2016/02/26

بيروت .. بقلم: زينة السعيد بورويسة



بيروت
زينة السعيد بورويسة*
أيّ نوع من المدن أنت يا بيروت؟
أيّ سرّ هذا الذي تخبئه شوارعك؟
و أيّ طقوس حب هذه التي تمارسها نساؤك في لياليك الباردة فتأسر بها قلوب ملايين الرجال الذين يهاجرون من كل فج إليك تاركين وراءهم المال  و الزوجات و الأولاد، و عشيقات يتقلبن بين انكسارات الذات و همس الآخرين؟
آخر الهاربين إليك كان هنا قبل قليل.
كان هنا قبل قليل يلوّن لي الحياة بكل الألوان الجميلة، و يبني لي مدنا فوق الخيال...
و قبل قليل كان يحدثني، كعادته، عن المرأة و حقوقها...جمالها...
خصلات شعرها...
كعبها العالي...
صوتها الرخيم...
استسلاماتها العذبة...
... و أشياء أخرى كثيرا ما كانت تدوّخني و تنتهي بي امرأة تبني أحلامها في كف رجل.
هو دائما هكذا. يمارس سياسة التدويخ.
و أنا دائما هكذا . أستسلم بإرادة لهذه السياسة.
كان يمارس السياسة ذاتها منذ أوّل محاضرة ألقاها علينا و نحن طلاب  في الجامعة: ".. أيتها المرأة ، أنت أمام تحد أزلي، عليك أن تقفي وجها لوجه مع هذا المجتمع الذكوري لتثبت وجودك و ستجدين كل الوسائل و الكلمات تقف إلى جانبك.. حتى الرجل. لستن ناقصات عقل و دين. أبدا. لا تؤمن بهده الفكرة التي زرعت في أذهانكن منذ الأزل."
يشير إليّ بيده بطريقة سريعة:
" أنت... لست مخلوقا من الدرجة الثانية".
ثم يشير إشارات خاطفة إلى عدد من الطالبات:
"و أنت، و أنت، و أنت... تذكّرن جيدا: المرأة ليست مخلوقا من الدرجة الثانية".
...............................................
.................................................
و يستمر في كلامه الذي كنت أكثر الطالبات تأثرا به، رغم أنني كنت أتساءل دائما: ما علاقة كل ما يقول في محاضراته بالأدب المقارن؟
( الآن فقط أستطيع الإجابة عن سؤالي: إنها ليست محاضرة، إنها سياسة).
و استمر يمارس السياسة ذاتها في كل محاضراته و دروسه التطبيقية، و كلما اقتربت منه أكثر تفاقم أثر سياسته أكثر... حتى وجدتني ذات يوم أتزوّجه دون  وثائق أو شهود بعدما تسللت كلماته إلى ذاتي المسكينة، و أقنعتها أنها كاملة و لا تحتاج لوصي عليها.
بدت لي الحياة معه في مرحلة ما جميلة، مشبعة بمبادئ الحرية و المساواة، و مرصّعة بأعذب القصائد و العبارات التي تتغزّل بكل قطعة في جسدي، و كل نبرة في صوتي:
"نجوى... سبحان مبدعك... كل شيء فيك يتخطى حدود معايير الجمال... سحرك أكبر من حدود المعايير..
حتى صوتك، فيه من الأنوثة ما  يجعل السلطان يتكوّر عند قدمي جارية...
كوني لي و  حدي يا نجوى. فقط كوني لي. و لن أبحث عن شيء بعدك... سوى ورقة و قلم لأخلّد هذا الذي يعتريني..."
أنا أيضا...
لم أكن أبحث عن شيء بعده. معه كنت أمتلك كل شيء: الحب يغرق كل لقاءاتنا، الهدايا الثمينة مختارة كما أشتهيها تماما. كل شيء يجري بكثير من الحضارة و الرقي...و معه كنت أحسّ نفسي فعلا مخلوقا من الدرجة الأولى.
مضى الصيف سريعا، و انقطعت كل أخباره. ظننت في البداية أن ذلك راجع لسفره إلى كندا لقضاء العطلة هناك مع زوجته و أولاده. كان هذا ما أخبرني به قبل شهرين.
الموسم الدراسي بدأ و لكنه لم يعد إلى الجامعة... جامعتنا.
سألت عنه فقيل لي إنّه سافر إليك يا بيروت.
لطالما توقعت ذلك.
كان يتحدّث عنك دائما بشهوة مخيفة.
كان إذا ذكرك كمن يتحدّث عن عشيقة ضاعت منه بين صفحات العمر الهاربة. العمر الذي قضاه في ممارسة سياسة التدويخ التي تنتهي دائما بطالبة مجنونة مستسلمة بين يديه.
ماذا وجد فيك يا بيروت؟
أتراه وجد نساء تؤمن أنهن مخلوقات من الدرجة الأولى؟
أم تراه وجد نساء من الدرجة الثانية بامتياز؟ فأحب البقاء معهن لأن سياسة التدويخ ستكون أشد تأثيرا و أجمل نتيجة.
و هل سيأخذ اسمك ( بيروت) عنوان روايته القادمة؟ كما كان يفعل كل مرة حين يخرج للناس قصصا و روايات يحكي فيها سخافاته و... و يعنونها باسم امرأة.
امرأة... و قد نزل بها إلى الدرجة الثالثة.

                                                           أكتوبر 2009.
* كاتبة جزائرية

ليست هناك تعليقات: