2014/07/23

قراءة في رواية "البارمان" للأستاذ أشرف العشماوي. بقلم: خيري عبدالعزيز

قراءة في رواية "البارمان" للأستاذ أشرف العشماوي.
  بقلم: خيري عبدالعزيز

محور الرواية؛ خمارة موجودة بقبو عمارة فارهة, في قلب المجتمع الراقي, بوسط القاهرة, يعمل بها البارمان "ستيفي", كاتم الأسرار ومحرك العرائس "الماريونيت", ومن الخمارة تنطلق الأحداث لتعود ثانية أكثر اشتعالا, على حسب ما أراد الكاتب.
   كل الشخصيات بما تحمله من تركيبات نفسية, خاصة, معقدة, فاسدة في أغلب الأحيان, بخطوطها الدرامية, تجتمع في هذه الخمارة, وهناك تحاك الأحداث, ويتطور الصراع, ويتأجج..
   بداية من محروس بواب العمارة, الموجود بها الخمارة, والهارب من الفاقة والعوز, بعدما تعرض لحادث مأسوي؛ فسقط من أعلى النخلة على عموده الفقري, وهو طالع النخل المتمرس, ومحور حديث القرية, يلقح النخل, ويحصد البلح- فذهب إلى القاهرة بحثا عن مصدر جديد للرزق.. يتلقفه "أبو عيد" "بلدياته", وتتفتح عيناه الساذجة البريئة, عن الوضع الكارثي لأمثاله في مجتمع "مصر", أم الدنيا, وما يفعله هذا الرجل "الغول", الاخطبوط الشره الشجع, المسمى "أبو عيد", فالرجل يدير مافيا من نشاطات عدة: شحاذين, تجار حشيش, عمالة بيوت وخدم, وباعة جائلين, والجميع يفرض عليهم إتاوات ويبتزهم, يساعده في ذلك علاقاته المشينة مع ضباط الداخلية الفسدة, الذين يتقاضون منه في مقابل تسيير أعماله الفاسدة الحقيرة مبالغ طائلة, بل ويبتزونه هم أيضا, وكما تدين تدان..
    "أبو عيد" حيوان ليلي من أسفل الأرض, ممن لا نشعر بوجودهم, ولا نتوقع وجودهم الأسطوري, ولكنهم الأفاعي السامة, والسحرة الأشرار الذين يحركون المجتمع بكل مفرادته ورجالاته, بداية من الغفير وانتهاء بالوزير..
    وينتهي الحال ب"محروس", بأن يقتل ابنته الشابة "هاجر" لأنها سفحت من الحرام, ويلصق التهمة بعقلية اجرامية نادرة (وهو الريفي الساذج), إلى طبيب النساء المتمرس في عمليات الاجهاض, فيعاقب الطبيب عن كل جرامة البشعة في حق الانسانية بجريمة لم يرتكبها بالفعل, ويعود محروس إلى قريته في نفس القطار الذي آتى به, ولكنه هذه المرة يستقله قاتلا مجرما, وهو الذي استقله أول مرة عفويا طاهرا بريئا يبغي العيش الحلال, وكأن الكاتب يريد أن يقول أن فساد المجتمع له كل الدور في خلق المجرمين وتصديرهم, منه وإليه, وهذا العفوي سابقا, القاتل حاليا نموذجا..
  ثم, المحامي الذي يتلاعب بالقانون, وينزلق من بين ثغراته مثل أفعى سامة ناعمة, فينجو بالمجرمين والفسدة من دائرة العقاب, رسمه الكاتب رمزا للفساد المستشري في هذا المجال..
   ضابط الشرطة الفاسد المرتشي, الذي يستغل نفوذه, ويتذلف إلى رجال الأعمال, ويؤدي لهم خدمات؛ يتقاضي بمقابلها ألاف الجنيهات, رمزا آخر لمجال آخر.. زينة سيدة الأعمال ظاهرا, التي تستغل جمالها وتحترف النصب على الأثرياء, "فدوى" الموظفة الكبيرة بالبنك, والمخدوعة في حب نصاب كبير, "صابر" الشاب الطموح, الذي يفقد الحلم بمستقبل محترم, فيتجه لتجارة المخدرات من أجل المال والثراء السريع كحلم بديل, دكتور النساء والتوليد المتخصص في إجهاض نساء المجتمع الراقي من ممارسات الزنا والسفاح, الوزير الفاسد, مستغل النفوذ؛ كل هؤلاء البشر تجمعهم خمارة الفندق الشهير.. نماذج مختلفه متباينة في الطباع والميول, جمعهم الثراء, والمصالح, وحب الخمر, يتقابلون في خمارة "ستيفي" الغامض, لا تفوتهم ليلة..
   ثم استيفي؛ "البارمان" ذو الوجهين, ذو الشخصيتين, هو "منير" المسلم ظاهرا أمام الناس أو "الحاج منير" كما يطلقون عليه, صاحب محل ملابس المحجبات الشهير في المنطقة الشعبية, وزوج "الست منيرة", والتي أخذ اسمه من اسمها عندما أشهر اسلامه, منتقلا من المسيحية إلى الإسلام؛ لمصالح يرجوها في نفسه, وإن بقيت المسيحية التي كان يعتنقها ألما يضج في قلبه, يؤججه تمسك ابنته الشابة مريم بها, دونما حسابات واعتبارات, حتى عندما أحبت عبدالهادي الشاب المنتمي للجماعات الاسلامية, لم تتخلى عن الديانة التي ولدت بها..
 "ستيفي" مثال للفصام أو الشيزوفرينيا, يعيش حياتين, بوجهين, في المساء يركب سيارته, حاجا جليلا يرتدي جلبابا أبيضا مهيبا, أصلع الرأس متغضن الوجه, على وجهه سيماء الجلال والهيبة, ثم, وبحركة بهلوانية يتحول للبار مان "ستيفي", ذو الشعر المنسدل, والوجه الحيادي البارد, الذي يظن رواد البار أن الزمن بكل سطوته لا يقدر عليه..
    والبارمان "ستيفي, هو كاتم أسرار وجهاء وحسناوات المجتمع الراقي, بكل نفوذههم وسطوتهم, بداية من الوزير الفاسد, وانتهاء بزملاءه في البار, يجتهد أن يعلم كل كبيرة وصغيرة عن الجميع, ليستغلها في الوقت المناسب, ويدير أطراف اللعبة, تبعا لارادته ومصالحه.. وهو السيد المطلق عندما تلعب الخمر بالرؤوس..
   الرواية تضج بالكثير من الخطوط الدرامية, الكثير جدا, شخصيات كثيرة وأحداث متلاحقة, وحرب طحون, تستنزف الجميع, حتى تزج بالكثير من أبطال العمل في النهاية إلى المحاكمة؛ ما بين قتل, ورشوة, وفساد, واستغلال نفوذ.. ويسقط من لا ظهر له, ويقاد لحبل المشنقة, أو يجرم بالسجن لسنوات عدة؛ مثل صابر البريء الذي يُحكم عليه بالاعدام, وفدوى البريئة, التي خدعها الحب, يحكم عليها القاضي بعشر سنوات.. وينجو كالشعرة من العجين؛ أصحاب النفوذ والسلطة مثل الوزير الفاسد, والساقي "ضياء", أمل ادارة الفندق في أن يحل مكان البارمان "ستيفي" مستقبلا..
   وإن ترك الكاتب مجالا للارادة الالهية لأن تتدخل وتنتقم من طبيب الاجهاض رغم براءته من التهمة المنسوبة إليه, ورغم نفوذه التي لم يعتد به هذه المرة, فتخلى عنه الجميع, تاركينه لمصيره..
   بدت المحاكمة, وكأنها نموذج مصغر لقسوة الحياة علينا, بما فيها من جور وظلم, وخاصة في بلد أكثر ما يميزه الفساد..
  رواية "البارمان" في البناء والصنعة شبيهة بروايات علاء الأسواني, وتحديدا "عمارة يعقوبيان" و"شيكاغو", من حيث بناء الشخصيات, والخطوط الدرامية, والمكان المركز (محور إلتقاء جل أبطال العمل, وهو "عمارة يعقوبيان" في رواية "عمارة يعقوبيان", والجامعة في رواية "شيكاغو"), وخطوط الزمن المستقيمة على طول الخطوط الدرامية بلا التواء أو مراوغة, وأيضا من ناحية تقطيع المشاهد لبعث جو من الاثارة والتشويق, فلا يترك القارئ الرواية إلا بعدما يأتي عليها, حتى أنه يوجد تشابه في اللغة من حيث اللغة المنبسطة, الجارية كالنهر, والتي تميل إلى السطحية أحيانا, وإن كانت "عمارة يعقوبيان" و "شيكاغو" أكثر عمقا, وأشد وأروع بناء, وأجذل لغة, وهنا الاختلاف الجلي في الصنعة, وإن تشابه البناء.
   الرواية تعتمد على الشخصيات الشاذة, في مجتمع بات فيه الشذوذ والشواذ ظاهرة (شذوذ الضمير عن الجادة ما أقصد), والأحداث الملفتة  بقبحها, والغور في أعماق مجتمع استشري فيه الفساد.. وإن كان هذا ما أراده الكاتب, فقد فشل "حسب ظني" في الوصول لعمق حقيقي, وتعرية نتفاعل معها, ونتوقف عندها, ونرفضها, فبدت الرواية كاسكتشات سريعة لصور باهتة, على مستوى اللغة, والشخصيات, والأحداث..
   الرواية كفكرة؛ جميلة, وكخطوط درامية؛ رائعة.. كان من الممكن ان تكون لحمة واحدة جميلة أنيقة متناسقة, ولكنها أتت مترهلة, مائعة, افتقرت للصنعة, والعمق, والنظرة المغايرة الكاشفة, وربما مرجع ذلك أنها لم تأخذ وقتها من حيث نضج الأفكار, وتحليل الشخصيات, ومعالجة الأحداث, فجاءت على عجل, لتقرأ على عجل, بلا بصمة حقيقية قد تتركها في العقل والوجدان. فش
   فشلت الرواية في صنع عوالمها الخاصة, وأجوائها المتفردة, وفي خلق شخصيات خالدة, وفي أن تعري المجتمع الفاسد تعرية حقيقية, ولهذا, فلم تأتي بجديد, فجميعنا يعلم عن الوزير الفاسد, والضابط الفاسد, والمحامي الفاسد, والطبيب الفاسد, وسيدة الأعمال الفاسدة, ورجل الأعمال الفاسد, والحالمين, والمخدوعين, والانتهازين, إلى آخره من أنماط البشر الذين يجمعهم مجتمع الشذوذ الفكري والضميري..  
   النظرة المغايرة, ومبضع الكاتب الرهيف الذي يصل لعمق الألم والفكرة, فيكشفا كشفا حقيقيا عن مواطن العفن, هما اللذان يعطيان العمل الأدبي ثقله الأدبي وجماله الفني (من وجهة نظري), وهذا ما افتقرت إليه بشدة رواية "البارمان", حتى في تعاملها مع ظاهرة التشدد الديني, كانت باهته تنقل صورة مهتزة بلا معالجة حقيقية, وبلا تقصي جاد قد يعتد به..

ليست هناك تعليقات: