2014/07/12

هل ماتت قضية فلسطين عند المثقفين العرب ؟ بقلم: د.مصطفى عطية جمعة



هل ماتت قضية فلسطين عند المثقفين العرب ؟
د.مصطفى عطية جمعة
أسئلة كثيرة تتداعى إلى الذهن ونحن نشاهد مأساة فلسطين ، قصفا واعتقالات وحرقا للبشر وإذلالا يوميا ، وعجز الأنظمة العربية التي انشغل بعضها حتى عن الإدانة الكلامية ، واعتبر ما يحدث في فلسطين أمرا عاديا ، يقرأون عنه في صحف الصباح مع ارتشاف القهوة ، وقد يغيّرون القناة إذا تصادف أن رأى الدمار والقذائف والأجساد الممزقة .
     رحم الله زمانا ، كانت فلسطين هي قضية العرب الأولى ، الكل يتغنى بها ، ويعدها خطا أحمر لا مجال لتجاوزه أو تجاهله ، ويبدو أن الأمر ساعتها كان غناء للاستهلاك المحلي ، دون فعل شيء ، في الوقت الذي تاجرت فيه أنظمة عديدة بقضية فلسطين ، وتجاذبت فصائلها المنشقة والموالية ، وارتضى القادة الفلسطينيون أنفسهم ذلك ما دامت القضية هي دجاجة الذهب التي تملأ حساباتهم البنكية، وتحقق ظهورهم الإعلامي ، وسفرياتهم المستمرة ، بل ووصل الأمر بهم إلى الانغماس في صراعات الأنظمة ، وترديد شعاراتها فاقدة الأرضية .
    وهكذا وبمرور الأعوام ، لم يفعل هؤلاء المتشدقون شيئا ، وانغمسوا راضين  بالمسار الذي حددته القوى العالمية واليهود من خلفهم ، مفاوضات واتفاقيات (أوسلو وما بعدها خير مثال ) ، سنةً تلو السنة ، وعقدا تلو العقد ، حتى وصل شعبنا في فلسطين إلى الحالة التي نراه بها .  
     وانحرفت البوصلة ، فبات العدو مغايرا ، إما خارج الأرض ( إيران ، تركيا ) أو داخل الوطن ( إسلاميين ، معارضة ) ، والمصيبة أن العديد من الأنظمة اعتبر المقاومة الفلسطينية عدوا له ، وانظر إلى إعلام مصر في عهد مبارك .
     الموضوع طويل ومعقد ، ولكن يستوقفنا فيه موقف المثقفين العرب ، فقد أصابتهم عدوى الأنظمة وانحرفت بوصلتهم ، وبعدما كانوا يدبجون المقالات والقصائد والأغاني لفلسطين ، ويهتمون قطرة الدم المسال، باتوا منصرفين عنها ، بعمد أو بغير عمد ، مما يقودنا لمواقف ، نحتار في تفسيرها . وبالطبع هناك شخصيات استثنائية في الظاهرة ، ولكنها خافتة الصوت أو أجبرت على الانعزال .
    ربما تكون البداية مع " أنيس منصور " ، الذي غرّد مبكرا مادحااتفاقية كامب ديفيد، وطالب في عموده اليومي العرب أن ينحو منحى اليهود ، بأن يعززوا الهجرة العربية إلى أمريكا وأوروبا ، من أجل تكوين لوبي عربي ضاغط هناك ، ينتصر للحقوق العربية . وبعبارة أخرى ، لا مجال للحل العسكري ، فحرب أكتوبر آخر الحروب ( للعرب طبعا ، أما اليهود فهم يرتعون كما يشاؤون ) .
    وهو نفس ما ردده أول سفير مصري لإسرائيل " عبد السلام بسيوني " ، الذي ترأس وفود التطبيع ، وكان نجما لامعا في الحوارات التلفزيونية ، فشرح ببساطة  أهمية التعاونمع المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ، وعدم ترك إسرائيل تستفرد بالولايات المتحدة ، وعلى الفلسطينيين أن يسلكوا مسارات المنظمات الدولية ، وهو يعلم أنها سبب لإضاعة الحقوق ، ناهيك عن بخلها في قرارات الإدانة ، المهم أن يكون هناك كلام منمق يستهلكون به الفضاء الإعلامي ، خصوصا بعد تصاعد القطرية الضيقة ، ضد الأممية الغالبة .
والسؤال :هل سقطت قضية فلسطين ثقافيا لدى المثقفين العرب ؟
 والإجابة تكون فيما نراه، فجلّ المثقفين عازفون عن الحديث ، ولم نعد نرى من المثقفين القوميين ولا الاشتراكيين والماركسيين بتياراتهم المختلفة إلا عبارات متناثرة لا تعبر عن موقف جاد. ويبدو أن هذا ناتج عن تراجع الحركات القومية واليسارية في المقاومة الفلسطينية نفسها ، وصعود التيار الإسلامي ليكون له الفعل والنضال وأيضا الشعبية الكبيرة ، فمثقفو اليسار العربي كان مناصرين في القضية الفلسطينية تياراتها المتفقة مع توجهاتهم، وعندما اضمحلت هذه التيارات ، غاب اليسار العربي. وهذه إدانة في حد ذاتها للمثقفين ، الذين يتعصبون لتوجهاتهم على حساب المبادئ.
     أما المثقفون الليبراليون ، فيا لها من مأساة ، أن نجد رافعي شعارات الحرية والديمقراطية ، قد توزعتمواقفهموتعددتآراؤهم، فمنهم من يصطف مع الأنظمة التي أقامت معاهدات وعلاقات مع الكيان الصهيوني ، بدعوى أنهم يحترمون المعاهدات المبرمة ، ويتشدق في ذلك بالشرعية الدولية ، فهذا عبد المنعم سعيد يصرخ بقوة في إحدى الإذاعات العربية متسائلا : بأي شرعية تقتل حماس اليهود ومن أعطاها الحق في إطلاق الصواريخ ؟ ويشاء حظه العاثر أن يرد محاوره وكان أستاذا في العلوم السياسية مثله فيقول : وبأي شرعية قتلت - وتقتل – إسرائيل الأطفال والنساء والشيوخ ؟ هل تعطي للمحتل اليهودي شرعية القتل ، وتحرم منه المقاوم الفلسطيني ؟ هذا ، ولا يزال " عبد المنعم ": إلى يومنا ، ينادي بطروحات السلام والحوار ، منددا بصواريخ المقاومة التي يراها لعب أطفال أمام عظم الآلة الحربية الإسرائيلية ؟ وفي مقالاته وبرامجه وإطلالاته ، يصدّع رؤوسنا بأهمية موقف الإدارة الأمريكية ، ويتلهف على عرضوجهة نظر السفير الأمريكي في القاهرة ، منتظرًا منه كلمة تبل ريقه بدلا من الشعار الأمريكي / الأوروبي المرفوع : من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها ، وعلى الفلسطينيين ضبط النفس .
     وهو نفس ما سار عليه سعد الدين إبراهيم ، الذي حوّل مركز ابن خلدون للدراساتالذي يترأسه ، إلى محطة لتسهيل التطبيع المصري الإسرائيلي ، ممعنا في التباكي على ما أصاب المباني في إسرائيل مغمضا جفنيه عن التجويع والحصار ، وما أروعه وهو المثقف الهادئ صاحب البحوث المعمقة عندما يقول : إن القانون الدولي يمنع قتل المدنيين ، فكيف تقتل المقاومة المدنيين اليهود . ونحن نتفق معه، ونذكره أن الشعب اليهودي هم جنود احتياط في جيش الدفاع الإسرائيلي.
    ومن الليبراليين العرب ، من اصطفوا مع بعض الأنظمة ضد التيار الإسلامي في فلسطين ، فهم ببساطة يغرّدون حسبماتغرّد أنظمتهم السياسية ، فإذا كانت الحكومة معادية للإسلاميين ، فليكن هو مع حكومته ، ولتكن حماس والجهاد الإسلامي منظمات إرهابية تستحق – مع من يؤيدها أو لا يؤيدها – التدمير واجتثاث بنيتها التحتية ، وانظر إلى مواقف كتّاب السلطة ، في الصحف اليومية .
     وهذا الكاتب المسرحي " علي سالم " ،من الليبراليين ( وهو يساري سابق ) الذي أحسن المتاجرة – أقصد المناقشة – بالقضية الفلسطينية ، حين كفر في شيخوخته ، بما استهل به شبابه، فكان من مجموعة كوبنهاجن مع تيار السلام الإسرائيلي في منتصف التسعينيات ، وقام – مشكورا – بعمل كتاب عن رحلته إلى إسرائيل بسيارته ، مجتازا العريش وغزة والضفة ، حيث نعِمَ بأيام سعيدة في تل أبيب، جعلته يشيدبالحريات والتقدم في إسرائيل ، متعاميا عن معاناة أهلنا في فلسطين .
     وفي أحسن الأحوال ، نجد ليبراليا وهو عمرو حمزاوي امتلك شجاعة الموقف ، ولم يشأ أن يحيد عن شرف المبدأ ، فدعا لثورة سلمية فلسطينية ، مستنكرا لجوء المقاومة إلى الصواريخ والعمليات الفدائية ، كي نستجلب رضا العالم ، وتعاطف المشاهدين المتراصين أمام الشاشات ، فما أجمل أن ينظر هؤلاء بعين العطف لأجساد أطفال فلسطينالمتناثرة تحت ركام المباني المنهارة !
    في الوقت الذي نجد المتعاطفين من المثقفين والفنانين الأوروبيين والأمريكيين يحصرون القضية في مجال حقوق الإنسان فحسب كما نشاهد في أفلامهم ، دون النظر إلى الأرض المستلبة ، التي تقضمها المستوطنات كل يوم ، خاصة بعدما ارتضت حركة فتح ومن ورائها الأنظمة العربية ، بمبدأ إقامة دولة على الضفة وغزة، والتنازل في المقابل عن فلسطين التاريخية ، أي ما يعادل التنازل عن 78% من مساحة الأرض ، وليت إسرائيل قبلت هذه التنازلات ، بل كانت وما زالت تناور وتتلاعب ، وتخدعنا ، بلعبتها الديمقراطية ، ما بين يمين متشدد يحكم غالبا ، ويسار معتدل لا ينال إلا حقائب وزارية معدودة في أحسن الأحوال . والغريب أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي وهو في أقصى درجات الاعتدال من المنظور العربي ، لا يتنازل عن القدس عاصمة لدولتهم ولا عن بناء هيكل سليمان المزعوم .
     ونعود إلى لب نقاشنا : هل تراجعت فلسطين في الثقافة العربية المعاصرة، وباتت قضيتها مجرد نزيف دم ، وهو ما يشابه ما يحدث في العراق وسورية وليبيا واليمن ؟ الأمر مختلف ، فهذه الدول دماؤها نازفة بفعل مظالم ساستها ، فهي صراع – وللأسف – بين شعوب وحكام ، أما فلسطين فهي صراع بين شعب واحتلال . ولا ينبغي بأي حال ، أن نتغافل عن قضية العرب المركزية ، بحجة انشغالنا في صراعات الأنظمة.
    الأمر لم يعد تراجعا، وإنما سقوط ملامحه : خداع وتشويش وفقدان البوصلة ، والانغماس في فوضى فكرية عربية ، تكثر من ضجيج الكلام ، وتفتقد طحين الأفعال، ولو تأملنا الضجيج لوجدناه مصائب ، إنهم يعادون المقاومة ، ويتناسون الأرض ، يهاجمون الأشخاص ، ويتغافلون عن المعاناة ، وفي النهاية يعدون القضية الفلسطينية مجرد عنف سياسي ، وبالتبعة لابد من البحث عن حلول سياسية .
وبات المشهد الختامي لحال المثقفين العرب فلا نجد منهم من ينظم أشعارا ، ولا من يشدو بألحان ، مناصرا القضية، بالرغم من كونها في النهاية كلمات .
    أهكذا ارتضت ضمائرهم ، أم ماتت ؟

ليست هناك تعليقات: