2013/03/31

"جنازة قناديل السير" قصة بقلم: محمد الكامل بن زيد


جنازة قناديل السير  
محمد الكامل بن زيد
كي أتجذر في الوجود...لابد أن أجد ذاتي المفقودة
كي أرسم وجه الصباح ...حق علي أن أقاوم عناد الرياح

حتى ...تذرو جفونه ما لا تذروه الرياح
حتى ..يسرح بخيول فكره نحو فضاء فسيح..لا تحده الجهات الأربع مثلما عهد الأمر منذ أربعة عقود كل مساء... حتى ..تكف ذاته عن لوم ذاتها و اختلافها البائس و اليائس في آن واحد على نهايات موجعة مجهولة النسب..
حتى.. يحتضن زوجته العزيزة بكف.. و أبناءه بكف أخرى في طمأنينة وسلام ..
حتى.. يغير ملابسه البالية وينعم ببعض من أثر الوجود داخل رداء هش لسويعات هي كل راحته المحسوبة على يومه..
 حتى يقف على خاتمة الشارع حيث البيت القصديري وبقايا أتربة رمادية اللون..
 حتما ..و جزما .. و قطعا سيمر عليهم..وستنعدم أنفاسه ككل مرة تحت نظراتهم الشزرة.. و لا يمكن له بعد رؤيتهم أن يتملص أو يختار منفذا آخر ..و ستصاب قناديل السير بالعمر و يعجز لسانه عن الذكر و يصبح في ذاكرة الزمن مجرد انسان ..
تحالفت خيوط المناجاة عليه لتختار المنفى و تصنع من آيات الاختفاء موكبا لها.. إنّ ما يحز فيه و يعكره الى أقصى الحدود أن يقف مثل هاته الوقفة .. تمضي الأمنيات تباعا و تسبق سيرها و حين تتوقف بعد أربعين عاما يسدل ستارها على شخص وعديد  ؟ لا هم له كل ظهيرة سوى الافلات من هؤلاء ..أمنياته تمازجت لتتمخض عن أمنية واحدة ..و ستبقى سكينة ذات الصدور ..و لن يجهد نفسه بالسؤال إن كانوا فعلا هناك أم لا.. فخيالاتهم تبرق له عبر أشعة الشمس المرسومة في حيطان الدكاكين .. رسالة الحذر.. إنهم ينتظرون بلهفة هاربة من جحيم الصبر مروره المسائي..كل منهم يحمل في يده جدول الديون الماضية و يخاطب صندوق الحسابات بالويل و الشتم و الحلف بقطع الرقاب و القدمين و الذراعين و الأنف حتى لا يكن بعد اليوم رجلا مثله..إنهم يعلنون بوضوح عن عملية نفي داخل العدم..
 يراقب بعضا من الوقت في سراديب جيوبه...سراديب خاوية على عروشها  عيناه تنتقل بقيد قبيح بينهم و بين سراديب جيوبه .. أبدى تذمرا شديد اللهجة .. إنه كلما التقت عيناه بهم رأى الموت الزؤام يرتسم في الجرح .. رآهم زبانية  يعلوهم  السقام .. يخسفون دون رأفة أشلاء في لوح مكتوب تنهشه الكلاب قد يكون حلف اليمين هو آخر المنافذ ..خمّن طويلا في هذا الخاطر ثم ضحك بسخرية ..الشياطين لا تؤمن بحلف اليمين بل لم تعد تؤمن له البتة  بعد أن حدث ما حدث يوم أمس حين فرّ بما تملكه رجلاه من ريح عبوس من قبضتهم .. هو لا يعرف كيف ؟ غير أنه مدرك تمام الإدراك من أنها قدرة قادر ..فساعة ما اقتربت أيديهم على أن تكشف بقايا عورته للعالمين ..فر..هكذا دون مقدمات وجد نفسه فارا ..حرا طليقا..ولا تزال الكلمات البذيئة والشفاه الغليظة والحجارة تلاحقه حتى رسخت في كيانه برعونة ..
اختلق لنفسه مسرحا بعيدا كل البعد عما يشاهده الآن ..لو كانت الدنيا دنيا لكان هو من ينتظر وهم الهاربون.. لو كانت الدنيا دنيا ..لكان هو من يرفع رأسه شامخا وهم المطأطئي الرؤوس ..غير أنه لن يفعلها سيسامحهم دون ريب أو على الأقل لن يحرجهم ولن يسد في وجههم طرق العودة إلى ديارهم ..فمن شيمه التواضع والعفو ثم إن طال الأمر فهو مال الله وهو مجرد حفيظ عليه ..
سمع ذاته تقرر أن هذا حلم الضعيف حين يكون في جنازة الضعفاء ..ازدادت ضحكاته ثم ما لبث أن عاد إلى صمته كاتما بيديه أنفاسه لكيلا تفضحه حال رؤيته لأحدهم تصدر قبالة عتبة دكانه ...
اختلس من العمود الكهربائي مخبأ ظرفيا ..اهتز قلبه اهتزازا  كاد أن يعصف به خارج الشارع ..لقد أطال التحديق ناحيته وحركة في غير محلها تثير الريب أكثر ..ها هو يرفع بيده اليمني عصاه الغليظة ..يلوح بها في غضب عارم مزمجرا : أين اللعين ؟! يتبادل السؤال مع أصحابه عنه : هل شاهده منكم أحد ؟!..حان موعد مروره المسائي ولم تظهر له بائنة ..ربما وسوست نفسه له شيئا نكرا ..و الله لو فعلها ليكنن هذا اليوم هو آخر أيامه ؟!
عبارات التهديد عرفت منعرجا حاسما هذا المساء واستقرت على الانتقام مهما كان شكل اللقاء ..فيما مضى يحدث أن يتدخل أحدهم ويتوسط لديهم ليحد من وتيرة الغيظ ..لكن هاته المرة ..سبق السيف العذل وسبقت الدنيا الآخرة ..إنهم ليسوا بحاجة إلى أحد ليعلمهم مدى فقره ..ليعلمهم أنه لا يملك فلسا وأنه إلى حد الساعة لم يستطع أن يوفر عملا يعيله على نوائب الدهر ..حتى أبناءه ينتظرون أكثر منهم بعضا من بصيص يسد رمقهم ..وأصدقاءه خانوه ورفضوا إعالته ولو قرضا ...
الوقت يزداد انصهارا داخل القناديل ..حركة الشارع بدأت تستعيد حالتها الساكنة..وشمس المغيب رافقت الشواهد المعلقة على سطوح المنازل ..
هاهو "الحاج عبد القادر" يتسلق سلالم المئذنة ..وهاهو "شعبان" بن الحاج عبد القادر يخرج خلفه في الاتجاه المعاكس ..الكل يعلم أين تكمن نهاية الاتجاه المعاكس ..وها هي "صدّيقة" تعود من مدرستها بالتأكيد لم تلحظ بقع الطين والعشب المعلقة خلف رقبتها ..ولم تنتبه إلى أن كل البنات عدنا باكرا هذا المساء ..وهاهو " عبد الله " صاحب المكتبة يغلقها بإحكام شديد ..فهذا اليوم هو آخر يوم له بالشارع وقد ملّ هجر الناس لكتبه ...وها هو الــ ..وها هو.. وها هي ..وها هو ..ها ..هو

ليست هناك تعليقات: