2012/01/31

(الدواخل ) إمرأة فى زمن الحرب / د.سعاد محمود الامين

(الدواخل )
إمرأة فى زمن الحرب
د.سعاد محمود الامين
كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل.أ زيز الطائرات الحربيه يشق السكون، وقد ساد المدينة صمت كصمت المقابر. أنا وحدى فى المنزل الذى رحل ساكنيه رحلة الخلود .الأبدية أشقائى، أعدمهم النظام، والدىّ ماتا حسرة وألما على فقدان أبنائهما. تركونى وحيدة برفقه جدة عجوز، غيبها الزمن وليس لها فى الحاضر وجود. تخاطب الأموات،وتتحدث اليهم كأنها تراهم وتعيش بينهم . أراها أحيانا خارجه من حجرتها وأنفاسها تعلو وتهبط، فتذكرنى إنها مازالت على قيد الحياة لاتدرى مايدور خارج حجرتها.
فى تلك الليله كنت أرقة وحيدة ،فسمعت طرقات على الباب الخلفى الموصد منذ زمن بعيد.كانت الطرقات متفرقه خافته، أشبه بنقرات طائر على حافة شباك خشبى. إحساس داخلى يحثنى على فتح الباب ولكنى خائفة لاأستطيع .توقف الطرق برهة.،ولكنه لم يتوقف عن عقلى، ثم بدأ الطرق بقوة من جديد. شعرت برأسى يتحطم .نهضت مسرعه التصق بالجدران . إختبئ خلف الدرج. أهرب هنا وهناك. ولكن لايمكننى فتح الباب. الطرق مستمر... قلبى تتسارع ضرباته شفتاى ترتجفان أريد أن أصرخ بأعلى صوتى. إذهب بعيدا أيها القادم. أريد الخروج، ولكن حين أخرج من يضمن لى الدخول من هذا الباب مرة أخرى.الطرق يزداد عنفا، تناولت منضدة حديدية قديمة، ودفعتها لأغلق بها المدخل كى لا يفتح الباب .ولكن هذة المرة جاء الطرق مروعا أشعر بإنتفاضة المنضدة الملتصقة بالباب فأرعبنى ذلك. فقفزت دفعة واحدة. وأزحت المنضدة، وأصخت السمع فسمعت أنفاسا متقطعة. دفعت بالمفتاح الى ثقبه بالباب الموصود ،وأدرته مددت يدى إلى المقبض كان مليئا بالأتربة. لم يفتح، بدأ صلبا أدرت المفتاح بضعة مرات ودفعته بشدة ،إنفتح الباب، هبت ريح قوية دفعتنى للداخل لم أملك سوى الأستجابه لها.ثم خطوت إلى الأمام مرة أخرى فإندفع الطارق الى الداخل وأغلق الباب خلفه. لم أتبين ملامحه فجسده، يبدو بعيدا عنى. بالرغم من عينى المفتحتين لا أرى إلا الظلام يلف المكان كليّةً. حدقت فى الظلام بشدة ورأيت بذلته العسكريه دنوت منه وسالته من أنت؟ أجابنى بصوت واهن بلغته الانجليزية: طيار سقطت مروحيته. شهقت من الدهشة الممزوجة بالخوف ،ولكن بعد برهة هدأت نفسى المضطربة. وبدأ الخوف يفارقنى. مددت له يدى وبقيت ممسكة بيده لا أدرى كم مضى من الزمن ربما دقائق . ومازال المكان مظلما ولكن الريح هدأت بعد أن أوصدت الباب.
جلس على الاريكة . جلبت شمعة كنت إحتفظ بها، عندما تعصف بى ذكري إخوتى أشعلها وإنخرط فى بكاء طقسى .فتشركنى الشمعة بدموعها. وترسل ظلالا خفيفة على جدار غرفتى. فاتخيل تلك الظلال تلوح لى وأحس بوجودهم. أشعلت الشمعة ، فرأيت جروحا وحروقا فى فى وجهه وساعديه. قضيت الليل ضمد جراحه.عندما تلوح الشمعة بنورهاعلى وجهه، كنت أرى وجوه إخوتى فى قسماته، مما دفعنى لأسهر على راحته. تركته وذهبت لحجرتى كم أنا متعبة وجسدى منهك إختبأت تحت الغطاء .أ حاول جاهدة أن أغفو فقد أوشك الصبح على الإنبلاج.
دقت ساعة المنبه بعلو صوتها ، فنجحت فى إسكاتها عندما حاولت الوصول اليها فسقطت على الأرض وصمتت. جلست على السرير طفت باصابعى على عينى وهرشت رأسى وإمتدت يدى الى المصحف إستعين بآياته لعلها توقف هذه العواصف ،التى كادت أن تقتلع إيمانى .خمسه وثلاثون عاما لم ينتهى الإنحناء ولم يتوقف التصفيق ولم تهدأ الجماهير. النسوة يتوشحن سوادهن الدائم ويخرجن يمارسن فروض الطاعة والولاء لهذا الرئيس.
وقفت أمام طارق الليل، وجدته مستيقظا إبتسم ممتنا وإنساب حوار بيننا. كان مهذبا لذلك ألفته ،وكان يعتذر كثيرا، إذ دفع عنوة للحرب. كانت الأنباء تتواترعن طيار هارب داخل المدينة. وخرج السكان يبحثون عنه فى كل مكان يحملون الهروات والاسلحة البيضاء .بحثوا عنه فى كل مكان وسط المزارع داخل الأنهار، يتوعدون كل من يتستر عليه. كنت أعيرهم أذن صماء وأكثف له الحماية غير عابئة بالتهديدات.
دخلت جدتى متسلله كالقطة. ووقفت أمام الطيارتطيل النظر اليه. لم إنتظر حتى تبدأ جدتى سرد قصة حياتها، لقائها بجدى ا لذى كان بستانيا فى حدائق بابل المعلقه والذى شيد كل القلاع والذى منع الغزاة العبث بالمدينة .هذه حكاياتها التى لاتنتهى أشرت لها بالإنصراف، فهمهمت بكلمات مبهمة وزحفت نحو حجرتها. فقد ظنته شقيقى المغدور . جرس شديد العناد يرن على الباب . قفز الطيار محاولا الإختباء متثاقلا يجرجر جراحه وأختفى. فتحت الباب ببطء فدفع بقوة الشرطى الغاضب وباوامر شديدة اللهجة أمرنى قائلا: نريد تفتيش هذا المنزل..... فابتسمت ببرود وبوجه جامد لاينم على شى أومأت بالموافقة فانصرف دون تفتيش.
بمرور الأيام إقتربت من الطيار أكثر. كانت روحه حية بقوتها وضعفها، تحدثنا عن حزننا المتلون بالقهر معا. فى صدورنا تضاد الأشياء إتحدنا فى اللحظة ذاتها. رقم بعد المسافة والهدف. هو لم يأتى لقتالنا أراد أن ينفذ أوامر فى حرب ربما خدع فيها. لقد تسللت روحى من جسدى بغير قيد نحوه وقررت حمايته. رغم دهشة المداهمه كنت أبحث عن لحظة هدوء من فراغ ممتد دون نهاية .
كانت الريح تلطم الأبواب. وتقذف حبيباتها سيلا رمليا عتمت الرؤيا. عندما غادر الطيار المنزل فى ليلة حالكة الظلام فى طريقه الذى رسمناه سويا بعد ان أخبرت دوريتة التى تبحث عنه بمكان للقائه.كنت قد قاومت رحيله وتصدعت وكنت مشحونه بلحظة انفجار كانت دواخلى تبكى فى صمت وتهذى فى صمت.
لقد تقمصنى الحزن بقسوة وحملت شوقى المتدفق . وطفت الشوارع أترصد الأخبار لم أسمع مايفيد بالقبض عليه . لقد هجرنى النوم بعدما هبط هذا الطيار على أرضى بقسوة. فأمطرت سمائى عواطفا متناقضة. لم أستطع أن إنسلخ من لحظة إنصهارى فى تلك الأيام التى قضاها الطيار فى منزلى كنت أرعاه وأحمل بقايا راياتى المنكسة فى معركة هزمت فيها أخلاقيا كنت أدرى ان حمايتى للطيار، هى سقطتى الأخيرة ولكن حين أتذكر أشقائى، يستبيحنى حزن يمزق دواخلى .سقطوا ظلما شامخون، تركونى أبحث عن قسماتهم فى وجوه الآخرين.
فتحت ستائر غرفتى الضاجة بالحزن. عند سماعى لصوت جموع ثائرة تطرق باب منزلى. كسر الباب وإندفع الجمع الى الداخل. حطموا كل شى وصفونى بالعمالة والخيانة. سمعت جدتى الضجيج فخرجت تدس شيئا فى ثوبها دفعت به على المنضدة صائحة: هذا ماتبحثون عنه خبئته لكم خذوه وإنصرفوا لقد دفعت لهم بشارة الطيار .قد هالنى مارأيت.. لقد قدمت لهم جدتى حياتى. فإعترفت ...أ خرجوا جدتى من المنزل وأشعلوا فيه النار. مد اللهب إلسنته، فتداعت ذكريات هذا المنزل. جلس الطيار بعيد ينظر إلى جثمانها الملطخ بالدم. ووجهها اللطيف وفمها المفتوح لعلها أرادت أن تقول شيئا؟ وبعد لحظة جمود أعترتنى بدأت أشعر أن ساقىّ تخذلانى، وجسدى يرتعش ، أحرقتنى دموعى، عندما رأيت المنزل كومة من الحطام المتفحم . رجعت إلى بلادى وأبقيت صورتها فى دواخلى .تهيمن على عقلى وتحرمنى النوم. نصبت لها تذكارا فى حديقة منزلى كنت أضع عليه إكليلامن الورود كل صباح .نحت عليه أبجديةالتضحية والحزن......... إلى التى وهبتنى الحياة ورحلت. تنازع بين حب الأشقاء والوفاء للوطن.
قطر/ الدوحه


ليست هناك تعليقات: