومن كتابة الذات عبر حالة الانفصال والاتصال، تأتي كتابة أخرى تعبر عن محنة الجسد وحالة الهيام المحموم بالشبق الغريزي، سواء من خلال كتابة مرصودة لوجه الوصف، أو الاعتماد على البنيات الأسطورية والخرافية، فتأخذ هيئة الوصف المعتمد على الطقوس الشعائرية للابتهال والدعاء، بغية تحقيق وصل ممنوع إزاء أنثي متعالية تستعصي على الانصياع والحضور، ومن ثم يأخذ العاشق في التلطف معها، " خاصمتني الدنيا يا امرأة..وها بدنك لي وطن..أجوب صحراءه باحثًا فيها عن جنتك. فلا أجد إلا السراب انخدع له. أسوارك المنيعة اعتليتها رغم علوها الشاهق، وسلكها الشائك بأسنان فأر أقضمه، ودم جرحي النازف شاهد على جهادي من أجل عينيك، انفتحي لي عن الروح أيتها الحبيبة أدخلك
[25]"
يتحول الشبق بالأنثى إلى الفعل المحوري للذات، تحاول الوصول إليه، رغم كل العوائق والآلام الممكنة في سبيله، لقد تحولت الأنثى إلى المكان البديل والنهائي، فهو الملاذ الأخير الذي يمكن اللجوء إليه. ومن ثم يصبح الجسد الأنثوي الخارطة البديلة للأرض ، فيصبح أشبه بعالم سحري ، يعبر عن تعويذة الرجل المحروم والهارب على سطحها. أي الجسد محولاً إلى طقس وشعيرة تؤشر لفعل الحرمان ، باعتبار الجسد ذلك المكان البديل عن الوطن .
وفي نص "من أرشيف الخرافة" يتم إشباع الرغبة بطريقة تضخمية للذات، من خلال تحويلها إلى هيئة الملوك التي من شأنها حفظ السلالة واستمرار النوع، فلم يبق إلا الملك بعد هلاك الكائنات الدقيقة والعملاقة، عن كوكبنا، ومن ثم ينتشي الملك برأي وزيره الذي يؤكد على فحولته، " الرأي مولاي إرسال حملة قائدها عقيم يأتيك بكل الجواري الحسان، وواحدة واحدة يأوين إلى فراشك، وليلة بعد ليلة ينمن نومة أبدية
[26]"
ومن هيئة الخرافة إلى التراسل مع الأسطورة والتناص معها، يظل البحث المحموم عن الأنثى ثابتًا، فمن خلال توظيف أسطورة نرسيس وأيكو الإغريقية
[27] -بعد تحريف محتواها، إذ يصبح نرسيس النص محبًا لأيكو على عكس غدره لها وخداعه في الأسطورة- يتم التأكيد على تحول ال

ليست هناك تعليقات: