2018/06/05

في شارع الحبيب بورقيبة الكاتب التّونسيّ: محرز راشدي


في شارع الحبيب بورقيبة
الكاتب التّونسيّ: محرز راشدي

الرّابعة مساء تقريبًا، تحت شجرة ظليلة من الأشجار المنتصبة كالأفخاخ في شارع الحبيب بورقيبة، اختار شابّ أن يجلس فوق أريكة مجعولة للاستراحة متى أخذ التّعب من أحد السّابلة أو إحداهنّ نصيبًا. شابّ في عقده الثّالث، متهندم، عليه سيماء المتثقّف، يحمل في يده كتابًا...بعد ترقّب وتدقيق تبيّن لي أنّ السّفر روايةٌ لمحمّد شكري تحمل عنوان "الخبز الحافي"...يا اللّه!! نطّت إلى ذهني هذه السّيرة اللّعينة، سيرةً رُشمت على الجسد، وعُجنت بالدّم والطّين والقاذورات والأوحال...تذكّرت كتابة القبيح واستدعاء الفظيع والشّعراء الملاعين ولقطاء الرّصيف ومدمني الحشيش والتّبغ والكبريت..عاصفة هوجاء تذرو أفكاري ومطرقة بيد الزّمن تدقّ جدران ذاكرتي المتداعية...
بدأ الشابّ يتصفّح روايته، وعيني تتصفّح حركاته وسكناته، كنت على مقربةٍ منهُ، في عطالةٍ، لكنّ مشهد القراءة يغرقني في أخيلته!!
الشّارع المديد يتموّج بالمخلوقات، الذّاهبين والآيبين، نحو السّاعة الضّخمة وتمثال "الزّعيم"، أو نحو "باب بحر" وصوب "الأسواق"...شبّان بأزياء غريبة، وسراويل ممزقة، متحفّزة للهبوط أو هي هابطة بعض الشّيء. رؤوس تشكّلت عند أصحاب دكاكين الحلاقة أشكالًا عجيبةً. رأس في هيئة الدّيك، وآخر في هيئة القنفذ أو كيس المهملات...تحسّست رأسي ورفعت يديّ نحو السّماء حمدًا لأنّي من جيلٍ يحترم الذّوق السّليم ولا يسفك المعنى المشترك..
النّساء بكلّ الأشكال والألوان: هناك البدينة والنّحيلة، السّامقة والواطئة، الجميلة والدّميمة...تطلّعت في الشابّ فرأيته فاتحًا السّفر بين يديه...فاتحًا عينيه وفاغرًا الفاه في الحسناوات المتعطّفات، المتثنّيات في دلالٍ...يبلع الرّيق...ويطلق التّنهيدة في إثر التّنهيدة...قافلة من المكبوتات تتقاطر عرباتها الواحدة تتلو الأخرى..العينُ منه تتوسّع حدقتها حتّى خشيتُ أن لا يستعيد أحجامها...الأنف مصوّب نحو مكامن العطور وبؤر الرّوائح مثل رشّاش بيد قنّاص..لا يخطئ الهدف ولا يشبع منه...رقبته فقط لا تهجع..تدور نحو الكتف الأيسر ثمّ تتابع الفريسة إلى أن يستوي الذّقن عند تخوم الكتف الأيمن..ومثل إبرة عدّاد سيّارة يستمرّ الحال ولا يهدأ البالُ...ولكنّه يستعيد رشده أحيانًا، أو يتهيّأ له أنّه تجاوز حدّه، واعتدى على صفته، فيرفع رأسه ناحية السّماء، واضعًا السبابة على الخدّ، ولعلّه بذلك يبيع للآخرين وهمَ كونه يفكّر في أمّهات القضايا...لمَ لا، والكلّ في بلاد العرب يزعم القيادة الفكريّة؟!
يُجالس الشابَّ كهلٌ، حاملٌ أمارات الشّقاء، الشّعر منه متجعّد، مهملٌ، والوجه مائلٌ إلى الزّرقة، والذّقن متهيّج..أحراشً وسباسب موكولة إلى شأن ربّها..يُطبق الصّمت..يتّكئ الكهلُ على الأريكة واضعًا ساقًا على ساقٍ..اتّخذ له وضعيّة الاسترخاء...وهي عند علماء التّحليل النّفسي تشير إلى السّيطرة على الموقف والثّقة المتنامية في النّفس..
فجأة يلتفت إلى الشّاب ويبادره بالقول:
-         كَانْ لَعْرى والزّرى..قطعوا علينا رحمة ربّي..في سيدي رمضان يا رسول الله !!
-         أش عندك ما ريت يا راجل!! خلّي عزاها سكات.
-         الواحد ما انجمش يمشي في الشّارع مع قريبه من كثرة قلّة الحياء..
-         صحيح..نحاول نصلح..التّغيير يبدأ منّا..ربّي يهدي
-         أووووف...
-         ههههههه وسّع بالك خويا
يخيّم الصّمت من جديدٍ، يعود الكهل إلى تجهّمه، ويعود الشّاب إلى قراءته بعض السّطور..وملاحقته الكثير من الحسان..الرّغبة تظهر على وجهه سباعًا ناهشة فالتة من أقبية المجاعة...
هما، على تلك الحالة، إذ بعجوز تتوكّأ على عكّاز خشبيّ..تمشي الهويني.. تتذمّر وتلغو بكلماتٍ غير مفهومة..الأمر الذي جعلني اعتقد في جنونها وانحراف عقلها عن الجادّة..لكنّ الكهل سألها:
-         ماذا قلت يا حاجّة؟
-         فاطرين رمضان..ما يحشموش!! والله تو نعطيها طريحة بالعصا..
-         كلّ واحد حسابو عند مولاه..
تتقدّم العجوز إلى الأمام، ويتواصل حبل تذمّرها في الانصرام...أمّا الكهل فيردف "النّاس الكلّ فاطرة"..والشاب يتابع الحوار بعينيه دون أن ينبس ببنت شفةٍ..
يقرأ الشابّ رواية محمّد شكري..ينغمس هذه المرّة في المقروء..يتفاعل شفقةً وتقزّزا مع الشّخصية والأحداث والفضاءات..يقرأ مفرداتٍ متناثرةً عن القيح والخراء والجيف..عن الماء الأصفر مثل الصّديد وهو يعبر ثقوب جسد الشّخصية البطلة..يقرأ وهو يضرب أخماسًا في أسداسٍ..يفكّر في إمكانيّة أن يكتب شيئًا عن جماليّة القرفِ..تُحاصره أفكارٌ كثيرة عن الفظيع والنّتن والفضاءات الجحيميّة..
فجأةً، يسقط شيءٌ على ركبته..يتقدّم برأسه نحوه مثل معزاةٍ تتشمّم وليدها..فإذا هو خرْءُ طائرٍ..ماهذه المصادفة؟ كان يقرأ عنه فإذا به يتجسّد ويتعيّن فوق ملابسه الأنيقة. لا يجد شيئًا يُنظّف به "القذيفة الما بعد دوعاجيّة" غير ورقة شجرة ساقطة بجواره..يحكّ الموضع لكنّ الأثر لم يمّح نهائيّا..تركه إلى أن جفّ ثمّ أعاد فرْكه بيده وعينه تترصّد وتقول "هل من رقيبٍ؟"..
كانت السّاعة قد تجاوزت الخامسة حينما نهض حازمًا أمره، عاقدًا العزم على ترك المكان والعودة إلى البيت الحميم...وتركتُ بدوري الشّارع وسرّحتُ قدميّ في الأزقّة مشّاءً على سنّة المشّائين!!

ليست هناك تعليقات: