2017/06/08

أحمد قرنى...متبتل فى حضرة الإبداع بقلم: د. عمر صوفى محمد



أحمد قرنى...متبتل فى حضرة الإبداع([1])


د/ عمر صوفى محمد
يمثل العطاء الإبداعى للكاتب أحمد قرنى علامة متميزة من معالم الحركة الأدبية فى الشعر والرواية وأدب الأطفال، وهو عطاء يتسم بالإنسانية الدافقة ، كما يتسم بالمعمار الفنى المحكم، والالتزام الأدبى النابع من الإيمان بالقضية الإنسانية فى عمومها وشمولها، ينتصر للحرية ضد القهر، والشجاعة ضد الجبن والتخاذل، والإرادة ضد الخنوع، والجمال ضد القبح ، والخير ضد الشر، والحب ضد الكراهية، بما يفجر الأسئلة المسكوت عنها، ويثرى الذائقة الأدبية ، وينتصر للقيم الأخلاقية السامية.
     وأحمد قرنى ( مواليد 1967 )  هو أحد أبناء سنورس والفيوم وأحد كتاب مصر والعالم العربى البارزين الذى يعمل بجد على تأصيل الإبداع الأدبى وإثرائه منذ نحو ربع قرن من الزمان ، من خلال رفد الحياة الأدبية بمختلف فروعها بنصوص إبداعية يعمل على نحتها وصقلها وصياغتها، بحس فنى مرهف وموهبة متأججة دفاقة. فهو يصيغ الحدث فى قالب أدبى محكم، ويشذب ويدقق التفاصيل بدأب مبدع عاشق لإبداعه، دون أن يعنى ذلك الانغلاق ضمن أطر تقليدية معادة، أو اجترار التجارب الأخرى، يطرق باب التجديد دون الإغراق فى التجريب والغموض. كما يمتلك قدرة كبيرة علي النفاذ إلي أغوار النفس الإنسانية وتعمقها وتحليلها ، وتحديد أسرارها ودقائقها، بلغة راقية متدفقة معبرة.
أولا - العوامل التى ساهمت فى تشكيل شخصيته وإبداعه:
1- الظروف التاريخية المتشابكة التى مرت بها مصر خلال النصف قرن الماضى منذ نكسة 1967 ، والتى كانت بداية لتراجع وانحسار الحقبة الناصرية بكل زخمها وجدلها، وظهور حقب شهدت تحولات جذرية وتراجع دور مصر ومكانتها فى عهدى السادات ومبارك ، وما تبع ذلك من أحداث ثورة 25 يناير 2011 . ورغم إن الكاتب لم يعاصر التجربة الناصرية ، فإن تلك الفترة حاضرة بقوة فى أعماله الإبداعية.
2- بداية النشأة فى القاهرة ثم الانتقال إلى سنورس بالفيوم. وقد ظلت تلك التجربة ، بما تتضمنه من انتقال وانفصال، تؤثر فى نفسه لصغر سنه ، حتى كانت تجعله مترددا فى كل تجربة قد تتضمن سفرا أو انتقالا . وسنورس مدينة ريفية حضرية ، ثرية بالمتغيرات والعلاقات الإنسانية، والتى انعكست مفرداتها البيئية على الأحداث فى مختلف رواياته، حتى التىتدور فى القاهرة مثل "سماء الحضرة". ويذكر أن " سنورس في الثمانينيات كانت تعج بالإسلاميين عموماً كانوا جميعاً ينقسمون إلى جماعتين كبيرتين الإخوان المسلمين وعلى رأسهم أحمدي قاسم ومجدي طلب، والجماعة الإسلامية وعلى رأسها محمد عبد العزيز وكل جماعة تحاول أن تجتذب أكبر عدد إليها".
ورغم الفقر الثقافى لموطن النشأة ، فقد كان لمجموعة من الرفاق والمهتمين بالأدب والمبدعين فى سنورس، مثل أحمد طوسون وأسامة الزينى وأحمد عبد الباقى وأحمد الأبلج وعنتر حسين والمرحوم الشاعر زكى عبد الحليم ومعلم اللغة العربية فتحى سنوسى، تأثير كبير على تحفيز الكاتب وتوجيه خياراته الإبداعية.
3- القراءة الواسعة والإطلاع على عيون الأدب والفكر والفلسفة منذ سن صغيرة، وهو ما انعكس على كتاباته المختلفة، سواء بما تحمله من تأثيرات فنيةواضحة أومن رؤية فكرية وفلسفية عميقة.
4-  دراسته للقانون مما رسخ لديه إيمانا بقيمة العدل والحرية وكرامة الإنسان، كما أن عمله بالمحاماة، ساعده على التفاعل والاحتكاك بكثير من النماذج البشرية، فى مجال يتجلى فيه الصراع البشرى واضحا سافرا، ويسعى كل طرف لإثبات جدارته وأحقيته، كما تتجلى فيه الأهواء والنزوات الطائشة ودورها فى تغيير مسار البشر، وكتابة مصائرهم فى الحياة، بما يتجاوز كل حبكة ويفوق كل خيال.
5- العقلانية الشديدة فى التفكير، والهدوء والاتزان النفسى والانفعالى ، والطابع العملى ، والاندماج الوجدانى مع الناس وأحداث المجتمع، والقدرة على بناء علاقات متشعبة قوامها الاحترام والمحبة. 
ثانيا - أهم إبداعات الكاتب :
 صدر للكاتب عشرون عملا إبداعيا ، نصفها فى مجال الكتابة للطفل، فى مختلف فروع الإبداع وهى:-
أ- فى مجال الشعر:
        حيث بدأ حياته الأدبية شاعرا ، فيذكر " كنت أرانى شاعرا ولا شىء آخر ... الشعر هو الحياة والحلم والرغبة ، سؤال الوجود والكتابة والتهور والمغامرة والذوبان فى الحروف والكلمات، والبحث عن المعنى الجديد بالصورة واكتمال النص".
       وقد أثمر هذا الافتتان بالشعر عن كتابة ثلاثة دواوين هى (لكِ العشق والنيل لى 1996- حائط الوقت 1997 – جسد بارد بلا تفاصيل 2001) علاوة على ديوانين للأطفال هما ( أغنيات للقمر2007 – عصفور وحرف ووطن 2008 
ب- فى مجال الرواية :
   تحول الكاتب بعد ذلك فى إطار سعيه للتجريب وارتياد آفاق أدبية جديدة ، إلى عالم الرواية، بما يملكه هذا العالم من سحر أهَّل الرواية لأن تسود الأنواع الأدبية كافة ، حتى غدا الزمنهوزمن الرواية ، وإبداعاته فى هذا المجال هى:-
-  آخر سلالة عائلة البحار، 2005
- حارس السور، 2006
- الأقدس2011(صدرت منها طبعة ثانية بعنوان آخر هو " كما يليق يحفيد "2012 )
- سماء الحضرة، 2014
- صلاة إبليس، 2015 
ج -  فى مجال الكتابة القصصية للطفل:
- أبطال الحواديت في أرض القدس 2002
"–مغامرات شادي في دنيا الحواديت 2003
• “حكاية الغراب والحمامة” 2003
• “حلم النملة دودي” 2009
• “ملك الحروف” 2011
• “الوزير عطعوط”، 2013
• “العصفور وشجرة الظل”، 2015
• “حكاية الديك ذى العرف الأحمر”، 2016
- الخرافى ( رواية لليافعة )  2016
د- فى مجال المسرح
• “البرواز” (مونودراما مسرحية)، 2010
• “سلسبيل ” (مسرحية للأطفال)، 2011
 كما يساهم بفاعلية فى الحركة الثقافية والنقدية بالكثير من الدراسات والمناقشات والمشاركات الفاعلة . وقد حصدت إبداعاته العديد من الجوائز من مصر ودول الخليج، كما كُتبت عنها العديد من الدراسات النقدية والرسائل العلمية .
ثالثا- الملامح الأدبيةلإبداعاته على المستوى البناء الفنى:
يتميز البناء الفنى لإبداعات  الكاتب بالثراء الشديد ويمكن إيجاز بعض هذه السمات كما يلى:
- الواقعية : حيث تصور معظم أعماله التجمعات البشرية ذات الوضع المتدنى وصراعها مع الواقع المؤلم ومحاولتهم للصعود على مدارج السلم الاجتماعى ، مثل رواية " صلاة إبليس " ، كذلك شخصيات من الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة وسعيها للتمسك بمكانتها الاجتماعية والارتقاء، مثل رواية الأقدس ، وتصوير أدق التفاصيل المرتبطة بالبيئة أو الأشخاص أو الأحداث، والبناء المنطقى للحدث بما يوحى بالتعاقب الطبيعى نتيجة معطيات أسرية أو اجتماعية لا تنبت عن الواقع. كما عمل على تطويع لغة بسيطة أقرب إلى لغة الحياة اليومية، خاصة فى رواية " حارس السور ".
- المكان : معظم أعماله الروائية تدور فى الحيز الجغرافى الذى يعايشه، وللبيئة الفيومية بمفرداتها الجغرافية وطوبوغرافيتها الدقيقة ، النصيب الأكبر من هذا الحيز، ويكاد المكان الجغرافى يتعانق مع المكان المتخيل. وحتى رواية مثل سماء الحضرة ، ليست منبتة الصلة بالفيوم وسنورس، رغم أن معظم أحداثها تدور فى القاهرة. ويبدو الهامش  الجغرافي  هو عالمه الأثير. فروايته " حارس السور " تدور فى عالم المقابر بسنورس، وكذلك رواية " آخر سلالة عائلة البحَّار".كما تدور رواية " سماء الحضرة  " عن فلسطينى متنكر خائف فى حوارى القاهرة القديمة، و"الأقدس" تقع أحداثها على هوامش العمران المدنى والريفى بالفيوم .
الزمان : يتمحور زمن الأحداث الروائية منذ النصف  الثانى من القرن العشرين حتى الآن، وهى الفترة التى عاصر الكاتب وعايش معظم أحداثها، كما أن هذه الفترة غنية بالأحداث السياسية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية.
اللغة : يوظف الكاتب اللغة الفصحى فى جميع أعماله الإبداعية، سواء على مستوى السرد أو على مستوى الحوار، ولا تكاد تختلف المستويات اللغوية مع تنوع المستويات التعليمية والاجتماعية . وهى لغة شاعرية عذبة شفافة ، حيث انعكست بداياته فى الكتابة الشعرية على إبداعاته القصصية، فتنحو اللغة فى الغالب نحو الاقتصاد والإيجاز والتكثيف.
السرد : يوظف الكاتب فى أعماله أنماطا سردية متنوعة، بما يثرى العمل الأدبى ويضفى عليه مزيدا من التشويق ،  مثل نمط تيار الوعى وهو النمط الغالب على روايتيه حارس السور والأقدس، كما وظف نمط الرواية متعددة الأصوات فى رواية " صلاة إبليس "  .
التناص :بمختلف مستوياته وهو سمة أساسية فى جميع أعمال الكاتب، خاصة مع النصوص والقصص الدينية ، والمقولات الخالدة للمفكرين والفلاسفة، وروائع الشعر القديم ،  حيث يتم ضفر بنيتها النصية مع البنى النصية لنصوص أخرى، سواء بالتجاور أو بالتداخل أو بالاندماج  والانصهار فى النص السردى، بما يجعل تلك النصوص فى علاقة تشابكية جدلية بناءة مع النصوص الأخرى، بغية تبنيها أو مناقضتها ،  ويضفى بعدا إيهاميا لتحقيق مصداقية تلك النصوص.
رابعا - الملامحالأدبية لإبداعاتهعلى مستوى المضمون:
1- الإيمان بالعقل الناقد المتسائل ورفض المسلمات اليقينية المطلقة وعدم مسايرة المألوف مهما كانت درجة الإجماع عليه، ما دام يتعارض مع منطق العقل، ودحض ثقافة القطيع " لا تفعل الخطأ حتى ولو كان عليه جميع الناس، ولا تترك الصواب حتى ولو فعلته بمفردك "(العصفور وشجرة الظل ص3 )، لذلك عندما حاولت الجماعات الدينية فى سنورس جذبه إلى صفها رفض "  عقلي لا يكف عن الأسئلة مانعاً أن أصبح تابعاً لأي من الفريقين وأدركت في وقت مبكر أنها جماعات تريد السياسة بعباءة الدين واصطدمت بهم عدة مرات ثم رحلت إلى عالمي إلى الأدب والشعر والكتابة ذلك العالم الأرحب وأسئلة الإبداع تشغلني وأنا أغوص في القراءة النهمة حتى رأسي، حتى وقعت على أفكار المعتزلة وهم من جماعة المتكلمين ، ورأيت كم هي مستنيرة وقرأت عنهم الكثير وعن أفكارهم وشيوخهم وسعدت جداً في هذه السن المبكرة عندما عرفت أن الجاحظ هو أحد أبناء تلك الجماعة. ولا شك أن أفكار تلك الجماعة ساهمت في فترة من حياتي في ترتيب الأفكار والإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تحيط بالإنسان عن الوجود وأسئلة الفلسفة الغامضة والمحيرة ووجدت منهجهم في تحرير العقل وحرية التفكير ضالتي التي أنشده".
   لذلك سنجد الكثير من أعماله تنتصر للعقل والمعرفة والتساؤل الدائم ، تنقب عن جذور المقولات المترسخة والقوالب النمطية ومراجعة العادات والتقاليد الخاطئة ، التى تلبست ثوب اليقين أو فروض الدين رغم خواء أساسها، وهو ما يتضح جليا فى رواية مثل "حارس السور".
2- عدم التعصب ورفض التطرف والتزمت والإرهاب ، وهى سمة ترتبط بالسمة السابقة، لأن التعصب هو تغييب للعقل ورفض مسبق للآخر ومصادرة للاختلاف والتنوع والإبداع. لذلك رأى أن الإرهاب هو " نهر الجنون الذى إذا شرب منه الناس تحولوا إلى وحوش وقتلة " وهو إفراز للتعصب الأعمى والتطرف الذى يبدأ عندما يظن الفرد " أنه يمتلك الحقيقة دون غيره، ثم ينصب نفسه وصيا على الآخرين، وتنتقل الوصاية إلى الوصاية على المجتمع بأكمله" (الخرافى ص 17 )
3- الإيمان بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين أبناء المجتمع ورفض الطبقية الصارمة التى تحرم المجتهدين من ثمرة نجاحهم الاجتماعى، تلك العدالة التى تستهدف منح الناس حقوقهم التى لاتتحقق إنسانيتهم إلا بها فى جو من المساواة وتكافؤ الفرص، والإيمان بالمجتمع العادل الذى يفسح الطريق أمام المبدعين ليحتل كل فرد موقعه وفقا لقدراته العقلية والأخلاقية وليس وفقا لخلفيته الاجتماعية . 
    لذلك تطرح رواية "صلاة إبليس " العديد من التساؤلات أو الصرخات فى وجه هذا التباين والجمود الطبقى ، مما يجعل البسطاء " ضحايا الأطماع الكبيرة للأغنياء" الذين يصادرون حتى  أحلام هؤلاء البسطاء "  لماذا يساومنا الأغنياء على مشاعرنا ؟! ما الذى يدفعهم ليقتلوا أحلامنا حتى لو كانت صغيرة "  (ص 48) . وتمثلت طبقية المجتمع الصارمة الصادمة وترسباتها فى شل وهجرة عنتر النوبى ، وعجزه عن الصعود للمنبر، حيث يشله ويؤرقه أصله الاجتماعى الوضيع إلى حد القهر باعتباره ابن " حفافة " ، فى مجتمع مادى يتجلى فيه التناقض والتمايز الطبقى ، ولم يشفع تعليمه وموهبته الشعرية وقدرته على الخطابة، فى قبوله اجتماعيا ،  حتى عجز عن صعود المنبر ، رغم استعداده ، وملأ شعره بالحزن والخوف والضياع " حين هممت أن أصعد منبر الحناوى، طاردتنى صورة أمى، وحينها تجمدت أطرافى " (ص109)، وهو نفس ما شل قدرة مرعى البرادعى " سيظل مرعى ابن بائع البرادع"، حتى وإن تعلم وخطب على المنبر فسيظل " يحمل ماضيه على كتفيه، سيظل فقره هو عمامته" (ص50)
4- الإيمان بالحرية والتى تعنى حرية الفكر، الحرية الشخصية التى لا تمس الثوابت الاجتماعية الصحيحة، كما تعنى الحرية السياسية والإيمان بالاختلاف والحوار العقلانى الديموقراطى ، ورفض الهيمنة والظلم والاستبداد والتسلط، فرديا أو أسريا أو اجتماعيا أوسياسيا أو كل ذلك ، خاصة فى ظل مجتمعات تراكم فيها التسلط حتى غدا القاعدة، وتشرب المقهورون هيمنة قاهريهم منذ ميلادهم حتى ظنوا أنها ديدن الطبيعة وناموس الكون ، خاصة فى مجتمعاتنا الشرقية المحافظة " يبدو أننا هنا فى الشرق نولد بأزمتنا ...ثمة أشياء لا نستطيع أن نفارقها أبدا ..القهر إن لم نذهب نحن إليه أتى إلينا يهرول. نعيش وعلى أحداقنا هالات سوداء وأطرافنا مبللة بالتعاسة ...ليس بمقدورنا أن نطلق لأفكارنا أن تمرح داخل رؤوسنا" ( الأقدس ص 160 )
5- الإيمان بقيمة العلم والتكنولوجيا، ليهبنا القدرة على الفهم والتحليل والتفسير، وهو ما يتطلب النسبية والمرونة وعدم الاعتماد على اليقين الذاتى والتفكير الأسطورى، بل الاستناد إلى اليقين العلمى، بما يفتح باب المعرفة ويرقى بالمجتمع. لذلك يؤكد دائما على أنه لا يمكن  " تحليل الظاهرة دون معاينتها ورؤيتها عن قرب، إنها قواعد البحث العلمى الأولية، لا يمكن أن نجلس خلف مكاتبنا ونكتفى بإعداد التقارير النظرية دون بحث أو معاينة " (الخرافى ص 19)
      ويتطلب التطور العلمى الابتعاد عن الفكر المحافظ والطرق البحثية التقليدية، كما يتطلب توظيف العقل والتسلح بالمعرفة وضفر العلم بوهج الخيال، وتحلى العالم بروح الفنان فى الحلم والتخيل " العلم والفن لا يعرفان القواعد والتقولب "  فمعظم الاختراعات بدأت بحلم، بما يسهم فى نهضة المجتمع وتطوره. (الخرافى ص ص48-49، 79)
6- أهمية التسامى الروحى والبعد عن الاستغراق فى المحسوسات، لذلك نجد النجاة تكتب لهؤلاء الذين يتسامون برغباتهم المادية ويسلكون  سبل الخلود فى عالم المثل والروحانيات الخالدة، بينما نجد الفناء والهلاك مصير الشخصيات التى تنحط بذواتها إلى عالم الأهواء والنزوات ، لأن " الجسد للموت والروح للحياة"  (صلاة إبليس ص 103) وتعد تلك القيمة الجوهرية هى لب رواية صلاة إبليس، حيث يبدو الجسد كأنه اللعنة الأبدية التى أصابت الإنسان ولا فكاك له منها، فهو غير قادر على التخلص من تلك القيود التى تشده شدا ، بحكم غرائزه ورغباته المتأججة، إلى عالم سفلى  يطمح لتجاوزه إلى عالم نورانى روحانى، افتقده منذ طرد من النعيم. وهذا الحنين إلى العودة ..إلى النبع الصافى ، مازال كامنا فى أعماقنا، بوعى أو بلا وعى، يوجه دأبنا ، وإن كانت إرادتنا تقعد بنا عن الوصول إليه.
 ومن سبل التسامى الروحى الزهد والتصوف والذى يبدو حاضرا فى أغلب رواياته " الإخلاص فى العبادة ، فقد ينزل المرء حتما منازل الصوفيين " بما يفجر قدراته الكامنة ، كذلك الانغماس فى عالم الصوفية الحقيقى، بالابتعاد عن ملذات الدنيا (السابق ص114) كذلك يمنح الفن المرء قوة سحرية ، تسمو به عن بقية البشر وترتقى به فى عالم الإنسانية ، بما يمنحه من قوة على فهم الغموض وتجاوز المألوف، وإداراك الغايات البعيدة ( الخرافى ص 31 )
    كذلك يمنح الحب المحبين سمو الرسالة ونبل المقصد، فيعمل المحب على غرس التسامح ، لا الكراهية، البناء لا الهدم، فالقوى من " يبنى ولا يهدم ..من يحب ولا يكره " ( الخرافى ص135)
7- مناوشة الواقع السياسى : لا يخلو عمل أدبى من تناول القضايا السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر، ولذا تبرز الأحداث والتحولات السياسية التى شهدتها مصر منذ ثورة 1952 حاضرة فى إبداعات الكاتب، مثل الفترة الناصرية وسياسة الانفتاح فى عصر السادات والتردى والانهيار فى عصر مبارك، وأحداث ثورة 25 يناير 2011 وظهور الجماعات الدينية وتطورها . كما تشغل القضية الفلسطينية وتحولاتها، مكانا كبيرا فى إبداعاته ، خاصة فى رواية سماء الحضرة. وإن كان غالبا ما يميل فى تناوله لتلك الأحداث إلى جانب التقييم العام ، دون الانتماء إلى موقف سياسى أو توجه محدد أو تبنى رؤية محددة للشخصيات، فتبدو أغلبها شخصيات متفرجة منفعلة أكثر منها متحركة فاعلة، ربما باستثناء تناول سلبيات الفترة الناصرية، كالتعذيب والنكسة .
8- الموت هو اليقين الثابت :لا يبدو الموت حاضرا فقط فى رواية "حارس السور"، والتى يحمل عنوانها وتدور جل أحداثها فى عالم المقابر (السور )، بل يتجلى الموت حاضرا وهاجسا يشغل معظم الأعمال الروائية للكاتب، ويبدو سؤالا فلسفيا أزليا محيرا يعجز البشر عن إدراك ماهيته" تُرى ما الموت ؟ هل يبدو معنى يستعصى على الفهم لن نستطيع إدراكه؟....هل هو نوع من الحياة لا نستطيع إدراكه بحواسنا المجهدة العاجزة التى لا تستطيع إدراك إلا ما هو محسوس فقط لذا نفارقه ؟ " (الأقدس ص 113). وغالبا ما يوظف الموت لإلحاق العقاب بالشخصيات الروائية المارقة.    
***
 هذه مجرد إطلالة عابرة لمبدع كبير ومثقف نبيل ، يسجل بصمته على الحياة الإبداعية فى مصر والعالم العربى ، و لمحة لأعمال إبداعية ثرية سوف تظل خالدة تتدارسها الأجيال.
الفيوم     ..............    يونيو 2017


[1]- كلمة ألقيت ضمن احتفالية وزارة الثقافة بتكريم المبدع أحمد قرنى فى شهر رمضان1438 هـ / يونيو  2017 م.

ليست هناك تعليقات: